رأى عدد من الشعراء والنقاد، أن جيل السبعينات يدينون بنوع من الولاء والأبوة والإخوة للشاعر الراحل محمد عفيفى مطر، والذى احتفل بيت الشعر، مساء أمس، بذكرى رحيله الأولى، وشارك فى الاحتفالية الدكتور شوكت المصرى، والدكتور عبد الناصر حسن، محمد سليمان، محمد سعد شحاتة، والدكتور محمد عبد المطلب، ووائل قنديل، وقدم الأمسية الشاعر حلمى سالم، وأعقبها عرض الفيلم التسجيلى "رباعية الفرح"، من إخراج على عفيفى.
وقال الناقد د.عبد الناصر حسن، أستاذ الأدب العربى والنقد الأدبى، إن عفيفى مطر له صلة لصيقة بجيل السبعينات من الشعراء، وهى علاقة معقدة، لأنها احتملت الشد والجذب والتوافق والاختلاف، ولكنى أظن أن جيل السبعينات يدينون له بشىء من الولاء والأبوة والإخوة.
وأضاف عبد الناصر حسن، أن كثيرا من الناس يتهمون عفيفى مطر بالغموض ويرون أن هذه صفة سلبية فيه، موضحًا "وهم على وجه التأكيد لا يفرقون بين الإبهام والغموض نفسه، وهناك فرق كبير بين الغامض المحبب المطلوب فى الشعر، وبين الإبهام"، وأضاف "كانت قصيدة مطر هى التى تؤسس للممتد، فهناك من يكتبون الشعر الآن وهم كثيرون ويرون أن الشعر يجب أن يؤخذ رد فعل فورى عليه من الجمهور، وإنما أن تبيع المجد الزائف من أجل التاريخ فهذا قليل، وهذا ما فعله مطر فاستطاع أن يحفر معانى ودلالات فى جبين التاريخ، من خلال قصيدته الحية الباقية، والتى لا زلنا نقرأها يوميًا".
واستكمل حسن: على المستوى النقدى كان يصعب على كثير من الأساتذة أن يصبروا على قراءة نص عفيفى، وأنا أتصور أن النص الجيد هو الذى لا يبوح لك بأسراره من أولى قراءاته، وأن نص عفيفى مطر يحتاج لثقافة موازية له يجب أن تتوافر عند الناقد، حتى يتعرف على معالمه الحقيقية، الطابع العرفانى والنظرة الفلسفية ولغة التراثية وعمقها، والبعد الرعوى المتمثل فى الطقوسية والمتمثل فى صورة الفلاح.
ومن جانبه أضاف الشاعر حلمى سالم معلقًا: أن شعراء السبعينات يدينون لعفيفى مطر بثلاثة أشياء وهى "جرأة التجريب ودرسه الحاسم وأن الشعر ملزم لا ملتزم، وصلابة الفلاحين وسعة المتصوف". وقال القاص سعيد الكفراوى "لقد ظل عفيفى مطر يمثل الضد فى مواجهة أى سلطة تهين الإنسان، فاعتقلوه وعذبوه بلا رحمة حين أعلن موقفه المعارض من غزو العراق، حينما زرته فى سجن "طره" روعت حينما رأيت التعذيب على وجهه وبدنه، يومها كان حزينًا ومنكسر الخاطر، كانت جراحه شريرة ومروعة، لحظتها هتفت لنفسى لقد عذبوه يا للعار".
وأضاف، عاش محمد عفيفى مطر، طيلة عمره وسط الجماعة الهامشية من الكتاب، لم يمدح سلطة ولم يشارك فى زيف، وقبل أن يموت قال لى: حياتى مغسولة بعرقى، ولقمتى من عصارة كدحى واستحقاقى، لم أغلق بابًا فى وجه أحد، ولم أختطف شيئا من يد أحد، ولم أكن عونًا على كذب أو ظلم أو فساد.. اللهم فاشهد".
وقال الناقد د.محمد عبد المطلب: كان عفيفى دائمًا كلما سألته فى شعره يرّد على بمقولة الفرزدق "على أن أقول وعليكم أن تتأولوا"، مشيرًا وحينما أخبرنى شوكت المصرى بموت عفيفى هاتفيًا طلبت منه أن يضع سماعة الهاتف على أذن عفيفى وقلت له مع السلامة يا عفيفى.
وأكد عبد المطلب على أن أعظم ما قدمه عفيفى مطر هو أنه أحيا لغةً كانت قد ماتت ومازالت حتى يومنا هذا تتردد.
--------------------------------
اليوم السابع- الإثنين، 25 يوليو 2011 - 15:21
***
الشاعر محمد عفيفي مطر
«على قدر قوة الاحتمال والصبر وصلابة الإرادة تكون قدرة الكائنات على مغالبة ظروفها الصعبة، والدفاع عن وجودها وتحديد مصائرها، وانتزاع حقها في الأمل والفرح». بهذه العبارة الموجزة الدالة لخص محمد عفيفي مطر تجربته الحياتية ومسيرته الإبداعية والإنسانية، ولم تصدق كلماته السابقة على أحد قدر صدقها عليه.
