حيّرني هذا الديوان منذ قرأته للمرة الأولى، واستمرت حيرتي في كل قراءة تالية، ذلك أنه بقدر ما سلبني، مستدعيا إعجابي بنصوصه، فإني لم استطع تعيين أسباب هذا الإعجاب بسهولة. نعم خطفني ديوان "أماكن خاطئة" للشاعر أحمد يماني، الصادر أخيرا عن "دار ميريت" في القاهرة، بعوالمه ولغته، ومزيجه المبهر بين الخيال والاسطورة والواقع، كما أدهشني بكونه مخاتلا. فهو يبدو نثرا بينما لا يفيض بسوى الشعر، كما يبدو بسيطا وقريبا لكنه سرعان ما يكشف أن بساطته الخادعة ليست سوى تعبير فني عن موهبة أحمد يماني الذي يبدو أنه يلمح الى حالة وجدانية أو الى معنى في عينه، لكن، سرعان ما يبدو المعنى عصيا؛ يتراكم لدلالات عدة خلف كل صورة شعرية مما يختلقه الشاعر بكل التأويلات المحتملة.
أدركت بعد قراءات عدة أن سر الديوان في انه متخلص من أي تأثيرات أخرى، وبينها تجربة يماني الشعرية السابقة نفسها، ومن تجارب أيّ من الشعراء المجايلين. كما قدّمَ اليَّ دليلا حيا على ما كنت أفكر فيه منذ فترة حول علاقة النص الذي يكتبه الشاعر بالبيئة التي تحيط به، بالطبيعة، بالمناخ العام. ويبدو هذا الديوان "متحررا" من قيود المكان، وتراث الكليشيهات التي تشيع بين أبناء الجيل الواحد، ومستفيدا من عناصر الحياة الجديدة في اوروبا حيث يعيش يماني في إسبانيا منذ فترة.
لم يعد يماني في هذا الديوان مهموما باليومي، فقط، وإنما امتد الهمّ الى أسئلة وجودية كبيرة، عن معنى الاغتراب، وعن المشتركات الإنسانية، وعن العنصرية التي تمارس في العالم ضد الملوّنين، وعن الحنين، بل وحتى وصولا الى بعض المشاعر التي تعكس شفقة الشاعر على نماذج مهزومة أو مجروحة من البشر، وسواها من التيمات، يعبر عنها بإيحاءات ميلودرامية. لكنه مع ذلك يبدو بعيدا عن فخ الميلودراما.
ثمة شيء خاص في هذا الديوان يتمثل في أن نصوصه جميعها تقطر شعرا، حتى لو بدت بعض المفردات عادية أحيانا. وبقدر ما تبدو القصائد مشهدية، تبتعد عن التجريد والذهنية، لكنها في المقابل، تعكس قدرة الشاعر على تركيب الصور والمشاهد، بوجوه البشر ولفتات شاردة من حياتهم، وبصرخات قد يرددونها، وبهمسات تنفلت منهم، أو بعواء ذئبة، أو رفيف طيور غامضة، وغيرها من عناصر الكائنات التي تبدو مصائرها معلّقة مثل مصائر البشر.
بإحكام، يضفر يماني الصور والتراكيب اللغوية والروائح والأصوات وحركة القطارات ولوحات الفن التشكيلي، والتماثيل والأقنعة الإفريقية والخرائط والأحلام وصور الوجوه، وسواها، لكي تعبّر هي عن المعنى العميق، التجريدي أحيانا، والمركّب، في أحيان أخرى، والعصيّ على التدليل في مرات ثالثة.
تتجلى قدرات يماني في صوغ الشعر من خلال تركيب المشاهد وتطويع اللغة واللعب مع خيال القارئ، كما تتجلى في تلك الشظايا الحادة المباغتة التي يفتتح بها العديد من القصائد؛ فتسترعي انتباهنا بحيث لا يمكن للوهلة الأولى أن نفكر في أن شيئا آخر يحدث في العالم، في هذه اللحظة، سوى ما يدعونا الشاعر للإنصات اليه أو رؤيته أو الالتفات إليه.
وفي تركيبه لتلك العلاقات التي تعكس همّاً حقيقيا بالآخر، أيا يكن لونه أو جنسه أو طبقته، ينطلق الشاعر دائما من لمسته الذاتية، وفكرته، وإحساسه، مكوّنا باستمرار، علاقة تناغم مدهشة بين الأنا والاخر، وتقريبا على مدى نصوص هذا الديوان؛ الذي لا يمكن أن تغني عن قراءته أي محاولات للتفسير أو التوضيح؛ بسبب التعدد الدلالي الواسع للقصائد، الذي يمكن أن يختلف من قارئ الى آخر وفقا لثقافته وذوقه.
