صالح العزاز عن أحمد أبو دهمان
هذه حكاية رواية لم أقرأها لأنها كتبت بالفرنسية. لكنني أجرؤ على الزعم بأنني عشت تفاصيلها وسمعت وقع خطوات أبطالها وشاركت كاتبها قلق اللحظات الجميلة التي تغمره الآن كالمطر الصاعد إلى الأفق. حدث ذلك خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
لقد استطاع أحمد أبو دهمان بشفافيته المطلقة وبساطته العميقة أن يحيل الكلمات إلى ومضات شعرية تشبه الأرواح المتدفقة.
يصطحب معه قوس قزح ويشاركه القهوة ويتقاسم معه "الكرواسون" وبطريقة ساحرة.
"قوس قزح يشرب القهوة في الكافتيريا".
هذا الأحمد أبو دهمان القادم من حافة الكون والنسيان يثير اليوم شهوة المشهد الإنساني المعطر بالبهجة والفرح والرغبة في اكتشاف حياة لم تجرب من قبل.
وليست المفاجأة المثيرة بالنسبة لي أن أحمد أبو دهمان هو أول كاتب من السعودية استطاع أن يخترق حاجز الصوت الثقافي في عاصمة الثقافة باريس، وليست في استقطاب دار نشر عريقة مثل "غاليمار" لهذا العمل الإبداعي الذي تنافست عليه دور نشر أخرى!!
ولي في أن الطبعة الخامسة في طريقها لترى النور خلال أقل من شهرين من صدور الرواية. لكنه المشهد الآخر لذلك الأثر الإنساني العميق الذي اخترق النفوس وتوغل في العيون الفرنسية بصورة سحرية أخاذة.
هذا الاجتياح الإنساني العظيم في بلد ينشر الثقافة كالخبز، في بلد امتهن تصدير الأضواء يسطع فيها نجم قادم من بعيد وبصورة تفلت من قبضة سياق الأشياء العادية إلى الأشياء السحرية.
"الحزام" حديقة لفيلة نادرة من الفراشات ذات ألوان لم تعرف ولم تكتشف قبل أن تصل "الحزام" إلى قلوب الناس وواجهات المكتبات ودور النشر. سيمفونية رائعة تشبه تلك الومضات النادرة في قلوب يائسة ترغب بالعودة إلى الحياة. هذا هو أحمد أبو دهمان الذي أعرفه. وهذا نص حوار دار على فنجان قهوة في باريس قبل موعد القطار بنصف ساعة.
قبل أكثر من عشرين عاما" كتب الشاعر محمد العلي عن أحمد أبو دهمان فقال "هذا الشاعر يطل من شرفة عالية على معظم الشعر العربي الحديث". لم يكترث أحد لهذا الرأي حينها.
لماذا أيها البدوي القادم من بعيد قررت أن تكون أغنيتك بالفرنسية؟
أحب "لماذا" لأنها كانت أولى أدوات الاستفهام التي زلزلتني في المرحلة المتوسطة.
كان السؤال يومها لماذا تهب الرياح؟ وهاهي الآن تنتصب مدخلا" لهذا الحوار.
أعرف الآن لماذا تهب الرياح ودخولي عالم النشر يشبه إلى حد كبير انتفاض الرياح.
كنا في أعالي الجبال نزرع أغانينا وقصائدنا في الرياح التي كانت تنقلها، تحملها إلى أعالي الروح الجماعية التي منحتنا هذه الكينونة الشعرية. والكائن الشعري شهادة وذاكرة وحلم.
أما اللغة الفرنسية، فإنها ليست إلا أداة لهذا النشيد القديم الذي تعلمته في طفولتي بلغة القرية، باللغة العربية، والذي يجيد الغناء بلغته لا يجد صعوبة في الغناء بلغة أخرى.
لأن الإنسان، أي إنسان، وفي أي ثقافة، يستجيب لما هو أبعد من اللغة، لما هو أعمق. وحين تغني هذا الأعمق وتكتبه، تدرك أن القارئ يستجيب لشفافية الرياح وتدخلان معا" في هذا اليقين الإنساني الذي يجمعنا من كل بقاع العالم في ذاكرة واحدة.
لقد جمعتني اللغة الفرنسية بأكثر من أم، وأكثر من أب وأخوات وأخوة، لم أكن لأراهم لو لم أكتب هذه الشهادة، لولا هذا الحزام.
تقرر أن تصدر "الحزام" بعد سنة في طبعة شعبية عن الدار نفسها. وهذا يعني أن "الحزام" تنتقل إلى الحياة الأدبية الأبدية في فرنسا على الأقل.
كيف تمكنت من الوصول إلى "غاليمار" من دون أن يتوفر لك أي دعم سياسي أو تاريخ أدبي يفتح الأبواب؟
ليس أنا الذي اختار "غاليمار" هي التي اختارت "الحزام". انه المعيار الذي دفع "غاليمار" ودور نشر أخرى فرنسية كبرى لاستقبال "الحزام". وإذا كنت قد قررت في النهاية أن تكون هي "غاليمار" وبصيغة أخرى لأنها عنوان لقبيلتي الأكثر بهاء في العالم، أعني قبيلة الشعراء.
