يرينا تاريخ الأدب أن بعض الأعمال الأدبية التي لا تلقى استحسانا في لحظتها لا تلبث أن تنال، بعد وقت، القيمة التي لم تنلها سابقاً، وهذا يؤكد أن الذائقة، أو الواعية، قد اجتازت السبب الذي كان يقف سدا أمام إدراك قيمتها الفنية ما يعني أن كاتبها حاز، آنذاك، على رؤيا بعيدة المدى عبرت زمانه.
هذه دلالة أكيدة على أن الفن يستوي فوق المنطق والذوق والمعلومة التي يستمد العصر منها قوته ونباهته. إنه الفن الذي يفترض أن يكون عين الإنسان لاستشراف المستقبل. والمستقبل ليس مجرد امتداد في الزمن ومادته بل هو إمتداد الروح ورؤيتها للعالم، فكما نتكون من الداخل يتكون العالم - بنا - في الخارج. ومن هنا فإن الأعمال الفنية لا تشير إلى الخارج أكثر مما تشير إلى تراكيب الجواهر الإنسانية وتغيراتها.
إن الصعوبة في إدراك الأعمال الجديدة تكمن في عدم معرفة الطريق الذي يسلكه العمل الفني، عدم معرفة تصميمه السري المغاير لما هو مألوف ومعتمد من قبل العرف السائد. فحين نقرأ عملا ادبيا فإن نتوقع الأبنية والدلالات التي اختبرناها في قراءات سابقة، وشكلت في داخلنا صورا تآلفنا معها. أي أننا سنكون في انتظار ما ألفناه. وننتظر بشغف أن تتشكل في داخلنا ذاك الوهج الذي سينقلنا إلى العالم الذي عرفناه مرات ومرات من خلال قراءات سابقة. وهنا سنتطامن في المخبأ الآمن الذي سبق ودخلناه وسعدنا به. أننا سنقاد ولا نقود- سيُكتشف لنا ولا نكتشف.
كل قراءة هي امتحان – امتحان القارئ وامتحان النص معا، القارئ والنص هما بوتقة واحدة تتفاعل في داخلها جواهر الوعي.
حملت لي الأيام القليلة الماضية رواية أمجد ناصر "حيث لا تسقط الأمطار" الصادرة حديثاً عن دار الآداب في بيروت. قرأت الرواية مرتين، كي أتمكن من التصدي لغموض النص وتموهه، ووصل التشظيات على مستوى الزمن والشخصيات الأربع التي تروي العمل. كنت أظن أن هناك راو واحدا أو أثنين لا أكثر. وأن هناك زمنا موحدا يحكي الهجرة والعشرين عاما التي مرت. وقد بطل هذا الظن في القراءة الثانية – وكم هي مهمة القراءة الثانية في بعض الأعمال فهي قد تنقل القارئ أحيانا من فهم للعمل الى آخر.
بدا من القراءة الأولى أن البطل المنقسم على ذواته- يونس الخطاط / وأدهم جابر، هما شخصيتا العمل اللتان قام عليهما النص، لكنني مع القراءة الثانية خرجت بفكرة أن يونس الخطاط ليس واحدا ولا أثنين بل هو أربع أو خمس شخصيات. هذا ما جعل العمل اكثر توالدا وتحولا. لا تمتثل الرواية لمعيار تقليدي في، أو حتى حداث دارج، في بناء الزمن والأحداث وتركيب الشخصيات. فالزمن الذي يولد يموت، والراوي الذي يسرد لا يعلم أحد من هو –ربما هو كائن خفي أو غير موجود – يقول النص إنه يونس الخطاط، لكنني لا أظنه كذلك على امتداد النص كله- حيث يتناوب الراوي في اتحادات وانفصالات مع ادهم ويونس وشخص آخر غير معرف، ثم شخص رابع جاء من وحدة ادهم ويونس، ثم راو أخير يلعب دور المراقب يدخل ويخرج من دون أن يلاحظه القارئ.
بكل هذه الرواة يقص علينا أمجد ناصر حكاية أدهم جابر الذي ترك بلدته "الحامية" وخرج فارا يحمل أملا كبيرا في التغيير، كي يعود بعد عشرين عاما مريضا محبطا يبصق دما ويحمل المرض الغريب الذي أصاب المدينة التي عاد منها (المدينة "الرمادية والحمراء") التي فقد فيها زوجته بنفس المرض.عاد كي يموت في بلدته "الحامية". لو دققنا في العمل لوجدنا أن احداثه تجري في غرفة مغلقة رغم اتساع الرقعة الجغرافية التي تنفرد عليها. إنها غرفة ضمير المخاطب. وهذه لفتة فنية رفيعة تشير، من دون تصريح مباشر، إلى الحال الذي نعيشه في الشرق وقد تحول إلى غرفة تحقيق واستجواب – ويلعب ضمير المخاطب لعبته في الرواية فهو ليس يونس الخطاط إلا قليلا وليس ادهم جابر تماماً، هذا الضمير هو ضمير المراقب، العسكري، الموجود في أعماقنا وهو ضمير غير غائب ( وغير محدد) بقدر ما هو ضمير كامن يكتسب صيغة بطريركية يعكس حاضر المحاسبة لكل خارج عن الطاعة. وأظن أن ذلك هو السبب الذي جعل الكاتب يلجأ لهذا النوع من ضمير السرد- ولم يختر ضمير المتكلم. فضمير المخاطب، على هذا النحو، تفوق على ضمير المتكلم أو الغائب. إنه يعالج الزمن بطريقة غير مألوفة، فهو لا يقطـّع الزمن ولا يخلق فيه فجوات ولا يسرد على طريقة الاسترسال بل يقوم على طريقة القوة الكلية التي تملك كل الأزمنة في آن.