الراحل الكبير محمد عفيفي مطر (1935-2010)، أحد أركان الحركة الشعرية المصرية والعربية في تاريخنا الأدبي المعاصر، وصاحب تجربة حداثية شديدة التراكب والتعقيد، مرت ذكراه الأولى منذ أيام قلائل، دون ضجيج أو صخب، بعد رحلة حياة حافلة بالإبداع الصادق المتفرد المتوهج. انتمى محمد عفيفي مطر إلى "جيل الستينيات" الشعري، الذي سعى بقوة ودأب لإثبات شرعيته الفنية وجدة قصيدته الحداثية في مواجهة تيارات شعرية حاربت بضراوة لنفي تجارب الأجيال الفنية الأحدث منها، وكان ذلك في سياق رفض أصحاب القصيدة التقليدية لقصيدتهم المحدثة واتهام أصحابها جملة بالخروج على سنن الشريعة الفنية للقصيدة العربية.
ولم يكن أمام رواد حركة الشعر الحديث إلا الثورة على العناصر البنائية للقصيدة الشعرية التقليدية، والجذور الإيقاعية للجملة الشعرية و"الصورة الشعرية"، والسعي لترسيخ عناصر ومقومات التشكيل الفني للقصيدة الحداثية، في إطار أفق إنساني رحب يتراسل مع آفاق الثقافة العالمية، سواء على مستوى المضمون أو على مستوى الشكل، وكان السجال على أشده بين المدرسة الجديدة، والمدارس التقليدية السائدة آنذاك. في سياق هذه المرحلة التاريخية من تشكّل حركة الشعر المصري الحديث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بزغ صوت محمد عفيفي مطر الشعري، لاحقاً لصوتي أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، ومزامناً لأصوات زملائه محمد إبراهيم أبو سنة، وأمل دنقل، وفاروق شوشة. وتفرد محمد عفيفي مطر من بينهم بمسار شعري ذي طبيعة خاصة ونسيج متفرد قدر الإمكان، وتبدى بوضوح أنه صوت شعري حداثي مفارق لمجايليه ممن سبقوه على الدرب، ومثّل نقطة تحول فارقة في مسار حركة الشعر العربي الحديث، إذ عدّه كثير من النقاد والمتخصصين أحد آباء الحداثة العربية في القصيدة الشعرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان بمثابة الأب الروحي لشعراء السبعينيات والنموذج الأوفر حظاً في الاحتذاء واتخاذ قصيدته الشعرية نقطة انطلاق لآفاق أرحب من التجريب والتجديد في القصيدة العربية.
ولد محمد عفيفي مطر الشاعر الحداثي الطليعي في مايو من عام 1935م، بقرية رملة الأنجب بمحافظة المنوفية، وقضى تعليمه الأولي بها، وحصل على دبلوم المعلمين، ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة عين شمس التي تخرج فيها وحصل على ليسانس الفلسفة منها. وعقب تخرجه، عمل مدرساً للفلسفة بوزارة التربية والتعليم. وكان من اللافت أن هذا القسم بالأخص، قد شهد تخرج عددٍ ممن أصبحوا أسماء لافتة في حركة الشعر الحديث، وخصوصاً من أبناء جيل السبعينيات، مثل حسن طلب، وجمال القصاص، ومحمود نسيم، وعبد المنعم رمضان الذي انتسب للقسم ذاته ولكنه لم يكمل دراسته به.. كان لعفيفي مطر تجربة فريدة في النشاط الثقافي المصري خلال الفترة (1968 ـ 1972) بإصداره لمجلة «سنابل»، أحد المنابر الثقافية التنويرية التي صدرت بعيداً عن أضواء العاصمة ومغرياتها، في محافظة كفر الشيخ، لكنها لم تصمد طويلا تحت وطأة الضغوط التي أدت إلى إغلاق المجلة عقب نشرها لقصيدة أمل دنقل الشهيرة "الكعكة الحجرية" عام 1972م، فترك مصر بعدها وسافر إلى العراق ليعمل بها محرراً في مجلة «الأقلام» العراقية (1977 ـ 1983) واستقر بها لمدة عشرة أعوام، وكان طول مكوثه بالعراق لكل هذه الفترة من الدواعي التي حَدَتْ ببعض شانئيه أن يشيعوا عنه أنه كان عميلا لحزب البعث العراقي، وأنه أحد الأبواق المطنطنة للرئيس العراقي آنذاك صدام حسين.
وخلال هذه الفترة أصدر مطر ديوانه الشهير «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» الذي لفت إليه الأنظار بشدة بحدة إيقاعاته وعلو نبرة الرفض والتهكم اللاذع وبروز علامات التمرد والعصيان الفكري والسياسي والفني معاً، وكان هذا الديوان بياناً صارخاً لحداثة محمد عفيفي مطر الشعرية في سياق حركة الشعر العربي الحديث.
وبعد عودته إلى مصر تفرغ لإبداعاته الشعرية، حيث أصدر خلال هذه الفترة دواوينه ومؤلفاته النثرية، وشارك في كثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية والمهرجانات الشعرية والندوات الأدبية.
وفي أوائل التسعينييات تعرض لتجربة بشعة، كانت من أشد التجارب وطأة على نفسه، وتركت آثارها في جسده وروحه إلى أن غادر الدنيا، حيث تم اعتقاله عقب مشاركته في مظاهرة ضد التدخل الأميركي في العراق، وخلال فترة اعتقاله تلك تعرض مطر لصنوف من التعذيب الوحشي والإيذاء النفسي والبدني مما كان له آثار بشعة انطبعت على صفحة روحه ونفسه، وعلى ما تبقى له من سنوات عمره التي استمرت عقب هذا الحادث ثمانية عشر عاماً، كان فيها مطر أميل للعزلة والسكون والانطواء، ولم يخفف من وطأتها أو يحد من آثارها حصوله على جوائز أدبية ذات قيمة معنوية ومادية عالية.
