بيروت - محمد الحجيري
قال الشاعر بسام حجار ذات مرة: «منذ 40 عاماً وأنا أحيا في مدينة ساحلية لا تشبه المدن في شيء. كي أحيا في المدينة التي أريد، اعتزلت كل نطاق خارج شقتي الصغيرة. فالشيء الوحيد الذي ابتكرته ربما هو وهمي بأني أحيا في الحيز المحذوف، وأني أحيا ما أريد في رأسي، وفي النطاق الذي يتيحه لي جسدي».
رحل الشاعر الهادئ بسام حجار قبل أيام قليلة، وهو خلال مسيرته الشعرية كتب «حياة الآخرين، والآخرون كتبوا حياته». «إنه شخص في لوحة إدوارد هوبر»، انتمى الى كتابته، التي حذف بها الوقت، وأنسن الأشياء وروّضها في لغته: الباب، الجدار، الظل، الغرفة، والشجرة والحجر والسروة، وحمل إليها حياتها وتنفسها، وحفظها ومنعها من التبدد الذي هو نصيبه. فالأشياء توكلت جمع آثاره: «سوف تحيا من بعدي، سوف تحيا الأشياء ولا يزول منها إلا العرض الذي رأته عينا الرجل الذي كان هنا لا يزال، العرض الذي أقمت فيه أعواماً هي الأعمار كلها (من «مجرد تعب»).
حلّق حجار في فضاء الشعر المحض، في فضاء الشعر وحده، القائم على التجريب، وعلى النص الرومنطيقي الميتافيزيقي مع ما يكتنفه من ظروف النفي وتلاوينه، وأعاد تشكيل العالم مراراً وتكراراً. العالم المقيم على مزاعم اللبس والغموض وهوامش الحياة. حفر حجار في ثناياه ونبش ركامه وأحوال النوم والضوء والهواء والنسيان والطيف... إنه شاعر اللحظة العابرة واللطيفة والمفعمة بالأحاسيس والهشة الحنونة. قال: «ليس بوسعي أن أكون شبيهاً به، لأن لا مظهر، ولا هيئة لي. كان وسيماً، مستقيم القامة، إلى نحول، عصبي المزاج والحركة. وكنت أحاكي حركاته، وسكناته، ثم غادرني، ولا أعلم إذا كان يصحبه ظل آخر هناك. وأصبحت هنا بلا نفع، أو قيمة، حتى وددت لو تمر بي سلحفاة، فأكون ظلها، لو يمر بي كلب فأكون ظله» (نص «حكاية الرجل الذي صار ظلا»).
وكتب: «كان يوسف يحب أن يروي لنفسه حلما / يضحك أو يبكي، أو يبقى ساهما / ويروي أن التعب تعب / والنهار مشقة / والليل ليل / وأنه دخن ستين سيجارة في اليوم، ولم يكتب حرفا / وأنه أحب الشرفة، والرواق، والرصيف والسـروة، وباب المدرسة الحديـد / وأنه عاش ومات لأن الموت حكاية / والحكاية هي ما يبقى / أو ما يزول أو ما يروى». (من كتاب «بضعة أشياء»).
أكثر من ذلك، فقصائد حجار الخاطفة، التي لا تتسع إلا لصور عابرة ولوصف أحوال عاجلة بلا أثر، يختلط فيها الغريب والمألوف بالتفاصيل الدقيقة ويخترقها نفق النفي (أو السلب) الذي يأتي معادلاً لغريزة الهدم والسوداوية، فتنعقد القصيدة في خدمة «معنى المعنى»، كما يقول الناقد الجرجاني، ويتولّد الكلام من المعاني.
معنى المعنى الذي نجده في نصوص حجار وقصائده، نلمحه في لوحة للفنان ماغريت اختارها الشاعر غلافاً لكتابه «سوف تحيا من بعدي». ماغريت في لوحته الشهيرة «الغليون» التي كتب تحتها تعبيراً خارقاً «هذا ليس غليونا»، هو في لوحته التي اختارها حجار، كأنه يقول هذا ليس رجلاً، هذه ليست مرآة. ففي اللوحة على غلاف الكتاب، قبالة المرآة، يقف الرجل مديراً ظهره للناظر من الخلف، وهو الرجل نفسه ناظراً الى نفسه من خلف، بشعره اللامع وثيابه الأنيقة: «وما كنت الرجل بل شجن الرجل الذي يقيم هناك» (من «مجرد تعب»). والشجن هو هباء الرجل الى المرآة، ناظراً، ربما، لا يرى شيئاً، مصغياً ولا يسمع أحداً.
