إنه قاسم حداد الشاعر الذي ولد في البحرين عام 1948، ومن هناك أو من سوى الوطن، من خارج الإطار، جاء كتابه «الغزالة يوم الأحد»، في «منشورات الغاوون»، طبعة أولى 2010 في بيروت. وهو، كما أضيف إلى العنوان، «شذرات» أو كلمات أو سطور، وما على القارىء إلا أن يكون على متن المركب، أو متن الورقة، وأن يتفرّج أو يذوب في المقاطع في اليمِّ من الأقوال، في العباب، وأن يتذوّق الأفكار والنبضات والموجزات والمعاني التي تختبىء في ما عند المؤلف من الطرائف ومن أدلة ومدلولات حتى بلغ الرقم سابحاً في ذاته في رعشاته، 313 قطعة، أو ما يُصنَّف أمثالاً. وهذه الأمثال متراكبة ولنا أن ندعوها تأمُّلات من صنع الراحة الذهنيّة، ولنا أن نسافر على القصب، على مجموعة من العزف على وتر الدخول إلى معبد المواقف، وإلى خطابة من نوع جلل، وأن نقع في الانخطاف. وأن نذهب كما يروي الشاعر، على وتيرة النص من ضربة إلى أخرى ومن صنعة إلى أختها وأن نصعد على قرون الغزالة إلى حيث الشاعر كأنه في عرزال، في غرفة مفتوحة على الضوء.
وقاسم حداد هذا فنّه، وتلك دروبه نحو كروم الكتابة وأن يحصل منها على عناقيد. وهو ما جرى له وما حدث يوم الأحد، من أنه بالقلم راح يخطّ ويخطّ وإذا بين يدَيه، بين ذراعَيه دالية خلف دالية ومن ثم له الحرّية أن يقطف ويقطف وأن يحمل السلال الملأى وأن يصفّ العنب قبل أن يأتي الناطور الخيالي، وأن يقفز قفز الغزالة من كأس إلى كأس ومن جَلّ إلى جَلّ إلى بستان.
ونحن معه دائماً وفي جواره دائماً، وفي حماسة لما تحتوي المقاطع من تناقضات سعيدة، ومن توفيق في الربط وفي الوصول إلى الصدمة، وإلى أن نجلس على مقعد بحريّ وعلى أن ننطلق في نزهة إلى الأمام، إلى أبواب الأنس، وإلى رائحة الشعر التي تنبع من هذا المطبخ، من هذه المفاجآت التي في معظمها تكشف عن السريرة وعن أن الشاعر يزدان بالشرر، وبأنه يدفع أدواته، يدفع نفسه نحو الحكمة ونحو أن يُرينا شعاع هذه الحكمة. ولعلنا، إذ نمشي على إيقاعه الطويل الأنفاس، ندرك هكذا الأسلوب في التأليف، له وقعه وله أثره وله وشمه الذي يطبع العقل ويخرج من القلب، من قلب الدالية ومن قلب الشاعر الذي يحفظ التراث والذي أكيداً، عبر هذا التراث يصل إلى العلبة، علبة المجوهرات، وعلبة التراث. وكأنما قاسم حداد في تركيزه على الطريقة تلك لديه، إنما يكمل بعض الطرائق السابقة، وإنما يحفل بأن يرضينا وأن يدلّنا على تلك الكثافة الدغلية، وعلى تلك النعمة التي نصادفها في كتابه، ونحن نلتذّ بما يأخذنا إليه وما يمازجنا من خلاله، من خمر ومن لون قزحيّ، ومن قول دسم.
إن قاسم حداد في آخر الطوفان، يطوف ويصطاد من حواليه ضروباً من الأبعاد، ومن التنزيل في الغمد، غمد الحقيقة وغمد التجربة التي له، وهي تنتسب إلى الحرّية، إلى الانفلات ولا يعبث ولا يضطرب، بل عنده المسألة المحكمة والمعنى الذي له قالبه وله تلك النغمة المتحرّكة والتي تنصرف من رتبة الجمود إلى رتبة الموعظة. وكأن قاسم حداد، بما اختبر ومرّ وقلّ ودلّ، يطلّ في محرابه هذا، إطلالة الشاعر أو الكاتب المحترم، وكان ما كان من رحلة إلى رحلة بين الأزهار، وهو قدّم إلينا باقة متينة من الورد والأشواك، باقة حالمة ومنبِّهة للنهوض منذ الآن.
تفضيل شاعر على غيره
ومن قاسم حداد إلى نفر من الشعراء العرب الذين ينامون غالباً على سرير التراث، وعلى أن ما يفعلون هو الحق، وهو ما على الآخرين أن يتبعوه. وإنني أنظر إلى الزمن وإلى السنين الأخيرة، ولي أن أرقص على بلاط القصور التي في الكتب، وعلى كوني أرغب في البطلات سيّدات الحكاية وآنسات الخرافات، وأن أراقصهن في الليل وفي النهار.