وفي ديوانه «احتفاليات المومياء المتوحشة» الصادر عام 1992م، حشد عفيفي مطر كل ملكاته الفنية وقدراته الشعرية ليسجل ويجسد في هذا الديوان ذي الطابع المأساوي تجربته البشعة والمريرة في الاعتقال.
توالت دواوين مطر الشعرية منذ مرحلة باكرة من حياته، حيث أصدر ما يقرب من أربعة عشر ديواناً شعرياً، هي: «مكابدات الصوت الأول»، و«من دفتر الصمت» 1968م، و«ملامح من الوجه الأمبادوقليسي” 1969م، و«رسوم على قشرة الليل»، و«كتاب الأرض والدم»، و«الجوع والقمر» وكلها صدرت عام 1972م، و«شهادة البكاء في زمن الضحك» 1973م، و«النهر يلبس الأقنعة» 1976م، و«يتحدث الطمي ـ قصائد من الخرافة الشعبية» 1977م، و«أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» 1986م و«رباعية الفرح» 1990م، و«فاصلة إيقاعات النمل» 1993م. و«احتفالات المومياء المتوحشة» 1993م.
أما أعماله خارج دائرة الشعر، فقد ضمت مجموعة كبيرة من المقالات والدراسات النقدية، وعدداً من الكتب والدراسات الأدبية المؤلفة، منها «شروخ في مرآة الأسلاف» 1982م، «محمود سامي البارودي: دراسة ومختارات»، بالإضافة إلى إسهامه المبدع في أدب الأطفال، أو إذا شئنا الدقة الأدب الموجه للناشئة، حيث ترك عدداً من غرر الأعمال الفريدة التي كان يعتبرها من فرائده الإبداعية في بابها، منها: سلسلة كتب «مسامرة الأولاد كي لا يناموا» التي ضمت «أقاصيص وحكايات»، و«حكايات الشعر والشاعر»، و«حكايات ومشاهد»، و«صيد اليمام». كما قام بتسجيل سيرته الذاتية «أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين» عام 1997م.
----------------------------------
الدستور- Sat, 2-07-2011 - 12:12 |
***
استنكر الشاعر شعبان يوسف تجاهل المؤسسة الثقافية الرسمية للذكرى الأولى لرحيل الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر، والتى تحل هذه الأيام، وقال يوسف خلال الأمسية التى عقدتها ورشة الزيتون الأدبية للاحتفال بذكرى مطر، وشارك بها نخبة من المبدعين والنقاد إن قبح هذه المؤسسة يجعلها لا تتسع لجمال عفيفى، بدليل أننا نرى الجوائز تتناثر هنا وهناك، دون أن تصيبه إحداها.
كما استنكر عدم تخصيص مؤتمر نقدى لدراسة ما وصفه بالبهجة فى شعر عفيفى مطر، وما ورائها من مراجع فكرية، ودراسات نقدية، فضلا عن سيرته الشخصية وكتبه للأطفال، وحواراته الصحفية «العزيزة جدا»، مؤكدا أنه لم يكن أقل من الشعراء أمل دنقل وصلاح عبد الصبور، وغيرهما ممن يتم الاحتفاء بهما.
ووصف مطر بأنه كان أشعر شعراء جيله، وأكثرهم إنتاجا، وأغزرهم ثقافة، تعجب يوسف من استبعاد صاحب «مجمرة البدايات» من جيل الريادة الشعرية فى الخمسينيات، الذى تصدره الشاعران أحمد عبدالمعطى حجازى، وصلاح عبدالصبور، لكنه فسر ذلك بـ«أسباب سياسية»، موضحا أن مطر لم ينخرط، مثلهما، فى الارتباط بالسلطة، فتمت زحزحته من جيل الريادة ليحسب على جيل الستينيات.
واختتم يوسف حديثه قائلا إن شعر عفيفى مطر كان وسيظل صادما، لأنه شعر شاعر غير استهلاكى، ولا مناسباتى، كان شاعرا وحسب، ويكفى أن تقرأ أى أو كل شعره لتكتشف ذلك.
متفقا مع يوسف قال الكاتب الكبير محمد المنسى قنديل إن هذا التجاهل كان ملاصقا لمطر حتى أثناء حياته، مشيرا إلى أنه كان شديد المرارة من تجاهل النقاد لتجربته، وهو ما أرجعه قنديل إلى عسر وصعوبة شعر مطر على الإمكانيات النقدية السائدة، لأن وراءه ميراث فكرى كبير.
واستعرض صاحب «قمر على سمرقند» بعض المحطات التى جمعته بمطر منذ أن كان مدرسا بكفر الشيخ، وحتى مجيئه إلى القاهرة وسكنه بشقة مصر القديمة، التى كانت بمثابة مأوى ومنتدى أدبى، ضم مكتبة وصفها قنديل بأنها كانت نادرة وقاسية، لأن أغلب كتبها كانت من أمهات الكتب، المليئة بالفكر والصراع، وتكاد تخلو من كتب الإبداع.