حجار ليس له ظل، بل هو ظل نفسه، الظل الذي يدور عليه الوقت، يبدّل من أحواله وهيئته: «الصبح يجعلني منبسطاً على سوية الأرضية المعلمة، والظهيرة تلصقني بالأشياء العمودية الواقفة ولا تتعب، ثم تتدرج بي الحال الى استطالة تشوه قوامي الطيفي حتى يكسرني الغروب بانعكاساته الشفقية الى نصفين» (من «مجرد تعب»). هكذا وجد الشاعر في الصورة مرآة لشعره في الظل ومرآة لنفسه، وللأحوال التي نظر إليها، بمفرداته القليلة، كونه خشي الوفرة والاتساع. لكن المفردات القليلة محبوكة في سياق تفاصيل دقيقة ومعان دقيقة «جوانية» تجترج الغرائب والعجائب. فإذا أحصى مفرداته لن يعثر منها إلا على 12 مفردة هي أثر، غريب، مفردة، درب، حكاية، ظل، أبي، صحراء، رمل، بئر، كتاب، معجم. لكن الإيحاء في الشعر خصب، إذ حفر الشاعر نفق المفردة المظلم وخلّف وراء ظهره القصيدة وضوءها وظلها.
حفر المفردة بالقول السهل، وفي كل قصيدة كرّر الشاعر بياناً عن إرادة الشعر. هكذا خشي حجار الوفرة وأقام في «مزاج اللبس والوضوح، على العتبة عند المفترق من كل شيء»، لم يصدق من الرواية إلا شتاتها، وانطلق من عالم قوامه المنزل وأشياؤه، النافذة وأكاذيبها أو حكمتها، الباب وتعابيره، أو كتب ما يطلّ على المنزل من زوايا الشارع وأقداره المستترة. احتفى بالبيوت لأنها نقيض الشوارع المشرعة على الكوابيس والصدمات.
السروة
الشاعر حجار مديني في شعره، وليس في مدينيته من الريف سوى السروة التي هي هتاف الوحشة، ومشجب الأصداء: «وللسروة روح، ربما كانت جندب الظهيرة الثرثار، أو ربما الأوام، أو الأرق، أو دوام الانتظار بلا رجاء، أو ربما الرجع لست أدري، وليس يدري الغريب كيف تكون الأرواح هائمة، وهي لا تشبه أن تكون بشراً، أو شجراً، وقال إن السروة شجن الشجرة، وليس الشجرة، ولا ظل لها ؛ لأنها ظل الشجرة، ولا يحسن الظل أن يكون روحاً، ولأنه غريبي صدقت أن الصدى روحي، وأنني ربما كنت روح السروة».
السروة تتحوّل في الأرواح، والانفعالات السردية التي تمثل دورها في المسرحية، الشجرة تجسد الانتظار، والأرق، والشجن كدوال مادية فاعلة من خلال أثر الشجرة الكوني، السردي لا تكوينها المحدد. والغريب في بعض الشعراء العرب استغرابهم أن يستشهد الشاعر محمود درويش بالشاعر بسام حجار في قصيدة السروة، كأن هناك شاعر ملك وشاعر جارية، الأرجح أن الاستغراب ناتج من عدم الثقة بالنفس والقصيدة.
يميل حجار في عالمه الشعري الى تصغير العالم الى حجم جورب أو ظل، أو حجر، ويجد في الأثاث والأشياء أقنعته وفواجعه وأسراره، ومحطاته المطابقة لوجدانه وعزلته الوحشية. فهو ضيف بين الأثاث المنزلي وخائف منه، قريب منه وبعيد عنه، يجد بيته كيانه القائم بذاته وصوته الذي يخصه في علاقاته مع الأشياء، في اختبار هذه الأشياء من خلال الكناية وميراثها.
كيان حجار الشعري في جوانب منه يشبه المناخ الكافكاوي، الذي تنتهي فيه الحياة الى الخرائب والمرارات والأشلاء والعبث. لكن السوداوية التي يدأب الشاعر على كتابتها، تكتّفها اللذة المنطوقة في النص. لذة تأخذ القارئ الى الشوق والرواق و{الشهية التي تبقيه في حالة رجاء دائم»، كما يعبّر رولان بارت.
