لأنه لم يركن إلى كتابة شعرية معينة، تبدو قصيدة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي وكأنها في تجريب مستمر، إذ يرفض أن يعطي القصيدة وصفة جاهزة، هذا التجريب قاده لأن يبدو في منأى عن الشعر "البلاغي القاتل" الذي يستند إلى قضية وإلى بطولات.
بعد مسيرة طويلة، يبدو الشاعر وكأن رغبة البدايات هي تقوده، بمعنى أن كل كتاب يبتعد عن سابقه لمحاولة اكتشاف معنى جديد للقصيدة. مؤخراً زار الشاعر بيروت حيث كان هذا الحوار الذي تطرق إلى جملة من القضايا الراهنة.
* تأتي اليوم إلى بيروت بعد الحرب الأخيرة، أولاً كيف كنت تنظر إلى ما حدث من بعيد، ما الذي غيّر ذلك فيك؟
? أنا أعلم أن هناك سجالاً لبنانياً داخلياً حول ما جرى وأن هذا السجال، في بعض مفاصله بالغ الحدة والخطورة. وقد استمعت إلى آراء من التقيت بهم من المثقفين اللبنانيين فلمست أن هناك اعتراضاً على ما جرى ورغبة في عدم تكراره أيّاً كانت الحاجة وسمعت ألفاظاً عن السأم من الحروب والرغبة في العيش بسلام. وأنا القادم من التجربة الفلسطينية التي لا تقل موتاً وجراحاً عما حدث في لبنان، أفهم دوافع هذا السجال وأختلف مع بعض أطرافه حيث إن عيشنا بسلام ليس مرهوناً بإرادتنا وحدها. عندما بدأت المعركة يوم 12 تموز، الفكرة السريعة التي خطرت برأسي هي أنه منذ عام 1948 انتهى عهد الراحة لكل الدول العربية المحيطة بفلسطين. ليس لدينا بدائل عديدة ونختار من بينها أن نموت فقط وأن نذهب للحروب باستمرار أو في كل موسم. هذه الدولة، إسرائيل، تنتظر أن يعين صهيوني رئيساً للسلطة الفلسطينية حتى تتعامل معه، وإلا ستواصل قتلنا وهي تطلب انسجام كل الدول العربية المجاورة مع سياساتها وإلا ستواصل القتل. بتقديري أن إسرائيل، للمرة الأولى (رغم أني أتذكر حرب تشرين) تلقت ضربة موجعة على الصعيد التاريخي الاستراتيجي البعيد المدى. لأول مرة، هناك حرب أنداد. لأول مرة، يتحدث قادة إسرائيل كالقومجيين العرب. هذيان هادر كاذب، خالٍ من أي معنى، نصّاب، وتتحدّث المقاومة في لبنان لغة لا زخرف فيها بالغة الدقة، مقتصدة، كما أرغب في أن أكتب قصيدتي.
ظهر حسن نصرالله على التلفزيون ليقول عبارة "أسرنا جنديين لن نعيدهما إلا بالتبادل وعن طريق التفاوض غير المباشر، والسلام..". وغادر الشاشة بعد هذه الجملة. ظهر قادة إسرائيل ووضعوا قائمة طويلة من أهدافها الحرب، قتل الرجل واسترجاع الجنود ونزع سلاح حزب الله إلخ.. نحن الآن، بعد انتهاء الحرب وجملة المقاومة صادقة وموجودة بشكل كامل، أما الجملة الإسرائيلية فقد تكسرت ولجأت لمداراة فضيحتها إلى نصف الكرة الأرضية لحمايتها.
على المدى البعيد أعتبر أن ما جرى في لبنان سيغير مزاج أجيال بكاملها من الشباب العربي. لقد شعروا أنهم ليسوا خرقاً تداس بالأقدام وأن الهزائم والإهانات والمهانة ليست قدراً لا يتغير.
الموت فادح والآلام كبيرة في لبنان، ولكن هذه الأمنية في صدور اللبنانيين بأن يعيشوا في سلام وأن ينفضوا أيديهم من هذا الصراع هي أمنية شخص بأن لا يُصاب بالأنفلونزا. أكرر لقد مضى عهد الراحة منذ 1948 بالنسبة إلى الدول المحيطة، مهما عملت على مجاراة السياسة الأميركية في المنطقة.
* برأيك هل سيتمكن هذا الخطاب الذي شاهدناه من تغيير أي شيء في غزة اليوم؟
? لا تماثل كمية الموت في غزة إلا كمية الموت في لبنان. كلامي كالمصاب اللبناني والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لا يقل رغبة في الخروج من مراعي القتل اليومي على يد الجيش الإسرائيلي، عن رغبة اللبنانيين بعد أن ذاقوا آلام الحرب الأخيرة. لكن أن تعيش في سلام، في حالة الاحتلال، هذا أمر يقرره طرفا الصراع وليس طرفاً واحداً.