وقد أمضيت نصف العمر تقريبا" في مدينة صاخبة ومشعة مثل باريس، أين خبأت هذه "القرية" التي خرجت بها علينا، وكأنك لم تتركها بعد؟
كيف يترك الإنسان روحه يا صديقي في القرية وفي المملكة تشكلت روحي، وفي باريس اكتشفت عقلي، واكتشفت القرية والمملكة. لأن باريس تتيح للإنسان أن ينمو كفرد، في حين لم أكن في المملكة إلا خلية في جسد هائل. وقد استطعت أن أوفق بين الثقافتين إلى الحد الذي أبدو فيه متوازنا" على الرغم من كل الآثار التي خلفتها هذه المرحلة في أعماقي. و"الحزام" نص روحي، لم يكن في إمكاني كتابته إلا في باريس التي تستحق نصا" أو نصوصا" لا أدري متى تأتي.
كأنني أرى في "الحزام" حالة احتجاج سلاحها "قوس قزح" ضد نمط الحياة السريع والصاخب في أوروبا؟
لا، ليس احتجاجا" على الحياة الصاخبة، لأنني لا أعرفها ولم أتمكن نفسيا" وماديا" الاقتراب من هذا الصخب الذي أسمع عنه ومن بعيد ولا أراه. ولأن من خصوصيات هذا الصخب أن يمنحك الاختيار. وليس أمام قروي مثلي إلا أن يقيم في قريته، وهذه إحدى فضائل باريس الديمقراطية، وقد قلتها "آه يا باريس لولا وطني لمت".
خصصت المجلة الأدبية في فرنسا Magazine Litteraire عمودا" أشبه بالقصيدة عن الحزام. وقال عنه الكاتب الفرنسي كلود مورتي في مقالة له بأنه هو الشعر نفسه.
هل "الحزام" هي بديل لمشروعك البحثي حول "المملكة في القصة القصيرة" والذي عزفت فيما يبدو عن إكماله؟
لو لم أنجز بحثي لما تمكنت من كتابة "الحزام"، والحزام مقطع من أطروحة انطلقت من ذلك السؤال القديم: "هل غادر الشعراء من متردم؟"، مرورا" بكل الأسئلة المغيبة في تاريخنا، في حاضرنا وفي مستقبلنا.
لماذا كل هذا الاحتفاء الفرنسي، هل سببه في تقديرك الموضوع، اكتشاف الآخر، اللغة أم هو الموضوع بكل تفاصيله؟
سأتباهى وأقول لك "اكتشاف الذات" ولدي من القراء- ومن كل الثقافات- شهادات كلها تعلن انتماءها لهذه القرية. منها مثلا" شهادة الكاتب والمحلل الفرنسي بونتاليس الذي قال لي في إهداء خاص " لأحمد أبو دهمان الذي جعلني أؤمن بأن الكلمات القادمة من بلادة تقول العالم وتعيد صياغته".
وشهادة الكاتب الأرجنتيني البيرتو مونفيل "هذه غابة صغيرة في وسط حزامك".
وشهادة الكاتب الفرنسي آلدوناوري الذي وضع قريتي في مستوى الجنة مقارنة بجهنم الغرب.
نشرت صحيفة "لوموند" إعلانا" في الصفحة الثالثة من الملحق الأدبي لها - ربع صفحة. وتحت صورة أحمد أبو دهمان وردت العبارة التالية:"اثنا عشر فصلا" من التجلي والأناقة كأحجار كريمة. مصقولة تأخذنا بعيدا" جدا" وعاليا" جدا"".
هل ولدت "الحزام" خلال سنواتك الطويلة في باريس، أم كانت في أعماقك من هناك؟
إنها من هناك من دون تحديد ومن دون تردد، لكن أي "هناك؟".
ماذا تريد أن تقول للقارئ الفرنسي من خلال هذا العمل وقد حدث كل هذا الاستقبال المثير؟
ربما قيمة "الحزام" الحقيقية إنها تجاوزت مفهوم هذه الرسائل. والقارئ ليس فرنسيا" فقط. نحن يا عزيزي جزء أساسي من ذاكرة البشرية، حتى نحن البدو البسطاء من تلك الجبال البعيدة. نحن جزء من هذا النشيد الأبدي. وما علينا إلا الوصول إلى هذه الحقيقة البسيطة جدا" التي لم نعد نراها ونلقي لها بالا" على الرغم من أهميتها وبالذات في هذه المرحلة من العصر.
ماذا بعد "الحزام"؟
الفقراء لا يعلنون عن ثرواتهم عادة، لكنني تجاوزا" سأكشف لك أنه مازال هناك بعض الغناء.
ماذا عن كتابة النص مرة أخرى بلغتك الأم؟
اللغة الأم، كم أحب هذا التعبير الجميل، وكم هي أم فعلا" . بعض القراء الفرنسيين يتمنون أن أكتب لهم إهداء باللغة العربية، وعندها أنتصر لأمي وأمك، لأمنا جميعا. بالتأكيد سأكتبه بالعربية رغم الآلام التي تنتظرني.
هل تعتبر نفسك محظوظا" في هذه الخطة الجميلة؟
الطبعة الخامسة في الطريق، والذي يعنيني هنا هو أن الاحتفاء يتجه لبلادي، لإنسانها الذي حاول بعضهم إخفاءه تحت سواد "البترول" ومشتقاته.
الشرق الأوسط-الخميس 15/6/2000