يطلب منا حسن نجمي في ديوانه "على انفراد" (دار النهضة العربية) أن نقف خارج الجغرافيا التي يتم في داخلها العمل الشعري، وأن نتركه وحده مع موتاه. يتخذ قرارا خطيرا، ولا يريد أن يشاركه أحد في التلذذ بنتائجه الباهرة أو في تحمل مسؤولية انتاجه وتحويله واقعاً فعلياً. قرر أن يهدي كتابه الى موتاه وهم كثر، ولا يستطيع التخلص منهم الا من خلال الخضوع التام لهم. لا يؤدي الخضوع الى حلول ناجحة لمشكلة الكتابة الشعرية المحتاجة دائما الى تمرد والى عصيان. فكيف يمكن اذاً حل المشكلة، وخصوصاً انه لم يكتف بإهداء الكتاب الى موتاه فقط بل كتب مجموعة قصائد سمّاها "امتثالات" وسمّى مجموعة أخرى من التي يضمها هذا الديوان "مرايا: تصريح بالتطابق". المسألة لا تعود قائمة في مجال الاحتمال بل تقع في علن القصائد وتسعى الى عرض نفسها من خلاله.
السؤال في هذا الصدد يتعلق بالخلفية التي يتأسس عليها القول الشعري، وهل من الممكن رصد نزوع شعري خاص يبرر الكتابة عند شاعر يمتثل ويخضع ويصرح بالتطابق؟ يمكن مقاربة المسألة من زوايا عديدة تفصح عنها الالعاب التي تضمرها القصائد ويستعمل فيها الشاعر بنية تبدو خافتة ومنكسرة ومستسلمة، ليمارس فعل قتل يريده كاملاً لموتاه وآبائه ولأصابعه وذاكرته السابقة كلها. يحوّل هؤلاء الموتى الحميمين المعشوقين، وهؤلاء الآباء من الشعراء والرسامين والفنانين فعلاً ثقافياً، وهكذا يقتلهم. يصير الامتثال عملية استيعاب ويصبح التصريح بالتطابق مدخلا الى صناعة الاختلاف، وينبني تاليا الخطاب المؤسس للقول الشعري في هذا الديوان.
عندما يصبح الآباء أثرا عاما، يمكن النجاة من التأثر الأعمى لأن عملية القتل تكون نضجت ويصبح من الممكن الخروج من نفق التكرار الى عملية خلق مرجل شعري تنصهر فيه المواد الضرورية لعملية الابداع، لتتحول اسلوباً ومعماراً خاصاً. تؤدي عملية القتل الى ولادات جديدة ودائمة للمقتولين، ولكن من دون السماح لهم بأن يكونوا سلطة. يحيون في مجال الذات ويشكلون جزءا اساسيا من تكوينها، لكنهم ليسوا الذات نفسها، وإن كان من الممكن دائما اللجوء اليهم كلما احتاجت هذه الذات الى وصف نفسها وتقديمها.
يمنحنا الشاعر اضاءات تمهد للدخول في عالمه الذي يشاءه منحازا الى فن البحث الدؤوب عن حضور العزلة في قلب الحدث الانفعالي الشعري ومحاولة البرهنة على ذلك من خلال احالات متنوعة.
الاحالة الأولى لاسحاق الموصلي متحدثا الى أبي تمام: "يا فتى ما أشدّ ما تتّكئ على نفسك!". الاحالة الثانية الى أ. زن كوان: "نعرف الصوت الذي تحدثه يدان تصفقان. لكن ما هو الصوت الذي تحدثه يد واحدة تصفّق؟".
الاحالة الثالثة لمحمود درويش من كتابه "في حضرة الغياب": "لا تعاتب أسلافك على ما أورثوك من براءة النظر الى التلال.