في تجربتنا الفلسطينية، بتقديري، أن إسرائيل والولايات المتحدة لا يريدان لنا سلاماً، إنهما يريدان لنا عملية سلام peace-process يعني، منظر مسرحي يتحرك فيه الناس بما يشبه المفاوضات وبما يشبه المساومات والمبادرات، بحيث تبدو المنطقة وكأنها تنتظر حلاً باستمرار. وأميركا وإسرائيل لا يفزعهما غياب السلام عن هذه البلاد، بل يفزعهما غياب عملية السلام. كما قلت في بداية الحديث، إنهم بانتظار أن يعينا صهيونياً لقيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية، لعلهما ساعتئذ يقبلان الاتفاق معه على الحل. هذا لن يحدث بالطبع وبالتالي ستظل إسرائيل تقتل، وبالمناسبة إسرائيل لم تخض حرباً في لبنان، إسرائيل كانت تقتل في لبنان، كانت تقتل فقط، كانت تدمر بيوتاً، وعندما كانت الحرب تكاد تصبح حرباً بالمعنى الشريف للكلمة، على البر، أخذت تصيح وتستنجد بجنسيات الأرض جميعها لتنقذها وتحميها. يبدو أن لا مفر في أن تكون في بؤرة هذا الصراع لفترة طويلة جداً، مهما كنا معتدلين.
الخطاب الجديد
* هل تعتقد أن ذلك كله سينجب خطاباً أدبياً جديداً، سيكون له الانعكاس على النص الآخر؟
? أنا لا أؤمن برد الفعل المباشر بين التطورات الحربية والإنتاج الأدبي على الإطلاق، وعندما يقدم لنا إنتاج فوري مرتبط بالمعارك أو بالمواجهات العسكرية غالباً يدخل في باب ما تنتجه إدارات التوجيه المعنوي والسياسي في الجيوش، والأمثلة كثيرة على الشعر الذي التصق بالأحداث في تاريخنا القريب. أنا أعتقد أن الأحداث السياسية تحمل ملامح الخطاب الفكري والأدبي الذي يسبقها وليس العكس.
إن كل حدث سياسي أو حربي يكون محملاً بالضرورة بأصداء وجدانية وأدبية وثقافية قادمة إليه مما استقر في وعيّ الناس عبر العصور. أنا أقلب المعادلة، لا أقول إن الحرب تقع فنرى لغة جديدة تلد بعد ذلك بل أقول إن لغتنا وممارساتنا الثقافية تشكل عنصراً من عناصر هذه الحروب أو هذا التطور السياسي أو هذه الانتفاضات. أنا لا أعتقد بالأثر المباشر، بين السياسة والأدب، فالأدب يتطور بمنطق داخلي، بمنطق من داخل الأدب نفسه. التغييرات الأدبية هي وليدة السجال الأدبي وليس الصراع الخارجي والذائقة الأدبية تتغير بقانون داخلي، من داخل الكتابة وأسئلتها.
* أميل أنا شخصياً إلى خطابك هذا في ما يخص الكتابة، من هنا أريد أن أسأل، ألا تظن أن ميلك إلى الابتعاد عن هذه "البلاغة القاتلة" جعلت البعض يضعك في مدرسة شعرية غير المدرسة الفلسطينية التي اعتدنا عليها في "القصيدة المقاومة"؟
? هذا واقع، أصبح يندرج تحت كلمة الشعر المقاوم قائمة من الأسماء المعينة ذات الخطاب البطولي المباشر الذي يجاري البلاغة المكررة، وأنا سعيد أنني خارج هذه القائمة، وهذا ليس لأنني أتجنّب بأن يكون لشعري أثراً مقاوماً، ولكن لأنني أريد لهذا الأثر أن يكون أقوى بمعنى كلما هدأت لهجة الشاعر كانت أكثر إقناعاً وتأثيراً. وأنا لا أرى السياسة، فالسياسة عندي ليست الوقائع وما نسمعه في نشرات الأخبار بل هي واقعنا كله بمعنى أنني أكتب عن الحياة بكل ما فيها من تفاصيل وليس عن معنى مفاصلها السياسية الإخبارية فقط. أنا لا أعلّق على الحدث السياسي، لا أعلّق على الألم الإنساني، لا أتغنى بالشجاعة، ولكن أتحدث عن الحالة الإنسانية لدى كل فرد في كل لحظاته. فكل لحظة إنسانية هي مجمع للحظات يعني في لحظة الحزن أو الحب أو الندم أو الانتظار أو الخوف أو الشجاعة. فإن تاريخك الشخصي كله كامن في كل لحظة من هذه اللحظات.