تستجيب الذات الفردية هنا للأسئلة الإنسانية، عن مأساة الأخت - الأنثى في مجتمع ذكوري قامع وقاتل، وعن تواصل الأجيال، وعلاقة المعرفة الذهنية بالمعرفة الحياتية في علاقة الإبن بالأم، وما يتضمنه ذلك من أسئلة وجودية عمن يمنح الوجود، ومن يحاول إدراك معناه، وعن حياة البسطاء، والمعوقين، وغير ذلك. لكنها كلها لا تتوقف عند المستوى العاطفي الدرامي، وإنما تنسجه بحلى شعرية قوامها الصور الجديدة، واللعب، كما يفعل مثلا في قصيدة "حقل".
أما الذاتية فليست مغلقة على نفسها كما شأن غالبية ما دوّنه الشعراء في القصيدة الحديثة العربية، بل يستبدلها يماني بذاتية مستندة الى الآخر، في تلمسها لعزلتها او حتى في رثائها لعلاقة حب ضائع واصبح رمادا.
في قصيدة "الحبال" يقول الشاعر: "في قاع النهر/ الجاف/ تحت جسر العذراء/ أجلس وحيدا/ بالأعلى يقف أصدقائي/ يلقون إليَّ حبلا مجدولا/ اصدقائي يتماسكون/ ويلقون الحبل/ اتشبث جيدا واصعد/ في ربع المسافة يطفر الدم/ من اصابعي/ فألوّث الحبال/ اصدقائي لا يحبون الدماء/ اصدقائي يفلتون الحبل/ ويمضون آسفين/ يدي اليمنى/ تلطخ الدرابزين الحجري/ في طريقي من قاع النهر الى الجسر/ حيث لا اعرف احدا في هذا الليل".
من قصيدة "سماد" نستلّ المقطع الآتي: "في برطمان زجاجي علّقته بداخل خزانة المطبخ كنت قد حرقت حبي وجمعت رماده. في نهاية الأسبوع أرّشُ منه على نباتاتي فأراها تهتز. في اليوم التالي تنتعش قليلا ثم لا تلبث أن تموت تاركة صفارا محروقا في كل أصيص. آخذ الصفار وألقيه بعيدا وأوشوش للنباتات أن تنسى الأمر برمته".
تتحرك القصائد بين مشاهد اليومي في ثقافة غربية يعايشها الشاعر، وبين ذكريات بعيدة، تلتقط لحظات من الماضي البعيد: لحظات الحب المسروقة، صورة الأب، أو أيام المراهقة المشبوبة بالشبق والرغبة. لكنه يغزل الصور جميعا، بالصور الشعرية المدهشة التي يبرع في مزج فطريتها بثقافته، وبلمحة الأسطورة التي تبدو كإطار شفاف في خلفية القصائد كلها، مبديا قدرة كبيرة على التكثيف، وعلى بث الروح الإنسانية المتعاطفة مع شخوص اللحظات الشعرية جميعا، وعلى تثبيت اللحظة على ذروة تألقها بالشعر، كما يفعل في العديد من القصائد وبينها قصيدة "بائعة الزيت": "بينما تدخل حاملة عبواتها كنت ألحق بها على العتبة كي اضع عنها حملها رافعا العبوة الثقيلة. كنا نتقدم نحن الاثنين كتفا بكتف في اللحظة نفسها انفلتت نقطة من عبوتها الصغيرة. النقطة سقطت في منتصف المسافة بين اقدامنا المتجهة صوب المطبخ. وبينما ننزلق قبضت كفّانا احداهما على الأخرى. كانت الأرض رطبة ونظيفة والعين المفزوعة سكنت خضرتها قليلا بندى الصباح".
المفارقة بين فعل الكتابة ومعنى الحياة، أنها في الحياة اليومية تتخذ موضعا كبيرا بين قصائد الديوان سواء في قصيدتي "الكتاب" و"عزيزي بورخس"، تماما كما شأن الكثير من تناقضات الواقع.
نصوص اخرى في الديوان يشوبها حس ايروتيكي، لا يفقد فيها يماني قدراته على التركيب والمشهدية والمفارقة وتعدد الدلالات، كما شأنه في قصيدة "بائعة التبغ": "يدها على العلبة وقدمي خارج البيت. فجأة تعتم، وهي تواصل فرك التبغ على فخذها اللامعة. تتوقف قليلا تنقل نصف التبغ الى الفخذ الاخرى وانا ادخل في الدهليز الطويل وابدأ التدخين".
هذا الديوان غني بحيث أنه يستحق أكثر من قراءة، واظنه من العلامات المهمة في القصيدة العربية الحديثة، باجتراحه منطق الصورة الشعرية على حساب اللغة الذهنية، واجتراحه عناصر من ثقافات عديدة بديلا من الانغلاق الذي وسم القصيدة المصرية المعاصرة على نحو خاص، وباقتحامه الأسطورة وإسباغ طابع من اليومي والبسيط على مفرداتها.
سبق لأحمد يماني إصدار ثلاثة دواوين هي: "شوارع الأبيض والأسود" 1995، "تحت شجرة العائلة" 1998، و"وردات في الرأس" 2001.
النهار
30 -9-2009