صاحب «سوف تحيا من بعيد» يبقى في صراعه مع أشيائه، مع إلفته وإصغائه لأشيائه. يعيش سفره المقلق بين أمتار حجرته، بين أثاثاتها، يتحسسها بيده وبصره وسمعه وأنفه، يذهب الى استنطاق صمتها وصخبها الداخلي الخفي. ويتساءل حجار في كتابه {مديح الخيانة»، عمّا إذا كان الشعر «حد استقراء الصمت فقط». فالشاعر في نظرته الى الأشياء حوّلها الى قول «ما لا يقال»، وذهب في نظرته الى صمت القصيدة، الذي ينجم عن الأعمال السحيقة: و{الكلام لشدة ما لا يقال قطرة دماء على طرف إصبع» (من «مهن القسوة»).
«ما لا يقال: الألم حين ينظر»، «ما لا يقال: عينا طفلة خلف النافذة»، و{»ما لا يقال هو تمام معجم الأشواق» (من كتابه «معجم الأشواق»)، وما يقال صعب تصديقه أو القبول به: «لم أصدق من الخبر إلا صفته، من الرواية إلا شتاتها». وقال أيضاً: «لأروي كمن يخاف أن يرى لأرى كمن يخاف أن يروى»... وفي مكان آخر «لأروي/ كلاماً يشبه ما يروى/ في النوم/ أفكار تشبه ما تحلم/ به الأفكار».
هكذا اكتفى الشاعر من الحياة بالنظر الى ألفة الأحوال، الى كومة ذكريات وأحاسيس لا تقال ولا تروى أو لا تكون حين تروى وحين تصبح خبراً.
الغياب
كتب حجار الفقدان والغياب ولحظاته القاسية، أو كتب الألم، الذي ربما هو مرآة الأحوال كلها. كل شيء يصل بنا الى الألم. واختار للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا عبارة: «لا ليس أنا، إنه غيري من يتألم/ مثل هذا الألم ما كان في طاقتي واحتمالي». وهذه العبارة توطئة لسلسة قصائد تحمل جميعها عنوان ألم، وأي ألم في مرثياته الرائعة لأبيه وأخته...
في مجموعته «تفسير الرخام»، اشتغل صاحب «ألبوم العائلة» على الموت بشكل رئيس، روّض الموت، وأعاد ترتيب شعثه الأدبيّ، كي يجعله واحداً من الأشياء الأليفة.
تتألف مجموعة «تفسير الرخام» من ثلاث قصائد فقط: «لم يقل لي أحدٌ ما معنى الأسى» و{مزار بجنب الطريق» و{تفسير الرخام».
افتتح الشاعر كتابه بثلاثة استهلالات، واحد من الإنجيل، وثان من «كتاب الهوامش» لأدمون جابيس، وثالث من كتاب «أحجار» لروجيه كايوا. والاستهلالات كلها تتحدث عن الحجارة، بما يشي بعلاقة النصوص مع الموت، متجسدة في القبر. يقول جابيس: «الحجر هو، بلا ريب، أقل أشكال الأبد فصاحةً، غير أنّه بالتّأكيد أكثرها قابلية للتعيين. فوقه تنتصب صروحنا، وتعصف عواصفنا، عندما يستحيل الحجر شفيفاً، أو بالأحرى، عندما تستحيل الشفافية حجراً، تغدو أحلام الأرض قاطبة قابلة للقراءة».
يبقى أن حجار اشتغل على شعريات النثر بوصفه نثراً من سلالة النثر وحده، زجّ القارئ في عمامته الشعرية كمن يجر اللغة الى أبعد من اللغة، في كتابة رهيفة منتقاة من تجربة إنسانية يتعذّر على أي لغة التعبير عن أبعادها كافة. فلكماته هي معنى مظاهر الوجود السري... وفي لغته تكملة لما ذهب إليه الفيلسوف مارتن هيدغر، حول تحوّل الفكر الفلسفي من وجهة نظر عالمية حول الكائنات والأشياء، إلى علم للوجود والكينونة المتمثلة في التكوين المتعين المرتبط بالزمن والتاريخ، ولهذا تتنوع الأنماط التحليلية وتتفاوت انطلاقاً من اختلاف الظروف .
قصائد حجار مكتوبة بلغة واحدة هي العربية الفصحى، العربية التي تؤدي عشرات الوظائف الشعرية الرفيعة من دون فذلكة «الموسيقى الداخلية» و»التفجير اللفظي»، وتنفتح اللغة على حوار المعنى، وتسعى الى اختبار الشعر الذي ينزع الى {المطابقة» والنفي، كما يقول في مقدمة كتابه «سوف تحيا من بعدي».
حجار لم يكن ماركسياً يوماً وإن كتب في جريدة «يسارية».