ترى ماذا كان ليكتب اليوم؟ حفيد عمر بن أبي ربيعة الذي أشعل الحرائق في الذوق السائد أواسط الأربعينيات. قفز فوق النظم الأخلاقيّة والقوالب الشعريّة المتعارف عليها، ليقتحم قلعة اللغة الحصينة بمفرداته المنعشة، الناضحة بأشياء الأنوثة، العبقة بالياسمين الدمشقي، المغمّسة بندى الرغبة، المستقاة من التجربة اليوميّة وتفاصيلها العابرة... وها هو بعد عشر سنوات على غيابه، يحتلّ المساحة نفسها، خارج الشعر كما يفهمه ويتذوّقه كثيرون ربّما، إنما في قلب وجدان الجماعة وذائقتها.
نزار قبّاني (٢١/٣/١٩٢٣ - ٣٠/٤/١٩٩٨) شاعر المرأة. شاعر الإباحيّة. شاعر العصيان والجرأة والبوح والغضب السياسي. أكثر من مدرسة شعريّة. إنّه حالة اجتماعيّة، وظاهرة ثقافيّة. لقد نقل المزاج العام من عصر إلى آخر، وجعل الكتابة والشعر واللغة، تتسع لأمور لم تكن ممكنة قبله. ولا بدّ من أن العرب صاروا “يحبّون” بشكل مختلف بعد نزار... بين ليلة وضحاها، مع ديوان «قالت لي السمراء» (١٩٤٤) ثم «طفولة نهد» (١٩٤٨) الذي قدّم له معلناً أن «الشعر يهزأ بالحدود»، صار شاعر الحريّة (رغماً عنها)، وشاعر المرأة (على غفلة منها)... شاعر العشق الذي أحبته النساء من المحيط إلى الخليج: كنّ يَرتحْن إلى صورتهنّ في قصيدته، ولو منمّقة ومنمّطة، مخمليّة وجوفاء... قصيدته كانت جميلة وعفويّة وساحرة، مطعّمة بالنرجسيّة، كانت مفهومة ومحكمة، قريبة من الأذن، أمينة للأحساس والرغبة، وملأى بالثمار الممنوعة.
واجه نزار منذ ديوانه الأوّل أعتى الحملات وأشرسها. كتب الشيخ علي الطنطاوي سنة ١٩٤٦ في مجلّة «الرسالة» المصريّة: «طُبعَ في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف ناعمه (...) فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، يشتمل على ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرّسة الوقحة، وصفاً واقعيّاً، لا خيال فيه لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال بل هو مدلّل، غني، عزيز على أبويه (...). وفي الكتاب تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسّط، وتجديد في قواعد النحو، لأن الناس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول به (...)».
لقد حطّم القوالب الجاهزة، وخلخل بنية الثقافة التقليديّة، قبل أن يصبح مؤسسة بدوره مع السنوات السفير السابق الذي تفرّغ للشعر، وعاش منه ومن الشهرة التي حققها مبكراً في سمائه، صار ماركة مسجّلة، نمطاً ولغة وكليشيهات وقوالب يتبارى الجميع على محاكاتها. صار المحبّ الولهان يدسّ كلمة «سيّدتي» في كل جملة من خطابه العاشق.
نزار حالة لغويّة. في سنواته الأخيرة لم يعد مهمّاً ماذا يكتب. الكلّ يريد أن ينشر له، والكل يريد أن يحاوره، أن يسمعه يلقي على الحضور تعاويذه السحريّة... والشاعر كان يمارس غوايته الارستقراطيّة، كحسناء لعوب، جاعلاً نرجسيّته محور العالم. كتب «أبو جهل يشتري فليت ستريت» (شارع الصحافة اللندني العريق)، لكنّه بقي حتّى أيّامه الأخيرة ينشر في الصحافة السعوديّة. شاعر اللهو ومحطّم التابوهات الذي فصّل «من جلد النساء عباءة»، وبنى «أهراماً من الحلمات»... والذي قال عنه علي الجندي ذات يوم: «نزار هو الوسيم، الأنيق، والثري، ابن التاجر الدمشقي الكبير. حتى عذاب الحب لم يعرفه»... هو أيضاً شاعر الغضب السياسي، والجرح (القومي) المفتوح.
