تبدو كتابة الشعر مسألة صعبة وخصوصا حين تكون هذه الكتابة ملأى بالماء يترقرق كلما غاص القارئ في بحيراته. ذلك أن هذه الكتابة تعلن سر الحياة في هذه اللحظة، سواء من طريق الغوص في الحكمة أو من طريق سبر أسرار الوجود. وحين تلوذ هذه العملية بالكلمات تتحول هذه الأخيرة رموزاً تعبّر عن الذات الشاعرة كأبهى ما يكون التعبير الشعري المتوهج. هذا ما يحس به القارئ للوهلة الأولى، وهو يقرأ دواوين الشاعر المغربي نبيل منصر التي تركّز حضوره في المشهد الشعري المغربي والعربي على حد سواء، في مقدمتها ديوانه الأول "غمغمات قاطفي الموت" عن "دار قرطبة" في الدار البيضاء عام 1997، وديوانه الثاني "أعمال المجهول" عن منشورات اتحاد كتاب المغرب عام 2007، وأخيرا ديوانه الثالث عن "دار النهضة العربية"، بيروت، سنة 2009، إضافة إلى دراسته العميقة حول الخطاب الموازي للقصيدة المعاصرة، التي نشرتها "دار توبقال للنشر"، الدار البيضاء، عام 2007.
"مدينة نائمة" ثلاث كتب شعرية متكاملة في ما بينها. يحمل الأول عنوان "حياتي الأخرى"، وفيه يطرح الشاعر علاقته الملتبسة بحياته من طريق العوالم المحيطة به، وفي مقدمها علاقته بالعزلة الذاتية، وبالكتابة الشعرية المصاحبة لهذه العزلة، في إطار شعري يتم فيه تمجيد القلق والسير في متاهاته الكبرى التي لا تؤدي إلا إلى الكتابة وعوالمها المذهلة. يهيمن الجرح النرجسي المتوثب، حيث الجلوس إلى ملحمة الشتاء لا يعود عملا مدهشا، على الرغم من انفتاحه على ماورائية الأشياء، وحيث التساؤل الفلسفي الموغل في الشعرية يظل حاضرا حول إمكان العبور من الأبواب الموصدة، من طريق البحث عن الكلام العميق يعيد تشكيل الكون وفق تصوراته الخاصة، التي تتجاوز مفهوم العقل لتصل إلى كنه الذات من طريق جس نبضاتها اللاواعية. هذا ما يجعل الشاعر يلتقي مع صورة أورفيوس الأسطورية التي تعبّر عن الحس الشعري الحقيقي، أي البحث عن الذات الأخرى المنفلتة باستمرار من ظلالها. يقول في قصيدته "أذهب مع طيوري": "أذهب مع طيوري إلى الحياة/ بالورشة أصنع أشجارا/ وكرات نارية/ تنغلق على نصف الحقيقة./ أكتب غابة/ وأدع قميصي يجف على أغصانها./ دعسوقة النهار/ تصنع غيمة بطيئة بالمعطف،/ وأنا أجلب الماء". يبدو الشاعر هنا منسجما مع رؤيته، فهو يصطحب الطيور التي هي هنا رمز شعري للكلمات، كما أن الأشجار تلبس صورة القصائد، في حين تتحول الحياة تعبيراً عن الكينونة في أبعادها الرمزية الأكثر كثافة.
هذه الحياة لا يمكن أن تعاش بعيدا من الموسيقى، رفيقة الشعر، في المنظور الأورفيوسي، والمصاحبة له على الدوام. وهذا ما تعلنه قصيدة "عش الموسيقى: "من القيثارة يتناثر الثلج/ وفي الكلام تتهادى غيوم بيضاء/ بين القدمين يقف فصل الخريف على حافته الأخرى/ ترتعش الأصابع/ مثل كومة عناكب تبني بالأسلاك عش الموسيقى./ الضوء يسقط كالليل على اللوح/ الضوء يعذب الأشياء كيف باحت بالسر/ وبينها يتكدر مزاج الأغراض الأليفة،/ التي حقنتها شوكة الفقد/ في الوريد الأوهى من عصفور./ هالة المغني على السطيحة تشبه غريقا./ جسده الحي مستسلم للماء،/ ويده الميتة قابضة على الخشبة". هكذا يبني الشاعر مدينته متنقلا من جدار الى آخر، بطريقة شعرية تتبع خطى قصيدة النثر الشعرية العالمية كما رسمها كبار شعرائها وفي مقدمهم الشاعر الفرنسي شارل بودلير، سواء من حيث المعاني المرتبطة بالمدينة وبالسأم المرافق لها، أو من حيث تقنية كتابتها، حيث تتتابع الأسطر الشعرية في خطية متناسقة، تلتقي مع خطية النثر من حيث الشكل البصري وتتباعد عنه كلية من حيث الصوغ الشعري المعتمد على لعبة الانزياحات الاستعارية العميقة بتعبير جان كوهين، في كتابه الشهير "بنية اللغة الشعرية". هذا ما تكشفه بالوضوح الكامل قصائد مثل "حياة بيضاء" و"برية آدم" و"يرقة الخيال" على سبيل المثال وليس الحصر. أما الكتاب الشعري الثاني من الديوان والذي سماه الشاعر "حصان الأمبراطور"، فهو امتداد للأول، لكنه أكثر انفتاحا على الوجود، حيث تتبدى المدينة النائمة، كأنها تستعد للنهوض من نومها بتعبير محمود درويش، لتصبح أكثر احتفالا بالصباح وبشمس الصباح.
