"عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ سِوَى أَنْفَاسٍ، فَإِنَّ الكَلِمَاتِ الَّتي تَصْدُرُ عَنِّي أَبَدِيَّةٌ!". بهذهِ العبارةِ للشَّاعرةِ الإغريقية سَافُو(610 - 580 ق. م)، يُدخلنا الشَّاعرُ والباحثُ والمترجمُ محمَّد حلمِي الرِّيشة والمترجمةُ ماسَة محمَّد الرِّيشة، إِلى مختاراتِهما الشِّعريَّةِ المترجمةِ عبرَ كتابهِما الَّذي صدرَ مؤخَّرًا بعنوانِ (مرآةٌ تمضغُ أَزرارَ ثَوبي- مختاراتٌ شعريَّةٌ لشاعراتٍ مِن العالمِ)، والَّذي ضمَّ نصوصًا شعريَّةً لِـ(16) شَاعرة مِن دولٍ مختلفةٍ فِي هذَا العالمِ هنَّ:
أَليس وولكر (أَفريقيا-أَمريكا)، آن سيكستون (أَمريكا)، آنجيلا غارسيا (كولومبيا)، تشاي يونغ مينغ (الصِّين)، جوان ماريا مكنالي (بريطانيا)، جون إِر (الصِّين)، جويس منصور (فرنسا)، رباب محب (إيران)، روزا جمالي (إيران)، شويشنغ تشوليان (الصِّين)، شيما نثاري حقيقي فرد (إيران)، لورين مندينوتا (كولومبيا)، لوسيا إِسترادا (كولومبيا)، ماري كاشيواغي (اليابان)، ماسايو كويكي (اليابان)، هيرومي آيتو (اليابان).
صدرَ هذَا الكتابُ مؤخَّرًا عَن دارِ الجنديِّ للنَّشرِ والتَّوزيعِ فِي القدسِ المحتلَّةِ، وبالتَّعاونِ معَ الاتَّحادِ العامِّ للكتَّابِ والأُدباءِ الفلسطينيِّين، وقدْ وقعَ الكتابُ فِي (348) صفحةً مِن القطعِ المتوسِّطِ.
علَى الغلافِ الأَخيرِ، يكتبُ الشَّاعرُ الفلسطينيُّ مُراد السُّودانيِّ:
"يواصلُ الشَّاعرُ محمَّد حلْمي الرِّيشة فِعلَهُ الإِبداعيَّ المحمومَ والمحمولَ علَى التَّثاقفِ بإِنجازِ هذَا الكتابِ المختلفِ، والَّذي يتضمَّنُ أَزاهيرَ شعريَّةً مترجمةً مِن غيرِ حديقةٍ لشاعراتٍ منَ العالمِ، وهذهِ المرَّةُ معَ كريمتهِ المترجمةِ (ماسَة) الحاصلةِ علَى درجةِ الماجستيرِ في الأَدبِ الإِنجليزيِّ، وهمَا بذلكَ يقدِّمانِ منتخباتٍ تساهمُ فِي إِسنادِ الوعيِ، وتوسيعِ دائرةِ الحراكِ المعرفيِّ فِي سياقِ التَّرجمةِ فِي فلسطينَ، وهُما يضيفانِ باقتدارٍ حجرةً شعريَّةً مغايرةً عبرَ هذهِ التَّرجمةِ النَّاجزةِ، ويمنحانِ المكتبةَ الشِّعريَّةَ والعربيَّةَ إِضافةً مائزةً تمَّ انْتقاؤها بدقَّةٍ وعينٍ مدرَّبةٍ علَى اقتناصِ الجماليَّاتِ وتعميمِها.
إِنَّ هذهِ التَّرجمةَ تتيحُ لنَا الاطِّلاعَ بعمقٍ علَى تجاربَ شعريَّةٍ مختلفةٍ ومتنوِّعةٍ تعمِّقُ النَّظرَ فِي مفهومِ الشِّعريَّةِ، وتمدُّ جسورَ التَّواصلِ والتَّثاقفِ معَ النَّسقِ الشِّعريِّ فِي العالمِ، بِما يعزِّزُ دورَ الشِّعرِ وفاعليَّتهِ فِي تخليقِ الجماليَّاتِ فِي منازلةِ سلالاتِ القبحِ والانكسارِ.
