بيروت ـ "القدس العربي":
صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية كتاب "هكذا تكلّم محمود درويش: دراسات في ذكرى رحيله" لمجموعة من الباحثين، تحرير الدكتور عبد الإله بلقزيز.
النص الشعري الدرويشي... نص ـ وثيقة بأكثر من معنى، وفي أكثر من اتجاه. في مرآته تملك ان تقرأ فكرة كبرى في تجربة شعب هو شعبه.
قصيدة درويش لسان الجماعة ومدوّنة يومياتها... هي ضمير الناس، ملاذهم من الضياع يؤويهم، هي نفيرهم، يبث العزيمة فيهم.
تاريخ قصيدة محمود، هو من وجه آخر، تاريخ امكنتها، ولدت القصيدة في مكان، ونمت في مكان، وأينعت في أمكنة.
من باب تعزية النفس ان يقول المرء، ان محمود درويش لم يرحل لأن تراثه باق فينا، وفي الثقافة العربية، فلقد كان رحيله فاجعة، للثقافة والقصيدة، لا توصف، وهي (فاجعة) لا توصف لأن رحيله حصل في لحظة التألق الاستثنائي (...)
برحيل حفيد المتنبي، تدخل القصيدة العربية فترة من الحداد، ليس يُعلم متى تنتهي، فالرجل لم يكن شاعراً كبيراً فحسب، بل كان الشاعر الذي زوّج المستحيل بالممكن في الشعر، فأنجب لغة شعرية ممكنة، لكنها تقارب المستحيل.
يا محمود "على هذه الأرض ما يستحق الحياة": أن نقرأ شعرك.
***
بمناسبة مرور عام على رحيل الشاعر محمود درويش الفاجع، حاولت جمهرة من اصدقائه، وبمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية، ان تقدّم هذا الكتاب التذكاري التكريمي وفاء لذكرى الفقيد الكبير، واعترافاً بالدور والمكانة اللذين كانا له في الثقافة العربية المعاصرة.
يقع الكتاب في 207 صفحات.
وثمنه 8 دولارات أو ما يعادلها.
هنا مقطع من مقدمة محرر الكتاب عبد الإله بلقزيز:
تاريخ قصيدة محمود هو، من وجه آخر، تاريخ امكنتها. ولدت القصيدة في مكان، ونمت في مكان، وأينعت في أمكنة. لم يكن المكان محايداً امام تجربة القصيدة. لم يمنحها جغرافيا ترابية كي تقيم فيها كما يقيم العابرون. كان المكان لها رحماً، تربة ازدرعت فيها. كان ماءها وشمسها وهواءها. ولقد حملت خواصه. وكلما تغير المكان او تعدد، أضافت الى الخواص الموروثة اخرى مكتسبة. ظلت القصيدة تقول مكانها بطريقتها، تستعذبه وتذيقك طعمه. وكان على كل مكان ان يكون لحظة في سيرة القصيدة، زمناً من أزمنتها.
في حيفا، نضجت صورة المكان الاول (= قرية البروة في الجليل المحتل)، واغتنت الصورة بفضاء جديد قدم للشاعر ملاذا جديدا لتهريب المعنى المحاصر. حيفا رحم القصيدة الاول. مساحة للوعي والرشد والخروج الى تجربة الالتزام: في الشعر والحزب والحركة الوطنية. بيئة الممانعة الوطنية والثقافية في حيفا وفلسطين انتجت قصيدة حملت معاني الممانعة كافة: التمسك بالارض والهوية والتاريخ والذاكرة والقبض على اللغة: معدن الكينونة النفيس، بالنواجذ. تدفقت هذه المعاني جميعاً في دواوينه الاولى (اوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، آخر الليل، العصافير تموت في الجليل، حبيبتي تنهض من يومها، ومحاولة رقم 7...) حتى لا تكاد تبصر الفارق بين الشاعر والمكان. وكان على قصيدة جرؤت على السجان ان تدفع الثمن من حريتها، فساقها الحاكم العسكري الى السجن مرات عديدة. وكلما سيق محمود الى سجن، أفرجت القصيدة عن مفاتنها اكثر، كأنها لا تزف بهية الا كلما ذكرها السجان بوجوده.