بعد النكسة كتب «الأعمال السياسيّة»، واشتهرت قصائد مثل «هوامش على دفتر النكسة» أو «حوار مع أعرابي أضاع فرسه». كما ردّد الطلاب الغاضبون في شوارع السبعينيات العربيّة قصيدته «خبز وحشيش وقمر» (١٩٥٤) لإعلان «عصيانهم»... في مرحلته الأخيرة، استعاد ذلك النفس فكتب «المهرولون» التي أوجعت النخبة السياسية والثقافيّة العربيّة. نصّه المرير اليائس «متى يعلنون وفاة العرب؟» أقام الدنيا وأقعدها: «أنا منذ خمسين عاماً،/ أراقبُ حال العربْ./ وهم يرعدون، ولا يمطرون.../ وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون.../ وهم يعلكون جلود البلاغة عَلْكاً/ ولا يهضمون...».
ترى ماذا كان ليكتب الآن شاعر «يوميّات امرأة لامبالية» (١٩٦٨)؟ اللغة سبقته في تحررها وذاتيتها، والنساء العربيات، وصولاً إلى جيل رنا التونسي وإيمان إبراهيم، ما عدن في حاجة إلى «ناطق» باسمهنّ. «المهرولون» اتسعت رقعتهم، ولو أن التسمية اللائقة سياسياً لتحديدهم هي «المعتدلون العرب». «أبو جهل» و«أبو لهب» يتوزعان الأدوار ويمسكان زمام الأمور بيد من حديد. بيروت لم تعد ست الدنيا منذ دهر، ودمشق ياسمينها تعب من انتظار الربيع، وغرناطة أبعد من أي وقت مضى، ولندن ليس في مقاهيها زاوية صغيرة «خالية من العرب»، ونساء قصائده ما عدن يقبلن الدعوات إلى العشاء، و«مملكة الحواس» انهارت، أو تكاد...
يوم رحيل صاحب «الرسم بالكلمات» (١٩٦٦)، عارض بعض المتشددين الصلاة على جثمانه في جامع لندن، في ريجنت بارك... فيما خرقت نساء دمشق التقاليد، ورافقن الجثمان إلى المسجد خلافاً لما تقتضيه الأعراف السائدة، قبل أن يوارى الثرى في مدفن «باب الصغير» في حي الشاغور الشامي. كانت تلك التحيّة الأخيرة، نوعاً من ردّ الجميل، من قبل نساء العرب لشاعر أفنى العمر في حبّهنّ، وشذّ باسم العشق عن القواعد، وطوّع اللغة كي تتسع لخفّة الغواية ومجانيّة الرغبة. انتهر المرأة قائلاً: «ثوري، أحبّك أن تثوري...»، أرادها أن يخرجها من الخباء الجاهلي إلى الضوء الساطع، فخورة ومدلّلة ومرفّهة ولامبالية و... فاضية البال!
«بريفير» العرب قرّب الشعر من الناس، وجعله الخبز اليومي للجماهير، ولعلّه أبعده قليلاً عن الشعر أيضاً... لأن هذا الأخير يضيع قبل أن يجد طريقه إلى الأكثريّة الساحقة. واليوم بعد عشر سنوات على غيابه، ما زال لكلّ نزاره. هناك من يحبّه في السرّ، ومن يحبّه في العلن. ومن يحبّه وفاءً لمراهقة بعيدة أو شباب مبكر. بفضله قام كثيرون بخطوتهم الأولى في هذا العالم السحري، قبل أن يهجّوا بعيداً على دروب الشعر. لا أحد يمكنه أن يتبرّأ تماماً من نزار قبّاني. من منّا لا يعرف عن ظهر قلب قصيدة له على الأقلّ، بيتاً استفزازيّاً أو عنواناً مجلجلاً؟ هذا الكلام ينطبق خصوصاً على أجيال وجدت نفسها ذات مرّة مخيّرة بين عذريّة سعيد عقل الذي يقول لنا: «أبقى الأثر ما لم يزل موصداً»... ونزق نزار الذي يطلق تحذيره القاطع: «مجنونة من مرّ عهد صباها ولم تلثمِ».
سيرة
حفيد الرائد المسرحي أبي خليل القباني، أبصر النور في 21 مارس 1923 من أسرة دمشقية عريقة. فور تخرّجه عام 1945، دخل السلك الدبلوماسي متنقلاً بين العواصم، وخاصة القاهرة ولندن وبيروت، حتى استقالته عام 1966. أصدر أول دواوينه «قالت لي السمراء» عام 1944، لتبلغ أعماله على مدى نصف قرن 35 ديواناً، بينها «طفولة نهد» و«الرسم بالكلمات».