فى هذه الشقة كتب المنسى قنديل عدة أعمال أهمها «انكسار الروح»، وأكل وشرب مع غيره من كتاب جيله كسعيد الكفراوى، وامتلأ بمحبة عفيفى مطر، لذا يتعجب الآن من خلو الكون من «عفيفى»، وهو الذى كان أحد أعمدته، ولا يعرف «هو الكون ماشى إزاى من غيره».
مستكملا لجوانب هذه العلاقة قال القاص الكبير سعيد الكفراوى إنها كانت قريبة جدا وحميمة جدا، لأنها بدأت منذ أن جاءوا القاهرة من قراهم بالجلابيب، وقت أن كان الستينيون يستعدون لإطلاق مجلة «جاليرى 1968»، واستباقا لذلك التاريخ منذ كان عفيفى مطر يصدر مجلته الطليعية «سنابل» فى كفر الشيخ، ولم يفترقوا من وقتها إلا عند القبر.
رابطا بين ذكرياتهما معا، وسيرة وحياة صاحب «ويتحدث الطمى» توقف الكفراوى عند شعر مطر قائلا: إن شعره كان جزءا من اكتشاف الواقع، والحلم والأسطورة، إذ كان يتأمل ما يعيشه، وأضاف أنه كان شعرا مليئا بالكدح والعرق، مشيرا إلى أن عفيفى لم يكن يريد الموت قبل أن تصدر أعماله الكاملة، على ألا يأتيه هذه الموت إلا فوق طمى الأرض فى الغيطان.
كما تعرض الكفراوى لفترة اعتقال مطر أوائل التسعينيات، على خلفية معارضته الحرب على العراق، وزيارته له فى سجن مزرعة طرة»، وكيف خرج عليه حينها شبحا منهكا ومشجوج الرأس، لم تغادره الضربة ولا الإهانة حتى سرد وقائعها شعرا فى ديوانه المهم «احتفالات المومياء المتوحشة».
وكان الكفراوى بدأ حديثه بوصف مطر وشعره مستعيرا عبارة الأديب الأرجنتينى الكبير «بورخيس» قائلا: ذلك الرجل الذى رسم الأنهار، والتماثيل، والريح، والحياة والموت، والنمور، والمرايا، وحين تأمل ما رسمه وجد أنه كان يرسم نفسه»، لكنه اختتم حديثه بقسم بأنه رأى عفيفى مطر فى ميدان التحرير أكثر من مرة.
الناقد الكبير محمد عبدالمطلب كان استهل الأمسية بتطوافةٍ نقديةٍ قاطعتها وقفات إنسانية جمعته بالشاعر الراحل، عبر لقاءات كان أطولها بحسبه عبر الهاتف، بدأت مع ديوان «ويتحدث الطمى» فى السبعينيات، وفى منتصف الثمانينيات جاء ديوان عفيفى المهم «أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت».
روى عبدالمطلب ذكرياته مع هذا الديوان وعنوانه الملغز لدرجة أنه سأل عفيفى بعده: «هل كنت تريد أن تؤلف قرآنا؟» فرد عليه قائلا بأن عليه أن يقول وعليه هو أن يتأول.
وأشار إلى أن حواراتهما الدائمة كانت حول البدايات وكتابه «أوائل زيارات الدهشة»، مؤكدا أنه كان يعيد النظر فى شعرية عفيفى مطر أكثر من مرة، وفى كل مرة يعيد قراءته يفطن إلى أنه لم يفهمه فى المرة السابقة.
وشبه الناقد شعرية مطر بمسكن متعدد الطبقات، كل طبقة مثلتها مجموعة من الدواوين والمجاميع الشعرية قبل أن يصَاعد منها إلى طبقةٍ أعلى، بدءا من امتزاج الرومانسية بالواقعية فى الدواوين الأولى، مرورا بالإيغال فى الواقعية فى دواوين تالية، ووصولا إلى مرحلة العرفان الصوفى الذى تؤطره عبارة «النفرى»: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، ثم مرحلة الأحاديث النفسية مع الذات والآخر.
وأردف قائلا إن هذه الطبقات المتعددة لشعرية مطر استطاعت أن تنقل الشعرية العربية من الرومانسية إلى شعرية الموقف، وخلصت اللغة من المستهلك والمبتذل، وبدلتها من لغة توصيلية إلى لغة تقصد ذاتها. واختتمت الأمسية بمداخلة الكاتبة سهير المصادفة التى قرأت شهادة حول شعر مطر «بعنوان سلام عليك أيها الخضر» تناولت رؤيتها لشعر وأثر عفيفى مطر على الأجيال التالية، واستبقتها بسرد الصراع الذى استبق نشرها لديوان «أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت»، إذ كان رئيس هيئة الكتاب الأسبق سمير سرحان يرفض أن «يعتب» عفيفى الهيئة حتى لو كان الشاعر الأكبر، لأنه كان يهاجمه، ويرفض عفيفى بدوره النشر لدى المؤسسة.
وتخللت الأمسية قراءات لعدد من قصائد الشاعر الراحل بصوت الأدباء: سامية أبوزيد، جمال مقار، ويسرى حسان، تجنب أغلبهم أن تكون من طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، للأعمال الكاملة لمطر، لأنها مليئة بأخطاء الجمع والأخطاء المطبعية.
