بثوب مغبر مكرمش، وشماغ قديمة لفتها حول وجهها، لحقت هذلا بأبيها الذي كان يعدو مدفوعاً بخبر غير مؤكد عن وجود قافلة سيارات توزع صدقات في الناحية الأخرى من الوادي. مضت أربعة أعوام، منذ أن جاء إلى هذا المكان، وهو يسمع في نهاية كل رمضان أن مجموعة كبيرة من السيارات ستقوم بتوزيع الصدقات بالتساوي على الجميع. ثياب، شمغ ، غتر بيض، سراويل رجالية، أقمشة نسائية متنوعة، وكثر الحديث عن أموال نقدية ستوزع أيضاً على الكبار والصغار، وكلها أرسلت من جمعيات خيرية، ومن أغنياء في البلدة المجاورة تطلق عليهم حاشياتهم أحباب الجياع والفقراء.
رغبت هذلا في ثوب أبيض طويل، يفوح بشذا مغاسل السوق ومياهها المنقاة. وتخيلت، وهي تجري خلف أبيها، شكل الثوب عليها وقارنت نفسها مع الشاب الذي كان يلبسه. ستقفز فرحاً إن كان طولها في طول الشاب، ولعله يبدو مثلها نحيلاً فيلائم ثوبه جسمها حيث سيلتصق به في النوم ويتثنى معه دونما حاجة إلى تقييف أو خبن.
لقد مر على جسمها الكثير من الثياب الرجالية البيض والسود والزرق خلال الفترة الماضية. لبست ثياباً شعرت فيها بنعومة فرو ( الجاعد ) تداعب جسمها، ولبست ثياباً أخرى ملأتها بالأحزان والكآبة. روائح أجساد الذكور في ثنيات الثياب، وفي آباطها، كثيرة ومتنوعة، وتغمرها بأحاسيس متناقضة. لكنها كانت في سرها تفضل الثياب التي تفوح منها رائحة عرق الشباب اليافع المملوء بالتحولات. كيف تعرف ذلك؟ لم تجرب بعد، لكنها تأمل أن تجد ضالتها هذه المرة، على غرار ما كانت تجده في الأودية من أشياء جديدة بعد المطر.
هكذا حدثت نفسها، وهي تقفز شجيرة عرفج فاجأتها في الطريق. خرج ساقاها من الثوب، وهي فوق الشجيرة تماماً، فاضطربت واختل توازنها حال وقوعها على الأرض الصلبة فسقطت. ظهور ساقيها بذلك الشكل، يسيء إليها عند مزاج أبيها الحساس تجاهها في هذه الأمكنة. لا بد أن تكون في حركاتها وسكناتها ولداً لا يبدو غريباً إذا ما جلس بين الرجال. كلامه كلامهم، يأكل معهم من نفس الصحن، وينام بينهم في المضافة. خشيت أن يعيد أبوها نفس الكلام عن ضرورة المشي الرزين الهادئ لئلا تفقد مظهرها الرجولي، فنهضت بسرعة، لكنها تابعت الركض وراءه وكأن شيئاً لم يحدث.
مع كل حركة غير منسجمة مع شخصية ناشي، طالما كرر عليها أبوها الوصفة المحفوظة عن ظهر قلب. شد العمامة حول وجهك، واعتدل في جلستك. لا تتكلم إلا عند الحاجة، وإذا تكلمت فإياك والثرثرة ورفع الصوت أو الضحك. الرجل في العادة مثل الصندوق المغلق لكنه إذا تكلم، عرف الناس ما بداخله. رد على السؤال بأقصر الكلمات ثم التزم الصمت.
