صدر عن «دار الفارابي» (بيروت) كتاب «السوريالية في عيون المرايا»، ترجمة الكاتب البحريني أمين صالح وإعداده، وفيه يحاول المترجم تقديم صورة بانورامية إلى القارئ العربي عن هذه الظاهرة الثقافية، وعن مجمل مصادرها وروافدها وأشكالها وتقنياتها ومعطياتها.
يعرّف المترجم السوريالية في مفتتح كتابه بأنها «ظاهرة ديناميكية، لاسكونية أو مستقرة، وهي وسيلة تحرر شامل للفكر، للعقل، من خلال سبر اللاوعي، واللامرئي. وتسعى السوريالية إلى تحرير القوى اللاشعورية المكبوتة أو المجهولة في الإنسان، وتعمل على توسيع حدود الوعي والمعرفة».
يعتبر أمين صالح أن السوريالية «أرادت تقديم رؤية للواقع بأعين جديدة ومدهشة، وتعبّر، فلسفياً، عن تصوّر جديد للعالم، باحثةً عن امتلاك سر الكون، عبر المعرفة الفلسفية والشعرية، تسعى إلى دراسة الطبيعة البشرية من خلال وسائط ووسائل متعددة بها تحاول بلوغ هدف الإنسان الأقصى والأسمى وهو التحرر الكامل».
يضيف صالح بأن السوريالية «هي في أعمق معانيها، أسلوب حياة، لذلك رفض السورياليون التعريف بحركتهم بوصفها مدرسة فنية جديدة، أو أسلوباً فنياً محضاً، ساعين إلى تجديدها باعتبارها طريقة للمعرفة، وسيلة إلى استقصاء الواقع؛ وتتخطى الأدب لتشمل مجمل أشكال الثقافة والمعرفة، وتوظيفها لأجل تقديم رؤية جديدة وثورية للعالم».
يقدّم المترجم بانوراما عن الحركة السوريالية ونشوئها على أنقاض الحركة الدادائية التي كانت تدعو إلى هدم المنطق وإلغاء التقاليد والمدارس الأدبية كافة، والتي كانت ترى أن العقل والمنطق قادا البشرية إلى أهوال الحرب، والطريق الوحيد للخلاص يكمن في هدم المنطق والقبول بالفوضى واللاعقلانية.
الدادائية كانت حركة ديناميكية، لكنها نتاج روح عدمية أفرزتها الحرب، كانت فوضوية، عبثية، عدوانية، ترى ألا شيء يستحق أخذه على محمل الجد، وأن كل شيء زائف. وكان من ضمن روادها أندريه بورتون ولويس أراغون وبول إيلورا، وهم أنفسهم أعلنوا موت الدادائية وولادة السوريالية، رافعين شعار «الخلق والإبداع والحرية»، لذا جاءت السوريالية كحركة تفاؤلية تعبر عن رغبة أفرادها في المضي إلى ما وراء الواقع الظاهري نفسه. ففيما نزعت الدادائية إلى الهدم فإن السوريالية كانت استقصاء عن طاقة الخلق.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1924، ظهر العدد الأول والوحيد من مجلة تدعى «السوريالية»، وكان من ضمن كتابها بيير ألبير وبول درميه والرسام روبير ديلاوني، وهؤلاء حاولوا أن يسلكوا اتجاهاً جديداً في الأدب. وكان أول من ابتدع كلمة «السوريالية» أي ما فوق الواقع، الشاعر الإيطالي غيوم أبولينير في النشرة الصادرة بمناسبة عرض باليه، شارك فيه الشاعر جان كوكتو والرسام وبابلو بيكاسو.
كتب أبولينير: «هذه مصاهرة جديدة، ذلك لأنه حتى الآن كانت ديكورات المسرح والملابس على طرف، وتصميم الرقص على الطرف الآخر، وكان هناك فحسب رابط صوري وخادع بينهما. وقد حدث في «استعراض» نوع من الواقعية الأسمى (سوريالية) الذي فيه أرى نقطة الانطلاق لسلسلة من التجليات لهذه الروح الجديدة».
أولئك الكتَّاب الذين اختاروا كلمة السوريالية لتكون اسماً لمجلتهم ولحركتهم، نشروا ما يسمى بـ{بيان السوريالية»، وحددوا أهدافهم معلنين «أن نقل الواقع إلى مستوى فني أعلى هو ما يؤلف السوريالية». كذلك، ركزت هذه الحركة على الحاجات الإنسانية الأساسية ضمن الأوضاع المعيشية المفروضة من ويل المجتمع الغربي، فلم تكن برنامجاً لتنوير الفن والأدب بقدر ما كانت ضرورة لتنقيح القيم الإنسانية.
يرصد المترجم أسلاف الحركة السوريالية، ويعتبر أن السورياليين عموماً لم ينكروا مبدأ التواصلية التاريخية، لم ينقطعوا عن الماضي وأظهروا ميلاً واضحاً وحماسياً إلى الشعراء الذين اعتبرهم تاريخ الرومنسيين الرسمي أفراداً ثانويين، والذين تجاهل النقاد أعمالهم.
