شاعر و عالم دين من القرن الثالث عشر يوم الأربعاء 16 مايو2007 على الساعة الثامنة مساء في بيت الشعر إبراهيم العريض | |
“عشق الصور ”
تتناول مكانة الصور في الإسلام
يوم الثلاثاء 15 مايو 2007 على الساعة الثامنة مساء
في مركز الشيخ إبراهيم
***
عن
عبد الوهاب المؤدب هو أيضا منتج البرنامج الأسبوعي – ثقافات الإسلام –أو الثقافات الإسلامية على موجات الإذاعة الفرنسية راديو فرنسا.
********************
"ضد الخطب"
عبد الوهاب المؤدب على خطى فولتير
رشيد بوطيب
الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب، التفكير ضد المؤسسة
عبد الوهاب المؤدب مفكر شجاع من طراز رفيع، لأنه لا يتوقف عن مسائلة المحظور والمخاطرة بتفكيره في دروب مظلمة. إنه الطفل الذي صرخ يوما: "القيصر عار"، فاضحا الأقانيم الظلامية التي تقوم عليها الثقافة العربية المعاصرة.
عبثا تحاول الثقافة الدينية الأرثوذوكسية، بسننيتها الإكراهية، أن تخرس صوت الفكر الحر، الذي ميز أيضا ولقرون طويلة الثقافة الإسلامية. هذه الثقافة التي لم تنتج فقط ابن حنبل وابن تيمية ولكن أيضا فيلسوفا مثل الكندي وشاعرا مثل أبي نواس وكاتبا مبدعا مثل ابن المقفع ومتصوفا من قامة الحلاج أو ابن عربي الذي جاهر في التجليات بالقول بأنه يجد أحيانا من القديسين الطيبين في الكنائس والبيع اليهودية، ما لا يجده في المساجد حين تمتلئ بالحاقدين. الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب، كرس أغلب كتبه للدفاع عن النهج التنويري في الثقافة الإسلامية، الذي يحاول التيار السلفي حجب معالمه وإخراس صوته والحط من شأنه. وكان للعمليات الإرهابية التي ضربت الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر وقع الصدمة عليه. دفعته إلى حشد أسئلته ومراجعة الكثير من اليقينيات التي تؤبد تبعية العقل العربي لتقليد ديني مستقيل، فجاء كتابه "مرض الإسلام" الذي عرف نجاحا كبيرا، ليس فقط بسبب أسئلته التي يطرحها ولكن أيضا لجرأته في خدش نرجسية الإنسان العربي، وفضح أمراضه وتشريح عقد النقص لديه، قبل أن يصدر مؤخرا كتابه "ضد الخطب" الذي يذكرنا بكتابات فلاسفة الأنوار في فرنسا، وكفاحهم من أجل حرية العقل، وحرية الفرد، وحرية العقيدة.
"مرض الإسلام": التفكير في زمن التكفير
Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift : المرأة، أول ضحية للثقافة الأورثدوكسية المتزمتة
سيرا على خطى فولتير، يرى المؤدب ضرورة عرض مرض الإسلام على العقل، لأن من شأن العقل وحده أن يعري الخرافات والنزعات المتطرفة التي تتدثر برداء الدين. والمؤدب يعلن منذ الصفحات الأولى لكتابه "مرض الإسلام" أنه استعار كلمة "مرض" من فولتير حين حديثه عن المتطرفين المسيحيين. ليعرج على رواية "الدكتور فاوست" لتوماس مان، والتي ينتقد فيها توماس مان الروح البروميثية التي سيطرت على الفن الألماني بل وعلى الشعب الألماني، وكيف انتهى به المطاف إلى السقوط في الفاشية.
المؤدب يحذر من القراءة الحرفية للقرآن، التي تخرس الأبعاد الأخرى للنص، وتتعامى عن حقيقة أنه نص مفتوح ومتعدد، لأن القراءة الحرفية هي أساس التطرف. فاختزال النص في تأويل محدد، يقود لا ريب إلى إعلان بعضهم امتلاكهم لحقيقة هذا النص، ورفضهم وتكفيرهم لكل الآراء والتقاليد والتأويلات الأخرى، وهو ما عاشه الإسلام ويعيشه اليوم، كما في الصراع الدائر بين السنة والشيعة، أو كما في الحملة الوهابية على التصوف. لكن الكاتب والمفكر التونسي، ينتقد من ناحية أخرى العقلية الغربية المتمركزة على ذاتها، والتي تظل دائما مستعدة لخيانة مبادئها الديمقراطية، إذا ما اصطدمت بمصالحها. وهو يضرب مثلا بالتحالف الأمريكي السعودي، وما جره هذا التحالف على المنطقة من خراب. كما يستشهد بعالم القانون الألماني كار ل شميث وانتقاده للديمقراطية الغربية، التي تتستر خلف ستار العالمية، في حين أنها لا تسمح للشعوب الأخرى بجني ثمارها. فلا وجود لعدالة وديمقراطية وفقا لشميث إلا داخل الدول الاستعمارية، أما الشعوب الخاضعة لها، فليس لها الحق في ذلك. إذ، كما يقول:"الشعوب المستعمرة مقصية سياسيا، مندمجة قانونيا فقط بالمركز المستعمر".
ابن تيمية وابن رشد: إسلام ضد الإسلام
Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift : عمليات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، العالم يستيقظ على خطر الإرهاب، العقل، الجسد، التسامح، تلك هي الأسس التي قام عليها ودافع عنها الخط التنويري في الثقافة الإسلامية، وهي لا ريب الأسس التي ستعمل الثقافة الأرثوذوكسية، بدءا بابن حنبل ومرورا بابن تيمية وانتهاء بجهاديي الشوارع المعاصرين على محاربتها، الحط من شأنها بل ومحاولة قبرها. وحين يتحدث المفكر التونسي عن التسامح في الإسلام، يعود أساسا إلى مدرستين: مدرسة ابن عربي الروحانية وابن رشد العقلانية. ابن رشد الذي دافع في "فصل المقال" عن ضرورة وشرعية التعلم من الآخر كيفما كان عرقه أو دينه، الاعتراف بفضله إذا أصاب والتسامح معه متى أخطأ. ولهذا يرى المؤدب بأن الحركات الإسلاموية المعاصرة أكبر خطر يتهدد الإسلام كحضارة وثقافة، لأنها تغفل عن عمد دور الثقافات الأخرى في إغناءها من جهة، وتتجنب عن قصد التيار العقلاني في الثقافة الإسلامية من جهة ثانية، وتحشر، انسجاما مع قراءتها الطهرانية المريضة، كل قراءة مغايرة في خانة البدعة، وذاك شأن ابن تيمية، زاد الأصولية الذي لا ينفذ، والذي كفر المتصوفة واعتبرهم أكثر خطرا على الإسلام من المسيحيين، لأن حلول اللاهوت في الناسوت لم يحدث إلا مرة واحدة في المسيحية، في حين أنه دائم الإمكان لدى المتصوفة.
رفض الآخر هو أحد أمراض الإسلام المعاصر أما المرض الثاني في نظر المؤدب، فيتمثل في رفض الجسد، وتحقيره والحط من قدره، وعدم الاعتناء به. فالجسد في الرؤية الأصولية التمامية عورة يجب سترها، هذا الجسد نفسه الذي احتفت به الثقافة الإسلامية في عصورها الذهبية، كما تحدث عن ذلك كتاب أوروبيون كبار من مثل ديدرو في "الحلي المفضوحة" أو فلوبير في "الرسائل" أو موباسان الذي أعاد بنفسه كتابة ترجمة "الروض العاطر" للشيخ النفزاوي، بل وحتى نيتشه في "ضد المسيح" الذي انتقد طهرانية المسيحية وكتب يقول عن قرطبة بعد طرد المسلمين منها:"هنا نحتقر الجسد والنظافة، فأول ما قام المسيحيون به بعد طرد العرب هو إغلاق الحمامات الشعبية التي وصل عددها في قرطبة فقط مائتين وستين".