غير أن تلك الاحتياطات لم تنفع مع البعض رغم حرصها على تطبيقها والاختفاء وراءها في زي الشاب المنشود. صار من المؤكد لديها أن بعض كبار السن أبرموا تحفظاً على الحديث معها أو النظر إليها مباشرة. وعندما يضطر بعضهم إلى محادثتها، فإنه ينظر إليها نظرة ازدراء مرفوقة بشيء من الشعور بالحرج، مع حرص بالغ على إنهاء الكلام في أسرع وقت. لم يكن ذلك في تقديرها سوى نتيجة لارتباكها وحمرة الخجل التي تصطبغ بها وجنتاها رغماً عنها كلما وجدت نفسها تتكلم مع أحدهم فيما البقية يتخشبون حولها مصغين إليها بأفواه مفتوحة وعيون مبحلقة مسلطة عليها. ورغم أن صوتها كان يمنح السامع انطباعاً مماثلاً لما يمنحه صوت شاب في مثل سنها، إذ تشوبه نبرة خشنة وقاسية بعض الشيء، بدا لها أن شعورها الفطري بالخجل كلما اقترب منها شاب ومازحها خلسة، يضعف من قدرتها على التركيز فيختل ميزان الصوت، وتتخلله رعشة خفر تؤثر على إيقاعه الغليظ.
كما أن وصايا أبيها كثيرة ومعقدة بالنسبة إلى فتى لا يحضر منه إلا وجهه وكفاه. فتى، تعرف هذلا بأنه زائف وغير حقيقي، لكن هذا الزائف هو ما يجب أن يراه الجميع دون استثناء. في المجالس، في الخلاء، في الاحتفالات والمناسبات القبلية التي رغم قلتها تمتلئ بالعيون الثاقبة، والألسن الطليقة النابشة في الأعراض والأسرار.
لقد تعودت منذ صغرها على الجلوس مقرفصة أمام الحشرات الصغيرة القارة في الأرض وجذوع الأشجار، وهاهو أبوها يقوض تلك العادة، ويطلب منها أن تجلس متربعة أمام الرجال الغلاظ في المجالس. يأمرها أن تنصب ركبتها اليمنى وتستريح على رجلها اليسرى عند الشروع في تناول الطعام، وهذا الجلسة بالذات تذكرها بعادتها في الجلوس وهي تحيك " السدو " كلما آزرت أمها في صناعة بيت شعر جديد لبيعه في البادية. أما شرب القهوة، فتطلب منها وقتاً لتعتاد ارتشافها بحكمة. أي تعبير في الوجه يفيد استنكار طعم القهوة، يوازي في رعونته أية إشارة ظاهرة على استساغة مبالغة عند تذوقها. ولتتقن أمامه طريقة الإمساك بالفنجان وكيفية رده إلى الساقي، كررت العملية مرات عديدة متحملة آلام احتراق أصابعها بالقهوة حيناً، و انسكابها على ثيابها حيناً آخر. يمسك أبوها بالفنجان بالأصابع الثلاثة، الوسطى تحت قاعدته، والإبهام والسبابة تمسكان بطرفيه، ثم يمده إليها باليد اليمنى، ويكرر العملية عدة مرات. تتناول هي الفنجان وتحتسي القهوة على رشفات خفيفة متباعدة، محركة الفنجان في الهواء على شكل دائرة ضيقة، بعد كل رشفة. هكذا تشرب يا ناشي، يقول لها وهو ينظر إليها بجدية بالغة.
استقبلت الاسم، في المرة الأولى، كحبة رمل خشنة تتلولب في أذنها، لكنه اسمها الذي كانت تحمله عندما كانت تلبس ثياب الأطفال، ويجب عليها العيش معه في كل الأوقات. هكذا يقول أبوها بإصرار. وكانت في إحدى المرات تساءلت ما إذا كان طمس اسمها الحقيقي من الوجود سيساعدها فعلاً في نسيان من تكون؟ هل تغيير الاسم يسهم في تغيير حقيقة كونها بنتاً مهما استحدث لها ذلك الاسم من ألبسة مختلفة ومظاهر لازمة؟ غير أنها لم تشأ البحث عن أجوبة مناسبة لأنها كانت تعتقد أن مجرد أن يلبس الشخص لباساً مختلفاً ويتسمى باسم غير اسمه الحقيقي، تكون لديه أحقية أن يصبح شخصا آخر دون النظر باتجاه معاكس لما أصبح عليه.
في الماضي، كانت فتاة أمام الجميع، لكنها لم تشعر، إلا في الأودية والأطيان الرطبة، بأنها كذلك. أما أمام الآخرين فلم يك يشجيها كيف ينظرون إليها؟ كانت تسمعهم ينادونها " يا بنت "، " يا هذلا "، " يا صبية " إلى آخر المسميات المعتادة، لكنها تظل فرداً من العائلة يشارك الجميع، رجالاً ونساءً، مهمات مثل ربط الأمتعة وحملها على السيارات، أو إنزالها وبناء الخيام في الأمكنة الجديدة. فالجميع، وقت الحاجة، يؤازر بعضه بعضاً حيث تتقارب الأيدي وترتفع الأصوات. فالكل يرحل، والكل يحل، وعليه، فإن الأيدي كلها لابد أن تعمل في نفس الوقت أثناء الحل والترحال.
