صدر عن دار التكوين ـ دمشق كتاب جديد للشاعر العراقي محمد مظلوم، عنوانه ( حطب إبراهيم أو الجيل البدوي ـ شعر الثمانينات وأجيال الدولة العراقية) يقع في 512 صفحة من القطع المتوسط في ثمانية فصول،
الفصل الأول:"صحراء ما قبل النار والحطب" يقدم فيه "خلاصة للحقبة والتوقيت البدوي" وإعادة تجييل الثقافة العراقية خلال القرن العشرين، من خلال نماذج بدئية أربعة يمثلها كل من: نموذج البطل ونموذج الفنان ونموذج النبي ونموذج البدوي، ويناقش "عقدة الجيل وأجيال العقود" ويرصد "انتقال المفهوم من فضاء الأمة إلى دائرة الجماعة" ليصل إلى "الطبقات بين الجيل البدوي وعقد الثمانينات" و "الجيل الضائع" و "شعراء المحافظات" ويمثل لعزلة البدوي "بشعراء في الظل ولهم ظلال".
أما الفصل الثاني: "حاطبون في نار إبراهيم" فيرصد من خلاله وقائع الحرب من خلال نماذج "النبي المقنع والبدوي المسلح" ويقدم شهادة ونماذج من زمن القسوة عن "البدوي الهارب من المصح / ثقافة الرعب والجنون والموت"
أما الفصل الثالث: "خريطة البدوي التائه" فيرصد فيه الكاتب حركية الجيل من خلال "المقاهيٍ" و"المنتديات " والأرصفة" وأثرها في تقسيم التيارات الفنية داخل شعراء الجيل.
أما الفصل الرابع: وهو بعنوان "مخطوطةُ الشهداء وغنائم الشعراء" فيكشف فيه عن دور "شعراء التعبئة التعبئة والقصيدة المدجَّجة" ويقدم نماذج من "مديح المعسكرات وفجر البنادق" وتطبيقات للتفريق بين شعر "الطفولة والتطفل"
أما الفصل الخامس: " مغامرة البدوي داخل العمران القديم" فيخصصه لرصد الجذور الثقافية المحلية لـ"قصيدة بلا نثر" وجدل الأشكال الشعرية، والتي خلقت "مدينة خلاسية" احتوت "إيقاعات البدوي الخارج من الحداء"
وفي الفصل السادس: "حلية البدوي / الأساطير العارية والتيجان المزخرفة" يناقش مجموعة من البنى المضمونية والأنساق الفنية من بينها "الانتظار واستدعاء صورة الغائب" و"الهروب من الكثافة الميثية" و"من التاج إلى الخرقة" وصولاً إلى ثنائية "التجربة والتأليف" عبر تطبيقات لكل من تلك البنى والأنساق.
أما الفصل السابع: فقد خصصه الكتاب لانتقاد النقد "العودة إلى كهف النبي" راصداً انحسار "النقد الثقافي" بين "النقد الأبوي والنقد التعبوي"
أما ـمت الفصل الأخير من الكتاب والذي جاء تحت عنوان: المتاهة من الداخل، فهو كناية عن تطبيقات نقدية محددة لنماذج لشاعرة وثمانية شعراء من شعراء الجيل الذي سماه "الجيل البدوي"
****
شعراء الثمانينات وأجيال الدولة العراقية
المقدمة
منذ أن بدأتْ ملامحُ تجربة شعراء الثمانينات في العراق تتشكَّل، طغتْ مشهدية مخيفة على تلك الملامح الأولية، فقد نَشَبت الحربُ العراقية الإيرانية فاستمرَّتْ ثماني سنوات، لتفرٍّخ في لقاحها الدمويِّ الطويل حُروباً وحصارات وصراعات وموجات من العنف المنفلت يوجزُ حاضرُنا الرهيبُ المدى الذي وصلته.
وبفعل طُغيان تلك المشهدية بقيتْ ذكرى الملامح الأوَّلية "مطمورة" تحت ركام الحروب و"مغمورة" تحت طوفانات متلاحقة و"محاصرة" بفعل تتالي الحصارات. ولن يبدو الكشفُ عنها اليوم سوى محاولة "إنقاذ" للماضي، ليس بهدف إعادة تأهيله أو إحيائه، وإنما لإعادة إنصافه أو الانتصاف منه، وبمعنى آخر ليس القصدُ من ذلك كلهِ مجرَّد النبش والتخويض والتواصل، وإنما لأنَّ ما يحضرُ في ذهن المرء عادة عندما نتحدَّثُ عن "فترة" "الثمانينات" خلال "الفترة" الحالية فكأننا نستعيدُ ذكرى، ونعودُ لوقائع تجاوزتها الأحداثُ وأصبحتْ شيئاً من التَّاريخ الماضي الذي ينبغي الترحُّم عليه وهو أشلاءٌ تحت تلك الرُّكامات والزلازل.