"ضد الخطب": شهادات على العصر
Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift : مشهد من مدينة أغادير المغربية
يضم الكتاب الأخير لعبد الوهاب المؤدب أكثر من مائة مقال، تتناول قضايا الساعة في العالم العربي، من عبادة الشخصية في "الجملوكيات" العربية، إلى "الخوف من البحر" في الثقافة الإسلامية، مرورا بقمع المرأة، ورفض كل أشكال المثاقفة والحوار. في أحد أهم مقالات الكتاب "عن الشرق والغرب"، يتناول المؤدب الوضع الحالي في دول شمال إفريقيا، مدافعا عن فكرة أن هذه البلدان ظلت عبر تاريخها بلدانا مفتوحة على الثقافات الأخرى، تريد الأصولية المعاصرة أن تخرس هوياتها الأخرى وأن تجعلها تنطوي على هوية واحدة أو فهم ماضوي للهوية. المؤدب يرى أن دول المغرب شرقية وغربية في نفس الآن، فأحد كبار أباء الكنيسة أوغسطينوس جزائري ودول المغرب ساهمت في الحضارة الرومانية وكانت جزءا منها، كما أن الاستعمار عمق من تلك العلاقة، خصوصا أن اللغة الفرنسية، فتحت أعين بلدان المغرب على الحداثة. الأصولية المعاصرة لا تحاول فقط تجريم الأساس الغربي للهوية المغاربية ولكن تحاول الإجهاز أيضا على الإسلام المغاربي الذي يتناقض كليا والإيديولوجية الوهابية الرافضة لكل أشكال التعدد، حتى تحت سقف الدين الواحد.
المؤدب يخص بنقده أيضا في هذا الكتاب السياسة الأمريكية الراهنة، التي تحولت عن البراغماتية إلى الإيديولوجيا مع هيمنة المحافظين الجدد على آلية صنع السياسة الخارجية الأمريكية. هذه الإيديولوجيا التي تتستر في حديثها عن ضرورة تحرير شعب مثل العراق من الديكتاتورية خلف خطاب أخلاقي، متماهية في ذلك مع المشروع الكولونيالي السابق، الذي ظل أصحابه يعتقدون بضرورة تحضير الأعراق الأخرى. ومع ذلك فإن المؤدب لا يرى التدخل الأجنبي في العالم العربي شرا مطلقا، وهو يستشهد في هذا السياق بهيغل الذي رفع قبعته تحية لنابليون حين كان يعبر وجيوشه شوارع يينا، وكيف قادت حملة نابليون ألمانيا إلى التحرر من أغلالها الروحية والانفتاح على العصر، ضدا على كاتب مثل كلايست الذي دعا باسم الوطن والأمة وباسم قيمه البروسية إلى الانتفاض ضد نابليون. فهيغل اعتقد وعن حق بأن نابليون جاء إلى ألمانيا بأفكار وقوانين جديدة ضرورية لبناء دولة حديثة تماما كما يعتقد المؤرخون بأن حملة نابليون على مصر كان لها فعل الصدمة على الشرق، الصدمة التي أيقظته من سباته العميق.
***
"أوهام الاسلام السياسي" لعبد الوهاب المؤدب
فتح الاقفال
سيل الأدبيات المتكاثرة في لغات العالم، والمتخذة هيئة كتب ونصوص او مقالات وملفات تتناول كلها بهذه الطريقة او تلك صورة الاسلام وكينونته بعد الحادي عشر من ايلول، ظاهرة تستحق التوقف، لكن النصوص المتعلقة بهذا الموضوع تتفاوت قيمتها بين ما هو "فاست فود" صحافي وما هو فكري رصين وغني بالموضوعات والدلالات. ومن هذه الكتب "اوهام الاسلام السياسي" لعبد الوهاب المؤدب لدى "دار النهار" في الصادر العربية.
يجد المؤدب، كالكثير من الكتّاب والباحثين، ان اعتداء 11 ايلول 2001 الذي ضرب عمق الولايات المتحدة الرمزي يشكل الذروة القصوى في سلسلة اعمال ارهابية سلكت خطا تصاعديا، كانت نقطة انطلاقه في العام 1979 الذي شهد انتصار الخميني في ايران واجتياح الجيش السوفياتي افغانستان. لقد كان لهذين الحدثين نتائج عززت الحركات الاصولية وساعدت في نشر عقيدتها. ومن اجل فهم تشكل هذه العقيدة يلزم الغوص في عمق الماضي للتحقق من الكيفية التي تهيأت بها القراءة الاصولية لكل من القرآن والسنّة. يستعيد عبد الوهاب المؤدب الطريقة المتبعة في علوم التفسير والفقه كي يبيّن اين يفسح هذا النص للتعصب او لتشجيع اولئك الذين لا يحتفظون من روحية الاسلام الا بالدعوة الى الاحتراب والجهادية. فالاصوليون الاسلاميون عمموا التكفير والتحريم والجهاد، في حين ان السنّة النبوية طالما كانت حذرة في مقاربتها هذه المسائل. فيصير من الملحّ تتبع تنامي هذا التكوين الذي انتج في النهاية مسوخا نسوا اهداف الوجود، وحولوا السنّة القائمة على مبدأ الحياة ومفهوم النعيم، سباقا محموما نحو الموت.
ففي يوم انهيار برجي نيويورك وسط غمامة هائلة من الغبار العدمي، وفي اللحظة التي قضى الوف الابرياء وبعضهم قافزا من النوافذ، كانت قنوات التلفزة تعرض مشاهد البهجة الآتية من فلسطين ولبنان. هذه الصور الجارحة انسانيا والمدمرة سياسيا، تم احتواؤها في وقت لاحق، ولهذا البؤس اسباب داخلية واخرى خارجية، فإذا كان التعصب هو داء الكاثوليكية، والنازية مرض المانيا، فمن المؤكد ان الاصولية هي داء الاسلام. اما في ما يتعلق بالعوامل الخارجية فيجدر القول انها لم تكن اساس الداء الذي يفتك بجسد الاسلام، لكنها من غير شك العنصر المحفّز او ان حدة الداء تضاعفت بسببها.
فجيعة زوال الغلبة
لا شك ان جسد "الامة" الاسلامية منهك بالداءات وليس بداء واحد، واذا كان داء الاصولية هو الاكثر سطوعا خاصة بعد العمليات الارهابية امام كاميرات التصوير، فهناك الداء النفسي اذا جاز التعبير، اذ لا يزال العالم الاسلامي مفجوعا بزوال غلبته. فقد سبق لهذا العالم ان شهد حقبة امبراطورية عظمى تزامنت واندفاع فتوحاته او غزواته (وهي استعمارات بالطبع). اما انحسار الاسلام فكان قد بدأ في القرن الرابع عشر، لكن الاسلاميين لم يدركوا تأخرهم عن الغرب الا في اواخر القرن الثامن عشر مع حملة بونابرت على مصر. فالمسلم الذي كان يدّعي التفوق على الغربي او التساوي معه على الاقل، لم يتفهم المسار الذي اوصله الى هذا الدرك في مواجهة ندّه الاوروبي. ومذاك سيتولد لدى العربي المسلم شعور بالحقد حيال الغرب. ذلك لأنه تحوّل شيئا فشيئا الى رجل "لا" الفاقد للمبادئ والمكتفي بردة الفعل، يراكم الحقد وينتظر الوقت المناسب للانتقام، فمن اريستوقراطي سيد، تحول المسلم شيئا فشيئا الى حقود مكبوت، يعتقد نفسه اعلى من الظروف التي ينوجد فيها.