أسّس دار نشر لأعماله في بيروت باسم «منشورات نزار قباني»، وكان لبيروت موقع خاصّ في شعره، بعد دمشق مدينته طبعاً، عبّر عنه في قصيدته «يا ستّ الدنيا يا بيروت». أحدثت النكسة مفترقاً حاسماً في تجربته، إذ أخرجته من صفة «شاعر المرأة والحبّ» لتُدخله معترك السياسة. وقد أثارت قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» عاصفةً في العالم العربي، وصلت حدّ منع أشعاره في وسائل الإعلام. عرف مآسي شخصية كثيرة، بدءاً من وفاة زوجته بلقيس الراوي عام وصولاً إلى وفاة ابنه توفيق الذي رثاه في قصيدته «الأمير الخرافي توفيق قباني».
عاش السنوات الأخيرة من حياته وحيداً في شقته في لندن يثير المعارك بقصائده السياسية مثل «متى يعلنون وفاة العرب» و«أم كلثوم على قائمة التطبيع»، حتى رحيله في 30 أبريل 1998 www.nizarq.com
مثل فيكتور هوغو الذي فجع بفقدان ابنته ليوبولدين فكرّس لها بعض أجمل قصائده، فإن اسم نزار اقترن بـ... بلقيس. بلقيس الراوي (العراقيّة الجنسيّة)، تزوجها الشاعر عام 1969 بعد خروجه من مأساة وفاة زوجته الأولى زهرة. لكنّ القدر انتزعها منه في بيروت عام 1982، في حادثة انفجار السفارة العراقية. يومها حمّل الشاعر المجروح القادة العرب مسؤولية وفاتها في قصيدة بعنوان «بلقيس» جاء فيها: «بلقيس../ إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب/ ويأكل لحمنا عرب/ ويبقر بطننا عرب/ ويفتح قبرنا عرب/ فكيف نفر من هذا القضاء؟/ فالخنجر العربي... ليس يقيم فرقاً/ بين أعناق الرجال.. وبين أعناق النساء...!».
سينما الفؤاد
القدس المحتلة ـ نجوان درويش
أن تتذكر نزار قباني في ذكرى رحيله العاشرة، يشبه تذكّر دار سينما قديمة عرفتها في مراهقتك، أو ترددت عليها ذات زمن يبدو الآن «ذهبياً» بلا مبرر... سينما اشتهرت في الخمسينيات أو الستينيات، وعرفتها أجيال لاحقة. أنت عرفتها مطلع التسعينيات وهي تبثّ هجائيات سياسية ضد «الهرولة» و«اتفاقية غزة أريحا» وتتساءل «متى يعلنون وفاة العرب؟». سينما بَنَتْ سمعتها العاطفية الواسعة على إقبال محرومي الحب ومكبوتي الجنس، وأيضاً على التواقات والتواقين إلى مستقبل أفضل للجسد العربي. وسّعت قواعدها بتقديم تنزيلات ضخمة على تلقي الشعر. ضربت الأسعار من دون تفكير في العواقب. وفي إعلاناتها ما انفكت تدغدغ خيال الأسرى بكلمات «التحرر» و«الحرية».
لعلّها إحدى تلك «السينمات» التي شاهدت فيها أفلاماً «غرامية»، وبعضاً من البورنو، أو اصطحبت فتاة لأول مرة لمشاهدة فيلم عاطفي رائج من صناعة هوليوود أو... الهند! هناك شربت قهوة جاهزة وسندويشات أي كلام، لكنها كانت شهية وقتها. بالتأكيد لم تشاهد في هذه السينما أفلام بيرغمان أو كيروساوا أو كياروستامي. لم تشاهد سينما بالمعنى العميق للكلمة. لكنّ أهمية تلك السينما أنها كانت الأكثر رواجاً وتأثيراً في زمنك. سينما قومية بمعنى ما. مرتبطة في الذاكرة الجمعية بحوادث ومناسبات وندوب. صانعة لما كان يسمى «وجداناً شعبياً». وأنتَ شخصياً مدين لتلك السينما التي يبدو كلامك عنها الآن مشوباً بنغمة النكران. سينما جامعة لـ«أمّة» تتناهشها الطوائف والعصبيات القبلية والأصوليات من جهة؛ ولصوص الحكم والمستعمرون الجدد من الجهة الأخرى.
