تقرأ المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر السوري صقر عليشي بارتياح. المجموعة هي "عناقيد الحكمة" (عن دار الينابيع، دمشق 2007). والارتياح الشبيه بنسمة صيف في جو حار، يعود الى ابتعاد المناخ الشعري للقصائد والمقطعات الشعرية عن الدرامية أو المأساوية التي غالبا ما تسود الشعر العربي الحديث والمعاصر، لصالح السخرية، وتبديد الجو المكفهر للشعر السائد، بخيوط رقيقة ولطيفة من شمس ما تنفك تعمل عملها في النصوص، أفكارا ولغة، فاللغة تأتي بالمتناول انسجاما مع رشاقة الموضوع، والحكايات التي يحكيها الشاعر، أو المفارقات التي يصدّرها أو يرويها، تندرج في لغة رشيقة، ضد بلاغية، تمد يدها للمحكي وللطريف والظريف من العبارات، فتنشئ لذاتها بلاغة أخرى هي بلاغة المألوف واليومي، ولست أدري إذا كان يصح تسمية التأدية اللغوية الشعرية للمألوف واليومي والساخر، بلاغة، ذلك أن الكلمة، كجذر لغوي كما ورد في لسان العرب لابن منظور (بَ لَ غ) معناها "وصل وانتهى" و"البلاغة الفصاحة" وهي مربوطة بحسن الكلام، اصطلاحا، فهل قول صقر عليشي، على سبيل المثال، في قصيدته "يوم الجمعة":
"أسكن في قبوٍ كالعادة
من قبوٍ وإلى قبوٍ منذ مجيئي الشامْ
صاحبه لاعب فتبول
ولذا حين يجيء يطالب بالأجره
يرميني كولاً
ويصيح ويركض
من عند الباب إلى الحمّامْ..."
هل هنا بلاغة؟ أم هي تأدية ميسرة للمعنى الإخباري بأيسر الكلمات والصيغ؟
ومثلها قوله "أفرد للخلف يديّ وأسترخي/ وأمدّد رجليّ على الآخر"... فالجملة الأخيرة أقرب للعامية منها للفصحى.. وهي بذلك تبتعد عن الفصاحة حين تكون البلاغة هي الفصاحة. والتناول الأدائي أو اللغة الأدائية للشاعر في جميع نصوصه وقصائده، تكسر حدة الفصاحة بالمألوف اليومي المتداول من الصيغ والكلمات، فيستعمل "طبعاً" و"هذا يعني" و"بالكاد" و"بشكل عام" و"بالتفصيل" و"الحبل على الجرار" وما أشبه ذلك من ميسور الكلام ومتداوله وكأنه لا يطلع في لغته من المنطقة الغائرة والمسيطرة في التراث والذاكرة وهي منطقة البلاغة والفصاحة، بل من أماكن أخرى تتحطم عليها هذه البلاغة تحطماً أوليا غير ناجز... بين بين... وأحسب أن صقر عليشي يخاف هذا التحطم التام الناجز للبلاغة، أو على الأقل، يتأباه ويتحاشاه، لناحية أنه لم يلجأ للمحكية أو العامية كأداة شعرية للتعبير، بل سمح لها بالتسلل المضبوط، من خلال كُوى واستعارات وغض نظر... وشد بمجمل لغته نحو الخفة اليومية ورشاقة التداول التعبيري، ولست أدري الى أين ستوصله هذه المغامرة إذا ما استمر فيها؟.. كما أنه، من ناحية ثانية، اعتصم بالإيقاع المتمثل بالوزن، ولم يغادره الى النثر المنسرح إلا في النص الأخير المسمى "كيس تبغ مهرّب" وهو نص مرسل أو قصيدة نثر مهداة لمحمد الماغوط، وهي مرثية للماغوط، تنطوي على روحه الطريفة والحرة، ولا تخرج عن طرافة صقر عليشي في سائر القصائد الموقعة... لكنّ هذه الطرافة تغدو هنا أكثر انسراحاً وتلقائية، حيث يقول:
"أعرف أنك لا تزال مشغولاً
باستقبال المهنئين
من الملائكة
والأقمار العليا
والكائنات النورانية
إلا أنني جئتكَ مستعجلاً
ومعي كيس من التبغ المهرّب
خفت أن تكون مقطوعاً
في بلاد لا تبغ فيها ولا مهربين".
فواضح هنا ان كلمة "مقطوع" هي عامية دخلت بلاغة النص، وان النص منسرح وحرّ وطريف.
