الوقوع في شباك الكتابة المختلفة يخلق شهية وارتباكا شبيها بذلك الذي يجتاحنا عندما نتعرقل في شرك الحب، ودوما نشعر اننا نتذوق الكلمة لأول مرة.
هكذا هو الانطباع الذي يعتيرني وأنا أقرأ نصوص استبرق أحمد، التي هجرت قواعد الوصف التعليمي في مدارس التلقين، وتخلت عن وصفات معلبة مثل: هذا بدين، وتلك جميلة، ودموع ساخنة، والجو حار والسماء ممطرة.
هذا الهجر أو الابتعاد لم يأت صدفة، وبنظري، هو منهج صاغته قراءاتها التي لم تعزلها عن الواقع ولم تفصلها عن خيال يجنح بوعي مشغول.
في مجموعتها القصصية «عتمة الضوء»، والصادرة عام 2003، لا نتوقف فقط عند قصة وشخصيات، انما نتعرف ايضا على رؤية الكاتبة بشكل عام، ونجد انها ومن السطر الأول اختارت التأويل، أو بالأحرى «حرية التأويل» في فهم الأشياء فشكلت عباراتها الأولى في قصة «أجسام غريبة» على النحو التالي: «نحدق إلى الغيوم نؤول أشكالها، نعيد تركيبها، نرسم قصصنا الصغيرة عليها»، ثم تتابع: «نعد ما نجمع من نقود العيدية، مرارا، تقرص أختي أخي الصغير، أخرج رأسي من النافذة، يلفحني الهواء، أغني، تؤنبني والدتي منزعجة، أغلق النافذة، أعود إلى الداخل». هكذا هي رحلة الكتابة، في التحول بين فضائين أو أكثر، تحول يتطلب في كثير من الأحيان رشاقة فكرية ولغوية وفضولا متجددا لمعرفة «الآخر» والتعرف ثانية ومرارا على «الأنا» الضالعة في لعبة الغياب والحضور (أخرج رأسي من النافذة، يلفحني الهواء، أغني، تؤنبني والدتي، أغلق النافذة، أعود إلى الداخل) .
نافذة للهواء النقي
الكتابة هي من جهة محاولة لفهم الواقع، وانتقاده ايضا، ومن جهة اخرى اصرار على اعادة صياغة هذا الواقع، والتدخل أيضا في كينونته، ليصبح مخلوقا جديدا، يسمو بالنص الأدبي أو العمل الفني ويتجاوز النقل الساذج أو البسيط للواقع وشخصياته. أما الوصفة السحرية، وكما يوحي بها نص «أجسام غريبة»، فقد تكون في وجود نافذة نطل منها، ورأس تعرف استخلاص الهواء النقي لتخليص الفكر من العتمة، قبل العودة إلى الداخل، ومحاورة النفس في ضوء المعرفة.
على الأرجح، لم تكن «غيوم صيف» تلك التي تأملتها استبرق، عندما كتبت قبل سنوات «نحدق الى الغيوم نؤول اشكالها»، ولهذا ربما نجدها الآن تصدر مجموعتها القصصية الثانية بعنوان «تلقي بالشتاء عاليا»، لتضع قصصها على رفوف اسمتها: تجمد، رذاذ، برودة، برق، رعشة، صقيع، بلل، جليد، مطر، رجفة، ريح». في كل رف قصة: عند أول قصة ينتظرك صوت يحذرك من الدخول عاريا من ذكائك: «هو ــ هو»، ينذرك هذا العنوان قبل ان تلج النص وتقرأ في السطرالأول عبارة «استظل بالسدرة الضامرة».
وحشة تعتريك، وان ازدحم المشهد بالشخصيات لاحقا، و«السدرة الضامرة» تظل تلاحقك، كأنها جني يريد أن يتلبسك، حتى يصل معك إلى العبارات الأخيرة من النص، وينجح في مقصده، فتتخيل الراوي وهو يعرج على سحر الحكاية، متكئاً على عصا معقوفة يحكي ويقول: «نسمعه صاخبا من بعيد، نلتفت، نراه يركض خلف صبية يتضاحكون، شاهرا نباحه الأجش هو... هو... هو... جارا قدمه العوجاء».