لكنني كنتُ دائماً من الموقنين بأنَّ الماضي يتدخَّلُ في تشكيل الحاضر بقوِّة، وحتى التاريخُ نفسهُ أرى فيه ما رأى فيه ابنُ خلدون، فهو ليس مجرَّدَ "خبـر وإخبار" لكنه مُستودع "للعبر والأفكار".
واليوم إذ أتصدَّى لمراجعة وقائعَ وقعتْ وتفاعلتْ ولم تمضِ خبراً عابراً، فلكي أصل إلى مرامي محددة.
أولاً لأضعَ الأمورَ في نصابها الذي أعتقد به، في زمن أصبحت فيه الحقيقة مُصنَّعة بالادعاء والتنطع في الزيف وتبديل الأقنعة والسحنات وحتى الضمير. وربما في هذه المواضعة ثمة إنصاف لمن أقاموا طويلاً تحت ذلك الركام، بينما وقف آخرون بملابسهم الأنيقة حول المصيبة وهم يتحدَّثون كأنَّهم هُمْ من خرجوا من الطمر والغمر والمحاصرة.
وثانياً لإنجاز وعد " قديم" يعرفه كثيرون، فحينما كانت تلك الملامح تتشكَّل، وحلَّ ما حلَّ وغُيبتْ أطوارُ صيـرورتِها حتى انتُحلتْ واستثمرتْ، آليت على نفسي كما يعرفُ جميع "الأصدقاء" و"الخلصاء" و"الخلطاء "و"الزملاء" وكلُّ من حوَّلتهم الأحداثُ والجهاتُ والمعسكراتُ إلى تسمياتٍ أخرى، أن أروي ما لْمْ يُدوَّنْ في وثائق إعلام التعبئة، وصحف "الفترة" وأن أؤرِّخَ "للمرحلة" التي أجَّلتها "الفترة" ولستُ براجع عما تعهَّدتُ به سواء تغيـَّرت معسكراتُ البعض فغيرت أقوالهم وولاءاتهم أم بقيتْ على "عهودها".
ولست هنا بحاجة إلى علماء رواية ليعينوني على سرْدِ ما عشتُ، فأنا كفيلٌ بذلك وحدي، لكنَّ "المعاش" بالمعنى الجماعي ربما أحتاجَ إلى روايات أخرى لتلك الأحداث بما يجعل المقايسات على الوقائع، والمقابسات من تلك النار وحطبها الضاري متاحةً على لسانِ التاريخ وليست في ذمَّتهِ.
ولهذا فإنَّ هذا الكتاب هو المفتتحُ الكبيرُ والواسع في سياق "الرواية الأخرى" لتفنيد ما يفترض أنها رواية ضخمة من الكذب والرياء المتَّصل كانت تتشكَّل فصولها في الثقافة العراقية، عبـر سنوات ولم يعترف أحدٌ بهذا التكاذب حتى الآن.
وهذا الكتاب قطيعةٌ وليس صلةً، وهو شهادة شخصية محض عن جماعة وليس شهادة جماعية يكتبها "بطلٌ" "فرد" أو "زعيم"، وهي ليست شهادة مجموعة "فرسان" داخل الجماعة، وهي أيضاً لا تمثل "توافق" الجماعة على تلك الشهادة، لذلك فإن فيها ما هو قابلٌ للنقضِ والمناقشة والاعتراض، القبول والرفض، ولكنَّها في كلِّ الأحوال شهادة تنتمي إلى تلك "الفترة" بقوة وتضيء جوانب مهمَّةً منها ولنْ يكونَ بمقدور حتى من قدْ يعترضونَ تفاصيلها أو طريقة معالجتها للوقائع، أنْ يطيحوا بهذه الشهادة خارجَ متنها الذي نشأت فيه.
وعندما أقولُ قطيعةً فأنني أعني قطيعةً مع الماضي ومع "الجماعة" التي اتخذت في هذا الكتاب صيغة "الجيل" وعندما أقول قطيعة هنا فلا أعني المقاطعة والإنكار والتملص من التجربة الوجودية والوقوع تحت براثن "التجربة" الدينية بالمفهوم الإنجيلي، ولكنها هنا تأخذ معنى "التطهر" الأرسطي، وربما تعبّر نحو "التطهير" من ذلك الماضي، والفراغ منه بتدوينه وخروجه من المكبوت إلى المكتوب ومن السرِّية إلى العلانية، وهو بهذا قطيعة شخصية أو حتى ذاتية أكثر من كونه قطيعة موضوعية.