الغبطة
والغبطة التي غمرتني في قراءة "عناقيد الحكمة" سببها رشاقة الموضوعات والكلمات معا، والسير بما عكس عناقيد "الغضب" وسوداوية اللحظة الراهنة للشعر العربي الحديث والمعاصر. ثمة نقد اجتماعي وسخرية بالصورة والفكرة، وحكمة مقطوفة من ضديات الأشياء والمفاهيم، حتى لكأنه أحيانا، مجنون يتلكم بالحكمة....
والتجربة، على الأرجح، طالعة من ذات الشاعر وحياته وعلاقاته ويومياته، أكثر مما هي طالعة من تفكّره المسبق بالأشياء والمعاني، أو من ذاكرته الثقافية. فلا نُحسّ بأن قاموسه الشعري معد سلفا، وانه جاء وسكبه في الأوزان والمعاني، بل هو حار، مفاجئ، مباده وطازج... وكأنه يدوّن، يوما بعد يوم، مذكراته الشعرية، في دفتر أشعار، أو كأنه يقطف من كرم حياته، ليس عناقيد التجربة، بل حبات الحكمة، واحدة بعد واحدة، ويصفّها في معرض ديوان.
وما بين العمق والسطح، تصطف حبات الحكمة. فأنت تبتسم حين تقرأ "كل التلفونات بشكل عام تطلب دينا"... أو، كما في قصيدة "شرح على الذيل": "لو لم نرفع ذيل الثوب لأنثى/ هل كنا سنرى متسعا لجمال؟" أو حين يتكلم على ما يسميه "الذيل النفسي"... الى ما هنالك من استعراض للحالات الذيلية و"المعرفة الذيلية"... ونبتسم ايضا حين يقول "لا رأس للحكمة اليوم إن لم يكن رأس مال"، وحين ينسب للمعرفة حمارا ولليقين بغلا (في قصيدة "للعلم فقط")... وحين ينبئنا بأنه "سيغير ذاته بزجاجة خمر".... ويرتفع معدل السخرية الى مستوى التأمل حين يقول:
"كن أرضا واطئة/ تشرب كل مياه جوارك/..../ من يشرب من بئر فليبصق فيها" ثم ينكفئ للسخرية المرة من الذات، وهي سخرية شجاعة، حين يقول:
"تدل أشعاري عليّ مثلما
تدل بعرة على البعير"
وهي من قصيدة بعنوان E-MAIL
وربما وجدت لديه صورة شعرية خارجة عن مألوف صدره حيث يقول "عبر الحبرُ بي" أو حين يكتب "مذكرات شاعر":
"حين مررنا بالغروب/ لم نمر/ دون أن نضيف روحنا الى الشجر"... وكأنه قصدر، سهواً، الى استراحة اليقين الشعري المؤقت لديه، من متعة السخريات الأليفة... فهو ما يلبث أن يعود الى "حذاء الضوء وبسطار الظلمات" والى وصف العصر الذهبي للبغل في "مذكرات بغل"...، والى سرد مذكرات شتى، للحيرة، والنملة، والفراشة، والضوء والشاعر، والياسمينة والورقة والحرير، لينهي بمذكرات الحقيقة، وأجمل ما فيها:
"حينما كنت عارية
نمت وحدي".
وذلك قبل أن يختم هذه المذكرات، بقصيدة إخوانية طويلة وساخرة بعنوان "سهرة الأحد" يصف فيها أحوال أصدقاء ومتشردين، يجتمعون كل أحد، في سهرة في قبو الاشعر. ويسمي صقر هنا كلاً باسمه، ويذكر صفته ومرتبته.
لنتفق هنا، على أن السخرية وقطف الحكمة من مفارقات الحياة اليومية، ومن المعاني والكلمات والاشخاص والاحوال، هو المعدل عليه في قصائد الشاعر.
السخرية
والسخرية في الشعر صعبة وخطيرة. لعل الفجيعة أقرب متناولا وأيسر سبيلا للشعراء... لعله من أيام الجاهلية حتى اليوم، لم يقل الشاعر العربي قف نضحك أو قف نسخر أو قف نتأمل بل قال "قفا نبك..." وزاد عليها الشاعر السوري الساخر حافظ أحمد شنبرتي قوله "قفوا نبك..." (بالجمع). فالسخرية خطيرة ونادرة، ولا يتناولها في الشعر سوى قلائل من المغامرين بالفجيعة والدراما... فإذا أصابت ارتفعت بصاحبها الى ما يوازي الفجيعة وإن تسطّحت هوت في السخرية العابرة والدغدغة الآنية. من ابن الرومي الى صقر عليشي، دعونا نذكر المتنبي وحسن خليل عبد الله والياس لحود وحافظ أحمد شنبرتي. وهؤلاء ليسوا بالقليل في هذا الباب الخاص من الشعر العربي.
السفير
15 يونيو 2007