يعيدنا عنوان كتاب «صنعة الشعر» الى اصل المصطلح كما جاء في التراث واللغة، بحيث وصف بعض النقاد العرب القدامى الشعر بالصنعة، محددين هذا الفن كونه «صناعة». وكان «كتاب الصناعتين» لابي هلال العسكري من اولى الاشارات الصريحة في طريق هذا التمييز. وحددت العرب الشعر كونه فناً (صناعة) يعتمد الصورة، والصوت، والجرس والايقاع ليوحي باحساسات وخواطر، واشياء لا يمكن تركيزها في افكار واضحة للتعبير عنها في النثر المألوف. وميزته عن «صنعة النثر» – الذي هو اسلوب في التعبير ليس شعراً، ولا يخضع لقانون الايقاع المتناسق، ولا يغالي في استخدام الصور والاخيلة.
- أين يقف كتاب بورخس «صنعة الشعر» (ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق) من المفهوم في بعده الاصطلاحي هذا؟ بداية، ينطلق بورخس من كون الشعر، كما هو عليه في الواقع، عاطفة ومتعة، وان الحياة، كما يتلقاها، «مكونة من الشعر». وعلى هذا فهو لا ينظر الى الكتب اكثر من كونها «فرصاً للشعر». ومع انه يذهب الى «ان القراءة الاولى هي الحقيقة»، وان القراءة في المرات التالية هي خداع للنفس «بالاعتقاد بأن الاحساس أو الانطباع، يتكرر»، فإنه يجد «ان الشعر هو، في كل مرة، تجربة جديدة»، وفي كل قراءة جديدة «تحدث التجربة» - وهو ما يعني ان «الفن يحدث في كل مرة نقرأ فيها قصيدة ما». هذا هو معيار الشعر عنده - اي ان حضوره في انه «يقرأ» لا كونه في بطون الكتب.
وفي السياق ذاته يجد ان «هناك حالات تبدع فيها القصيدة نفسها». فالسياق، في القصيدة، يخلق شعراً حتى مما يعد «كلمات» او «صوراً» شاذة، الا انها قد تشكل «جزءاً من الكلمات الخالدة في الادب» بحكم وجودها وجوداً ابداعياً في نص ما، او عمل ما. وقد يحدث ذلك، بحسب بورخس في رؤيته هذه، بفعل التبدل/ التطور الحاصل في وسائل الثقافة، وفي آليات المعرفة، مما يجد له تأثيراً فعلياً في عملية التلقي، من دون ان يغفل تأثير الزمن الذي قد يغني القصيدة، في ما نجده عند تجديد قراءتها من عنصر شاعري مضاف. وعلى هذا فهو يجد في الشعر ما هو اكثر اهمية بكثير من تعريف (مدرسي) يذهب الى ان «الشعر هو التعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنية».
واذا ما جاء الى واحدة من ابرز خصائص لغة الشعر (اعني الاستعارة) فانه يبتعد عما يدعوه خيار الفكر المجرد في تعيين طبيعة الاستعارة وتحديد خصائصها، مركزاً على القارئ (او السامع) الذي يوكل اليه مهمة التمكن «من ادراكها كاستعارة»، مركزاً، في هذا، على ما يدعوه بالاستعارات النمطية (او النموذجية)، كتشبيه العيون بالنجوم، او العكس – حيث تكون الاستعارة، في مثل هذه الحال، جزءاً من «النسيج العضوي» للقصيدة، في مقابل ما يدعوه «فكرة الزمن المتدفق» مثل نهر - حيث الاثنان (الزمن والنهر) يجريان. ومن الانماط الاخرى في هذا الباب ما يسميه «نمط الحياة كحلم»، واساسه «الاحساس بأن حياتنا حلم»، او انها تمتلك شيئاً من الحلم الذي نحلمه، مع اختلاف وجوه التعبير عن هذه «الاستعارة» عن الشعراء الذين يعرض لشعرهم ويناقش نصوصهم بتعيين البعد الفني - الابداعي المتحقق للاستعارة فيها.
اما في «فن حكاية القصص» فيؤكد، بداية ضرورة «اخذ التمايزات اللفظية في الاعتبار، لانها تمثل تمايزات ذهنية وثقافية»، مؤسساً عنوان هذا الفصل على ما كان يرى فيه القدماء الى الشاعر كونه «راوي حكايات، حكايات يمكننا ان نجد فيها كل اصوات البشرية»، - وهو ما تشكل» الملحمة» اجلى صورة له. وبناء على فكرته في ان الناس لا يمكن ان يملوا من سماع القصص – وخصوصاً «اذا ما رافق سماع القصص احتفاظنا بمتعة اضافية من كرامة الشعر وجدارته» - نجده يفكر «في ان الملحمة ستعود إلينا». ويفكر في «ان الشاعر سيعود ليكون خالقاً من جديد» – «انه سيروي قصته وسيغنيها ايضاً»، وهو ما يجعل الفصل التالي من الكتاب عن «موسيقى الكلمات والترجمة»، وهو موضوع يقود الكاتب، كما يصرح بذلك، «الى معنى الشعر وايقاعه»، معتبراً الفكرة الشائعة عن ان «كل ترجمة هي خيانة لأصل فريد لا نظير له (...) خرافة متجذرة وواسعة الانتشار». ويميز في هذا بين نوعين من الترجمة، فهناك «الترجمة الشعرية» التي تضفي على النص المترجم «طابع اللغة المترجم اليها، وهناك «الترجمة الحرفية» التي لا يظن انها، من حيث المنشأ والمصدر، «ظهرت نتيجة التقدم في العلم» او «نتيجة هاجس الدقة»، وانما «كان لها منشأ لاهوتي» - اي «ان فكرة الترجمة الحرفية برزت مع ترجمات الكتاب المقدس».
