يبحث غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" عن تحديد القيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به، ويمكن الدفاع عنه ضد القوى المعادية، أي المكان الذي نحب، والممتدح لأسباب متعددة. المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية فحسب. هو مكان عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تميز. ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية. وإذا كانت الأمم لا تتشكّل، بحسب تصوّر إدوارد سعيد، إلا عبر سرديات ومرويات، فإن سردياتها لن تكتمل ومروياتها لن تنتظم من دون حيّز معلوم تحقق فيه حضورها وتدوّن وقائعها عبر ممارسة تأريخية تُنضج إدراكها لذاتها وللعالم، وتتأثر بما حولها وتؤثر فيه لتُنتج عبر علاقتها تلك صورها ومعارفها وتطوّر من خبراتها في مجال المكان. وهي تتوصل الى ذلك بما تُنشئه من صلات بين الجماليات والوظيفيات فتقدم صورة من صور التعاضد المعرفي بين الفكر والممارسة لتُنصت إلى ما تخلّفه أبعاد المكان، تجسداته وهندسته، من تأثيرات في الفكر وحركيته، وفي الشعور وتجلياته، ليكون تأريخ المكان، على نحو ما، تأريخاً للإنسان، مثلما يكون سموه ووضاعته مدلولين بليغين لدال الإنسان في رفعته واندحاره وقد خاض رحلة طويلة في متاهة التأريخ.
هذا ما يبيّنه كتاب "المكان العراقي جدل الكتابة والتجربة" الذي اعده القاص والباحث العراقي لؤي حمزة عباس وصدر عن "معهد الدراسات الإستراتيجية". يعالج موضوع المكان في خصوصيته العراقية وشموله الإنساني، فيختار معدّه مجموعة من الأقوال لمؤلفين عرب واجانب تعبّر عن المكان، منها قول لبورخيس في كتابه "الصانع": "يوكل رجل لنفسه مهمة رسم العالم، وخلال السنين يعمر الفضاء بصورة الاقاليم والممالك والجبال والبحار. والنجوم والخيول والناي. وقبل موته بقليل، يكتشف أن ما ترسمه تلك المتاهة الطويلة من خطوط هي صورة وجهه". او يختار عبارة ثاقبة للكاتب العراقي محمد خضير من كتابه "بصرياثا": "إنك وأنت تكتب عن مدينة تعرفها أشد المعرفة، تبتعد عنها حتى لا تعود إلا صورة أو ذكرى، أو نغما بعيدا تنسجم الألحان كلها انسجاما خفيا".
كتاب لؤي عباس محاولة لدراسة كتابة المكان العراقي ورصد شعريتها. يعالج ما يعيشه المكان العراقي اليوم في واحدة من لحظات وجوده المؤثرة، لحظة امتدت عقوداً من التراجع والاندحار، تقدمت فيها المعسكرات وتراجعت الحدائق، وأطلّت مدينة ملاهٍ على مقبرة، وواجه مبنى مديرية أمن، في عبث مكاني صارخ، روضة للأطفال؛ إنه المكان الذي انقسم على نفسه فشهد جانب السلطة منه عقوداً من التجدد والعمران مثلما انحدر سواه إلى عقود من التراجع والخراب.
على ان مواد الكتاب توزعت بعدها على أربعة أقسام، وتحت العناوين قراءتان معماريتان، نقديتان، وشواهد ومشاهد، وانتهى الكتاب بعتبة أخيرة هي "عتبة الختام" سعى المؤلف من خلالها الى إضاءة فكرة الخاتمة في المكان الذي يعمل في مقصوراته المغلقة التي لا حصر على احتواء الزمان مكثفا، وتلك هي وظيفته كما يتصور باشلار، لتبدو العلاقة بين المكان والزمان آلة القول بالقول نفسه.
يحتوي الكتاب على مواد أكثر من خمسة وعشرين كاتباً عراقياً متعددي الاهتمام والتوجه، من الهندسة إلى النقد الأدبي، ومن التشكيل إلى البحث وكتابة القصة والرواية والشعر. من هؤلاء: محمد خضير، ياسين النصير، سهيل سامي نادر، حيدر سعيد، حسن ناظم، جاسم عاصي، سعاد عبد علي، أسعد غالب الأسدي، محمد خضير سلطان، أحمد سعداوي، حسن كريم عاتي، نعيم عبد مهلهل، زعيم الطائي، عمّار أحمد، رعد مطشر، سعد محمد رحيم، حامد فاضل، فؤاد مطلب، خضير فليح الزيدي، صفاء ذياب، علي الحسينان، صدام الجميلي، علي تويني، وعباس خضر.