صحيح أنك لا تحب كثيراً قصائده عن فلسطين، لكنك مدين للحرقة التي كتب بها فلسطين: قضية جامعة وفكرة جامعة للعرب في مواجهة مشاريع استلاب وقِوادة دولية. وهي الحرقة ذاتها التي كتب بها لبنان وكل أرض وقضية عربية. مدين لفروسيته وأنت ترى «شعراءَ كباراً» يدفنون رؤوسهم في الرمل عند كل عدوان إسرائيلي جديد. كان لنزار صوت عال يسمعه العرب جيداً، يُفتقد اليوم بقوة. كل سينما مغلقة اليوم تذكرني بنزار. يخطر في بالي حين أمر قرب المبنى المهجور لـ«سينما الحمرا» في القدس. وكذلك تذكّرته بين مجموعة من الأصدقاء، قبل أسبوعين، ونحن نمرّ بمبنى كبير ومطفأ في ليل بيروت. قالوا إنها «سينما بيكاديللي» التي أغلقت بعد الحرب الأهلية.
رئيس جمهورية الشعر
حسين بن حمزة
الشعر الذي ملأ به نزار قباني دنيا العرب وشغل ناسه، بات مستبعداً اليوم أن يواصل مهمته بالسهولة نفسها. المشكلة ليست في شعر نزار وحده. الشعر، عموماً، ضجر من مواكبة مآسي العرب الكثيرة وأفراحهم النادرة، أو شتم أنظمتهم وحكامهم بالجملة. كما أنه ضجر، من أداء دور المرشد العاطفي لمراهقين في عشقهم الأول. الشعر العام، أو العمومي - بحسب عبد المنعم رمضان - لا يجد اليوم جمهوراً غفيراً. ما صنعه نزار ليس قابلاً للتكرار، ولعله ليس قابلاً لنيل الاستحسان الذي ناله أيضاً.
نزار شاعر موضوعات وعناوين كبيرة. كان يشتغل عند التاريخ ولا يجد وقتاً ليعتني بما يتطلبه الشعر
وقد تلذّذ بأداء هذا الدور الذي منحه الجانب الأعظم من شهرته. في شعره السياسي، كان شاهداً على عصر. يمكن قراءة قصائده باعتبارها سجلاً لتواريخ مفصلية. كتب عن فلسطين. عن هزيمة حزيران. عن زيارة السادات. عن التطبيع. عن حصار بيروت. عن اتفاق أوسلو. أذاق العرب صنوفاً من الشتائم، جامعاً بين جلد الذات وجلد الحكام.
في شعره عن المرأة، كان أكثر حساسية. كان صاحب اقتراح شعري كبير، وخصوصاً في مجموعاته الأولى. كان مفاجئاً أن يُكتب شعر بتفاصيل تبدو وقتها غير شعرية. ولا نبالغ إذا قلنا إن نزار هو أحد الآباء الحقيقيين لـ«الشعر اليومي» و«القصيدة الشفوية» و«شعرية التفاصيل». يكتفي شعراء هذا النوع عادة بذكر الماغوط كسلف شعري. وينسون فضل نزار.
بسهولته وبساطته، وجد هذا الشعر طريقه إلى عامة الناس... مفكرة رومانسية تؤرخ لشؤون الحب.
أغلب القراء عاملوه على هذا الأساس. إذا أحبوا أول مرة وجدوا ما يناسبهم في شعره.. وإذا فقدوا حبيباً أيضاً. العشاق الصغار أنفسهم كبروا وانضموا إلى جمهور شعره السياسي الذي شفى غليلهم على أزماتهم ومآسيهم. جمع الرجل المجد من طرفيه، طرف الحب وطرف السياسة. كان شعره نوعاً من العلاج والتنفيس عن الآلام. ولهذا تلقى شهادات لا تحتفي بشعره بقدر ما تحتفي بموضوعات هذا الشعر.
لدى الجمهور العريض الذي يأنف من غموض الشعر، الشاعر الحقيقي هو نزار. معه صار الشعر متاحاً ومفهوماً ومنتشراً. وكان نزار يفخر بشعبيته، ما دفعه يوماً إلى القول إنّه لو رشّح نفسه لرئاسة الجمهورية لفاز بأغلبية الأصوات.