وعندما ينادونها باسمها أو بأية صفة يختارونها لها، كأن يصفوها بـ " المرطوسة " لأنها أحياناً لا تتقن ما يطلب منها من أعمال، فإنها لا تفعل شيئاً سوى أن تقول : نعم. وكانت تسمع بعض الفتيان ينادونها، أوقات اللهو، يا "مزيونة "، يا " غِرْوَه " فلا ترد لأنها لا تعرف ما هو الرد المناسب، مثلما لا تعرف هل هي حقاً كما يدعون، أم أنها أيضاً " مرطوسة" كما يقول الآخرون ؟
ما تعرفه وتتذكره جيداً هو أنها لبست وهي صغيرة ثوب طفل في عمرها آنذاك اسمه ناشي فرأت عيني أبيها تتسعان فرحاً، ورأته يجرها إليه ويقبلها على خديها، فلم تتوقف مذاك الوقت عن مفاجأته بنفس اللباس.
ولما ارتقت أذناها إلى مستوى الانصات بشغف إلى الحكايات المتداولة، اكتشفت أن ثمة من النساء البدويات من تمنت لو لم تكن امرأة، بل تكون رجلاً يغزو ويقاتل الأعداء. وهاهي امرأة منهن اشتهرت بقصيدة شعبية تمنت فيها لو تخلصت من أي شيء يخص العذارى وتحولت بدلاً من ذلك إلى رجل قوي يركب الهجن بحثاً عن الغنائم، ويحرس رفاقه النائمين في ظلال أشجار السرح، ويقتسم معهم الكسب، وإذا ما حدثت معركة بينهم وبين الأعداء فإن أول ما يبادر إليه هو إنقاذ رفاقه من القتل والموت. مرات عديدة سردت على نفسها حكايات مختلقة من وحي تلك القصيدة، وكانت عندما تنتهي من سرد كل حكاية، تبدأ في إنشاد القصيدة بتأثر وإعجاب شديدين. وتخيلت نفسها رجلاً ممسكاً بخطام ذلوله، يتخفى بالأشجار خشية أن يكتشفه الدربيل، قبل أن يباغته ويسلبه كل ما يملك. يسلبه السيارةَ الفخمةَ، والأثاث، والخيام، وينتزع من يديه عينه الثالثة التي قربت جسدها إليه ذات عشية من بُعد وكادت بسببه أن تقع في يده. شعرت بالقصيدة تملؤها بالغيرة من الرجل الذي تخيلته فراحت تنشد قصيدة تلك المرأة بصوت يلزمه وقت ليبتل باللعاب ويرق:
ياليتني ما فيِ ما فىَ العذارى | واِني سُواةِ اللِّي على الهِجِن جِِلاَّس |
لا قيّلوا في ظل سَرحٍ سَهارى | اَرقبْ لَهمْ من فوق مَزْموم الاَوْراس |
ولا حوّلوا في جَل ذودٍ عْشَارا | اَخذْت قَسْمِي من وراء الرّبْعْ نوماس |
والْيا حَصَلْ عند الركايبْ مِثارا | اَفِكْ رَبْعي يوم الاَرْياقْ يبّاس |
لكن ما يشغلها الآن هو أن تجد ثوباً نظيفاً لشاب يعيش هناك في المدينة، فتلبسه بدلاً من الثوب الذي عليها، والمليء برائحة خروف.
أصعب ما تعلمته، وكاد أن يفتضح أمرها عدة مرات بسببه، كانت طريقة وضع العمامة على الرأس، وكيفية تضبيط العقال فوقها. عندما لبستها في المرة الأولى، رأت وجهها في المرآة قبيحاً للغاية. عمامة متهالكة، تحيط بوجه صغير كوجه ولد الظربان، على خديه بقعتان داكنتان من أثرٍ قديمٍ لماءٍ كانت بإفراط تغسل به وجهها لتصبح بشرته بيضاء ونظيفة.