والواقع أنَّ الكتابة عن هذه القضية بالذات تحمل معنى التطهُّر، وربما حملت قراءتها شيئاً من تأثيراته، أو لعلَّها توقظُ مشاعرَ أخرى لدى شهود آخرين مِمَّن لديهم رواياتٌ أخرى.
فحين نلقي حجراً في مستنقع قديم، تنام فوقه وتحته طحالب وأشنة، أو نزيح ركام الخراب وأنقاض الحروب وقشور الأوهام عن ذلك المسرح الذي ينطوي على حدث لا يفتقر لمواصفات "الملحمة" فكأننا نعيدُ تمثيل الصدمة معاً ونقف أمام اللحظة مجتمعين متفاعلين، لأنها تخصنا جماعة وأفراداً. وبهذا فهي تلغي تلك المسافة بين الجمهور والمسرح وتحيل المراقبة إلى تفاعل، والتأمل الوجداني إي مشاركة عاطفية، وتحاول بالتالي أن تحيل هاجس الاقتصاص إلى دافع تسامح.
ولهذا فإنا لم أمض بعيداً نحو بما قد يبدو تجريماً شخصياً للبعض بتجميع ملفَّات لإدانتهم، فلم أتقصَّدْ الجنوح إلى أيِّ تشنيع أو تعريض أو مُنابزة. لكنني، في الوقت نفسه، لم أركنْ إلى المساومة في ما أراه ضروريَّ التوضيح، وما فعلته في هذا السياق هو معالجة النصوص وعموم التجربة، فأنا لست بصدد الفضائحية، وهي ذات ملفَّات مُتوفِّرةٌ لمن يبحث عنها، لكنني بصدد شهادة ومقاربة نقدية " انتقادية" لمرحلة مهمَّة من تاريخ الثقافة العراقية.
وهكذا مهمة لن يكونَ القصدُ منها النـزوع إلى إيذاء أحد أو حتى إدانته بالمعنى المدني. بل أنَّ ثقافة التسامح تتجسَّدُ في أوَّلى صورها المبكرة في كشف التلبيس والتدليس والتحرُّر من عقد التنطُّع في الادعاء عبر تفكيك بنى النصوص "المساومة والمقاومة والاستسلامية أو الخائنة" وليس هذا التصنيف متبوعاً بحكم إعدام لذاك أو مديح لذا، كما قدْ يشتُّ الظنُّ بالبعضِ من دعاة "المدنية الجديدة" و"ديمقراطيتها" المستحدثة، فمفردات "المساومة والمقاومة والاستسلامية" هنا هي تعبيـرات مجازية لثقافة مُتَّصفة بلواحقها وقامت عليها حضاراتٌ وأممٌ وتجارب. حتى النصوص "الخائنة" وهي أكثر مفردة قد تجرح بشفرتها الراديكالية "أدعياء التسامح" تعني هنا خيانة المثقَّف للضمير الثقافي، وليس لجماعة أو حزب أو عشيرة أو حتى نخبة.
وفي "النقد الثقافي" لا توجد موضوعية تامةَّ، هناك موضوعيات تتعدَّدُ بتعدًّدِ من يطرحها أو يتذرَّع بها.
من أجل هذا لنْ أكونَ موضوعياً بالمعنى الذي يجعلني "حيادياً" في طرح آراء تتصل بخيارات ثقافية ووجودية ومراجعة نقدية لـ "مرحلة" ذات "أطوار" امتدَّ عمرُها لثلاثة عقود نصفُها في الوطن ونصفُها الآخر في المنفى.
وكتابي هذا ليس وليدَ اليوم لا فكرة ولا إنجازاً. ولهُ قصة قبل الآن والمرجَّح أنْ تكون لها قصص بعد الآن!
فخلال السنوات التي أعقبت مغادرتي للعراق في العام 1991، لَمْ أكدْ أتوقَّفْ عن نشر فصولٍ أو مقاطع أو إشارات من هذا الكتاب في صحف عراقية وعربية ومجلات متخصصة، تثبيتاً وتذكيراً، لنفسي قبل أيِّ أحدٍ آخر، بهذا المشروع.