ياسمين دمشق يسأل: أين متحف الشاعر؟
دمشق - خليل صويلح
كلما نأى بعيداً، ازداد حضوره في الذاكرة. تلك هي صورة نزار قباني في الوجدان الشعبي اليوم. عشر سنوات على غيابه لم تمحُ رنين كلماته في الشوارع وخلف نوافذ العشاق وفي حناجر المغنين، كما لم يخفت عطر ياسمينه فوق أسوار دمشق القديمة التي شهدت صرخته الأولى في حارة مئذنة الشحم. الشاعر المتمرد والطليعي أعاد تظهير صورة جده الأول أبو خليل القباني رائد المسرح العربي على نحو مشابه. إذ غادر الجد دمشق القرن التاسع عشر منفياً إلى مصر، بعدما أحرق الظلاميون مسرحه، فيما اضطر الحفيد إلى التجوال في عواصم العالم، حاملاً دمشق بين أضلاعه مثل قربان، ليعود إلى ترابها أخيراً، فتشيّعه المدينة كما يليق بشاعر.
كانت قصيدته «خبز وحشيش وقمر» (1954)، سبباً لإشعال الحريق، إذ ثار عليه بعض رجال الدين وطالبوا بقتله فكان أن غادر دمشق ليعيد كتابتها على نحو آخر في نوستالجيا نادرة، ظلت تتكرر في قصائده حتى آخر حياته. وحين صدر مرسوم جمهوري بتسمية أحد الشوارع باسم صاحب «الرسم بالكلمات» (1966)، قبل رحيله بأشهر، قال مغتبطاً «هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنة... تذكّروا أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع، لعبت فوق حجارته، وقطفت من أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره».
كان ديوانه الأول «قالت لي السمراء» (1944) الذي طبع منه ثلاثمئة نسخة، بثمن أسورة ذهبية لجدته، بمثابة زلزال شعري كاسح أصاب الخريطة العربية بكل تضاريسها وسباتها الشتوي الطويل، لتستيقظ على معجم آخر، وأبجدية معجونة بالنار والتراب في هجاء مرير، وزمهرير شعري أطاح الجميع. ها هو شاعر شاب يتمرد على كل القيود والأعراف في قطيعة صريحة مع المرجعية التراثية، ويكتب قصيدة تُخرج المفردة من عتمة القواميس لتتحول إلى عصفور يحط على النوافذ. شاعر غاضب ينطق بصوت المرأة وقضاياها بمعجم جديد وكيمياء تمزج المألوف والبسيط واليومي بالمجاز، وإذا بالقصيدة تولد من رحم العشب والماء، وتنبت بكل ما هو حميمي وعفوي ومسكوت عنه. قصيدة تتنزّه في الشوارع على هواها، وتنثر العطر تحت نوافذ العشاق، بعدما أدارت ظهرها لجزالة اللفظ وفخامة المعنى، وأسست لسلّم موسيقي مصنوع من الحرير يعمل على الحواس والظلال. شاعر يكتب عن «الحب والبترول» في نص واحد، ويهتف بصوت صريح أن جسد المرأة ليس عورة، وأن الأنثى موضوع شعري مستقل بذاته، وليس له علاقة مباشرة بصليل السيوف والخطابة. نزار قباني الذي لم يخرج من عباءة حزب أو أيديولوجيا، كان حزباً وحده، وقد أحرق سفنه في وضح النهار، وأبحر في مياه مجهولة، وإذا به يملأ الدنيا ويشغل الناس مثل متنبي جديد يتأبط قاموس عمر بن أبي ربيعة.
على أسوار شارع الحمراء في دمشق، يرصف البائع دواوين نزار في طبعات شعبية مقرصنة، كأن لكل جيل طالع حصته وطوافه حول نار هذا الشاعر الرجيم. الشاعر الذي حوّل الكلمات إلى لهبٍ وغضب وبركان في أكبر انقلاب شعري يشهده ديوان العرب المعاصر، وخبز يومي في متناول الجميع. وها هي الطبعة الـ33 من «قالت لي السمراء» تباع بدولار واحد فقط.