على ان عبد الوهاب المؤدب يبدو مثل القوميين العرب الطامحين الى حداثة من خلال التغني بنجاحات العرب، في حقبة سابقة. ان تغنيا كهذا لا يعني الا التسليم بقياسات تؤكد تفوق الغرب الآن. في المقابل، تلجأ الاصوليات الاسلامية الى اتهام الغرب بالانحطاط و"الجاهلية"، جملة وتفصيلا، مع تأكيد ان الحقائق العلمية محتواة اصلا في النص المنزل.
لنقل ان العرب يتحدثون دائما عن الماضي فيمجدونه، وهذا داء بالطبع، متناسين خمسة قرون من الانحطاط! جميعهم يرجعون الى غرناطة وقرطبة لأنها كانت فترة مجيدة في نظرهم، او "الجنة الارضية"، وهم لا يستخلصون تجربتهم من فترة الانحطاط التي امتدت خمسة قرون، منذ احراق كتب ابن رشد. لكن عبد الوهاب المؤدب يقول ان من الخطأ الاعتقاد ان الطاقة الفكرية والخلاقة في الاسلام قد نضبت بسبب غياب ورثة لفكر ابن رشد. ان الحضارة الاسلامية فقدت خصوبتها في نهاية القرن الثاني عشر، بالتزامن مع سقوط مذهب ابن رشد، مع ردة فعل الفقهاء التي اثارتها اعماله الفلسفية، اذ سيطر على الفكر ابتداء من القرن الخامس عشر شيء من القصور صار اكيدا. هل كان لابن رشد مذهب؟ يقول مالك شبل في كتابه "مفهوم الفرد في الاسلام": "صحيح ان الاسلام عرف فلاسفة كبارا، لكن عظمتهم ترتكز خاصة على مهارتهم كمترجمين كبار، وعند الاقتضاء كمجادلين بارزين. لكن اطروحاتهم كانت دائما مسالمة وبدون اي مواجهة بالغة مع النصوص المؤسسة". وهو بذلك يخفف من اثارة بعض الباحثين العرب والغربيين الذين يشيدون بهؤلاء الفلاسفة، لأنهم ليسوا سوى فلاسفة على الموضة. يتساءل مالك شبل على اي اساس كان ابن رشد صوريا محضا ولم يطرح ابدا اي تساؤلات حول النظام الذي يعيش فيه؟ فقد كان موظفا كبيرا ووزيراً للعدل في النظام الذي كان يعيش فيه، ويتمتع بمنافع كثيرة، وخلال فترته كان الانحطاط داخل العالم الاسلامي قد بدأ، وكان عليه ان يلاحظ ذلك، لكنه لم ير شيئا، وهذا دليل على انه فيلسوف نظام. هل نقول ان داء الثقافة في النظام؟
الداء العضوي؟
يبدو الداء في الاسلام عضويا، اذا جاز التعبير، هذا ما يبيّنه مالك شبل الذي وجد ان الاسلام ديانة منظمة، وعالم قائم في ذاته. فالمسلمون لديهم نظرة كاملة الى العالم، كما لديهم نظام اخلاقي كامل بقيمه وممارساته وتمثيلاته. في زمن القبيلة كان في امكان الكثيرين من الشعراء والناس، التكلم ب"انا". جاء الاسلام وقال "لا"، وكان ذلك مثابة قطع الطريق على التمرد. فالله يقول لنا: "وحدي القادر على الكلام، والشيطان لا يسعى سوى لمناقضتي". وفي جميع الحالات، يقول مالك شبل انها ميزة الطائفة المسلمة: اغراق ال"انا" في حوض ال"نحن". وفي هذا السياق، من الطبيعي ان يوضع الافلات الفردي بسرعة في سلة المحرّمات كهرطقة. جميع الحركات الانشقاقية كانت صادمة للاسلام لأنها بالتحديد تعيد ابتكار الحل الفردي، او الحل الرافض للعقيدة الموجودة. اذاً، ال"انا" كانت مكروهة ولا تزال حتى اليوم. فالشخص العربي المذهب يقول: "هو" او "نحن" ويعتبر ال"انا" اساءة الى الله. هل نقول ان اعطاء الحرية للفرد كان سببا اساسيا للحضارة؟
في زمن الخليفة المأمون، ازدهرت الثقافة الفقهية والعلمية ثم جاء المتوكل وقام بعكس ذلك واضطهد المعتزلة. ومنذ صدور "الوثيقة المتوكلية" (في تعبير نصر حامد ابو زيد) في ذلك الزمن حول العقائد الصحيحة لأهل السنّة، والتي تتضمن ان القرآن ازلي قديم، تجمدت المشكلة واوقفت الاسئلة لصالح مؤسسة لاهوتية هي الى حد كبير اشعرية حنبلية، وهي الى حد ما لبّ الداء الاسلامي و"النبع" الرئيسي للتيارات الاصولية. فأبن حنبل هو مؤسس احد المذاهب الفقهية الاربعة في الاسلام السنّي، وهو في مذهبه يشدد اكثر من غيره على العودة كلياً الى النص، والسير على خطى السلف الصالح، رغبة منه في تطبيع النموذج الذي نشأ في المدينة. وفي الفترة الفاصلة بين ابن حنبل والقرن الثامن عشر، الذي شهد قيام الدعوة السعودية على يد ابن عبد الوهاب، يطلع المؤدب على ما يمثله ابن تيمية كحلقة وسط. فهو من اتباع ابن حنبل الراديكاليين، عاش فترة عصيبة مر بها الاسلام (والمقصود بالفترة العصيبة الظروف المتمثلة في الغزو المغولي ونهب بغداد واسقاط الخلافة)، وقد ولدت تلك الحالة احساسا بدنو قيام الساعة، وهو وضع شعر معه المسلمون ان دينهم مهدد حتى في وجوده. وعلى هذا عاد ابن تيمية الى الذات الدينية الراديكالية، واخذ على عاتقه صقل النص وتنقيته من مختلف المعاني التي لا تعجبه، وبذلك طرد كل ما صادفه من انعكاسات للفلسفة والمؤثرات اليونانية على الخطاب الديني، وشهّر بعدد من المذاهب الباطنية معتبراً انها من البدع بسبب ما توليه من اهمية للتأويل. واضافة الى ذلك فهو أولى موضوع الجهاد اهتماما متميزا في كتابه "السياسة" وساوى بينه وبين الصلاة.
اما محمد بن عبد الوهاب، صاحب الدعوة الوهابية التي تنتسب اليه، فهو القائل، في عمق الجزيرة العربية، بنظرية ابن حنبل المتقاطعة مع نظرية ابن تيمية، وفي مسقط رأسه نجد، التحق بآل سعود الذين عملوا على الامساك بالسلطة عبر السيطرة على الصحراء العربية، لكن محاولتهم الاولى باءت بالفشل. هكذا، وفيما كان عصر الانوار يتألق في اوروبا في خضم القرن التاسع عشر، انطلقت هذه الحركة التي ستساهم بعد قرنين في ولادة المملكة السعودية الحالية في العام ،1932 بعد اعوام قليلة من محاكمة علي عبد الرازق في مصر بسبب كتابه "الاسلام واصول الحكم"، وطه حسين بسبب "في الشعر الجاهلي". كان الكاتبان من دعاة التنوير والتحديث والسير في الركب الاوروبي، لكن هذه المحاولة النهضوية فشلت، ويعيد عبد الوهاب المؤدب السبب الرئيسي لاخفاق هذه النهضة الى المعوقات التي زرعها الاوروبيون على طريق محمد علي. فمع زمن التوسع الاوروبي كان من المفترض بأي طريقة منع قيام اي قوة اقليمية على مشارف القارة العجوز، تكون منافسة لسوق في حالة الغليان، ويستخدم السلاح في سبيل حمايتها.