أمَّا الرمزية، الأسلوب الأدبي الذي هيمن في فرنسا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فقد أثارت اهتمام الشعراء السورياليين في بدايتهم. وقد اكتشف بنجامن بيريه الشعر من خلال كتاب ستيفان مالارميه، وكان قد عثر عليه على مقعد في محطة قطار. وكان بروتون قد نشر آنذاك بضع قصائد رمزية، وأول كتاب مطبوع لروجيه فيتراك كان عبارة عن مختارات من الشعر الرمزي. على أن السورياليين بحسب نصوص الكتاب لم يلتمسوا تراثهم في الحركات الأدبية الماضية، بل في عدد من الشخصيات الأدبية المستقلة المتميزة، المرتبطة بذلك الماضي. ومن بين هؤلاء الكاتب الفرنسي المركيز دو ساد، فقد وجدوا في كتاباته، انحيازاً الى المخيلة والرغبة والعاطفة. كذلك، اهتموا بكتابات الشاعر شارل بودلير وبدعوته إلى استقلال الخيال، وبشعر رامبو وتحمسوا خصوصاً لما سماه «خيمياء اللغة»، واحتفوا بـ {رسالة الرائي» التي كتبها في مايو 1871.
على أن انجذاب السورياليين إلى رامبو كان واضحاً في مسألة تخطي المرئي إلى اللامرئي. ودرسوا شعره باعتباره رفض الرياء الاجتماعي والثقافي، كذلك اهتموا كثيراً بالشاعر لوتريامون صاحب كتاب «أناشيد مالدرور» وغيوم أبولينير.
فرويد
يبيّن المترجم أن السورياليين اهتموا منذ البداية بالبحث عن أساس فلسفي لنظريتهم في الشعر والفن، ونيتشه الذي ثبت أنه كان رائجاً جداً في بداية القرن العشرين، بدا لهم هداماً وأنانياً أكثر مما ينبغي، والفيلسوف كيركيغارد لم يكن فاعلاً في إعطاء زخم لفكر جديد.
وفي بحث السورياليين عن أساس لإيمانهم بأن مجال العقل قد يتجاوز طاقته المنطقية المقررة، فقد وجهوا أنظارهم إلى البحوث والاستقصاءات التي قام بها فرويد في اللاوعي، كذلك اهتمّوا بالطب النفسي من خلال فتح صفحات مجلاتهم أمام المحللين النفسيين، وأبرزهم جاك لاكان.
مردّ اهتمام السورياليين بفرويد أن بحوثه أعطت الأحلام وتداعي الأفكار اهتماماً رئيساً، ووضعت في المتناول طرقاً في التحليل جديدة تماماً ودقيقة للغاية لتساهم في كشف المضمون الإنساني والجنسي في الأحلام المستعصية ظاهرياً على الإدراك. وافتتن الكثير من السورياليين بالميثولوجيات، خصوصاً الإغريقية، ووظّفوا عناصرها، لا سيما فكرة التحول، واهتموا بإبداع أساطيرهم الخاصة.
العالم العربي
كان للسوريالية تأثيرها في العالم من أميركا الى البلدان العربية، وفي الحياة اليومية، وفي كثير من أشكال الأدب والفن (التشكيل والسينما)، بعد الحرب العالمية الثانية. في هذا السياق، يشير والاس فاولي في كتابه «عصر السوريالية» إلى انجذاب الروائي الأميركي هنري ميلر إلى السوريالية بعد اطلاعه، في باريس على ناتج السورياليين وعلى بيانات أندريه برتون، وعلى رغم أنه لم ينضم الى الحركة إلا أنه كان دوماً يعرب عن اهتمامه بها وقرابته إليها.
يضيف المترجم بأن عناصر السوريالية موجودة في أعمال الروائي ألان روب غرييه، الذي يقول: «السوريالية أدّت دوراً كبيراً في تكويني الأدبي». وعربياً، تسربت السوريالية الى مصر من خلال جماعة «الفن والحرية» التي أسسها الشاعر جورج حنين مع سورياليين آخرين مثل كامل التلمساني ورمسيس يونان وألبير قصيري.
يشير كميل قيصر داغر في كتاب «أندريه برتون» إلى أن السوريالية لم تصل الى الوطن العربي كمدرسة، بل كمجموعة إشارات، وكحركة تحرير وتغيير شاملين على مستوى اللغة الفنية وعملية التعبير.
وفي أواخر الخمسينات وبداية الستينات، كانت مجلة «شعر» اللبنانية ملتقى عدد من الشعراء الذين انفتحوا على النصوص السوريالية.
يتضمن كتاب أمين صالح تعريفات لوجوه سوريالية (أدبية وفنية وسينمائية) كثيرة، إضافة الى ترجمات مختارة لبعض النصوص السوريالية الشهيرة.
الجريدة
17 اكتوبر 2010