جهدٌ عالٍ اجترحاهُ معًا؛ كريمةُ الشَّاعرِ والشَّاعرُ، والَّذي ينضافُ إِلى مشروعهِ الإِبداعيِّ، وحراثتهِ لحقلِ الشِّعرِ بكدٍّ وإِصرارٍ يستحقَّانِ الانتباهَ والدَّرسَ والتَّقديرَ."
أَمَّا الشَّاعرُ والكاتبُ المغربيُّ أَحمد الدِّمناتي، فقْ قدَّمَ الكتابَ تحتَ عنوانِ "مزارُ التَّرجمةِ فِي حضرةِ الشِّعرِ" بقولهِ:
"مرآةٌ تمضغُ أَزرارَ ثَوبي"ليستْ مرآةَ (نرسيس)، ولاَ (كيليوباترا)، بلْ مرآةٌ شعريَّةٌ، جماليَّةٌ، إِبداعيَّةٌ، يَرى فِيها الشَّاعرُ محمَّد حلمي الرِّيشة وجهَهُ، وقصيدتَهُ، ومعناهُ، وروحَهُ، وفرحَهُ، وغبطتَهُ، وشغبَهُ، وهدوءَهُ، وفوضاهُ. اختيارُ المرآةِ انحيازٌ عميقٍ لرؤيةِ مَا لاَ يُرى بالعينِ، بلْ بالقلبِ، والحواسِّ، والرُّوحِ أَيضًا.
في هذهِ النُّصوصِ الَّتي اختارَها الشَّاعرُ/ المترجِمُ (وطبعًا بمشاركةِ ابنتهِ الأَديبةِ المُترجِمةِ، ولو أَنِّي أُركِّزُ فِي تَقدِيمي هذَا علَى الشَّاعرِ ذاتهِ لِما أُبيِّنهُ هُنا) وبعنايةٍ فائقةٍ، مَرايا متعدِّدةٌ ومتنوِّعةٌ، مقعَّرةٌ ومحدَّبةٌ، ومصقولةٌ ونقيَّةٌ، تُبرِزُ صفاءَ اللُّغةِ الشِّعريَّةِ فِي نقائِها الأَبديِّ، وتعتمدُ الغوصَ السِّريَّ والبهيَّ فِي خُلجَان ساحرةٍ تَرى فِي العمقِ الشِّعريِّ قَدَرها ومصيرَها.
إِنَّ عمليَّةَ المضغِ الَّتي تُمارسها المرآةُ لأَزرارِ ثوبهِ تجعلهُ يتعرَّى جزئيًّا منْ فرطِ الدَّهشةِ والشَّهوةِ في مواجهةِ مَرايا شرسةٍ هيَّجتْ حنينَه وفضولَه ليتملَّى فِيها، ويَبقى واقفًا بجانبِها؛ ففي التَّملِّي تأَمُّلٌ، وفِي الوقوفِ استراحةٌ قصيرةٌ ليستردَّ أَنفاسَه الَّتي تلهثُ كثيرًا وهيَ تتابعُ فراشاتِ النُّصوصِ الملَّونةِ منْ حقلٍ إِلى حقلٍ، وفِي السَّفرِ مَا يجعلُ القلبَ ساعةَ العالمِ تحسبُ دقائقَ الكونِ منْ خلالِ اللُّغةِ والمعنَى.
فِي هذَا الكتابِ، يواصلُ الشَّاعرُ والمترجمُ محمَّد حلمي الرِّيشة مسيرتَهُ الإِبداعيَّةَ، واختياراتهُ الجماليَّةَ، بجدِّيةٍ مفعمةٍ بحُسنِ التقاطِ تفاصيلِ ذاكرةِ الشِّعرِ العالميِّ منْ خلالِ ترجمةِ نصوصٍ شعريَّةٍ يجمعُ بينَها مَا هوَ شعريٌّ وفلسفيٌّ، ومَا هوَ جماليٌّ ورؤيويٌّ.