ولكن ذلك كله قدنا إلى نمطية في القصيدة المقاومة، إلامَ ترد سبب ذلك؟
? سبب ذلك الكسل النقدي والكسل الإبداعي معاً. الناقد الكسول يستسهل التصنيفات ووضع اليافطات والحديث عن أجيال شعرية معينة، وهذا يريحه من البحث الحقيقي والكاتب الكسول يعيد كتابة ما تمّت كتابته آلاف المرات، ويظن أنه ساهم في تقديم فن مقاوم لجماعته التي تنتظر أن يقدّم لها ما تنتظره وتنتظر ما يقدّمه لها. يزعجني جداً أن كثيراً من الشعر الحديث الذي يُحتفى به في الصفحات الأولى من المجلات لا يخرج أبداً عن أغراض الشعر القديم: رثاء، مديح، فخر، هجاء... الأغراض قديمة واللغة قديمة، لكن توزيع الأسطر في الصفحة يبدو حديثاً ولا
* يحكى اليوم، وبشكل كبير، عن أزمة شعرية، وما إلى هنالك من أمور تبدو كأنها أصبحت لازمة في حياتنا. كيف ترى هذه الأمور أنت بالذات؟
? أحلم بأن تتوفر لدينا حركة نقدية حرة تستطيع أن تهدم أصناماً كبيرة الحجم وأن تشير إلى مواهب صغيرة السن فلا تتهيّب من الهدم وإسقاط الهيبة الزائفة ولا تترفع عن التقاط كل الإشارات الجديدة القادمة من الأجيال الشابة. نحن حتى لا نمتلك مثل هذه الحركة النقدية. إن معظم نقادنا الذين يحبون أن يقدموا أنفسهم كنقاد حداثيين ومتنورين وحافظين للنظريات الأدبية الغربية هم الذين ينظمون مهرجانات شعرية لا نتيجة لها إلا الانحطاط بالشعر وهم الذين يشتركون في لجان منح الجوائز وترتيب الندوات ومراجعات الكتب وانتقائها لمناهج التدريس بطريقة إذا تمعنت فيها وجدتها عكس كل ما يزعمون.
أنا أقرأ للشعراء العرب فإنني أحياناً لا أفهم مدائح يكيلها شاعر لآخر رغم أن الثاني يجسد كل ما يهجوه الأول في تنظيراته. لا أفهم لشاعر يحترم نفسه يتجوّل في طائرة البابطين أو يحصل على جوائز باشراحيل وأمثاله، بما يخالف ما يدعو إليه وما يكتبه وما ينتجه من مؤلفات. ولا أفهم الشعراء الذين يدافعون عن القصيدة المقروءة ويشتمون الظهور على المنابر ويهرولون إلى كل منبر ولو كان في آخر أطراف الأرض. ولا أفهم الصفحات الأولى في الجرائد اليومية المحترمة التي تنشر قصائد تافهة لأناس يكتبون الشعر ولا صفة لهم غير كونهم سفراء أو أمراء أو وزراء أو أصحاب مناصب رفيعة لا يجرؤ أحد على وصفهم بأنهم شعراء تافهون.
لا اقتراحات نهائية
* مضت عقود على بدايتك في الكتابة، إلى أين وصل بك الشعر أم إلى أين وصلت به؟
? ما زلت أحاول. لم أطمئن إلى أي شكل اخترته لقصيدتي وأظنني لن أطمئن. الكتابة هي محاولة لا تتوقف عن كونها محاولة. لا أدافع عن اقتراحاتي الكتابية ولا أراها اقتراحات نهائية أبداً. فأنا أكتب قصيدة النثر والقصيدة الموزونة وأكتب القصيدة القصيرة جداً وأكتب قصيدة واحدة في كتاب كامل، وأكتب قصيدة تحمل قارئها على الابتسام أو الضحك وأكتب قصيدة درامية وسردية وغنائية، هذا ليس استعراضاً لما أستطيعه، هذا استعراض لعجزي عن الاقتناع بشكل نهائي للقصيدة، استعراض لعجزي عن الاقتناع بأن هناك وصفة (أو روشته) لكتابة الشعر الجيد. ليست هناك وصفة على الإطلاق وقد قلت مرة إن ديواناً واحداً قد يقلب كل نظريات الشعر، أنا لا ترهبني النظرية الشعرية ولا يرهبني نقاد الشعر ولا ترهبني تصنيفات الأجيال، الكسولة كما أشرنا. إنني وفي لأمر واحد طوال تجربتي في الكتابة وهو مسودتي الأولى أي السطور الأولى في قصيدتي هي التي تحمل معها مطالبها وهي التي تطالبني أن آخذها إلى هذا الشكل أو ذاك. فإن كانت لا تحتاج أن تستعير موسيقى من خارجها كتبتها نثراً وإن كان إيقاعها يتطلّب أن تقترض من موسيقى الشعر العربي هذه النغمة أو تلك لا أتردد في أن أكتبها على أحد بحور الخليل، بل أكثر من ذلك إذا اقترحت عليّ قصيدتي منعطفاً ملحمياً كما هو في الجوقة الإغريقية مثلاً فأنا لا أتردد في أن أكتبها بالشكل العمودي الكلاسيكي، لكنني في ذلك كله أظل مصوباً عيني على البناء في قصيدتي. أحد أركان قصيدتي أنني أبنيها وأمنحها بداية ونهاية وجسماً يبرر كل صفاتها الأخرى.
السفير
2006/10/11