-----------------------------
الشروق- الجمعة 1 يوليو 2011 11:20 ص بتوقيت القاهرة
***
الاربعاء, 22 سبتمبر 2010
عندما كتب محمد عفيفي مطر قائلاً: «أنتظر القيامة/ وعودة الفروع إلى الجذور»، كان يضع لنا مفتاح رؤيته الشعرية كي نفهم علاقاتها في خصوصيتها وتميزها، صحيح أن كلمة «القيامة» تضعه في صف شعراء من طراز السياب وأدونيس وغيرهما من الذين أطلق عليهم جبرا إبراهيم جبرا اسم «الشعراء التموزيين» كشفاً عن طبيعة رؤاهم للعالم التي تنبني على أسطورة الولادة الجديدة التي تعود بها آلهة البعث الوثنية مع بداية الربيع، حيث يحل الخصب محل الجدب، والحياة بعد الموت، في دورة الفصول الكونية المنطوية على فكرة الدائرة من ناحية، والبعث المتجدد بكل آلهته تموز وأدونيس وأوزيريس وربات الخصب المصاحبات: عشتار وأنانا وإيزيس وغيرهن من ناحية موازية. وقد ظلت آلهة البعث الوثني وشعائره علامة ملازمة للشعراء الذين عاصروا ازدهار دولة المشروع القومي وسقوطه، سواء كانوا مؤيدين لهذه الدولة، أو معارضين لها، فقد ظلوا منطوين على نوع من التعظيم لقادة هذه الدولة، إلى الحد الذي كتب معه حجازي غنائياته في عبد الناصر واتحاده الاشتراكي، ودفع محمد عفيفي مطر إلى التفوّه بعبارات عن تعظيم صدام حسين إلى الحد الذي ألقاه في المعتقل المصري، في ذروة تأزم العلاقة بين النظام الساداتي والنظام العراقي، بتهمة الانتماء إلى حزب البعث، حيث نال من بشاعة التعذيب ما كان مصدر إلهام لديوانه «احتفالات المومياء المتوحشة» ولا أعرف، حقاً، هل كان محمد عفيفي مطر «بعثياً» بفضل السنوات التي عمل فيها في العراق، صديقاً لقيادات الحزب البعثي، أم أن بعثيته الباكرة هي التي قادته إلى السفر مع غيره من المثقفين إلى عراق صدام، هرباً من تحطيم السادات المتعمد لما بقى من صروح الدولة الناصرية القومية، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، مرتكباً خطيئة ظلت عالقة كالوصمة بتاريخه السياسي، فقد كان عليه الانتساب إلى حزب البعث في منفاه العراقي، وأن يشارك في الهجوم على النظام الساداتي من إذاعة مصر العربية التي ألقى فيها أحاديثه المعادية للنظام الساداتي، كراهية لهذا النظام من ناحية، وإرضاء لقيادات البعث من ناحية موازية، وكلاهما لا أهدف إلى إدانته في هذا المقام.
المهم أن «القيامة» التي يشير إليها السطر الأول تعطف محمد عفيفي مطر على غيره من شعراء «البعث» التموزي أو الأدونيسي أو الأوزيري، ما ظل هذا «البعث» حلم الجميع طوال فترة الخمسينات وأغلب سنوات الستينات لكن «عودة الفروع إلى الجذور» كانت تمايز ما بين شعراء هذه الفترة، فأدونيس كان يعود إلى الجذور الفينيقية، منذ نشأته الباكرة في القوميين السوريين، وبدر شاكر السياب كان يعود إلى الجذور التموزية المرتبطة بأساطير وادي الرافدين، وقس على ذلك غيرهما أما محمد عفيفي مطر، فكان يعود بالفروع إلى جذورها الإسلامية العربية بالدرجة الأولى، فقد كانت هي المبدأ والمعاد، لا يتباعد عنها إلا ليعود إليها، وذلك على النحو الذي تصاعد تدريجياً إلى أن تكامل مع ديوانه أنت واحدها وهي أعضاؤك انتشرت أعنى ذلك الديوان الذي يتضوع بعبقه الإسلامي الفريد وقد أهداه محمد عفيفي مطر إلى «محمد سيد الأوجه الطالعة، وراية الطلائع من كل جنس منفرط على أكتافه كل دمع ومفتوحة ممالكه للجائعين وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم» ولافت للانتباه توافق اسم المُهْدِي بضم الميم وكسر الدال محمد مع المُهْدَى إليه محمد، فتوافق الاسمان دال في سياق إسلامي عربي بالدرجة الأولى، ويقودنا إلى مركز الدائرة التي يبدأ من عندها ليعود إليها، في مدى حلم «القيامة» أو «البعث الجديد» ومن ثم كل محاولة إبداعية بهدف «عودة الفروع إلى الجذور».
وأتصور أن دلالات الإهداء تمضي في هذا الاتجاه، فمحمد النبي (صلى الله عليه وسلم) هو منبع الخير ونبعه راية الطلائع من كل جنس، مفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة في جسد العالم، كما لو كان حضوره القدسي هو نور المعرفة التي تبعث الحياة في جسد العالم، كي تنقله من الغيبة إلى الحضور، كما تفتح أبواب الخير للفقراء الجائعين في كل مكان هكذا يغدو الحضور النبوي المتضمن في الإهداء هو حضور نور البدء والختام، والمرتكز الذي يتفرع منه كل شيء ليعود إليه في عالم الإحياء بعبارة شعرية أكثر دقة كل عودة إليه هي نوع من القيامة التي يلزم عنها «عودة الفروع إلى الجذور».