مغامرةٌ أُخرى، غنيَّةٌ وشيِّقةٌ، تضافُ إِلى أَسفارِ ورحلاتِ هذَا "المشاغبِ البهيِّ"، لاَ تكترثُ لمآزقِها، باعتبارِ التَّرجمةِ في عمقِها تنْصبُ الفخاخَ والمكائدَ لكلِّ مَن يقتربُ منْ عرينِها، كأَنَّ التَّرجمةَ لبؤةٌ شرسةٌ، عنيفةٌ، تخافُ علَى أَشبالِ نصوصِها منْ مرافقةِ المترجمِ "الخائنِ"الَّذي يخونُ بياضَه فِي الكتابةِ والقصيدةِ والحياةِ، فمَا بالُك بترجمةِ نصوصٍ لهَا نفحةُ الحكمةِ العميقةِ وشطحاتُ المتصوِّفةِ، واختزالُ العبارةِ الشعريِّةِ، والاقتصادُ اللُّغويُّ المكثَّفُ، كأَنَّ القصيدةَ تصارعُ يُتْمَها لأَجلِ بقائِها فِي أَرخبيلاتِ المعنَى.
لهَا الغوايةُ فِي الاقترابِ منَ النَّصِّ بحذرٍ خوفًا منَ الانزلاقِ فِي منحدرِ المتعةِ ومعاشرةِ المجهولِ الأَنيقِ، في نقلِ قصائدَ منْ لغةٍ لأُخرى عبرَ جِسرِ المحبَّة والفتنةِ أَيضًا، وتأَمُّلِ المغاراتِ النَّيئةِ، والهجرةِ بينَ فجواتِ المعنَى والعتباتِ الَّتي تُفضي إِلى فضاءاتِ القصيدةِ البهيَّةِ.
اختيارُ النُّصوصِ الشعريَّةِ عمليَّةٌ متعبةٌ؛ الحواسُّ تشحذُ ذاكراتِها الطِّفليَّةَ، والقلبُ ينصتُ لمتاهِ الكلمةِ فِي عنفِ تواجدِها داخلَ غرفةِ النَّصِّ. إِنَّها قِيامةُ النُّصوصِ الَّتي تقودُ شهيَّةَ القلبِ إِلى بابِ الرَّغبةِ، ومفتاحِ المعنَى، وبوصلةِ العينِ، وخرائطِ شهوةٍ مصاحبةٍ البياضَ فِي تحرُّكهِ وجمودِه، وحزنهِ وسعادتهِ أَيضًا.
شاختِ اليدُ، قبلَ أَوانِها، فِي تتبُّعِ مساراتِ شاعراتٍ أَتعبتهنَّ غبطةُ القصيدةِ، وهيَ الملثَّمةُ بأَلفِ حجابٍ وستارٍ، والشَّاعرُ والمترجِمُ محمَّد حلمي الرِّيشة مثلَ حكيمٍ، أَو ممسوسٍ، أَو مجنونٍ، أَو طفلٍ، يفتحُ بابَ الغيابِ علَى زبدِ المعنَى، ولاَ دليلَ لهُ فِي ظلمةِ التِّيهِ والسَّهوِ والمحوِ والمجهولِ، إِلاَّ نورٌ ضئيلٌ يشعُّ منْ بهوِ القصيدةِ مضيئًا عتمةَ النَّفسِ.
حافيًا يتأَبَّطُ محبَّتهُ لحكمةِ الـ"هايكو"، وإِن أُدميتِ القدمُ فِي الممشَى والمسيرِ نحوَ الفتنةِ لإِطفاءِ شهقةِ الرُّوحِ.. مضيئًا فِي ترجمتهِ.. ساحرًا فِي نصَّه؛ يُدرِّب مَنافي الكلماتِ علَى التَّأَقلمِ معَ قدَرها الجديدِ، ومعَ بياضِها المختلفِ، ومعَ أَرضِها المغايرةِ... نداءٌ يُرحِّب بمزارِ التَّرجمةِ فيِ حضرةِ الشِّعرِ."