كأنها قدت من الاصرار والتحدي. ولقد ظلت قصائد محمود، من مكانه الحيفاوي، نافذة اطل منها العربي على الفلسطيني داخل القفص. بل لعلها كادت تكون النافذة الاشرع (= دون ان ننسى روايات اميل حبيبي) التي أوسعت مساحة لمعرفة ما يجري في الداخل الفلسطيني ـ سياسياً وثقافياً ـ في سنوات الستينيات حيث كان الوعي العربي لا يزال بارد الصلة بمن بقي على ارضه من فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب! ولا أراني أتزيد حين أقول ان قصيدة واحدة مثل "سجل أنا عربي" كانت وحدها تكفي كي تمسح الغشاوة عن ملايين العرب فتعلمهم بمن هم اولئك الذين ما فارقوا ارضهم وان اجبروا على حمل بطاقة "هوية" تزوّر هويتهم، ومن اي معدن نفيس هم.
قرر محمود ان يغادر حيفا وفلسطين الى جوارهما العربي. قضى فترة في القاهرة ثم شد الرحيل الى بيروت: المكان الثاني الذي تفتقت فيه عبقرية الشعر. ولدت القصيدة ولادتها الثانية في هذا المكان الفذّ. كان عليها ان تمتح من معينه وتغتني اكثر. كان عليها ايضا ان تستحق حق الاقامة في مدينة غير عادية ولا شبيه لها في الدور والمكانة. عاصمة المقاومة والثقافة والحرية كانت بيروت حينها (وما زالت). ولأن الشاعر أتى المدينة في لحظة عنفوان ثقافي، وحيث صخب التجديد والتجريب والثورة في التعبير يعلو، كان على قصيدته ان تتمرن على التفاعل مع حساسيات جمالية جديدة من دون ان تفقد نكهتها التي حملتها بعيداً الى الآفاق. في هذا المكان العذب، تدفق شهد القصيدة وأفرج محمود عن طاقة في التعبير مذهلة. كأنه كان ينتظر بيروت كي يفجّر تلك الطاقة المخزونة، كي يشارك الثورة ثورتها بثورته الخاصة: ثورة الشعر على الشعر. ولقد نجح محمود في ان يصنع لغة في التعبير الشعري لم يشبهه فيها احد ولا ضارعه. مفرداتها مصقولة بعناية وذات خصوصية حادة، وصورها مزيج من التشكيل التجريدي والسرد الواقعي والفانتازيا. أنجبت لغته بعضاً من أرفع الملاحم في تاريخ الشعر العربي سنوات السبعينيات ومطالع الثمانينيات مثل "احمد الزعتر"، و"قصيدة الأرض" و"قصيدة بيروت، و"مديح الظل العالي". وما ساوم على ايقاعية القصيدة حتى وهو يأخذها الى الثورة على المألوف في الكتابة الشعرية.
باريس كانت مكان القصيدة الثالث. اقام فيها عشراً من السنين 1985 - 1995 ارتفع شعوره بالمنفى اكثر، وبفرديته اكثر، لكن منسوب الجمال في القصيدة بات أعلى. أغرته باريس بالخلوة، أطلقت في دمه ملح التأمل. عاد الى الماضي البعيد: الى طفولته، الى الارض، الى شغف خرافي بالطبيعة، كشف عن موسوعية مذهلة في معرفة اسماء النباتات والاشجار والحشائش والطير والورود. كل شيء حيّ فيه وفي القصيدة كان يتفتق. حتى القلب الذي مزقته أدوات الجراحة في المستشفى اتسع لمزيد من الحب، لنساء رسمت القصيدة ملامحهن وقسماتهن فبدون وقد خرجن من الاسطورة يهزمن الرجولة ويطلقن ضحكات العبث الحر. قال الحب بطريقة تقطر سحرا وعذوبة وأنتج أشهى قصائده في تاريخ الشعر العربي: "شتاء ريتا طويل" مثالا وقضائد اخرى من "سرير الغريبة". وفي باريس قالت القصيدة اسرارها.