ولا فارق كبيراً بين هذا التأويل الذي أذهب إليه ومفهوم الزمن الإسلامي العربي الذي ينطوي على لحظة زمنية مُثلَى، هي لحظة البداية الأسنى التي يقترن بها عصر ذهبي، أكمل في صفاته، انبعث كالنور وسط ظلمة الوجود ليترجع أفقياً في حركة المكان ورأسياً في حركة التاريخ عبر العصور، ولكن لا تتصل هذه اللحظة ولا تمتد أفقياً فحسب، أو على نحو صاعد، وذلك لخطيئة ينطوي عليها النوع الإنساني الذي لا يخلو من جرثومة فساد ملازمة لجوهر وجوده، وقد خرج بسببها من جنة الابتداء التي وجد نفسه فيها، والتي تأولتها بعض التفسيرات الدائرة حول الحديث النبوي المروي في مسند الإمام أحمد بن حنبل «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم.....» وتنتقل هذه الخيرية إلى ما يماثلها، إن لم يفق عليها في الفضل، وهو عصر الرسول الذي كان العصر الذهبي الذي ظلت تسترجعه، وتحلم باستعادته الطوائف التي آمنت بانحدار الزمن، ومنها محمد عفيفي مطر الذي ظل يحلم في شعره بزمن القيامة الذي يعيد التاريخ الإسلامي إلى خير زمن بدأه بفعل بعث أو استعادة أو «قيامة» مصحوبة بعودة «الفروع إلى الجذور» والزمن المستعاد، في فعل القيامة، هي اللحظة الذهبية للزمن المحمدي راية الطلائع من كل نوع، ما ظل حضوره النبوي كلام الحياة وابتداءها في جسد العالم وتلك رؤية ليست بعيدة تماماً عن الرؤية السلفية التي تسندها أحاديث ومرويات من قبيل «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
والعودة إلى اللحظة الأولى لهذا العصر الذهبي هي عودة إلى «جذر النخل والطلع المكتم في مساربه العميقة» في طريق يبدو كالحلم، والشاعر فيه كالحالم الذي يقول لنا: «ليس لي إلا سويعات من النوم السخيّ أمر فيه على البلاد وأستعيد الشمس والرعي الطليق، أكلم الموتى وأسمع ما تزمزمه العظام وأشد فيهم ما عقدتُ من العُرَى...»
والشاعر الحالم، في السياق نفسه، لا يستعيد اللحظة الأولى من تخلق نواة مجلى السلالة التي ينتسب إليها في الليل، حيث يمضي الحلم إلى غايته، كي ينظر ما تصاهر من دم، تتقلب الأنساب فيه بصبوة العشق المبرح:
بين عينيّ السموات العُلى مسكوبةٌ ما بين كفي الظلام حجارة تتقادح الأوقات فيها، الأرض روَّتني وبللت الرمال السافيات بريقَ عينيّ المحدقتين في شمس التذكر، أسمع الموتى، أكلمهم، وأخرج في سهوب النوم عرشي قائم الأوتاد في صمت البوادي والخليقة. وفي وسط امتداد هذا الصمت، بيت تهوى إليه القوافل والسابلة، ينبثق منه النور الذي يشع على العالم من ذكورة عشق البداوة، وأفق من النخيل والطير، والمسافات معجونة بالقرابين، والأرض ورد الدهان، والشاعر يمضي كأنه ابن النسور القديمة، وابن معلقة الشعراء، يؤاخيه قليب برود، وهو يحلم باللحظة الأولى التي خرج فيها المسلمون من هذا البيت الذي تهوى إليه القلوب والأفئدة، ويقلِّب عيني بصيرته بين جهات الحلم، فيكتب: السموات أرسلن لي شمسهن المضيئة بالفتح، والأرض تطوي صحائف أسلافها وأنا أول الوارثين وآخرهم. فيسترجع بالذاكرة التي تحن إلى زمنها الأول والأمثل انبثاق النبوة كالنور، في مدى العشيرة الأقرب، حيث يكتب السعف الحِمَى والأغصن المثمرات: دم يتناسل فيه النبوات والشهداء والكتابات والصرخة الفاتحة.
والنبي المصطفى يقرأ للمرة الأولى باسم ربه، في أمة هو واحدها، وهي تحت السموات أعضاؤه انتثرت، فالقراءة بشراه، والقوم ضده، والحصار يضيق من أثرياء قريش، لكن النبي يرقب الأرض ذات الصدع، والسماء ذات الرجع، والجبال تمر مرّ السحاب، ويطول به الحال الذي يستبطنه الشاعر الحالم، كاتباً: جسدك تهليلة السموات والأرض وما بينهما لائذ بك، يدخل الأسواق، يأكل الطعام، يتخفى فبالعشائر أنت والأمهات هل يكيدون ويكيد الفقراء كيدا بل يمكرون ويمكر الفقراء.
وتمضي معركة الدعوة في قلب الجزيرة العربية، إلى أن يشرق نور الإسلام على كل أرجائها، وتستعيد الذاكرة الشعرية مجد السلالة التي تنتسب والعصبية العرقية الدينية التي لا تفارقها، فلأمر مقدور هبطت الرسالة بين العرب، كي تستقوي بدينها الذي جعل منها خير أمة أخرجت للناس، منحازه إلى الفقراء الذين هم مِلح الأرض، ومنبع جند الله التي تنطلق في الأرض كأنها: ديمومة للريح العصوف لجامها المرخى وأمداءٌ من الكرّ الفسيح/.../ ترتوي عرقاً وتصهل بين أشفار المناجل والسنابل تضرب الأرض القديمة في نُعاس الحمل/.../ يستجيش بها علو المد والموج.