الاوروبيون أيضاً أخطأوا
واذا كان العرب قد تأخروا عن الاوروبيين ولم ينتبهوا، فإن سيمون فايل حذرت في نص لها ينطوي على نظرة ثاقبة من "ان امركة اوروبا ستحضّر على الارجح لأمركة الكرة الارضية". لم يدرك الاوروبيون ذلك، وشيئا فشيئا حلت الامركة مكان الاوربة، وانتهى زمن الاستعمار انما في غفلة، اذ كان رفض الاعتراف بأن زوال الاستعمار هو احدى النتائج الحتمية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تحوّل العالم من الزمن الاوروبي الى الزمن الاميركي، ووسط هذا التحول كان العالم العربي يغرق في التخلف. وتولد من نتائجه ثقافات، فالافغاني وتلميذه محمد عبده كانا معارضين سياسيا للهيمنة الاوروبية (كما تجلت في السيطرة الاستعمارية). لكنهما كانا في خصوص الثقافة الفكرية مفتونين كليا بالثقافة الغربية وخاضا معركتهما ضد الاستبداد المحلي انطلاقا من المقولات السياسية الموروثة من عصر الانوار الاوروبي. وقد قام مشروعهما الحضاري على استعادة الامجاد عبر التوفيق بين المساهمات الغربية والاخلاص للتراث.
الاعجاب بالغرب لم يكن دائما بالنسبة الى مفكري النهضة، فهناك مؤشر ذو زمنين يبيّن الانزلاق من الاعجاب بأوروبا الى رفضها. فالشيخ رشيد رضا، تلميذ محمد عبده ووارثه الروحي، غيّر في آخر حياته رأيه في الوهابيين بعدما كان اعتبرهم في مقالات الشباب اصحاب بدعة، وكانت له الجرأة كي يعدّل من موقفه عبر تقريظه لهم حتى قبل ان ينتصروا في الجزيرة، معتبرا اتباع ابن عبد الوهاب ممثلي السنّة بعدما كان رأى فيهم اصحاب عقيدة منحرفة. غير ان هذا التراجع يكشف عن تطوّر لدى رشيد رضا في اتجاه موقف اكثر تحفظا، بعيدا عما حققه معلّمه محمد عبده من اختراقات، وخصوصا في ما يتعلق بالاخذ من الغرب. فهو من جهته شدد مجددا على ان واجب المسلم ان يقاوم تأثيرات الغرب الاخلاقي عليه وان يواجهه بموقف اخلاقي يبيّنه انطلاقا من جذوره الخاصة. هذه الثغرة هي التي سيتوسع فيها في مرحلة ثانية حسن البنا، مؤسس "الاخوان المسلمين". ففي نص البنا يمكن تبيين المعاداة للغرب التي يجري التعبير عنها عبر خطاب بدائي يفرض اقتناعاته كأنها من المسلّمات. ان تعميم الخطاب السطحي يبدو مؤشرا الى البؤس الذي ينم على احد عوارض داء الاسلام. ويجد القارئ نفسه مع هذا الاستشهاد، ازاء نموذج مثير للشفقة من الاطروحات والتفكرات الساذجة التي تلقفتها العقول الحاقدة.
وقد ظهر مفكرون آخرون، اقل فظاظة من النزعة نفسها، ففضلوا هذه الشروح عبر عملية تحريف وانتهاك للمفاهيم. هذا ما فعله الباكستاني ابو علي المودودي وفي درجة اقل تلميذه المصري سيد قطب، وهما صوتان كان لهما صدى بالغ التأثير في المحافل الاصولية الحالية التي اعتمدت العنف وسيلة مثلى من وسائلها للوصول الى الحكم والسيطرة على الدولة.
الاسلمة الشمولية
مقت المودودي الثقافة الشعبية للأميركيين، بما فيها موسيقى الجاز التي يعبّر فيها السود عن غرائزهم. في حين كان قطب قبل اسلامه ناقدا ادبيا قريبا من عباس العقاد، مناهضا لطه حسين، وفدياً، لم "يتأسلم" الا في الولايات المتحدة التي سافر اليها موفدا من وزارة المعارف عام ،1948 لدراسة النظام التعليمي. استيقظ في عزلته الاميركية على اسلام الجماعة وايمان الجماعة، وكانت مشاهد قسوة الحياة على الضعفاء والاذلال الظاهر في الجنس، من دواعي عودته الى الاسلام، ووصف كل ما هو تابع للدولة بأنه جاهلي وينبغي "الجهاد" ضده. في المقابل ينقل المودودي السلطان الى الله، ويحيل مجمل الحقل السياسي على الحقل الالهي، ويخوض الحرب ضد الانظمة السياسية انطلاقا من هذا التسويغ. يأخذ على الغرب موت الله لكنه اسس لموت الانسان. المودودي وسيد قطب من دعاة اسلمة شمولية نجد اثرها عبر التحول الذي يصيب الجسم الاجتماعي في علاقته بالملذات والمتعة. فالمجتمع الاسلامي انتقل من التقاليد القائمة على حب الحياة الى الاحتشام الذي يذخر بالكراهية للمشاعر الحسية. ف"نادرا ما نجد ثقافة دينية تهتكية الى هذه الدرجة في بنيتها، واباحية تجاه اشكال الملذات الارضية الاكثر تنوعا" (مالك شبل). انها ثقافة البعد الارتعاشي. لكن في الزمن الاصولي، باتت الحشمة مقياسا للحظوة بالاحترام. فأي انغلاق هذا الذي تشهده الديانة التي طالما سحرت الاجانب باحترامها للجسد، وبدعوتها الى المتعة التي هي من اسس عقيدتها؟
مرضى العدمية والحقد
يقترح الاسلام الاصولي مدينة محتشمة، سكانها مرضى بالعدمية والحقد، في حين ان الجسد العربي قد تحرر من الضغوط الموروثة، وهو انقلاب لا يعيه المسلمون، ويقترحون مجتمعهم الفاضل المضاد في نظرهم للمجتمع الغربي الموسوم بالرذيلة والشيطان. وفي ظل هجاس النقاء الجنسي، تتحول المرأة رمزا للهجوم الغربي بقدر ما تتحول المرأة المسلمة هدفا له. هذه هي الرؤية (الدائية) الجذرية المرعبة التي تؤسس لمحو كل فكر وتجعل العالم مثل صحراء، تطالعنا مشاهدها الموحشة حينما نلقي نظرة في الصفحات التي دبجها سيد قطب. فكل ماضي البشرية وحاضرها متهاو، وكل فكر، وكل تصور، هو من التقصير بحيث يستحق التدمير، اذ يجب القضاء على كل شيء باستثناء كلام الله. هذا موجز لأحد كتب سيد قطب، حيث خصائص الانسان "ميتا - حيا" على هذه الارض المحروقة.
ومن ربط هذه النظرية بالمذهب الوهابي، تشكلت الاصولية الاكثر شؤما، ومنه اصبح معتنقوها يتكاثرون في كل زاوية وخلاء، على وجه الارض. والنافل (بحسب المؤدب) ان الاصولية تزدهر على انقاض التجارب الفاشلة، وهذا اضافة الى انهيار مشروع القومية العربية في صيغتها الناصرية بعد هزيمة ،1967 حيث يلاحظ نصر حامد أبو زيد في هذا المجال ان الحداثة بعد هذه الحرب لم تعد مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، واصبح التراث هو المتن الذي يؤول عليه، وتالياً انفضّ نهائياً مشروع النهضة، وانفتحت ابواب الجزيرة امام أشباه المتعلمين، خريجي الازهر، الذين هاجروا بكثافة سعياً وراء الكسب المادي. في تلك المرحلة تعمقت الصلة بين الاصولية والوهابية. لكن الامر استغرق حتى اوائل الثمانينات كي تتحقق عملية الربط الثانية، الاكثر حضوراً من جهة اخرى، لكونها تمت على الارض التي شهدت حرب افغانستان، وفي باكستان، البلد نفسه الذي نشر فيه المودودي عقيدته بين قومه وبلغتهم. ومن هذا الربط المزدوج نشأ حكم "طالبان" في افغانستان وتشكل تنظيم "القاعدة" بزعامة الوهابي اسامة بن لادن والمصري ايمن الظواهري.