وهذا ما يتم إعلانه بدءا من القصيدة الأولى، "الخروج من المعطف"، وفيها: "نحن جميلون ولنا حظوة مع الثلج. ضربنا الأجراس وسمعنا خشخشة الليل المقبل. سمعنا الأيدي تعبر الطريق كذئاب. كل الكلمات القريبة والغريبة مرّت معها وتكدست كالأطفال بالغرفة. منحناها نولا وخيطانا وقلنا لها هيا اصنعي لنا معطفا يخرج منه الأنبياء والأتباع، بعد أن تنطفئ الأنوار وتستيقظ المدينة النائمة". كما يتجلى أيضا في قصيدة "ركوب دراجة الصباح" حيث الرغبة الشديدة في عبور الوديان وإشعال النيران في الأشياء القديمة حتى تتجدد وتنبعث فيها الحياة من جديد، وفق المنظور الأسطوري لصورة الفينيق المنبعث على الدوام من رماده: "الشاعر الذي عبر وديانا كثيرة، وحلّ بين كتفيَّ ذات غروب، يعرف القلق، لكنه لم يعرف أبدا كيف يحوله عقيدة، يطرحها في كتاب يرمي به بين أيدي الآخرين، ليكون كمن أشعل النار في أشياء قديمة، وذهب مسرعا لدراجة الصباح". هذا الأمر نراه يتحقق كاملا في الكتاب الثالث، "دم الصباح"، في إشارة شاعرية جميلة إلى الجرح الذي يتسبب بعملية الولادة وينتج منها في الآن نفسه. هذا الصباح يبزغ في ظل قشعريرة الكلمات وشساعة الأحلام وسقوط المطر الأبيض، ثلج الحياة البهية. إلى هذا، فالشاعر يستعمل لعبة الألوان للدلالة على الصباح والليل، على البياض الثلجي وعلى السواد المحيط به أو المنغرس في أعماقه، حيث تتلاقى الأضداد لتشكل كنه الحياة. فالكلمة البيضاء كان لها على حد تعبيره الشعري قصر أسود، كناية عن المداد الذي تكتب به، وتتحقق انطلاقا منه، كما أن الكلمة السوداء كان لها في المقابل قصر أبيض، كناية عن التجاور الضدي الخلاق. كما أن شتاء هذه الكلمة ذاتها بنوعيها معا، هو الذي يصل الشاعر بشتاء الأرض، وبكل ما يبعث الحياة في الكائنات. يقول في "قصر الكلمة": "انسلت من كهفها/ ووقفت عليَّ./ الكلمة السوداء/ كان لها قصر أبيض./ سحاب الشرفة/ يصل المرآة بسحاب الجبل/ وشتاء الكلمة/ يصل الشاعر بشتاء الأرض./ الكلمة البيضاء/ كان لها قصر أسود". هذا اللعب السحري الشاعري بالكلمات هو ما يولد طاقة شعرية عميقة، وخصوصا أنه لعب جدي مبني على عمق التأمل في الكلمات والأشياء معا بتعبير ميشال فوكو.
وكما دخل الشاعر هذه المدينة وهي تغط في النوم، فإنه لم يخرج منها إلا بعد استيقاظها المشع بالحياة. في قصيدة "كما دخلوا سيخرجون" يقول: "أحلم ببيضة رخ/ لأخلق منها كائنات عجيبة/ تتبع الشعراء./ وكما دخلوا/ سيخرجون، /معاطفهم على الأكتاف/ وأقدامهم/ على الطريق".
عن النهار اللبنانية