ولا تتوقف الخيل المجنحة المندفعة في سَفَر الحمية، وكرامة الأعراق، ونبل الرسالة، والخليقة مطوية تتقلب بين نهارات الفتح وغسق الموالفة، وأمم تدخل في دين الله، تحل عراها وتفتح أكمامها في مسيرة الفاتحين، وبحر الروم يعلو فوق أطراف الحراب، وشواهد الأسلاف تبرق بالأهلة والبكاء الفرح، والأرض شققتها شهوة المطر الذي تستجيب خيوله المطلوقة في الغيم، والزمن استدار على أوله كيوم بدء الخلق، أو بدء الفتح، هكذا يبتدئ الإسلام زمنه ومعجزة فتوحه التي تحمل الوشم بالميراث والولاية والسموات تهمس لكل واحد من الفاتحين «أنتسب للشجر الأخضر والفقر الصريح». وتهمس للشاعر الذي يتقمص لحظة الفتح، في فعل استرجاع الذاكرة:
«فكن سماء وهي أرض ينبوع وجبل تسكين وإذا تحركتَّ فلتكن حركة إحياء».
وهو يطيع، فيبتعث لحظات الابتداء التي انطلق منها المجد العربي الإسلامي، أو الإسلامي العربي، بلا فارق، منطوياً على سر البعث الذي يكمن وراء حركة الإحياء الطقسية، فينفذ بسلطان شعره من أقطار السموات والأرض، ناظراً ممالك الجن الفسيحة، وقلق الإنسان ومستقبل حلم الرسالة، وكلما تحقق جزء من هذا الحلم شعر ببعض ما تنطوي عليه النعمة الكبرى التي يحول دونها شقاق قبائل السلالة، وأطماع تجار قريش القديمة الجديدة التي نسيت الانتساب للشجر الأخضر والفقر الصريح، فتسترجع الذاكرة قريش التي نسيت السقاية وأغواها العرش، فامتلأت خزائن الرشوة والجباية، وامتدت ظلال أبى سفيان، أقنعة تلبسها الوجوه، وخزائن مال في أزمنة المجاعة والوباء، ويقتل عبد مأجور عمر بن الخطاب الذي لم يفارقه نقاء السلالة والانتساب للشجر الأخضر والفقر الصريح، وينثال دم عمر على الصحراء التي بدت كأنها تقول هل من مزيد؟ وتمرح جرثومة الفساد التي ينطوي عليها الإنسان بغواية الثراء ويزيد الطين بلة العناصر غير العربية التي تسللت إلى الحضارة العربية كي تفسدها، وتهيمن عليها بما يكسر من اندفاع رسالتها التي يرفرف جناحاها على كل ما هو قرين خضرة الخصب والعدل الذي يعين الفقراء الذين تنطبق عليهم صفة «الفقر الصريح» هكذا، تنحدر شمس الحضارة العربية الإسلامية، وتبدأ دورة الجدب المرادف للموت المصاحب للهزائم وانحدار التاريخ الذي لم يكمل صعوده، فانكسر في عهد مبكر على يدي الذين تجسّدت فيهم النطفة السوداء الكامنة في المخلوقات، تلك التي تغذّيها نوازع الشر الموجودة في الإنسان الذي تنحرف به غواية الثروة، فتحيل الخليفة العادل عمر إلى خليفة ظالم، يؤسس لملك عضود معاوية لكن بعد مقتل عمر على أيدي أثرياء قريش الذين أفسدوا رؤية العدل الذي أراد أن يحققه، فدسوا عليه من اغتاله، وأضاع حلمه، فجاء عثمان الذي أسلم رقاب الناس لعشيرته الأقربين، فحدثت الفتنة التي انتهت باغتياله، واغتصب الخلافة معاوية بن أبي سفيان الذي وصفه محمد عفيفي مطر، من وراء قناع عمر، بأنه التجسيد الضار لرأس المال الذي يتحكم في الناس ويتأسس الملك العضود مع ابن معاوية الذي يسلمه لأبنائه، لكن بعد أن أصبح مسؤولاً عن قتل الحسين حفيد النبي، ووارث حلم العدل الذي افتدى المسلمين بدمه، كي يتحقق حلمه عن العدل، لكن سدى، بعد أن استبدل يزيد ابن معاوية بعباءة الخلافة صولجان الملك، ودفع بجنده إلى حصار الحسين ورهطه، محيلين بينه والماء، كي يموت عطشاً، في مشهد يصوغه الوشم الأول من «وشم النهر على خرائط الجسد» فنقرأ على لسان الحسين: «وأرى في الشاطئ الثاني جنود الملك القاسي يدقون الرِّماح بيننا نهر من الماء ونهر من مساحات الوجوه بيننا أرض أمومة وفطام، بيننا أرض الأذلاء المهانين، وأيام العروش ومماليك الدم الواحد، والخبر النحاسيُّ، وتاريخ السجون. * جزء من دراسة طويلة عن الشاعر المصري الراحل محمد عفيفي مطر.