دعوة للتأمل
نصوص استبرق لا تعرج على عصا «الوعظ»، كما يحدث أحيانا عند البعض، والنص عندها دعوة لتصور وتأمل ما حدث عندما «عبقت الغرفة رائحة براءة»، ولما «الشمس، تقشرت بلادتها ... جذبها اليه»، و«في السلة ملابس مكدسة تلفظ أنفاسها (...) همسات تنبعث من أسفل الغسالة.. أوشوش.. تسقط ريشة .. تضطرب». لا دروس، الحكمة في الصورة، والتأويل يأتي بالصوت والرائحة وخيال قد يرتطم بحقيقة مرة يغص بها المرء. مع قصة «ظلمة الحكاية» تصحبك الكاتبة في رحلة حين تقول: «يطالعني شارع الحمراء، بيروت»، فينطلق خيالك وتتصيد ذاكرة انفك شجرة أرز، عندها تدور حكاية على وجه قهوة تأخذك بعيدا الى سوادها. في قاع الفنجان أو آخر النص تجد نهاية القصة في ظلام يسود «الصليبية الصناعية» ويرقع هوية انسان، أسموه «بدون».
أما نص «عش ــ رة» فهو يغريك بعالم تحسبه طفوليا، وتتجرأ لتبني لنفسك قصة تجاور نص الكاتبة. واحد .. اثنان .. ثلاثة.. هكذا تبدأ استبرق، وكأنها تدعوني الى لعبة نط الحبل. احاول استعادة رشاقة وضحكات اختفت خلف غيوم العمر، توميء لي المؤلفة أن توقفي عن النط وعودي الى الكتاب. في السطر الثالث من نص «عش ـ رة» أقرأ: «صوت: صوصوصو.. مستلقية، الأرض باردة، الغبار يشوبه هواء». أرجع إلى طفولتي وزمن استلقيت فيه على عشب حديقة الحزام الأخضر، لأفاجأ بأنه حزام منقوع بالماء، مزارع بليد لا يعتني بالمكان. أنهض من ذكرياتي وأقف ثانية عند النص الذي بين يدي. أكتشف الفضاء المشوش، وتتضح الرؤية عندما أقرأ أن «الغبار يشوبه هواء»، وهناك «كرسي منكفئ ... وتلفاز محطم ... ومرارة تطفح ... وترقب ... وشعر أكرت». أتأزم بعض الشيء، إلى أن يحط عصفور، تدفعه الكاتبة نحوي «صوصوصو» لأتابع حتى خط النهاية وأبدأ ثانية لعبة نط الحبل على ايقاع الأرقام والأعداد.
حين تصحو الذاكرة
«تلقي بالشتاء عاليا» مجموعة قصصية تأتي وكأنها تؤكد رؤية استبرق أحمد ونظرة الى العالم أودعتها في مجموعتها السابقة «عتمة الضوء»، التي بدأت بقصة «أجسام غريبة»، وتبعتها بأخرى «أطيف نزقة». لا اريد هنا استعراض النظريات الأدبية وما تقترحه المدارس النقدية في احصاء الدلائل والعبارات بشكل تركيبي او تفكيكي، ولكن هناك اشارات وعلامات تحرضنا، لأن نعتقد بأن ما يشغل الكاتبة هو «الجوهر»، الذي قد يبحث عن جسد يستقر فيه أولا وفي ظله وطيفه أحيانا، فما أن يرتطم ذلك الجسد بالفضاء حتى تصحو ذاكرة انفك وتنتعش أذنك وتشعر بوخزة في قدمك «تضرب مقدمة حذائك بالأرض»، وتتعجب من يدك و«تتخبط يدك كسمكة في الفضاء»، وتستغرب قوة اصبعك ولمعة الصلعة ووهج الأفكار: «وباصبع وحيدة وشجاعة تطرق الباب، يفتح يتعالى زعيقه، يشرع... ينكمش صوتك، تتمدد ضخامة هيئته، فوجئت بوجوده والتماع صلعته، زوجته السليطة بأنفها المزكوم تصادفك غالبا، أزعجك قميصه بمربعات صغيرة اندلعت حمراء..».
فضاء النصوص
عندما ندخل فضاء النصوص التي تبنيها استبرق احمد، ونحصي منافذ التأمل، نجد عدة أبواب ومثلها نوافذ وشبابيك، وسلالم تنقلك بين الشمس والغيوم، أما القمر فأحسبه توارى خلف سذاجته. على الأرض ستقفز برشاقة على «مربعات الشارع»، لن تعترضك عبارات بليدة، بيد أنك ستصادف «قطة مكتنزة»، وقد تتسلط عليك «ذبابة» وتنحشر في «لزوجة»، لكنك سريعا ما تسلك طريقا فيه «ترتج مكعبات الضيق في صدرك»، قبل أن تدخل «بقالة» وتشرب «عصيرا».
|
غلاف {عتمة الضوء} | غلاف {تلقى بالشتاء عاليا} |
القبس
10-9-2011