يقرأ من خلال المكان واحدة من اللحظات العصيّة في تأريخ العراق، اللحظة التي بدأت عند نقطة ما من منحنى المكان وعاشت فتنتها في أزمنة أقرب إلى الحلم سلّمها الآباء للأبناء بحرص وشغف مع ما سلّموا من كنوز حياتهم، لتنتهي مع المكان وهو يرسف في انكسار جماله، فتبدو الكتابة عندئذ بحثاً في الإشارة ومحاولة لالتقاط معنى عميق ترسّخ في المكان: وثائق، ومدونات، وأيقونات، وشواهد، وأمثلة. يشكل الشارع في كتابة حيدر سعيد عن النجف، محفر الذاكرة ومادتها، وسيكون فضاءها المتسع البعيد. المكان عنده يدوّن سير أناسه في سعيهم الدؤوب داخل مؤسسة اللاهوت وبموجباتها. يقرأ ياسين النصير الزقاق تواصلا مع مشروع قراءته العميقة للمكان واستمرارا لحوارية الشارع، شارع الرشيد تحديدا، ويسعى للإجابة عن السؤال: هل تحول الزقاق من بنية مكانية خارج وعينا وإدراكنا إلى بنية سلوكية ونفسية داخلنا؟ أو انه شأنه شأن الامكنة الآفلة، ليس له القدرة على الإستمرار فبقي في مدونات الذاكرة لا ينهض الا متى كانت هناك حاجة ثقافية، وهو الأكثر حضورا من خلال وظيفة الاتصال بين الأمكنة الثقافية؟ ويرصد زعيم الطائي انعكاس الوجوه الانسانية الشاحبة على بقايا الزجاج المهشم جراء زحف كائنات الخراب. ويكتب عباس خضر نص عودته بعد سقوط الديكتاتورية إلى سجنه، وما خلفته البربرية من آثار وحشية على الأرواح والجدران، ويقرأ التورايخ التي دوّنها القهر. يرصد جاسم عاصي تعاقب الليل والنهار وهما يعيدان بناء العلاقة بين الانسان والإنسان، بين الانسان والأشياء، في اللحظة التي يبدو فيها الجميع منذورين لقسوة مصير مشترك. ويكتب نعيم عبد مهلهل عن مكان يملك فيه الوجود معنى مزدوجا، حيث لا يكون المكان مكان الكاتب ويكون في الوقت نفسه مكانه الاخير، وملاذه في الدفاع عن ذاته ووجوده.
العتبات المقدسة في كتابة علي تويني عن المشهد الكاظمي، هي احدى الصور التواشج بين العمارة والدين. الشاكرية في بغداد تعلن عبر كتابة حسن كريم عاتي مكابدات اختفائها، وتدوّن في غيابها تناقضات حضورها في انتظار قيامة المدن. لا يكتب علي الحسينان فحسب عن اختفاء الوسيطة، مكانه الاول، بل يسعى الى استعادة عالم كامل لم يعد لاستعادته من سبيل. المكان نفسه يسلم حضوره للخيال. الاسم القديم الذي تستدعيه كتابة محمد خضير عن الكوفة، سلطان، يدعوه الى رصد قيمة الاسم بمحولاته الثقافية، حيث الاسم هو الذاكرة والتاريخ. ويكتب محمد خضير صاحب كتاب "بصرياثا" عن مدينة غير واقعية تلازم مدينته وتحيا في ظلالها حيث "يجري البحث عنها بواسطة تساؤلات ملغزة وقرائن كانت قد زيفت". ويتفحص احمد سعداوي تحول مدينة الثور او الصدر لاكتشاف بعض من خصائص المكان الهجين.
هذا غيض من فيض عن كتاب يضج بالمعاني، هو فكرة لمجموعة كتب اذ ان كل مكان في العراق يحتاج الى كتاب، من شارع الرشيد الى شارع ابو نواس، ومن المقاهي الى الحانات، ومن البصرة الى بغداد وكركوك وكربلاء والموصل. وهلمّ.
هيفاء شدياق
النهار – 29 يوليو 2009