وفي فصل «الفكر والشعر» ينطلق من قضية اساسية، هي «ان الفنون كلها تصبو الى شرط الموسيقى»، وهي فكرة الكاتب الانكليزي والتر باتر، مؤسساً عليها ما يراه ويبحث فيه من «ان الشكل والمحتوى في الموسيقى لا ينفصلان»، بينما المسألة في الادب مختلفة. فالشعر مثلاً، مادته الكلمات، «وهذه الكلمات هي لغة الحياة الحقيقية»، والشاعر هو الذي يحول بشعره، الكلمات الى نسيج «الى شيء سحري»، مضيفاً اليه «العمق». فإذا كان الشعر يعيد اللغة الى ما يرى فيه «منبعها الاصلي»، فان هذه اللغة لم تنبثق من المعاجم، ولا جاءت من المكتبات، «وانما من الحقول، من البحار، من الانهار، من الليل، من الفجر»، وقد «جرى تطورها عبر الزمن، عبر زمن طويل»، بدأ بعقد الصلة بين الفكر والمعنى. فاللغة – بحسب رؤية «بورخس» هذه – ابتكار، والمعنى كذلك. واذ تكون الكلمة شعراً، فانها لكي تكون كذلك ينبغي ان تقع موقع الغرابة، وموقع الادهاش.
ويذهب في مسار رؤيته هذه، الى تعيين طريقتين لاستخدام اللغة في الشعر، وان جاءتا متعارضتين. فـ «احدى طريقتي الشاعر هي استخدام كلمات عادية وشائعة وتحويلها، بطريقة ما، الى كلمات غير عادية: استخلاص السحر منها». أما الثانية فهي في ان يأتي الشعر (الشاعر) بماله مغزى فـ «الشعر اما ان يكون حياً او ميتاً، وليس ان يكون الاسلوب سلساً او مشحوناً». وعلى هذا فهو يذهب مع النظرية التي تقول: «ان الكلمات كانت سحرية في البدء، وتعاد الى السحر على يد الشعراء»، معرباً في هذا، عن اعتقاده بكونها «نظرية حقيقية». وعنده ان المهم هو ان نؤمن بشخصية الشاعر (او الروائي) في ما يقدم لنا. ان «ما يهم حقاً هو ان نفكر في انها تستجيب لانفعال الكاتب وعاطفته»، لكي نشعر بأن وراء الكلمات «ثمة عاطفة حقيقية».
اما الفصل الاخير في الكتاب فهو عن «معتقد الشاعر»، وهو بدرجة اساس، عن معتقد بورخس شاعراً، وفيه يرى ان «كل النظريات الشعرية مجرد اداوت لكتابة القصيدة».
الا ان بورخس قبل ان يكون اديباً، وشاعراً، كان قارئاً. وهنا يتحدث عن امتياز القارئ والقراءة، ليجد «ان متعة القارئ اكبر من متعة الكاتب». اما كيف؟ فالقارئ، كما يراه ويحسه، «غير مضطر الى الاحساس بالقلق او الغم: انه يتطلع الى السعادة... فحسب». اما الكتب التي قرأ، والتي كانت مهمة له، فيضع «الف ليلة وليلة» في المقدمة منها، واول ما استوقفه فيه «هو احساس فسيح بالحرية». اما «دون كيخوتي» فوجد، فيما بعد، ان لمتعة قراءته سبباً غير السبب الذي وجده بداية، وهو شخصية الفارس في هذا العمل، الى حد جعله يذهب الى «ان ثربانتس اختلق المغامرات كي يعرض لنا شخصية البطل».
الى هذين الكتابين - العملين الكبيرين بمعايير الفن الادبي، هناك كتب اخرى لكتاب آخرين يقول انه قرأها باهتمام. الا ان الامر المهم، الذي يكشف عنه في هذا السياق هو «بناء شخصيته» هو، لا على نمط الكتاب الذين قرأها لهم، او على غرار الكتب التي قرأ (وإن كانوا، معاً، مصدر هذا «البناء» ومادته)، وانما من خلال «الافكار» التي جاؤوا بها، والتي هي، بحسب معاييره الذاتية، تحمل بناء حقيقياً للشخصية، اذ اقام «التناظر» معها ذاتاً وشخصية ادبية ذات عمق انساني. والسؤال الذي يطرحه على نفسه في ما يخص «سياق التكوين» هو: «ما الذي يعني لي ان اكون كاتباً؟» ويجيب: «يعني، ببساطة، ان اكون مخلصاً لمخيلتي».
الحياة
05/02/2007