الغرام المتهاوي
لا بد من الاقرار بأن الاصولية المعاصرة هي في جانب منها نتاج التحالف بين السعودية والولايات المتحدة الاميركية من خلال زواج المصلحة القائم بينهما. فما بين الدولتين يشكل لغزاً اجتماعياً، فهما غطستا في ماء واحد هو الدين. هذا الغرام الاميركي - السعودي لا يهتز الا عندما تبرز شخصية "وهابي الوهابي" (على طريقة يمين اليمين او يسار اليسار). هذه الشخصية تهاجم الطرف الوهابي الذي لم يكن اميناً للعقيدة. وابن لادن هو "أيقونة" هذه الرؤية وليس لديه مبدأ سوى رفض الآخر. يتكامل العداء عنده حتى يصير أقرب الى العنصرية والفاشية، وقد تجسد ذلك في عملية تدمير برجي "مركز التجارة العالمي" في نيويورك. لا شك ان الذين نفذوا الاعتداءات الوحشية يعتقدون انفسهم شهداء في "الجهاد العالمي" وانهم ليسوا امواتاً بل احياء عند ربهم. تلك هي القناعة التي تحملهم على التضحية بالنفس، وتجعلهم يستنبطون اسطورة الشهادة في اخراج بدائي يدفعهم الى تطهير جسدهم المنذور سلفاً للعرس السماوي.
لا تجادلْ، دمِّر
يحاول عبد الوهاب المؤدب في كتابه فك تفسير الجديد - القديم، فلطالما اثير موضوع السرية في محاولة لفهم الطريقة التي تصرف بها ارهابيو 11 ايلول.
يقول المؤدب انه ينبغي اتخاذ الحذر في تحليل هاتين الخاصتين وعدم السعي الى تفسيرهما بالعودة حصراً الى تاريخ الاسلام وحضارته. فهؤلاء الارهابيون بقدر ما هم نتاج تطور داخلي خاص بالاسلام، هم ايضاً ابناء عصرهم وابناء عالم تحول بفعل الامركة او العولمة، وذلك على رغم ان كتاب برنارد لويس عن "الحشاشين" يواجه القارئ بحالات مماثلة مقلقة يمكن اسقاطها على سلوك ارهابيي "القاعدة". فالعناصر الذين قاموا في 11 ايلول بعمليات القتل الانتحاري يمكن فهمهم ايضاً في ضوء عدمية دوستويفسكي. يتصور الكاتب ما يعيشه، قريباً مما عاشته الشخصيات الموصوفة في كتاب "الممسوسون". وبدوره الكاتب البريطاني ماليس روثفن، وجد في كتابه "غضب في سبيل الله" ان 11 ايلول لم يكن بالنسبة الى هؤلاء تعبيراً عن بطولة اسلامية بقدر ما كان تعبيراً عن يأس نيتشوي. ونيتشه، كما نعلم، صوّر البطل العدمي في "العلم النضر" كمجنون يبحث بقنديله عن الله "الذي اغتلناه". وعلى هذا فإن ارهابيي 11 ايلول هم غاضبون، يذهبون في غضبهم بعيداً حتى لكأنهم يستجيبون الشعار الشهير لجماعة بادر ماينهوف اليسارية المتطرفة التي تقول: "لا تجادلْ، دمِّر". اما الفيلسوف اندره غلوكسمان في كتابه "دوستويفسكي في مانهاتن"، فقد استعار تعريف ليوشتراوس للعدمية في وصفها رغبة في تدمير الحاضر واجتثاث ممكناته من دون ان تترافق هذه الرغبة مع أي تصور واضح لما سيحلّ في مكان الهدم. ان العدمية من خلال 11 ايلول تعني التوق الى العدم من خلال التدمير المعمم والمتضمن تدمير الذات والآخر.
كما ان النسبة الى الاسماعيلية التي قدمت كمدخل لتفسير اعتداءات "القاعدة"، تنطبق على العمل الارهابي في حد ذاته اكثر مما تنطبق على جذوره الاصولية. فمن خلال كارثة نيويورك وُظّفت مجدداً اسطورة الحشاشين لتوضيح الجريمة، التي كان الدافع اليها سياسياً، وهي تدين بنجاحها لتضافر العمل السري والتضحية بالذات. وهذا الارجاع المتعدد الشكل الى الاسماعيلية غربي اكثر منه اسلامياً، هكذا يجد المؤدب. غير ان هذه الاسطورة كانت وُضعت في مسارها فاستغلها عدد من الكتاب وسلّطوا الضوء عليها في اعمالهم. وليم بوروز في روايته "مدن الليالي القرمزية" يتخيل اميركا وقد سقطت في ايدي قراصنة ماجنين، وهو يهديها الى حسن الصباح سيد الحشاشين. يقول المؤدب ان استلهام هذه الشخصية في سياق هذا النص الادبي العابث، يبدو على صلة اكثر بالنظرية الباطنية التي تنطوي عليها نظرية حسن الصباح. في المقابل، يستخدم فلاديمير بارتول، في روايته "آلموت"، مفهوم "النداء الداخلي" الذي استخدمه ماكس فيبر ليفسر الكيفية التي سيطر بها الصباح على اتباعه ووجههم لتنفيذ مخططاته واهدافه. لكن اللافت ان الافق العقائدي للارهاب السياسي، الذي ابتدعته الاسماعيلية، لا يمكن ان يكون على صلة بالافق العقائدي الذي يوجه سلوك الاصوليين الوهابيين المتكاثرين في شبكة "القاعدة". فهم لا يحلمون الا بفرض الشريعة في العلم، تلك الشريعة التي قوّضها الحشاشون، الذين يولون كل اهتمام لتقديس المعنى الباطني. في المقابل، يبدو الاصوليون مهووسين بالمعنى الظاهر. ومن هذا المنطلق لا يلتقي الاثنان.
في الديانات التوحيدية جانب قتالي متعصب عنيف. هذا هو داء الاسلام الذي يحبذه الاصوليون، والذي ظهرت عوارضه عبر التاريخ ولا تزال قائمة حتى ايامنا، ويمكن تبيّنه من تصرفات الاصوليين واقوالهم. لكن في المقابل ما هو الدواء؟
في نظر عبد الوهاب المؤدب، ان الاسلام كان يحتاج رجلاً من نوع الشاعر دانتي، يتحلى بالجرأة الفكرية فيواكب بكتاباته الواقع السياسي كما تجلى في الواقع التاريخي المضاد لابن تيمية. والارجح القول ان الاسلام يحتاج الى فتح "اقفاله"، في تعبير ياسين الحافظ، للخروج من المستنقعات التي تنتج الارهاب والتخلف والخوف وتنتهي بالاحياء للموت في الصحراء.
****
الكاتب عبد الوهاب المؤدب في برشلونة
التطرف يقوض التقاليد
اكد الكاتب والشاعر الفرنسي التونسي المولد، عبد الوهاب المؤدب، خلال تقديمه الترجمة الاسبانية لكتابه الاخير (اوهام الاسلام السياسي) ان الحركات المتطرفة التي كانت تقف خلف اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر) (تقوض) تقليد الاسلام وحضارته.
المؤدب (تونس، 1946)، وهو أستاذ في جامعة اكس نانتير وخبير في العلاقات بين اوروبا والعالم الاسلامي، جاء الي برشلونة (شمال شرق اسبانيا) من اجل تقديم كتابه الاخير الذي يحمل تأملات حول (آفة) التطرف الذي يعانيه (المجتمع الاسلامي)، وقد باع اكثر من 200 الف نسخة من هذا الكتاب في فرنسا وحدها.
ويري الكاتب الفرنسي التونسي ان الهجمات الانتحارية التي دمرت برجي مركز التجارة العالمية (ارتكبت باسم الاسلام، لكنها لا تمت بأدني صلة لتقاليد الاسلام ولا لحضارته) وانما هي ثمرة تطرف ديني ينطلق من تفسير حرفي للنص.