لم تستطع تهدئة شعورها بالخوف من وجهها الجديد حينما نظرت إلى ما وراء أذنيها فوجدت الحيز الذي كانت تملؤه خصلات شعرها فجوة فارغة. الشعر الطويل تولى أمره المقص كيلا يثير حولها الشبهات. أما الحناء، فلإمها أصبحت العلبة بكاملها منذ سنوات، ولم تعد تبحث عنها بين الأغراض المشتركة بينهما في البيت.
الحناء للنساء ، الذهب للنساء، وكذلك الحرير، والكحل، والوشم، والمشط، لكن الحيض، هذا السم الأحمر الذي خدر قدميها، لم تستطع التخلص منه البتة. ما تزال هذلا تقبع بين فخذيها، وفي كل شهر تلدغها كالعقرب فيسيل الدم. كثيراً ما تمنت أن يبادر أبوها ويعلل بطريقته لماذا ناشي يحيض مثل النساء، ويصلي مع الرجال؟ هي تعرف الجواب. هذلا هي أسفل البطن، أما ناشي فهو الجزء العلوي الظاهر من الجسم.
كانت في الماضي تسمع أمها تقول أن المرأة مرأة والرجل رجل ولا لقاء بينهما في جسم واحد. لكنها في منتصف أحد الشهور جاءتها الحقيقة على شكل ألم يلوي أسفل عمودها الفقري مضرماً فيها نار الغثيان والدوار، فعلمت أن هذلا اختفت عن أبيها في أسفل البطن. دائماً هناك صامتة لا تتكلم ولا تظهر للعيان إلا نادراً لئلا تنالها الصفعات على الوجه. أو لعلها اختفت عن الأنظار لئلا يراها الدربيل فيختطفها كما اختطف غيرها.
أما ناشي فظهر إلى كل ذي عين، وبرز وجهه الناشف إلى العلن. وعندما تسربلت بالدم في إحدى المرات وتبقع ثوبها حتى أسفل الفخذين، خافت أن تكون هذلا قد قررت الخروج فتحولت من شدة الضغط إلى ذبيحة مقطوعة الرقبة. ركضت إلى عرض الصحراء ، وتحت عوسجة كشفت عن أسفلها فرأت الدم فحسب. قالت لها أمها عندما رجعت إليها حزينة، لقد تحولت بسرعة، أنت منذ وقت شخص بالغ، ثم أخذت تضحك بصوت مكتوم. لذلك هي تركض خلف أبيها كشخص بالغ وقوي وسريع.
حاولت أن تضع خطوتها على خطوته لكنها عجزت عن أن ترى الطريق وأن تتابع الخطو في نفس الوقت، فاكتفت بأن تطرح خطواتها السريعة على الأرض، كما تطرح هذلا الدم على قدميها.
المهم هو أن تغير ثوبها هذا. أن تتخلص من رائحته الضأنية وتلبس بدلاً منه ثوباً ممسداً نظيف الياقة، ومنقط الحلق بأزرة ناعمة مشعة تحت ضوء الشمس. ستشمه أولاً، لتتعرف إلى رائحة من كان يلبسه. من أجل ألا تصاب بالحيرة، عليه أن يكون شابا لا بد أنه أصبح طويلاً بالغاً ليتصدق بثيابه، ذا وجه أبيض مستدير مشوب بحمرة طبيعية فاتنة. رقبته مدورة ناعمة، يسهل التمييز بين قامته من بعيد وقامات الآخرين الذين يتحركون مسرعين في الشوارع مرتدين ثياباً تباع جاهزة وتلبس على الفور. أما هو فيرتدي ثوباً خيط على مقاسه بالضبط، لأن الخياط الذي أخذ مقاساته بدقة، سجلها في دفتر أمامه، ثم انكب على قطعة القماش بتفرغ تام وبصبر حتى أنهاها. لقد لاحظ أبوها الخياطَ من قبل، وهو يكتب المقاسات في دفتر بين يديه. وحكى لها كيف عندما حان موعد تسليم الثوب، وجده بالفعل معلقاً مع صف طويل من الثياب الجاهزة؟
غالباً ما تسمع أن المدينة، عند العارفين بها من أهل البوادي، مثل قدر الذبيحة المليء باللحم والأرز، ما يظهر منه على السطح لا يعكس وفرة المكنوز في عمقه. لكن هذه المقولة، تشعرها بالقلق والخوف، إذ ما الذي يؤكد أن ما يوزع من ثياب في تلك السيارات، يوجد من بينها الثوب الذي هو بالفعل للشاب الذي تقصد؟ ثم على افتراض وجوده، كيف تعرف من بين الثياب الكثيرة ذلك الثوب ؟ كلها متشابهة، لأنها فارغة، وكلها معدة للصدقة على أي كان، ولا يوجد علامة تخصها في الثوب المرتجى.