رام الله ـ عمان كانتا مكان القصيدة الرابع: اولاهما اكثر. لم يكن محمود ينتظر عودة منقوصة الى الوطن، لكنه عاد ولم يعد. عاد لان نداء العودة حاصره وحاصر احتجاجه على "اتفاق اوسلو"، ولم يكن يستطيع ان يقاوم اغراء فلسطين بعد تجربة جارحة مع المنفى. ولم يعد لأن فلسطينه كانت ما تزال بعيدة: فلسطينه التي عاش فيها وفلسطينه التي صنعها في شعره. وهل كان يستطيع ان يردم الفرق بين الاثنتين؟ غير ان البعض القليل من فلسطين الذي بقي له - ولشعبه - مكاناً يقيم فيه كان افضل عنده من مكابدة الشعور الدائم بالاقتلاع والمنفى. لعل تلك القطعة الصغيرة من الارض ترفع عنه قليلاً عبء الشعور بالغربة بعيداً عن الوطن. سألته مرة: "كيف وجدت فلسطين يا محمود بعد العودة اليها؟" اجابني على الفور: "فلسطين من بعيد ابهى". اذن، هو المنفى من جديد يداخله ويسكنه وهو هناك في بعض الوطن. حين كان يضيق بهذا الشعور المفاجئ، يهرب الى عمان، ومنها الى أقاصي الدنيا. لا فرق، اذن، بين المنفيين: المنفى عن الوطن والمنفى في الوطن!
في فلسطين مرة اخرى انتكست حالة القلب. لم تكن قد مرت على العملية الجراحية الاولى اكثر من أربعة عشر عاماً. كان على قلبه ان يفتح مرة اخرى في غرفة جراحية بباريس. توقف القلب اثناء الجراحة واعلنت الوفاة. مات الشاعر لدقائق ثم عاد الى الحياة. وخرج من تجربة الموت، في الهزيع الاخير من القرن الماضي، مسكوناً بسؤال الوجود. خاض أعماق حوار فلسفي مع الموت في "جدارية". لو لم يكن محمود قد كتب في حياته سوى هذه القصيدة/الديوان، فقد كتب كل شيء وأوصل الشعر الى الذروة. ومن حينها (سنة 2000)، دخل الشاعر في سباق محموم مع الموت. كان يريد ان يقول كل شيء قبل ان يزوره ثانية ويصطحبه معه الى البعيد. وبين رام الله وعمان كانت الاعتكافة الشعرية (والنثرية) تأخذه الى انتاج غزير. كرت سبحة اعماله - دواوين ونصوص نثرية - بإيقاع استثنائي: حالة حصار، لا تعتذر عما فعلت، ذاكرة للنسيان، كزهر اللوز أو أبعد، في حضرة الغياب، أثر الفراشة، ولا أريد لهذي القصيدة ان تنتهي (وقد صدر الاخير بعد رحيله). وفي كل نص، كان محمود يعلن ميلاد قصيدة مختلفة، بنكهة جديدة. ظل وفيا لطريقة لم يجد عنها: الثورة الدائمة على المألوف في التعبير الشعري. لا، ظل وفيا لمعنى الخلق والابداع: من لم يستطع ان يقدم جديداً، من الافضل ان يخلد الى الصمت. ومحمود من طينة الشعراء الكبار، لا يعرف غير ان يتدفق.
خرجت القصيدة من فلسطين وعادت الى فلسطين. وفي رحلة العودة تألقت أكثر في المكان الذي يقولها وتقوله.
27/01/2010