وللتدليل علي هذا الفرق بين الحضارة الاسلامية والمواقف المتطرفة، اشار المؤدب الي تدمير نظام طالبان في افغانسان خلال مطلع سنة 2001 في اقليم باميان تمثالين عملاقين لبوذا منحوتين في الصخر، كانا يعودان الي القرنين الثالث والرابع.
وأكد المؤدب (ان التمثالين صمدا خلال 1400 سنة الاخيرة برغم انهما عاشا في بيئة اسلامية الي حين وصول طالبان، ولم يدر بخلد أي مسلم تدمير التمثالين، بل علي العكس من ذلك كانا يثيران الاعجاب).
وابرز عبد الوهاب المؤدب (الشبه الكبير) بين تدمير البرجين التوأم في نيويورك وتمثالي بوذا في باميان في عمل كان يجب علي المجتمع الدولي تفاديه عبر المناداة ب(حق التدخل) في افغانتسان ضد الطالبان، واعتبر (ان هذا التدخل كان سيحظي بتفهم أكبر في العالم من الهجوم الأخير علي العراق الذي كانت تقف خلفه مصالح أخري). وتضم النسخة الاسبانية لكتاب (اوهام الاسلام السياسي) ملحقا بمقالات ألفها الكاتب خلال حرب العراق، ويعتبر فيها ان هذا النزاع تم (توظيفه) من الجانبين.
واعترف المؤدب بأنه لا يجد أية حجج لتبرير الهجوم الامريكي البريطاني علي العراق، لكنه ذكّر بوجود (أنظمة دكتاتورية في عدة دول اخري بالمنطقة، لا تقل استبدادا عن نظام صدام حسين) ويري في هذا السياق ان اطاحة صدام من السلطة (قد تؤدي الي بدء تحريك الأمور في دول اخري بالمنطقة).
ويري الكاتب والشاعر التونسي المولد ان عملية توطيد التطرف (الارهابي) الاسلامي الذي بلغ ذروته في اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر)، بدأت في نهاية عقد الثمانينات بانتصار الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني في ايران، والغزو السوفايتي لافغانستان.
واضاف ان نشأة هذا التطرف الذي لا تقل درجة تعصبه عن النازية لا يعود فقط الي (أسباب من خارج العالم الاسلامي) مثل مشاعر المهانة والكراهية ضد الغرب بل ان (الاسباب الرئيسية يجب البحث عنها داخل المجتمعات الاسلامية ذاتها).
وشدد المؤدب علي الفوارق بين الحركات الاسلامية و(التطرف البروتستنتي الذي تغلغل في الولايات المتحدة الي ان بلغ البيت الأبيض ذاته) إذ في الحالة الامريكية (تحترم) تلك التيارات الدينية المتشددة (النظام الديمقراطي) بينما يمثل التطرف الاسلامي حركة (اجرامية وارهابية).
الزمان
2003 - 6 – 8
****
المراهنة على العراق إذا انتصر للمواطنة
عبد الوهاب المؤدب لمن لا يعرفه هو مثقف تونسي مقيم في فرنسا منذ زمن طويل ويكتب بالفرنسية. وهو أستاذ الأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة، أي المقارنة بين الآداب العربية والآداب الفرنسية أساسا. وهو أحد كبار المعجبين بالتصوف الإسلامي وابن عربي على وجه الخصوص.
ولكنه في ذات الوقت تنويري صرف: بمعنى أن إعجابه بفلاسفة التنوير الأوروبي لا حدود له. فهو يتبنى المبادئ الإنسانية الكونية التي توصلوا إليها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأدت إلى تأسيس الحضارة الأوروبية الحديثة بكل قيمها السياسية التحررية ومنجزاتها الديمقراطية وتسامحها الديني ومحاربتها للتعصب الأعمى من أي جهة جاء.
وهذا ما يتجلى بكل وضوح في كتابه الأخير الذي يجمع بين دفتيه مقالات متفرقة كانت قد نشرت سابقاً أو بالا حرى أذيعت على موجات راديو المتوسط الدولي المتمركز في مدينة طنجة المغربية حيث يمتلك المؤلف برنامجاً أسبوعيا هناك.
لا أستطيع أن أتوقف عند كل هذه المقالات المتفاوتة الطول والتي تتخذ اهمية قصوى في بعض الأحيان. ولذا فسوف أركز على بعضها لتبيان مدى الجرأة التنويرية لعبد الوهاب المؤدب الذي يخوض معركته ضد الظلامية الأصولية والقومجية الفاشية بكل تمكن واقتدار. والشيء الذي يزيد من أهمية هذه المعركة الفكرية هو أن المؤلف نفسه ينتمي إلى عائلة مشايخ إسلامية معروفة في تونس. وبالتالي فهو يتحدث من الداخل عن المفهوم الأصولي القمعي للإسلام وعن الأجواء المحافظة والتعقيدية التي عاشها في طفولته. وهو من هذه الناحية يشبه آرنست رينان الذي تربى أيضا في بيئة أصولية مسيحية بل وكاد يصبح راهباً ثم انقلب عليها بعد أن اطلع على فلسفة التنوير والنظريات العلمية الحديثة. وأعترف أنا شخصياً بأني نتاج نفس التربية في طفولتي كعبد الوهاب المؤدب وقد عانيت معاناة مشابهة على الرغم من اختلاف الأمكنة والبلاد. وبالتالي فكلما زاد القمع الديني زادت الرغبة في التحرر والانطلاق. ولكن هذا لا يعني أن التربية الإسلامية كلها قمعية. فهناك روحانية الإسلام وتياراته الصوفية وقيمه العالية التي تربى عليها المؤلف أيضا ولا يزال معجباً بها حتى الآن. وبالتالي فلم يتنكر لبيئته من هذه الناحية أبدا.
ولا أستطيع أن أتوقف عند المقالة رقم ستين التي تحمل العنوان التالي: محاكم التفتيش، فهنا يقارن المؤلف بين الأصوليين الإسلامويين الذين يفهمون القرآن بشكل ظاهري، حرفي، سطحي مضاد لمقصده العميق في أحيان كثيرة، وبين الأصوليين الجدد في أميركا الذين يفهمون كتابهم المقدس أيضا بطريقة حرفية ترفض المجاز والرموز.
ولا استطيع للأسف الشديد أن أتوقف عند المقالات أو الفصول التي تحمل العناوين التالية: بين الشرق والغرب، أسطورة بغداد، سقوط الديكتاتور (أي صدام حسين)، كره الحجاب، حقوق المرأة، عروبة إشبيلية، مسلمو فرنسا، الجحيم، حيث يدين الأميركيين من خلال التعذيب الذي مارسوه في سجن أبو غريب، الخ.. ولكنه في ذات الوقت يعتقد انه لولا تدخلهم لبقي الوضع القديم على حاله ولما حصل أي تسريع لحركة التاريخ في العراق والمنطقة كلها.. ولا أستطيع أن أتوقف كثيراً عند الفصل الذي يحمل العنوان التالي: المعنى المنحرف للدين. وهو يقصد الفهم الخاطئ للإسلام، هذا الفهم الذي يسود حتى في أوساط الجاليات المهاجرة في أوروبا والذي أدى إلى ارتكاب جريمة مترو أنفاق لندن وباصاتها، أو جريمة قتل المخرج السينمائي الهولندي: تيو فان غوخ، الخ.. وهناك فصل أيضا عن الجريمة التي ارتكبت في مدريد، وفصل آخر عن «مرض التكفير» في الإسلام وهو شائع حالياً في الأوساط الجهادية والإرهابية داخل العالم الإسلامي وخارجه. والشيء المرعب هو أن ينتشر هذا المرض حتى يصل إلى عواصم التنوير الأوروبي: لندن، باريس، برلين، آخين، أمستردام، حيث قتل أصولي مغربي بالسكين المخرج السينمائي تيو فان غوخ حفيد الرسام الشهير الذي يحمل نفس الاسم، كما ذكرنا سابقاً.