اقتربت من أبيها الذي عندما أشرف على التجمع المرتجل، هدأ من مشيته الحثيثة، وتصنع وقار رجل يمشي في طريقه وكأن الأمر لا يهمه. سألته هل هناك ما هو أفضل من ثوب " التترن " ؟ لا أعرف، أجابها، الثياب عندي واحدة ما دام أنها تؤدي الغرض الذي ألبسها من أجله. عقبت متبرمة من جوابه غير المحدد: أريد أن أعود إلى البيت بأحسن ثوب. التفت إليها وهو يقف في آخر الدائرة البشرية التي تجمعت حول سيارة حوض صغيرة في داخلها رجلان وحولهما كومة كبيرة من الثياب الملقاة فوق بعضها بلا ترتيب. سألها مشيراً إلى كومة الثياب: أي واحد من تلك الثياب التي هناك هو الأحسن ؟ أجابت وهي تنظر إليها: لا أدري.
تطلعت من مكانها إلى الرجلين، فرأت أحدهما يلبس ثوباً أبيض في غاية النظافة واللمعان، لكنه واسع جداً لأن الرجل سمين إلى درجة لافتة، وبدت ساقاه ضخمتين مكتظتين باللحم تحت جلد ناعم وشعر أسود وافر. أما الآخر، فنحيل ويرتدي ثوباً أصفر يشبه الإقط الحولي، وكان وجهه ذا بشرة سوداء وكذلك يداه. جلس الرجل السمين على قطعة خشب مدورة، في مؤخرة صندوق السيارة، بينما على ركبتيه جثا الرجل الأسود في مقدمة الصندوق، وشرع يمد إليه الثياب واحداً بعد الآخر. الأيدي الممدودة بغزارة إلى الرجل السمين، رأتها هذلا تتزاحم باتجاه الثوب الذي في يده. كلها تريد نفس الثوب، لكن الرجل السمين، الذي كان يسأل كل واحد عن اسمه، راح يضع في كل يد ثوباً ملموماً على بعضه كيفما اتفق، وحالما تمسك به اليد الممدودة، تفرده لمعرفة مقاسه.
وخلال وقت قصير انتشرت في مساحة واسعة الثياب الجديدة، فبدا كما لو أن عدد الموجودين تضاعف في مدة زمنية قصيرة جدا، وسطعت أشعة الشمس على المشهد فغدا واضحاً فرق الضوء بين الثياب الجديدة والقديمة. رأت هذلا الصغار يتضاحكون، ويتبادلون بينهم الثياب، كل بحسب مقاسه، أما الكبار الذين استلموا كسوتهم صامتين فنظروا إلى أسفل بعيون لم تعرف هذلا كيف تفسر نظراتها ومضوا عائدين إلى بيوتهم. معظمهم بلحى مغمورة بالشيب الخالص، وعندما يلتفتون جهة الشمس تبرز على وجوههم خطوط الزمن التي يصبح فيها المرء ذا وجه قديم للغاية، أو غير موجود بالمرة.
وكانت قد سمعت حكايات كثيرة عن هؤلاء الكبار الذين كانوا، كما قيل، أغنياء في أزمانهم، لكنهم صاروا فقراء ومعدمين في زمن قصير. هناك من فسر الأمر، بوجود غضب إلهي على الكل لأن الغني كان يعطي الأباعد طمعاً في تحصيل سمعة طيبة، وتحقيق مكانة اجتماعية كبيرة، بينما أقاربه الفقراء يعيشون في أسوأ حال. أما الفقير فكان منافقاً كذاباً، يمدح الغني ليصبح غنياً مثله ويتطبع بطبعه. بيد أن أقوالاً أخرى فسرت تحول هؤلاء الرجال إلى فقراء، بفشو حياة جديدة تقوم على احتكار فئة معينة لكل شيء في معائش الناس.