فحالما خرجتُ من العراق وكان هو الموعدُ الأول لبداية العمل من أجل إنجازِ الكتاب بما يعنيه العبورُ من "فترة" إلى "مرحلة"، بدأتُ بجمع الشهادات والنصوص ليكون الكتابُ مشهداً جماعياً في الإسهام والحضور. حتى اطلعتُ على كتاب عبد القادر الجنابي عن جيل الستينات "انفرادات الشعر العراقي الجديد" وكان في الواقع مشروعاً ساهمَتْ فيه مجموعةٌ من شعراء الستينات مَّمنْ غادروا العراق نهاية السبعينات، فجسَّدَ شهادةً جماعيةً من ضفة ضدَّ جماعة في ضفة أخرى، وتصفية حساب واضحة.
وتعزَّز هذا الواقع في الكتاب اللاحق الذي أصدرهُ سامي مهدي (الموجة الصاخبة) واتهم فيه الجنابي بالتطفُّل على مشروعه الذي يعرف به الجنابي منذ العام 1978 حينما كان سامي مهدي يعمل في المُلحقية الثقافية للسفارة العراقية بباريس حتى أوائل الثمانينات، خاصة وأن الجنابي برأي سامي مهدي "ليس من شعراء الستينات الآخرين الذي يحقُّ لهم تدوين شهاداتهم عن حركة جيل الستينات."
تحت حمى هذا الصراع رأيتُ أن أؤجِّلَ مشروعي. أولاً لأنَّي لم أعدْ مقتنعاً بفكرة الكتاب "الجماعي" أو الشهادات المتعدِّدة في كتاب واحد، خاصة بعد إطلاعي على كتاب الجنابي، وثانياً لأنَّي شعرت أن الستينات لا تزال مُتفاعلةً في مراجعتها وإعادة تقييمها سواء في التنصُّل منها أو مديحها أو الاختلاف في تنسيبها وأنسابها.
وهو ما حصل فعلاً، فبعد كتاب " انفرادات الشعر العراقي الجديد ـ الستينيون" الصادر عن دار الجمل في العام 1993، صدر كتاب سامي مهدي "الموجة الصاخبة ـ شعر الستينات في العراق" في العام التالي، ثم أصدر فاضل العزاوي كتابه (الروح الحية ـ جيل الستينات في العراق 2003) بينما أصدر فوزي كريم كتابه (تهافت الستينيين ـ أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي ـ 2005) وهكذا استمرَّ "الصخب الستيني" و"روحه الحية" و"تهافته" رَدحاً من الزمن في مراجعة تراثه بأفكار وأهواء وحسابات قديمة، مثلما أثار الصخب في ولادته وصيـرورته وانشطاره.
ولربما يشكِّل إصدار شاكر لعيبي لكتابه (الشاعر الغريب في المكان الغريب ـ التجربة الشعرية في سبعينات العراق 2003) امتداداً طبيعياً لنهج عراقي في معالجة الإرث الشعريِّ من وجهة نظرٍ تقوم على التزامنية وجرد الإنجاز ومحاكمة اللاحق للسابق خلال عقد من الزمن. ولكن المهمَّ في هذا كلِّهِ أنَّ كتابي عن "الثمانينات" أصبحَ إصداره مُلحَّاً من الناحيتين التاريخية والموضوعية، فما جرى منذ العام 2003 وحتى الآن أتاح لي قراءة ما كتبته خلال خمسة عشر عاماً فوجدت أن طيفيته الواسعة تتَّصلُ بما حلَّ بالعراق، وترتبط فكرة الأجيال فيه بتاريخ الدولة العراقية منذ نشوئها بشكلها الملكيِّ إلى سقوطها في نموذجها الدكتاتوري. وهنا قد تكمن ميزة هذا الكتاب عن بقية الكتب السابقة في كونه لا يكتفي "بالشهادة" عن عقدٍ زمني محدَّدٍ، بل يشملُ قراءةً لتراكم إرث الصراعات الفردية داخل النخب، وأثر مصادمات النخب في ما بينها على طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة بمؤسساتها الثقافية.
فبعد أن انفتحَ المنفى العراقي بلا ضوابطَ ولا ملامحَ والتبس بالهجرة، وتداخلت الغربة بالاغتراب، وامتزج الهروبُ بالملاحقة، نشأت في "عمَّان" أكبـر التجمعات الثقافية العراقية خاصة من شعراء الثمانينات ونشأتْ معها دورُ نشر ونشاطات وصحف وأحزابٌ معارضة.