تظهر الأولى معادلة الصراع بين سلطة الزمني والتاريخي من جهة وسلطة اللازمني من جهة ثانية. الشاعر ممتلئ بنفسه، لذا فهو ينتمي الى سلطة الحضور الزمني ويصنع تاريخه من انتمائه الى سلطة القول الذي يطمح دائما الى أن يكون ظلا للسيف. ينتمي الموسيقي الى مجال آخر هو مجال اللازمني، لذا فهو لا يحتاج الى الدخول الدائم في ذاته بل الى الخروج منها ليدعها تمتلئ بسلطة الوجود اللازمني الذي تمثله الموسيقى وتصنعه. بين اهتزاز السيف واهتزاز الاوتار، تبدو العزلة التي يسعى حسن نجمي الى مديحها حاضرة في اهتزاز الوتر وليس في اهتزاز السيف. لا يستطيع الشاعر المتكئ على نفسه ان يختلي بها، كونه يستعملها دائما، وتالياً لا يستطيع ان يخلق مسافة يراها من خلالها. هكذا تصبح العزلة مستحيلة ويتحول الكلام الصادر عن الشاعر كلاماً للآخرين، وبشكل أدق كلام السلطة والسيف. تفرض الموسيقى على متعاطيها مسافة يختلي فيها مع ذاته ليتركها تتكاثر في حشد الاهتزازات الدائخة. هكذا تنبني العزلة ويجد الشاعر لحظته التي يدافع عن حقه فيها. يستمر سؤال الشاعر عن أحوال العزلة وبحثه عن حوادثها ولغتها ومفرداتها في الاحالة الثانية. اليد الواحدة التي تصفق، تحدث صوتا لا شأن للحشود في صناعته. انه صوت العزلة ونشيدها. الاحالة الثالثة تظهر أن وراثة التمعن في أحوال التلال الحاضرة، في مجال براءة تأملية خاصة وعصية على التشويه، هي تركة يجب ان يحمد الاسلاف على توريثها لانها تحمل مادة العزلة وتغرسها في قلب التكوين الوراثي للشاعر وتجعلها طبعا وميزة.
بعد أن يهبنا الشاعر هذه المداخل يدعونا الى عالم من العزف المنفرد، تساعده في انجازه قافلة طويلة من الموتى والمرايا الذابلة.
يقول الشاعر في قصيدة بورخيس: "لست أقل عمى منك./ ومثلك أعرف كيف أسدد خطوي./ ومع أن عينيّ ليستا ميتتين تماما./ مع أن فيض الضوء وافر -/ لا أحب أن أرى ما يرى./ أعمى مثلك -/ ولست نادما على شيء تركته في الضوء./ فقط، مثلك حرمت من السواد".
يصنع العمى في هذه القصيدة مجالا غنيا تحتشد فيه مرئيات مضاءة بالوضوح الباهر لنفسٍ تتخلص من الحاجة الى النظر الى الاشياء المعروضة في العلن العام. هذه الاشياء الموجودة في الضوء الوافر هي اشياء العماء. لا يدعو هذا الضوء الكثير الى النظر والتبصر بل الى العمى. من هنا لا نعثر على حسرة بسبب ترك المشاهدة والكون الى عالم الالوان، حيث أسود الظلام هو اللون الوحيد المفقود في هذه اللوحة الكاملة.
يقول حسن نجمي في قصيدة "من القلب": "صفاتي مختلة في تلك الجريدة. ولي فيها أسماء كثيرة./ ولفرط الشرب تترنح الصفحات. يتعتعها السكر.../ وتسقط. وكل ذلك شذوذ لا علاقة لحسن نجمي به./ انما أحيانا -/ لا بد من اثارة./ ولا بد من صحف على الرصيف./ ولا بدّ من غفران./ وبعد كل شيء - لا بدّ أن يتكلم الأنذال قليلا -/ اننا لا نحب أن يشيخ اللعاب".
أما الشاعر الروماني سيوران فيعلن ما يأتي: "نكف عن أن نكون شباباً لحظة نكفّ عن اختيار أعدائنا مكتفين بهؤلاء الذين نجدهم في طريقنا". هكذا يصرّ حسن نجمي على اختيار أعدائه دفاعاً عن شباب الغضب والاحتجاج والاحتقار، لذا فإن الازدراء وإن كان يرتدي طابعا ماديا في البصاق فإن مصدره وأصله هو القلب.
القسم الرابع والأخير يحمل عنوان "دفتر الشذرات"، يحتوي على قصائد برقية نختار منها "نظرة": "منذ سنين وأنا أنظر اليك/ لم تتجعد نظرتي". النظرة غير القابلة للهرم والذبول، تدل على انحياز الشاعر الى اللازمني الذي يجد في سكر الموسيقى وحركتها الدائمة مثاله. من هنا نستطيع القول ان النظرة التي لا تتجعد، ليست الا الموسيقى وقد اختلى بها الشاعر ليبثها عشقه على انفراد.
النهار
يوليو 2007