سألها الرجل السمين: ما اسمك؟ تقدمت إليه حتى أحست بسرتها تضغط على حافة باب صندوق السيارة، ثم أجابت: اسمي ناشي. ابتسم الرجل السمين، وقبض على يد هذلا الممدودة مصافحاً ، ثم قال : عاشت الأسامي ، يا ناشي. لم تتكلم هذلا. بل بقيت صامتة ويدها ظلت ممدودة، لكنها أحست ببرودة أصابع الرجل تمس يدها، ولو لم يضغط عليها بقوة لسحبتها في الحال. أصابعه ضخمة وسمينة مثله. أظافر الأصابع بيضاء ومقصوصة بالتساوي، وبرز الدم من رؤوس الأنامل بلون زهور السرح. عندما لم يلمس منها رغبة في التحدث معه، أمسك بأحد الثياب وقدمه لها. بيد أن هذلا، ردته بجفاء ظاهر، ثم قالت بعزم: أريد أحسن ثوب. أخذت الرجل اندهاشة قصيرة، فنظر إليها مستفهماً: ماذا تريد؟ أعادت هذلا العبارة مرة ثانية: أريد أحسن ثوب. التفت إلى الرجل الأسود الذي ما زال في مكانه، ثم حول بصره إلى الثياب القليلة المتبقية في حوض السيارة، ولما لم يجد ما يقوله، دفع بيده كل الثياب إلى حيث تمتد يد هذلا، ثم قال لها: على أمرك يا ناشي، خذ من هذه الثياب ما تراه أحسنها.
ارتبكت هذلا. لم تتوقع أن يترك لها الرجل حرية الاختيار! كانت تتصور أنه سيقدم لها أفضل ثوب، بحسب معرفته، وأيضاً لظنها بأنه أكثر خبرة من أبيها في اختيار الثوب الأفضل. أما أن يقدم لها كل الثياب الموجودة لتختار ما ظلت تحلم به وتحدث به نفسها منذ وقت، فذلك هو الأمر الصعب عندها.
نظرت إلى أبيها الذي كان يقف إلى يمينها صامتاً، واضعاً إحدى يديه على حافة صندوق السيارة. لم تسعفها نظرتها الحائرة بشيء مفيد، فأبوها احتفظ بصمته كما لو أنه يخشى سقوط أسنانه، وبدلاً من أن ترى فيه الأب الجاهز في أي وقت للتوجيه وإبداء الملاحظات، رأته مضطرب الوجه، خائفاً، ينظر بين لحظة وأخرى إلى الأرض التي يقفان عليها. حولت بصرها إلى حيث ينظر. لا شيء سوى التراب.. ولكن صحيح، هناك بعض بقع الدم على قدميها. وفي الجهة الأمامية من الثوب، حول الفخذين، يوجد بعض البقع الوردية كذلك. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد. بل وجدت وراءها صبياً ورجلين يحدجونها بنظرات حادة، خاصة الصبي القريب منها والذي تنتهي قمة رأسه عند وسط ظهرها. تساءلت فزعة، هل رأوا شيئاً هم أيضا؟ باغتها الرجل الأسود بالسؤال: هل تعرف ما هو طولك؟ لم تتكلم بل أجابت بهزة رأس تفيد النفي. هل تحب أن يكون الثوب الذي تريد، بالضبط مثل هذا الثوب الذي عليك؟ سألها الرجل الأسود ثانية. ومرة أخرى، نابت عن الكلام حركة الرأس النافية، ولكن بحزم هذه المرة، وبدون تردد. ثم التفتت إلى الرجل السمين وقالت له: أريد أي ثوب. ولم تنتظر ليقرر أي الثياب يختار لها، بل سحبت أقربها إليها، ففردته حتى لامس أسفله الأرض، ثم لبسته في الحال دون أن تتحرك من مكانها. هتف الرجل السمين مباركاً: ما شاء الله، تبارك الله... ثم أضاف، وهو يعيد كومة الثياب المتبقية إلى مكانها الأول في وسط حوض السيارة: لكنه طويل عليك، وواسع قليلا. هل تحب تغييره بثوب آخر؟ كلا، قالت هذلا وهي تبتعد، فاضطر عندئذٍ الرجل السمين إلى رفع صوته قائلاً لها: إذا وصلت البيت، كف أسفله إلى أعلى قليلا يا ناشي. إنه طويل. لا تنس ذلك. وسمعت هذلا من يضحك وراءها بصوت عال، وكان هناك أيضاً من يتكلم بكلمات لم تصل إليها بوضوح.