هناك متعة حقيقية في أن تنتقل مع عبد الوهاب المؤدب من مقال إلى مقال، أو من فصل إلى فصل، من دون أي كلل أو ملل، وذلك لأن الفصول متنوعة جداً وقصيرة عموماً وتركز في كل مرة على إحدى القضايا التي تشغل الأحداث الجارية أو وسائل الإعلام.. وبالتالي فهي عبارة عن إضاءات ملقاة على ما حصل من أحداث جسام طيلة السنوات الثلاث الماضية: أي بعد غزو العراق. ولكن سوف أتوقف قليلاً عند فصل بعنوان: فاشية مغيظة أو منزعجة. وفيه يتحدث المؤلف عن انزعاج الفاشيين العرب من صَّداميين وسواهم بسبب سقوط النظام وحلول شخص كردي هو جلال طالباني على رأس الدولة العراقية محله. وهذا الشخص ألقى أول خطاب له أمام الجمعية الوطنية العراقية المنتخبة بلغة عربية فصيحة على الرغم من أن لغته الأم هي الكردية. ثم يُتَرْجِم خطابه إلى اللغة الثانية للبلاد: أي الكردية ذاتها. بل ويكْتب على واجهة مبنى البرلمان الذي يمثل الشعب اسم الجمعية الوطنية باللغتين العربية والكردية لا العربية فقط. وهذا يذكرنا بالدول المتحضرة الثنائية اللغة كبلجيكا مثلاً، حيث تجد على كل المباني الرسمية أسماءها باللغة الفرنسية واللغة الفالونية الشائعة في مناطق الفلامانيين.. هذا الاعتراف بالواقع العراقي لأول مرة في كليته الشمولية يعتبر أكبر ضربة موجهة للفاشية القومجية التي تكمن مهمتها الأولى في إنكار الواقع وعناصره وتركيبته الحقيقية. ولذلك انزعجت جداً واغتاظت، فالفاشي شخص مذهول بالواحد أو بالأحادية: أي بالحزب الواحد والقائد الواحد.. وأكثر شيء يكرهه هو التنوع والتعددية. ولذلك فإن الفاشية تسعى جاهدة إلى القضاء على كل الخصوصيات الموجودة في المجتمع بل ومحوها تماماً من الوجود.
أليس هذا ما فعله صدام عندما كان يوجه جيوشه ومخابراته لقمع الأكراد في الشمال أو الشيعة في الجنوب؟ وذلك لأن التعددية قد تكون دينية أو مذهبية وليس فقط قومية أو لغوية أو عرقية. وهذا ما تخشاه الأحزاب الفاشية كل الخشية. فهي أحزاب الجريدة الواحدة والشعارات الواحدة والصحافة المكممة الأفواه.
وبالتالي فهي أنظمة تحاسبك على مكان ولادتك، وكأنها تلومك قائلة: لماذا لم تولد يا أخي في المكان المناسب؟ أي في مكان الأغلبية الطائفية أو المذهبية أو العرقية. هذه الأنظمة المهترئة التي ستُكنَّس يوماً ما تكنيساً كانت سائدة أيضا في أوروبا قبل انتصار الحداثة السياسية على يد الثورة الإنجليزية، فالأميركية، فالفرنسية. وعندما أقول الأنظمة، لا أقصد السلطة فقط وإنما أقصد النظام الاجتماعي ككل وبالدرجة الأولى. فقد يكون النظام السياسي على الرغم من ديكتاتوريته مستنيراً ومتقدماً على المجتمع أو قل على أغلبيته. بهذا المعنى فإن الملك عبد الله الثاني مثلاً أكثر تقدمية واستنارة من الشارع الأصولي الأردني. وقس على ذلك..
هناك نقطة أساسية مهمة فيما يخص العراق، وهي: إن آية الله علي السيستاني الذي يمثل أعلى مرجعية إسلامية شيعية في العراق دعا منذ البداية إلى الفصل بين الدين والسياسة. وخالف بذلك نظرية ولاية الفقيه للخميني. وحسناً فعل. بل إنه أدهشنا لأنه فعل ذلك. فالواقع أن العراق الذي أصبح الآن مختبراً سياسياً لكل العرب كما يقول عبد الوهاب المؤدب متعدد الأديان والطوائف. وإذا ما استطاع أن يقيم نظاماً حديثاً يفصل بين المواطنية والانتماء الطائفي أو المذهبي فان تجربته الرائدة هذه سوف تنتقل عاجلاً أو آجلاً إلى دول عربية وإسلامية أخرى. نقول ذلك ونحن نعلم ان الدول المتقدمة تمنع منعاً باتاً التفريق بين مواطنيها على أساس ديني أو عرقي او مذهبي. فلا يوجد عندها مواطن درجة أولى (أي ينتمي إلى الأغلبية الدينية أو المذهبية) ومواطن درجة ثانية (أي ينتمي إلى الأقليات). في فرنسا او ألمانيا أو إنجلترا ..الخ، كلهم مواطنون درجة أولى لأنه لا يمكن ان نحاسبك على شيء لا حيلة لك به: مكان ولادتك! بهذا المعنى فهناك تمييز واضح في أوروبا المستنيرة بين المتدين والمواطن. صحيح ان كل متدين مواطن ولكن ليس كل مواطن متديناً بالضرورة. هذه مسألة شخصية بينك وبين ربك ولا علاقة لأحد بها. اما في أنظمة ما قبل الحداثة، أي معظم الدول العربية والإسلامية إن لم يكن كلها، فيلاحقونك عليها من المهد إلى اللحد.. وبالتالي فلا يوجد شيء اسمه مواطن بالمعنى الحديث للكلمة. وإنما يوجد شخص سني، وآخر شيعي، وآخر مسيحي، الخ.. من هنا الإشكالات والتأزمات المتفجرة حالياً في المشرق العربي، فهو لا يزال يعيش مخاضات الحداثة من دون أن يستطيع التوصل إليها. ولكنه سائر على الطريق كما تدل تجربة العراق على الرغم من الآلام والثمن الباهظ المدفوع. انه لشيء مدهش ورائع أن يدعو الشيخ علي السيستاني الى الفصل بين الدين والسياسة. ولكن الشيء المدهش اكثر والذي لا يكاد يُصَدَّق هو موقفه من التفجيرات الإجرامية التي تقوم بها جماعة «القاعدة» في العراق والتي تحصد المدنيين الشيعة بالعشرات او حتى بالمئات كل أسبوع تقريباً.. فهو يرفض ان يرد عليها! هذا الموقف السلمي البعض يقول الاستسلامي لم يعودنا عليه بعض المسلمين ولا يليق إلا بغاندي.
فما هو سرّ هذا الموقف يا ترى؟ أولاً قبل الرد على هذا السؤال ينبغي ان نسجل لعبد الوهاب المؤدب ما يلي: انه المثقف العربي الإسلامي الوحيد الذي يعترف بهذه الحقيقة على الرغم من أنها ساطعة سطوح الشمس.. فكلهم يقولون لك: هناك تصفيات مذهبية بين السنة والشيعة في العراق، هناك حرب أهلية، هناك مجازر يومية، الخ.. ولكن لا أحد يقول لك من ابتدأ المجازر المذهبية في العراق؟ ومن كانت له فيها حصة الأسد؟ ربما حصل مؤخراً رد فعل لبعض العناصر الشيعية المتطرفة ضد السنة ونحن ندينه. ولكن معظم عمليات التفجير الكبرى التي حصلت على مدار السنوات السابقة والتي حصدت عشرات الآلاف من المدنيين العزل في الأسواق او المدارس أو الأعراس او حتى المساجد وأضرحة الأئمة الكبرى كانت من جهة المتطرفين السنة.. ومع ذلك فإن المثقفين والصحفيين العرب يكتفون بالقول: تحصل مجازر مذهبية متبادلة بين الطرفين في العراق..!