وفي الشارع الذي يحمل اسمه، سيعرّش الياسمين مجدداً على الأسوار، إذ تقوم ورشة من محافظة دمشق بحملة لزراعة أشجار الياسمين في حدائق البيوت التي تطل على الشارع، وذلك وفاءً لذكرى الشاعر، كأن الياسمين تعويذة تحمي روحه من الفناء. وعلى ناصية الشارع نفسه تضيء لوحة إعلانية ضخمة بكلماته «لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرّش الياسمين على أصابعي». اللوحة هدية احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية - 2008». وقد كان صاحب «الحب لا يقف على الضوء الأخضر» (1985)، أحد المحتفى بهم، إذ طاف ممثلون في الحدائق والساحات العامة لمناسبة اليوم العالمي للشعر والذكرى الخامسة والثمانين لمولده، وألقوا قصائد نزار قباني في عشق دمشق، أليس هو من قال ذات يومٍ بعيد «وددت لو زرعوني فيك مئذنة أو علّقوني على الأبواب قنديلا»؟ من جهة أخرى، أصدرت الأمانة العامة للاحتفالية كتاباً تذكارياً عن الشاعر بعنوان «نزار قباني: قنديل أخضر على باب دمشق» أعده خالد حسين.
لكن ما مصير «متحف نزار قباني» وهل ماتت الفكرة في مهدها؟ ليس لدى المعنيين إجابة عن هذا السؤال، سواء وزارة الثقافة أو وزارة السياحة أو محافظة دمشق. إذ سبق أن أطلقت أكثر من مؤسسة رسمية فكرة إقامة متحف يضم آثار الشاعر، ومقتنياته الشخصية، ومسودات قصائده ورسائله. لكن الفكرة طويت منذ أعوام على رغم توافر أكثر من مكان مناسب لإحياء ذكرى الشاعر.
هذا الإهمال، يعيد إلى الذاكرة مصير بيت أبي خليل القباني أو «خرائب البيت». إذ قيل إنّ وزارة السياحة في صدد ترميم البيت وتحويله إلى فضاء مسرحي مكشوف، ومكتبة مسرحية على أن يفتتح خلال هذا العام لمناسبة «احتفالية دمشق» ثم طويت الفكرة أيضاً، وربما أُجِّلت حتى إشعار آخر!
شارع نزار في ذكرى رحيله يخلو من العشاق، وبالكاد يتذكّر أحد أنّه يسير على رصيف شاعر العشق. أما زيارة قبره في مقبرة «باب الصغير» في حي الشاغور، فتحتاج إلى دليل: الضريح محاط بسور من الحديد الأخضر، ومن بين القضبان يطل الرخام حيث يرقد الشاعر إلى الأبد، إلى جوار شجرة زيزفون، وقد كُتب على شاهدة قبره عبارة واحدة «نزار قباني: فقيد الشعر العربي».
القارئ أولاً
وائل عبد الفتاح
نزار قباني علامة تجارية. دليل المراهقين إلى حفلات الفوران العاطفي. الغرام الصاخب وطقوس الندب السياسي. واللقاء الأوّل مع المحرمات. لا يمكن اختصاره بأنّه «شاعر ما يطلبه المستمعون». نزار يعرف مستمعيه ويلاعبهم، يقودهم إلى خيمته ليسمعهم المدهش والصادم والمستفز لأول طبقة من الحواس. يقف عند هذه الدرجة حتى لا يفقد أوسع جمهور ممكن، جمهوره يصطف في خانة الأعداء قبل أن يصبح من المريدين. عدوته الأولى هي السلطة (السياسية والاجتماعية). نزار منافسها في اصطياد الجماهير. نزار ليس شاعراً بالمعنى الحديث، إنّه شاعر قبيلة، بالضبط هو شاعر القبيلة الحديثة حيث تختفي القبيلة القديمة تحت قشرة رقيقة من المدينة الحديثة. نزار هو مغني القبيلة، لكنه يرتدي ملابس عصرية خفيفة، وبدلاً من احتفال القبيلة، يصعد الشاعر على أكتاف التظاهرة.
نزار أعلن أكثر من مرة عن سعادته بأنّه محرض. في أواخر قصائده، قاد طقساً شعرياً يلبي غريزة مازوشية في تعذيب الذات تفاقمت منذ حزيران 1967 حين بدأت فكرة لطم الخدود، وحفلات البكاء والنواح والشتيمة. فعل جسدي وذهني يتوقف عند حدود لوم الذات، الجمهور يستمتع، والشاعر ينتشي. وقتها تداولت شريحة من المثقفين المجروحين قصائد نزار من «هوامش على دفتر النكسة» كالحبوب السرية.
