بمنأى عن فوز الشاعر عبدالله المحسن، هذا العام 2014 ، بجائزة المركز الأول في المسابقة التي تنظّمها سنويّا هيئة الشعر والشباب بمدينة تريجيو في إيطاليا، واعتباره أيضا الأصغر سناً في إحراز هذه الجائزة " المحسن من مواليد 1997" . بمنأى عن هذا التنويه العالمي، إلا إن ما يفرحُني شخصيّاً هو تلك الشعريّة البازغة على نحوٍ من القوّةِ والمتانة، والآخذة في الاشتداد يوماً بعد يوم وعبر نصوصٍ تتقاطر كثيفةً وريّانة في صفحته الفيسبوكيّة؛ بما يقولُ تجربةً لا تحتكمُ إلى السنّ ولا إلى الجيل بقدر احتكامها إلى الشعر وحدَهُ رؤًى وتعبيراً على نحوٍ من الفرادة في نصوصٍ يفدحُ بها القلق ويضربُها التوتّر؛ فتطيشُ منها تلك الشرارات التي تضيء.. تلك الأحجار التي تدوّمُ كثيراً قبل أن تغطس.. تلك الجمرة التي لا يطفئُها ماء. ومنها نص " لا أثر لخطوات الأجداد" المنشور مؤخّراً في صفحته.
ينفتح النصُّ بأربعةِ سطورٍ تمهيديّةٍ كاشفة عن ساحةٍ وطريقٍ وحقلٍ. تتبدّى جميعاً للنظرة الأولى أنّها فارغة. تخلو من النّفَسِ الحي وتتجافى عنها الحركة. مَن كان هنا ذهبَ ولم يبقَ ما يشيرُ إلى وجودِه السايق فينبئُ عنه أو يشي باستمراريّته. فهل عفَّى عليه الزمن. تجاوزَهُ وضربت عليه يدُ البِلى قفلاً لن يُفَضَّ أبداً؟.. ذلك ما ترفضُهُ النظرةُ الثانية التي تقرأُ الطَرسَ جيّدا وتعرف المخبوءَ يتلامحُ خلفَ ما هو ممحوٌّ لكنّه برسم الحضور جاهزاً للانطلاق في بدنٍ غيرِ بدنِهِ؛ في نسخةٍ تشبهُهُ وتستعيدُهُ كاملاً، نَشِطاً في سويّةِ خلقٍ جديد. كأنّ الزمن لم يمر. كانّه الزمنَ لم يدُرْ دورتَهُ الغلّابة. ضرْبٌ من الخداع ينتظرُ لحظتَهُ المواتية ليقومَ قيامتَهُ، فيستأنفَ ويخيطَ نسختَه لتكون هو. هو مصّاصُ الدماء في حفلةِ الإعدام الليلية لا يراهُ أحد. ينسلُّ بمرضِ السلالة؛ يتفشّى. لا يراهُ أحدٌ. لا يرى أحداً غيرَه.
مصّاصُ الدماء؛ الماضي الذي لا يمضي. الإرثُ الذي يريدُ الدَمَ يتمشّى فيه صورةً ونَفَساً. يعودُ كلّما استحكمت الغفلةُ. نابُهُ في الحلقِ ومخالبُهُ في الجسد الذي يغالِبُ أنْ يحلَّ فيه ما ليس منه ولا ينتمي إليه. مغالبةٌ تحتدمُ وتطلق سهامَ توتّرِها من الحذرِ والانتباهِ، والاستعادة المضنية ـ لكيّاتٍ لم تزل تنغِلُ في الجلد ـ والتي تؤجّجُ الاستبسالَ والمقاومة. ما كان ينبغي أن يظلَّ هناك نائياً طيَّ غيابِهِ؛ أن يبقَى جوفَ نومةٍ لا تتعافَى.
هنا النزوعُ الاحتدامي يذكّر بمناخات أمل دنقل في " لا تصالحْ" لكنّها في مقلِب آخر حيث العدو ليس في الضفة الأخرى ولا في المواجهة. العدو من الداخل؛ من السلالةِ المريضة الموبوءة تحملُ الحربَ والموتَ وتريد الابنَ حاملاً مُستزَفاً بأعبائِها موشوماً بأعطابِها. رأسُهُ إلى الخلف يخزنُ في عينيهِ ورئتيه تَلَفَهم وغبارَهم بحجّةِ الكحل النقي والهواء النَّضِر. أيُّ جلاءٍ للبصرِ والبصيرة برأسٍ معقوفٍ حتّى العمى وظهْرٍ موطوء حتّى آخر خرزةٍ تحمل؟
قبالةَ الجائحةِ المقبلِة ينتفضُ الجسدُ ومعه الروح في صراعٍ أقربُ إلى الدراما باضطرابِها الكثيف والإلحاحِ على ردّةِ فعلٍ واحدة تتراكم شأنَ عُصابٍ لا فكاكَ منه؛ شأنَ دفعاتٍ من البارود تتراصّ وتلتئم لتشكّلَ انفجاراً وخروجاً من عالم النُّسخ بتفسيخِها وتمزيقِها؛ تعليقِها في كلّاباتٍ حادّة مدبّبة نافذة من النداء والسؤال والنفي والنهي؛ تلطمُها بها لئلا تعود.. لئلا يُلتفَت إليها ـ بداعي التشابه والدم؛ بداعي الحنين وخدعة لمستِه ـ فتعود.
من يريدُ الحياةَ في جسدٍ ميّت؟.. من يريدُ العيْشَ داخلَ نطفةٍ تكرّرُ الأشباحَ الموتى؟.. أيّها العالقُ في الجذور. ها جسدُكَ مقشوراً منهم، وها شمسُكَ واضحة:
"فلا تلتفتْ إذاً
للذي بحنيّةٍ يلامِسُ
كَتِفَك
إنّهم موتى
إنّهم موتى
وهذا الكونُ لك".
******************
لا أثرَ لخطواتِ الأجداد ـ عبدالله المحسن
لا أثر لخطوات الأجداد حتى تمشي عليها
لكنها نفس القدم
لا الأشياء حولك ذاتها
لكنها النظرة
لا تلمس الآن هذا الغصن
حتى لا يستعاد فيك التعب
أيها المحكوم في جسدك
كيف ستتخلص الآن من وطأة الأقدام على ظهرك
لا تلتفت إذاً
للذي بحنية يلامس كتِفك
لا تلتفت الآن إنهم موتى وهذا الكون لك
وتيقظ
لا تغمض لهم عينيك
إنهم إن ذهبوا صاغوا فيك أحلامهم والرؤى
وهزائمهم
فكيف سيحتمل قلبك كل هذه الحروب
فترجل عنك
أيها المحكوم فيهم
إنهم جددوا فيك خلاياهم
فليس الجلد جلدك
ليست الدماء إلا سكرتهم
حتى هذا الحليب الأبدي الذي يقطر
لا يزالون فيه اول الرشفةِ
وأنت آخر الفِطام
ثم أنهم من بردهم
زملّوك هذا الجسد
ألست تختنق الآن من محاولة تنفسهم
عالقٌ أنت في الجذور
تُشقق جلدك كلما مرّ صيف
كي يستريح
فلا تلتفت إذاً
للذي بحنيةٍ يلامس كتِفك
إنهم موتى
إنهم موتى
وهذا الكون لك .