كان اللغطُ الذي يعكسُ صورة الصراع المنقولة من بغداد إلى عمان يجسدُ جانباً من قصة هذا الكتاب، حيثُ كانَ هُناك أكثرَ من طرف يسعى إلى السبق في إصدار الكتاب بل أن دار نشر " عراقية" ظهرت سريعاً واختفت أسرع، كانت تخطِّطُ لتكليف أكثر من طرف من هذه الأطراف بإعداد الكتاب، مما دفعني إلى كتابة عمود في صحيفة "الوطن" العراقية المعارضة التي كانت تصدر في دمشق وكنت محرِّرها الأدبيَّ، بعنوان (ثقافة ردات الفعل) قلتُ فيه إنني سأنتظرُ لأرى ما سيقالُ في الكتاب الموعود، وقد أستفيد منه في كتابي، لكنني شكَّكتُ في ذلك المقال بطريقة التعاطي مع الموضوع وامتدَّ انتظاري لأثني عشر عاماً، ولم يصدر الكتاب واختفت الدار، وانشغلت الأطراف باهتمامات أخرى.
وفي هذه الأثناء كان هناك الكثيـرُ من "التنويعات مختلفة النوايا" حول الكتاب بعضها تعطيلي وبعضها تحريضي. بعضها يحضُّ على إصدار الكتاب "لأنَّ هناك من يحضِّرُ لإصدار كتاب يخطف فيه قصب السبق من مشروعي" وهو ما انتظرناه اثنتي عشرة سنة ولم يحدثْ. وبعضها يرى أنَّ "فكرة الجيل" ينبغي لها أن تنتهي وأن يتوقَّفَ البحث فيها نهائياً. ولكن حيت تسأل: لماذا يجب أنْ يتوقَّفَ عند حدود الثمانينات بالذات؟ فلاتَ ثَّمتَ جواب!
هذا الكتاب سيضع فكرة "الأجيال" عموماً، وليس الثمانينات وحدها، أمام استحقاق نهايتها أو تفاعلاتها حقَّاً ولكنْ بعد أنْ يبحثها فعلاً.
على أنَّ ما ينبغي تذكُّره أيضاً أن جميع الكتب السابقة على أهمية كلٍّ منها ركَّزت على قضية "الأجيال" في تاريخ الشعر العراقي وكأنها حقيقية مفروغ منها ولم يذهبْ أيٌّ منها إلى مناقشة جذرية لقضية "التجييل" قبل أن يناقشَ مسألة "الأجيال" بالمفهوم العقدي.
ومع هذا فإنَّ تصنيف "الأجيال" بالمفهوم الذي طرحناه في هذا الكتاب وإن انطوى على مفاصل نصِّية تغايرية بين جيل وآخر، فإنه لا يعني في ما يخص الشاعر أيَّ ضررٍ ولا يضيفُ إليه مكسباً عندما يغدو متحرَّراً من ربقة "الجماعة" ـ بمعناها العصبوي التي قد تتحوَّل إلى رفقة ووثاق وعهد! ـ لصالح فضاء أرحب وآفاق أكثر سعة.
وبعد هذا، لن تبدو القناعات الشخصية الواردة في هذا الكتاب "كصكوك الغفران" في عصر تراجعت فيه "الكثلكة" لصالح التيه والفرقة، ولم تعد فيه العلاقةُ ولائيةً بين قساوسة الشعر وأتباعه الغواة، بل أصبح كنيسة تائهة ومنقسمة باستمرار ليس بالإصلاح والتجديد وإنما بالانشقاق والتمرُّد. بينما لم أعلن من جانبي بأنني حاملُ الأختام المقيمُ في كاتدرائية "الثمانينات" التي لم تنجحْ حتى في الاحتماء بجدار فانشقَّتْ أمامها الأرض. ليصبح كل شاعر منهم في مواجهة خياره ومصيره الفردي بالتأكيد، وتغدو لكلٍّ منهم تجربته الشعرية التي يأنس لها، لكنْ للآخرين أنْ لا يأنسوا إليها.
أشكر الأصدقاء الذين أسهموا في رفدي بعددٍ مما كنت أطلبه من المصادر، وفي مراحل مختلفة من إعداد الكتاب، وأخصُّ منهم الصديقة المترجمة خالدة حامد، والأصدقاء الشعراء عبد العظيم فنجان، وجمال مصطفى وسهيل نجم وزعيم النصار وآخرين من دونهم ليسوا من الجنِّ على كلِّ حال، ولكنني ربما نسيت أحداً أرسل لي قصاصة صحيفة أو نسخة مجلة أو كتاب! خاصة وإن فكرة الكتاب طويلٌ عمرُها كما يعرف الأصدقاء، وتعود إلى بداية مغادرتي العراق.