وكالعادة، توقعت أن تخرج الصفعات من يد أبيها ساخنة ومؤلمة على الوجه بمجرد أن يختفيا عن الأنظار. لا بد أن ما حل به من وجوم وضياع كان بسبب لطخات الدم التي على قدميها. هكذا فكرت وهي تمشي خلفه وتتابع حركته تحسباً لأية ردة فعل تبدر منه تجاهها. ودون أن تقطع حديثها مع نفسها، تذكرت أن أباها كثيراً ما كان يضربها على الوجه، ليقول لها بعد ذلك ما يقوله أي أب لإحدى بناته. كان يصفعها على الوجه في فورة غضبه، ثم في حنان مفاجئ، كان يضع رأسها بين يديه الفائرتين ويقبل جبينها ويتأسف على ضربه إياها.
في تلك اللحظة يختفي ناشي أو يتلاشى تحت حرارة اليدين، وتبرز هذلا إلى درجة أن دموعها تنفجر من عينيها بحيث تجعل الأب يسارع إلى مسحها بكم ثوبه.
في حياتها الماضية، شاهدت كيف يتحول اللبن إلى إقط صلب بمجرد أن يغلى على النار ثم يجفف على شكل أقراص صغيرة تحت الشمس. ثم شاهدت الإقط يتحول إلى مادة لبنية مرة ثانية ما أن يوضع في ماء فاتر ويفتت على مهل. عند ذاك، خطر لهذلا في أنها تكون إقطاً مرة ، ومرة أخرى لبناً سائغا.
غير أن أهم ما كانت تخلقه تلك المقارنة في نفسها، هو الضحك. وفي المرات العديدة التي ضحكت فيها تحت تأثير تلك الفكرة، واجهت صعوبة في فهم لماذا لا تستطيع التوقف عن الضحك برغبتها وفي الوقت الذي تريد؟ لماذا تظل تضحك إلى أن يتعب بطنها وينبعث فيها السعال الخشن، في حين أنها عندما تغص بالبكاء، فإن قدرتها على إسكات النشيج تكون كبيرة وفاعلة؟
مرت من أمامها حشرة " حمار ابليس " السوداء، بظهرها المحدودب وأرجلها الطويلة بطيئة الحركة. توقفت الحشرة لوهلة، ثم عادت خائفة إلى عشرقة صغيرة كانت خلفها. اندفنت تحت أوراقها السفلية محدثة خشخشة مسموعة. كثيراً ما رأت هذلا تلك الحشرة مثبتة على شوكة، مبقورة البطن، قد ظفر بها أحد الطيور في أوائل النهار. وكانت تخرجها من الشوكة، وتضعها على الأرض، لكنها كانت تتهشم بين أصابعها فور أن تحاول إرغامها على الوقوف بثبات كما لو أن ذلك سيحضها على مزاولة المشي في الحال.
وفوق صخرة بها حفر كثيرة، وقف طائر " الشُوَل " رمادي اللون، مصدراً صوتاً متقطعاً بينما عيناه تغرقان في المسافة التي عليه أن يقطعها طيراناً إلى عمق الوادي البعيد الواقع على يمينها.
وفيما كان أبوها ينعطف حول دغل من أشجار السلم، صاعداً إلى الجهة المقابلة، كانت هي تتباطأ في مشيتها، منحرفة بعض الشيء إلى اليمين، جهة بطن الوادي الفسيح. بأية صورة، كانت تود لو أنها هناك، في الأرض الطينية، الناعمة، تجمع الأعواد الدقيقة، وتطوق بها جسمها بدلاً من الثوب الواسع الطويل الذي عليها. لو لم تسمع أباها يصرخ من ذروة الضفة، آمراً إياها أن تلحق به، لأضافت من الخطوات ما يكفي لجعلها تبتسم لكل الطين الموجود هناك. لمواطئ فراشات الأفانين اللدنة، إذ تطير مذعورة من وجود حشرة فرس النبي. لنمل " القعس " الأسود المستوطن في الجذوع. لدويبة " أم الزين " التي كلما لمست ظهرها استدارت ووقفت على رجليها في مواجهتها، ثم فتحت لها جنيحيها المليئين من الداخل بنقوش ملونة، واستغرقت في الرقص.