شاعر موهوب وسليل عائلة خارجة عن تقاليد الفن وذوقه، طبقة وسطى دمشقية، نجومها هم المتمردون على القشور المحافظة، متمردون يصنعون طبقة جديدة، تبدو حديثة. لكن، بعد قليل، يصبح تمردهم محافظة جديدة. تماهى نزار مع الحداثة الشعرية وكتب لغة أقرب إلى الصحافة تصدم المتعود على المجازات الذهنية الكبرى. حداثته ألقت بظلال كثيفة على كل من كتب الشعر، كانت قصائد نزار سريعة الانتشار. بحث عن لغة مختزلة، كما فعل يوسف إدريس عندما عثر على لغة سرد خارج التطوّر الرتيب لكتابة القصص. بدايتهما كانت تقريباً في وقت واحد. «أرخص ليالي» كتاب يوسف إدريس الأول كان في 1952، قبلها بسنوات قليلة، كانت مجموعة نزار الأولى «قالت لي السمراء» تصدر في بيروت. الاثنان طالعان من نكبة فلسطين وما تلاها من تفكيك لمؤسسات الفن والذوق، ناهيك بالسياسة والسلطة.
ولم يكن جديداً على الشعر العربي الأوصاف الحسية للمرأة، لكن نزار ظهر في فترة استعارت البرجوازية أخلاقها من العصر الفيكتوري، ولم يتمرد شعراؤها على الرومانتيكية الساذجة. كان جواً خاملاً، تقليدياً، وكان طبيعياً أن تكون قصائد تتحدث عن النهد والحلمات والنبيذ والحشيش والأفخاذ... قنبلة في ساحة معبد فرعوني.
المرة الثانية جاءته الشهرة من لعبة«ما يطلبه المستمعون»، فبدت اللغة خارجة من «ريبرتوار» قريب للأذهان، سهل الالتقاط، يتكرر لدغدغة الجمهور الراقص في حلبة تشبه الذكر، أو الديسكو. هذه الاستجابة جعلت من نزار «نجم شباك». لنسمعه يشرح معادلته: «أعتقد أن التغيير الكبير الذي أحدثته، هو إنزال الشعر إلى الشارع العام، وتحويله إلى مادة متفجرة، وحركة عصيان شعبية. لا أحد يستطيع أن يقول لك اليوم إنّه لا يحب الشعر، أو لا يقرأه أو لا يفهمه. فلقد مزجت الشعر السياسي والشعبي في كأس واحدة، وأزلت الكلفة نهائياً بين القصيدة وبين من كتبت من أجلهم. بكلمة واحدة، ألغيت فاكهة الشعر من حياة الناس، وأطعمتهم حنطة الشعر».
الشاعر أصبح سجين صوره «المبتكرة»، كان جاهزاً على الدوام لتلبية نداء الجمهور المدوخ على طريقة الدروايش في حفلات الذكر، أو منصات الديسكو.
لاعب ماهر يفهم خبايا السوق الشعري، يلعب على الساخن والملتهب من المشاعر، لا يزورك في أحلامك أو كوابيسك. إنّه مثل الأغنيات الخفيفة والقصص المسلية رفيقة ساعات السفر، هذه ضرورتها وربما روعتها المحببة. إنّها دائماً في المتناول. القارئ أولاً: هذا شعار نزار قبّاني الذي كان موهوباً في فهم قانون الخلود... في اللحظة الراهنة.
شعراء مصريّون في ذكراه: العاشق باق... والسياسي صلاحيّته محدودة
القاهرة - محمد شعير
كيف ينظر الشعراء المصريون إلى نزار قباني بعد عشر سنوات على رحيله؟ هل لا يزال حاضراً أم دخلت قصيدته متحف التاريخ؟ وهل ما زال ناطقاً رسمياً بلسان العشاق، أم غطّت السياسة على قصائده الغزلية التي وجدت طريقها بسهولة إلى الجمهور؟
سببان رئيسان يراهما الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وراء التفاف الجمهور حول أشعار نزار، لكن «الأناقة لم تستمر طويلاً، وإن بقيت الجرأة التي اقتربت في قصائده الأخيرة إلى السباب». حجازي يحبّ نزار لأنّه «شاعر حقيقي له لغته الخاصة. كان يعرف اللغة، يستطيع أن يقول في قصيدته ما يريد، محافظاً في الوقت عينه على الشروط المطلوبة في لغة الشعر من صور وتكثيف وإيقاعات، فضلاً عن جرأة ميزت لغته واختيار موضوعاته. لكن مع هذا، لا نجد عمقاً».