كيف يفسر عبد الوهاب المؤدب هذه الحالة التي تدعو للدهشة والاستغراب فعلاً؟ هنا أيضا نلاحظ انه المثقف العربي الوحيد (على حد علمي) الذي يعترف بالحقيقة العراقية كما هي. يقول بما معناه: إن آية الله علي السيستاني يمسك أشياعه عن الرد على المجازر على الرغم من أنهم يشكلون الأكثرية في البلاد.
وبالتالي فما هو الحل؟ الحل هو الفيدرالية، يقول عبد الوهاب المؤدب. وهذا ما كنت قد دعوت إليه أنا أيضا على صفحات «الشرق الأوسط» بالذات. فلكي لا تتسلط فئة واحدة على بقية فئات الشعب وتسومها سوء العذاب. فإنه من الأفضل أن يحكم كل طرف مناطقه مع الحفاظ على حكومة مركزية في بغداد لتنسيق الأمور وبخاصة فيما يتعلق بالشؤون الخارجية. وهذا الحل الفيدرالي العادل والصحيح هو الذي تتبعه معظم الدول المتقدمة في العالم: انظر إلى الاتحاد السويسري، أو الاتحاد الكندي، أو الاتحاد الألماني، أو الولايات المتحدة الأميركية. فلماذا لا تكون هناك ولايات متحدة عراقية؟ وعندئذ.. لا أحد يعتدي على أحد في بيته أو عقر داره كما كان يحصل سابقا. عندئذ لا يعود هناك طاغية في بغداد يكمن كل همه في إرسال الحملات التأديبية لسحق الشيعة في الجنوب، أو الأكراد في الشمال.
هذا هو الحل الذي يقترحه عبد الوهاب المؤدب. ولا أملك إلا أن أوافقه عليه كل الموافقة، بل وأدعو إلى تعميمه على العالم العربي ككل، أو عندما تدعو الحاجة إليه. فما دامت العصبيات الفئوية والطائفية منتعشة جدا ومهيمنة على الشعوب العربية، ما دامت هذه الشعوب لم تستنر بعد بما فيه الكفاية. فإنه يفضل فصلها عن بعضها البعض حتى تكون قد تقدمت واستنارت وترقت وأصبحت ناضجة حضاريا كالشعوب الأوروبية. وعندئذ يمكن إعادة توحيدها دون خشية أن يسيطر بعضها على البعض الآخر أو أن يقمعه انطلاقا من عصبيات طائفية أو مذهبية أو عرقية كما كان يحصل سابقا. وبالتالي فالنظام الفيدرالي هو وحده الذي يستطيع أن يتكفل بذلك. ولكن هذا الكلام لا ينطبق بالطبع إلا على المجتمعات ذات التعددية الطائفية والعرقية القوية والواضحة.
لا أستطيع أن انهي هذه المقالة بدون التحدث عن المقاربة التي يقيمها عبد الوهاب المؤدب بين ابن عربي وسبينوزا. صحيح انه تفصل بينهما مسافة أربعة قرون وذلك لأن الأول عاش في القرن الثالث عشر، هذا في حين ان الثاني عاش في القرن السابع عشر.
ولكن هناك نقطة مهمة تجمع بينهما، ألا وهي التسامح الديني والانفتاح المدهش على الآخر، وبخاصة فيما يتعلق بابن عربي الذي عاش في عصر انحطاط وانغلاق وتعصب.
أما سبينوزا فقد عاش في عصر الحروب المذهبية الرهيبة بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، وهي حروب اجتاحت كل أوروبا تقريبا في القرن السابع عشر. ولكن على الرغم من ذلك فإن سبينوزا عاش بعد عصر النهضة وبعد ظهور غاليليو وديكارت.. وبالتالي لا يمكن القول بأن عصره كان عصر انحطاط. ولذلك فإن الانفتاح أو اتساع النظرة كان أسهل عليه من ابن عربي.
مهما يكن من أمر فإن كلا الرجلين قدم لنا درسا كبيرا في القبول بحق الاختلاف والتعددية العقائدية. وهو درس نحن أحوج ما نكون إليه اليوم في ظل انتشار هذه الأصوليات الضيقة المتعصبة التي تحاصرنا من كل الجهات.
قال سبينوزا ففي كتابه المشهور «رسالة في اللاهوت والسياسة» ما معناه: ينبغي على كل عقائد الإيمان الكوني أن تؤكد على الحقيقة التالية.. وهي: إنه يوجد كائن أعلى يحب العدالة والإحسان. وجميعهم ينبغي أن يطيعوه لكي يحظوا بالنعيم في الدار الآخرة. والعبادة التي يمكن أن يقدموها له هي: ممارسة العدالة وحب الآخرين والإحسان إليهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وكل ما عدا ذلك من طقوس وشعائر يعتبر شكليات خارجية لا أهمية لها..
هذا هو الدين الكوني عند سبينوزا. وفيه يلتقي كل الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم لا فرق بين يهودي ومسيحي ومسلم وبوذي وهندوسي الخ.. كلهم مؤمنون حقيقيون، إذا ما التزموا بهذه العقيدة التي تتلخص بمبدأ واحد فقط: حب العدالة وفعل الخير والإحسان للآخرين.. هذا هو جوهر الدين عند سبينوزا، وهو نفسه جوهر الدين عند ابن عربي: أن تحب الآخر، وأن تتمنى له ما تتمناه لنفسك والباقي تفاصيل.. فهذا يصلي على اليمين وذاك يصلي على الشمال، أو هذا يصلي قاعدا أو راكعا أو ساجدا وذاك يصلي واقفا أو ماشيا، وهذا يتوجه نحو الكعبة، وذاك نحو القدس أو أي مكان آخر، كل ذلك لا يغير في الأمر شيئا. فجوهر الدين يبقى واحدا على الرغم من اختلاف الشعائر الدينية والطقوس: إنه يتمثل بحب الآخرين ومعاملتهم بإحسان وعدل.
وباختصار شديد وبكلمة واحدة.. فإن الدين المعاملة. فمن كان مستقيما نزيها فاعلا للخير ومحبا للحق والعدل فإنه أكبر مؤمن أيا يكن أصله وفصله، أو دينه ومعتقده.
المصدر: الزوراء
04 / 01 / 2007
****
كتاب
أوهام الإسلام السياسي
ترد معظم الكتابات العربية ما جري للعرب والمسلمين إلي الآخر الغربي، الكولونيالي بما تتقوي عليه النزعة الاستعمارية من ابتزاز وتسلط، فالفقر والجهل والانحطاط وأوجه التخلف في عمومها، مردها إلي سنوات القهر التي عاشتها دولنا في ربقة هذا الاحتلال.
هذا جانب واحد من الصورة، الجانب الآخر هو ما يركز عليه المؤلف هنا في كتابه الذي كتبه في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو يلقي باللائمة فيما جري علي ذلك الفهم الأصولي الضيق شديد التطرف الذي صنع هؤلاء ال «بنلادنيين»، الذين لا يهدددون برأيه حضارة الغرب فحسب، وإنما قبلها، حضارة الإسلام، ويقلصون قدرتها علي التعاطي مع العالم من حولها، وهو ينهي بأدل آيات التسامح في القرآن الكريم: «لا إكراه في الدين»، و«من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
وعبر استقرائه للتاريخ الإسلامي وتحليله لدوافع الحركات الإسلامية في غير بلد عربي، ينتهي إلي.. «ليس الإسلام أصل الداء، فأولئك الذين اعتنقوا الإسلام عملوا علي إبدال حتي بنية الحضارة، فليس الإسلام بالتالي هو أصل المصيبة، بل المصيبة هي ما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام».
يفتح الكتاب علي كل حال أفقًا للتفكير والخلاف وتوسيع دوائر المناقشة، وهي ميزة نفتقدها كثيرًا.
***