****
قال لي مرة "محمد عفيفي مطر" ، الشاعر وصانع المجازات .
كنا نسير آخر الليل في مدينة لا تعرف النوم ، ولا تخلو من دبة القدم ، لكن عند الفجر تقدم نفسها كمدينة هادئة . "ولدتني أمي في الحقول ، ذهبت لتملأ جرتها من الترعة البعيدة ففاجأها طلق المخاض وهي تغمس الجرة في الماء ، فدخلت بين أعواد الذرة ودون مساعدة من أحد أخرجتني إلي الدنيا ووضعتني في حجرها وعادت بي مسرعة ، وعلي ساقيها كما أخبرتني خيوط الدم" .
صمت لحظة ثم واجهني وعاد يقول :
"ربما لهذا السبب يحمل شعري لحظة الميلاد تلك ، وتحمل مضامينه معني الطمي والدم وأسطورة شمس الصيف القادحة!!"
هو محمد عفيفي مطر الذي عرفته من العمر أربعين سنة ، وخبرته معلق قلبه بين مخالب الطير في الأعالي وكلما حط يستريح نفرته الدهشة وانفتحت أمامه مسالك الأفق .
كانت رفقة باقية تعكس المشترك بيننا ، وتجسد ما أمنا به طوال السنين من قيم ومعايير ..الحرية والعدل ومحبة الأوطان واحترام البشر في كل تجلياتهم .
ظل طوال عمره يدافع عن طهارة الروح بفطره تشرق من مشرق النور حيث قلب القصيدة التي تنتمي له وحده ، والذي ظل يغزلها طوال عمره بذلك الصبر الرواقي ، وتلك اللغة شديدة الخصوصية والتي تملك القدرة علي تفكيك الزمن فتختلط عبرها الأزمان وتشكل زمنها الخاص فلا فرق عند مطر عن الزمان الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، حيث مفهوم الشاعر للفن والحضارة ، لأن زمن الفنان واحد .
محمد عفيفي مطر (1935-2010) دارس الفلسفة الذي كتب الشعر أول الخمسينات مع صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ، ولأسباب سياسية ورغبة من السلطة في تهميشه ، احتسبوه علي جيل الستينات .
تنقسم تجربة الشاعر إلي دوائر :
الأولي : مجمرة البدايات ومن دواوينها الجوع والقمر . من دفتر الصمت .يتحدث الطمي . وهي الدواوين التي اعتبرها الشاعر بطاقة التعريف الأولي بنفسه ، وبكونه الشعري ، وبعالمه الذي يعيش فيه .
الدائرة الثانية : دوائرها شغلتها أحوال الملوك ، وتواريخ العسكر وقيامات الأمم وانهياراتها ، واكتشاف سطوة الجماعة ،عبيدها وساداتها ، واتسمت بذلك الأفق الفلسفي ، وتساؤل التواريخ من هيباتيا وسيد قطب ، وهي مرحلة التعصب القومي ، والعنصرية تجاه الآخر ، وامتزاج الفلسفة بالشعر ، وتجلي ذلك في دواوين : ملامح من الوجه الانبذوقليس .رسوم علي قشرة الليل . كتاب الأرض والدم . شهادة البكاء في زمن الضحك .
ثم كانت الدائرة الثالثة ، وكان ديوان : والنهر يلبس الأقنعة . ورباعية الفرح وأنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت .
وانتهت تلك المرحلة بديوان السجن والاعتقال : فاصلة إيقاعات النمل حتى الخاتمة بكتابة السردي : أوائل زيارات الدهشة ، عن فترة التكوين والبحث عن الأصول والوعي بالمكان والزمان واستحضار مايكون وعي الشاعر فتأملا حواسه الخمس فكان كتابه المهم الذي انفتح علي المسالك ، وأزمان الطفولة ، وهذا الكتاب بالذات اعتبرته ديوان عفيفي الكبير.
ظل عفيفي مطر يمثل الضد في مواجهة أي سلطة تهين الإنسان . اعتقلوه وعذبوه بلا رحمة حين أعلن موقفه المعارض من غزو العراق .
زرته في سجن "طره" وروعت حين رأيت التعذيب علي وجهه وبدنه . يومها كان حزينا ومنكسر الخاطر ..كانت جراحه شريرة ومروعه لحظتها هتفت لنفسي لقد عذبوه .. يا للعار!!
عاش محمد عفيفي مطر طوال عمره وسط الجماعة الهامشية من الكتاب ، لم يتبع سلطة ولم يشارك في زيف .ارتبط بأقاليمه الثلاثة : بالنهر من أدني عتبات الحواس الخمس صعودا إلي آفاق الرمز والرؤيا ..وارتبط بالذوبان الحسي إلي الملاحقة الصوفية في تجليات النقائض ..كما ارتبط بالفضاء المفتوح علي الشمس والإصغاء لحركة النظام الكوني وتأمل الأفلاك.
رحم الله محمد عفيفي مطر الذي تمني دائما أن يموت علي أكوام السباخ في القرى ، وقال قبل رحيله :
"حياتي مغسولة بعرقي ، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي ، لم أغلق بابا في وجه أحد ، ولم أختطف شيئا من يد أحد ، ولم أكن عونا علي كذب أو ظلم أو فساد ..اللهم فاشهد" .
فليرحم الله شاعر العرب الكبير.
----------------------
الرياض-