يوضح صاحب «مدينة بلا قلب»: «نجد في شعره الكثير من الفساتين والحمالات والمشدات. ولا نجد إلا القليل من الأفكار والعواطف. هذا الطابع الحسي الشهواني لفت إليه الأنظار أكثر من فنّه الجميل. ونستطيع أن نقول إنّ دواوينه الأولى كانت شعراً من أجل الشعر، وكانت بالتالي رداً على أشعار الرومانطيقيين الذين تصدّروا الحركة الشعرية في الأربعينيات، وأسرفوا في التعبير عن عواطفهم. إلا أنّ نقاد نزار لم يلتفتوا إلى فنّه بل إلى موضوعاته، وهذا ما صنعه أيضاً قراؤه». ويضيف حجازي: «بعدما أصدر ديوانه «هوامش على دفتر النكسة»، أصبح مسرفاً في الكتابة، وتخلى عن أناقته واحتشاده في صناعة قصيدته، صار يكتب كلاماً عادياً ويخلط لغته التي كانت براقة بمفردات دارجة بلغت حد الركاكة... هذا الشعر سيموت معظمه إن لم يكن قد مات بالفعل، ولا أحد يعود إليه الآن».
الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة من جيل تالٍ لحجازي، يتفق مع زميله في أنّ «القصائد الأخيرة لنزار كانت أقرب إلى الريبورتاج الصحافي، استسلم فيها للهتاف والهجاء السياسي وإطلاق الأحكام التي دنت من لغة الشارع». لكن ما الذي سيتبقى من نزار؟ يجيب أبو سنة: «هذه الجرأة في ابتكار قصيدة خاصة به، ستبقى قيمةً فنيةً ونبراساً أمام الأجيال الجديدة، إذ لا يمكن للإبداع أن يتقدّم من دون الشجاعة».
الشاعر عبد المنعم رمضان يقسم المراحل الشعرية التي مرّ بها نزار إلى مرحلتين: «قصائده العمودية عن المرأة التي لم يكن فيها أي معنى. فالمعنى هو السبيل العفوي إلى اصطياد الكلمات، ونزار هنا لا يحترم المعنى ولا يهينه فحسب بل يعبر عليه. أما في شعره ما بعد العمودي أو ما بعد المرأة، فنجده شاعراً بائساً لجأ إلى المعنى، مع أنه ليس منتج معان عميقة بل أصبح يلتقط ما يتساقط من أفواه الناس. من هنا، بدأ نزار يبتعد بالتدريج عن «أيظن»، و«ماذا أقول له» و«طفولة نهد» واقترب من كاظم الساهر وأمثاله»!
علي منصور الذى ينتمي إلى جيل الثمانينيات الشعري، يقول إنّ نزار «حفر اسمه في الذاكرة الجمعية، وإن بدا مهمشاً في ذاكرة النخبة. فهو لم يكن منتمياً إلى أي حزب، ولم يكن سياسياً بالمفهوم الإيديولوجي. كان شاعراً ذا هم سياسي ووجداني. وفى كلتا الحالتين، وصل إلى الجمهور، حتى إنّه يمكن اعتباره عمر بن أبي ربيعة العصر الحديث. أما إذا حكمنا على شعره بالمعايير النقدية الحداثية، فسيختلف التقويم من ناقد إلى آخر. سيأتي مثلاً ناقد واقعي ليقول إنّ نزار أسهم في تغييب الجماهير العربية... لكن هذا ليس حكماً حقيقياً لأنه كان شاعراً محرّضاً، بل هو الذي أعلن «وفاة العرب». ويختتم منصور: «المعايير الحداثية جنت على الكثير من الشعراء الكبار، وظل تأثيرهم محدوداً في الواقع، منحسراً في إطار النخبة، وهو ما نجا منه نزار وحده».
الأخبار
عدد الثلاثاء ٢٩ نيسان ٢٠٠٨