ولي أن أنظر إلى أسماء تروج وإلى نقاط معلَّقة في سقف المتعة وسقف النقد. ولي أن أنظر أيضاً إلى كون أولئك الشعراء ليسوا من النظرة في شيء، وليسوا من الصواب في شيء. وبعض هؤلاء يتمرّن على الحكي وعلى أن يحكي، وأن يسترسل جزافاً ثم جزافاً، وأن يعود إلى البدء وأن يعود إلى التكرار وأن يكون كأنه يصدّق ما يفوه به وما يزرع من المجانية في محيطه وفي مجالسه أينما كان.
ولا أعتب على أي من أولئك، إذ طلع البدر على الجميع، وعلى نوره الخافت وبساطه الشفّاف نحن في التحديق وفي أن نصل إلى الصميم، إلى حيث جمرة الشعر هي المشرقة، وإلى ما باح به أحدهم، من الشعراء الذين هم في الخارج وليسوا في البلاد إلا بغية زيارات، وإلا تكون لهم آراء في الشعر والشعراء من قبل ومن بعد.
هذا الشاعر كأنه الجواب وكأنه الحجّة الفاصلة بين رأي ورأي وبين تفضيل وآخر. وهذا التفضيل يُصيب شاعراً من الحركة الحديثة، ولا علاقة له بشاعر ينظر إلى الرفاق، إلى الزملاء، نظرة الحدة وحيث لا يأبه له أحد. وذاك الزائر قالها كلمة عالية النبرة، وفي السهرة كان ساهر فرنسي وسمع الزائر يفضّل شاعراً على غيره من الذين يهمون بريشاتهم، بمتاعهم وكأنما لا أحد ألا يكون في مرحلة الغشّ وعدم الصدق، وفي مرحلة من الزهو الذي يتلاشى وتخمد جمرته ولا ضيافة ولا ما يأكل الضيف من الزاد، من نار القرى. وكان الزائر يقلب ديواناً، ومن الصفحات كان يصعد الطرب ويدفعه إلى البيان وإلى التبيان.
* * *
ولا أزال عاقلاً، كلّي الثقة لأن بعض الشعراء هم كذلك، وأن بعض الوعد يلحق بالشاعر الظريف، ثم يتناثر خريفاً أصفر وورقات ملقاة على القارعة على الرصيف أو على الجلّ المقفر، أو على الأرض والتراب أو على الزفت والطريق المغطّاة.
ولا يلبث أولئك على الوعد، وعلى أن الشعر هو الخصم والحكم، وعلى أن اللفتة إلى أحدهم ربّما يجب أن تستمرّ وأن يُراعى فيها كون الشاعر الفذّ هو الفذّ، وأن القصيدة التي هي صنع المداد، وهي التي يُسمع صداها إلى البعيد، إلى الآفاق الرحبة، والتي يُصفِّق لها النقد في المكان المناسب وفي الحلقات العلميّة المناسبة. وأذكر هنا مثالاً على أن الشعر يتكلّم وحده، أنى يكون وفي أي زمن. وكان أن إحدى المجلات، وهي «جون أفريك» سبق لها أن اطَّلعت على مختارات من الشعر اللبناني مترجمة إلى الفرنسية. وكان أنها تعريفاً بالمختارات تلك، وهي جرت في الستينات، قدّمت قصيدة إلى القارىء، من بين الكثرة، وهي «مغامرة نبع» من كتاب «ماء إلى حصان العائلة» الذي فاز لدى صدوره عام 1962، بـ«جائزة مجلة شعر» السنوية.
وكيف نفعل ونحن هكذا، بمن لا يكمل واجبه ولا يعلو عن الواقع المتردّد المقام بين هذا وذاك ممن في التعليم وممن في النقد وممن على صلة بملحمة الشعر وكيف تكون وكيف تجول في نطاق هنا ونطاق هناك.
ولا شك في بعض المُفسدين القائمين بالدور الملتبس، لا شك في أنهم عاثرون وأنهم على غير إدراك وغير قدرة وغير معرفة، ويجهلون كل الجهل ما يجري وما هو النهر الذي يُضفي الجمال على المنطقة حيث يكون، وما هي الأمواج التي تموج، وما هي الظنون والعبارات والمساحات والأسفار التي يعمد إليها شاعر ما أو ناقد ما. ولا نعتب ولا نشكو. وإنما نصفّق للجيّد ولأن الحقيقة تنجلي ولو تدثّرت بالرماد ولو طغى الأسود على سائر العلامات، وأوهم نفيه أنه الضدّ الذي لا يُظهر حسنه أي ضدّ أي ذراع من المروحة ومن مظلّة الملك الجبّار الذي يُصعِّر خدَّه، كما في القصيدة العربية النيّرة الأبيات.
«الغاوون»، العدد 32
1 تشرين الأول 2010