والحكاية هي حكاية هجرة وعودة، وكانت الرواية العربية قد اشتغلت على هذا النوع من الحكايا، الهجرة إلى الغرب ثم العودة بعد إخفاق البطل- ويشير النص إلى رواية "موسم الهجرة الى الشمال" وقضية الغزو الجنسي ومماثلته للغزو العسكري كما جاء بها الطيب صالح على لسان مصطفى سعيد "جئتكم غازيا"، لكن في رواية أمجد ناصر ليس هناك غزو جنسي لأن الفارق بين بطله "يونس الخطاط" (أو أدهم جابر) وبين مصطفى سعيد (بطل الطيب صالح) جوهري من حيث الشخصية والزمن والمفاهيم، فالغزو (أو الانتقام) عند الطيب صالح يكاد يكون فرديا بينما هو عند أمجد ناصر مركب ومتعدد الأوجه. ولهذا لا تمكن المقارنة بين الغزوين، بل ان بطل رواية أمجد ناصر يسأل نفسه إن كان جاء الى "المدينة الرمادية والحمراء" مهزوما سلفا، فيما كان بطل الطيب صالح يصرخ قائلا: جئتكم غازيا!
تتصالح رموز الرواية منذ البداية، وهذه دلالة المتانة الفنية، فالراوي المنقسم على ذاته مصاب بالحول ويكاد يرى الواقعة واقعتين: "عيناك مثل نفسك توحدهما قسرا في نظرة واحدة" ويبدأ الخطو على الطريق اللولبي – وهو الطريق غير السوي المنقسم على نفسه، فيسأل بطل "حيث لا تسقط الأمطار": " كدت تسأل نفسك: من خسر على الطريق اللولبي...ومن ربح؟" وتنتهي الرواية بزيارته للمقبرة "عاصفة لولبية من الغبار تتطاول في السماء العارية مهددة بالاقتراب" هل كانت هذه العاصفة اللولبية قادمة كي ترفع الراوي الى السماء في خطو مشابه لقدره الأرضي؟ الرمز اللولبي أو الدائري الذي يتكرر هو الطريق الذي سار عليه البطل وبسببه سيعود إلى بداياته الأولى، فالمسافة تنتهي كي تبدأ من جديد والزمن المتهالك يعود من حيث أتى، ونحن لا نقرأ دراما بل حكاية إخفاق حياة ومشروع وتشظ وإشارات إلى أن هذا العدم الذي يحكم حركة العالم الشرقي لا يمكن تغييره بسهولة، بأفكار شباب وطاقات تحريرية، ولذلك جاء السرد مرنا لعوبا ينتقل بالزمن انتقال عاشق مريض. والحال –الأمل- عند البطل لم يتغير بعد كل السنين الماضية وكل الخبرة التي جعلته يرى استحالة التغيير أو ممانعته القصوى. فيجالس ذاته مع مابقي من محترف والده الخطاط، ويقرأ لوحاته وخطوطه فنجده يقول على لسان يونس الصغير "ابن أخيه" مفسراً لوحة خط لوالده كتبت بالحرف بالكوفي إن بدايتها ( هو كلمة "ضيق"، والمَخرج هو كلمة "فرج"، وأطول طريق بين الدخول إلى المتاهة والخروج منها هو كلمة "حيرة").
كأن الفن الأصيل أصبح أمام مفترق طرق، وماكان عليه في السابق من مهمة الكشف والإشارة لم تعد مقصورة عليه لكون التطورات الكبرى أنتجت أداوت حملت عنه هذا العبء. تغيرت هذه المهمة وتحولت إلى أخرى، أكثر أصالة وعمقا، مهمة تبحث عن الطاقة المنسية التي خبت داخل الإنسان وتحاول مساءلتها واستنهاضها. الطريقة الجديدة هي طريقة المعالجة وتوليد الايحاء والاسترسال التي أحيانا لا ترتبط بشكل مباشر مع النص نفسه فيندفع القارئ الى دخول أعماقه ومساءلتها والبحث عن أقداره بعيدا عما يقوله النص.
hsolaiman@hotmail.com