سمعت أباها يناديها متذمرا: يا " وِرْع، وين أنت؟ ". ناشي، يا ناشي . ثم يتوقف للحظات ليعاود النداء، إلى أن ظهرت له كغولة صغيرة من رمل الوادي اليابس، فلما رآها حثا جهتها تراباً برجله اليمنى، مشيراً بيده أن تسرع في اللحاق به. قبل إشارة اليد، توقعت أن ينتظرها حتى تأتي إليه، لتعرف من نظرة سريعة أنه مستاء ويحمل داخله حرارة صمغ في جذع مشتعل. غير أن تلك الإشارة غيرت ظنها ومنحتها، كما تخيلت، فرصة أن تواصل السير حتى تصل البيت. أن تلحق به، ولم يقف بانتظارها، يعني أنه لم يفكر بمعاقبتها، بل لعله لم ير الدم على الإطلاق، وعلى أي حال، فما زالت بقية الطريق طويلة، كما أنه من ناحية أخرى ما زال يتقدمها. يمشي ويتوقف عن السير ملتفتاً إليها. ويطيل النظر جهتها. ويحدق فيها من بعيد، ممتنعاً عن أية حركة تخل بوقفته تلك. ثم رأت الريح الهفافة تدخله في جسم رقيق من الغبار وقش الأرض الناشف، فخيل إليها أنه يدور في القش ويتلاشى في الهباء.
مثل الكذب الذي لا لزوم له، يجيء الغبار جالباً معه أشكالاً جديدة وغير صحيحة للأشياء التي يمر بها. رغم ذلك، لا بد له أن يأتي. تظن هذلا أن الغبار لا يمر إلا بالأشياء القابلة للكذب. وساورها شعور مفاده أن الأب أيضاً قابل للغبار.
تقدمت من بين الشجيرات الغليظة، غير عابئة بصوت احتكاك أسفل ثوبها الظاهر بالفروع القصيرة الحادة. من الداخل، شعرت بثوبها الباطن يتوحش. يلتصق بها ويمتص الجلد بنهم جدي رضيع. يتلوى على ساقيها لتسقط. ينقر ردفيها لتطير من جسمها أسراب طيور تحب البنات وتستحثهن على الطرب والخفة والقفز من مكان إلى آخر. لم تفرق بين العرق الذي سال من الظاهر، ومثيله المتحدر من المخبوء والباطن، لكنها أحست بأن الثوب يعرف ما يريد. الرائحة الضأنية تكثفت حول الرقبة. صارت شبحاً، صارت كلمات، صارت تمتمة. خافت أن تسمع وترى، فركضت جهة القش الذي كان قد تبعثر كله إلا ما هدأ منه وسكن في جسم أبيها الواقف في مكانه. : إنه هو الدربيل ! فاجأها أبوها بالاكتشاف، في الوقت الذي أحست بأمعائها تنكمش وتصدر صوتاً وبقبقة. أعاد الأب المضطرب عبارته السابقة عليها وهو يتطلع إلى الجهة البعيدة التي تتهدل بالرجل السمين. لم تعرف هذلا من هو ذلك الرجل الذي يقول أبوها بأنه هو الدربيل، إلا بعد أن أشار إلى الثوب الذي عليها. لحظتها، وللمرة الأولى، رفعت يدها اليمنى إلى أنفها فشمت رائحة عطرية من باطن الكف. رائحة عطر تجهلها، غير أنها تؤكد بأنها أكثر تركيزاً من رائحة أية زهرة تعرفها في الصحراء. التقط الأب يدها وشمها، ثم قال: هذا مكان يده .. هذا هو دهن العود. وبعد أن تلفت يميناً ويساراً، أكمل: يجب أن تغسل يديك في الحال، وإلا استدل عليك بهذه الرائحة.