هل يستطيع الإنسان أن يتحمل كونه متمردا على التقاليد باحثا عن التجديد، مدافعا عن المرأة وعاشقا لها، هاربا من الواقع نحو الخيال، كفيفا يخبئ تشوه عينيه بقصائد يعرفها ولا يراها، معزولا عن الحياة بسبب الشعر والعمى والمرض.. هل يستطيع أحدهم أن يموت بكل بساطة وحيداً حتى من قصائده التي أسماها «أبناءه»، ومن ثم يغتصب التخلف أجمل ما خلف البؤس ببضعة أعواد ثقاب؟
هذا هو السؤال الأزلي الذي يجيء مع كل قصيدة لفهد العسكر، ومع كل قصة يرويها البعض بخجل وخوف عن العسكر، لينضم هذا الشاعر إلى قائمة «المحرمات» في الكويت، بدلاً من أن يكون رمزاً ثقافياً كبيراً يحتضن الجميع، وتتحول نظارته السوداء إلى منظار لرؤية جميلة لحالة السباحة ضد التيار، تيار الظلام الذي تصدت له الكلمة وحدها حين كانت الحياة مجرد نغم رتيب، لتحولها بذلك إلى مقطوعة بألوان قوس قزح.
ومن أجل جمال الكلمة، من أجل إخماد النار التي مازالت تنهش جسد العسكر الذي دفنه الغرباء، ومن أجل الخطوة الأولى التي خطاها نحو الضوء، سنذهب هنا في رحلة داخل سيرة مبعثرة لهذا الشاعر من خلال كتب ومقالات كتبت عنه، بالإضافة إلى حوارات مع القليل ممن تبقى من معاصريه.. هنا تبدأ رحلة لتقديم قرابين الشعر لصرح هذا المبدع الذي لا ينفك الجميع عن وصفه بالـ«البائس المغمور».
بجسد نحيل وبشرة بلون الحنطة جاء الشاعر ببورتريه بسيط لهذا العالم، ليولد في «سكة عنزة» العام 1917 حسبما تؤكد والدته، على الرغم من أن هنالك أكثر من خمس روايات لعام ولادته يختلف حولها أفراد عائلته وأصدقاؤه، حسبما صرحوا في مناسبات عدة، فالمواليد الكويتية سابقاً لم تكن مسجلة بل معتمدة على الأحداث التي تصاحبها لتحديد عام الولادة، ليصبح العسكر من دون أوراق ولادة أو وفاة. وكان فهد مجرد صبي محبوب لدى أبيه الذي أسس عائلة متدينة محافظة، اصطبغ العسكر بطابعها حتى ثار في شبابه على هذا الطابع، وانطلق في مخيلته بين الآلهة السومرية التي كان يوظفها في قصائده أحياناً، وبين رموز العشق في الشعر العربي، وكأنه بذلك يختار الجمال على أن يُحصر في صندوق من الأفكار. وجاءت انطلاقة الشاعر من خلال قصيدة كتبها في احتفالية أقيمت في المدرسة المباركية احتفالاً بعيد المولد النبوي، وهو أمر وثق له الكثيرون أهمهم أستاذه عبدالله النوري، ليقول إن قصيدة «بسمة ودمعة» أثرت في مشاعر الناس، حيث قال في مطلعها:
كفكف بربك دمعك الهتانا
وافرح وهنئ قلبك الولهانا
بُشراك ذا يوم الولادة قد أتى
فعساه يوقظ روحك الوسنانا
من التدين إلى ولع اللغة
لم تكن اللغة العربية مجرد علم يستهوي العسكر مثل أي شاب كويتي في بيئة تعليمية بسيطة، فقد جعل منها عشيقته الأولى، وبوابته نحو الحياة وضوءا لعينيه حينما فقدهما، وعصاة لعقله حين نهشته نظرات الرفض. ويقول الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري في كتابه «فهد العسكر.. حياته وشعره»، وهو المصدر الأول عن الشاعر، بحكم أنه يحتوي مختصراً عن حياة الشاعر وأغلبية قصائده المتبقية، يقول إن العسكر «تولع منذ صغره بتصريف الكلمات وإجادة الغريب من اللغة غير المعقد»، مؤكداً ما يتفق عليه الأغلبية في أنه كان فتى متدينا، ومشيراً إلى تعلقه بأستاذه الشاعر محمود شوقي الأيوبي، وكيف اعتنى به الآخر ودفعه نحو الاهتمام باللغة العربية وقراءة الشعر.
وفي وصف لطفولة العسكر، تبقى الأمور غير واضحة في تحوله بين الشعر البسيط إلى التجديد، ومن التدين إلى الانفتاح، فبورتريه الشاعر يظهر بخجل من خلال كلمات أصدقائه، حيث يتحدث رفيق دربه أحمد السيد عمر في مذكراته الصادرة عن دار قرطاس العام 1998 عن معرفته بالعسكر التي انطلقت حين كان السيد عمر في السابعة من عمره، ويكبره الشاعر بسبع سنوات، ليصفه بأنه كان شاباً خلوقاً يعض الآخرين، ويكتب الشعر مولعاً بالتخميس، وكان أفضل ما خمّس قصيدة «يا جارة الوادي» التي يبدؤها:
إني بحبك كم عذول لامني
كم مرة بالنوم طيفك زارني
شرك الجمال لقيته فاصطادني
«يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذِكراك»
الشهرة من إذاعة لندن
وفي حوار خاص مع «أوان» تحدث الشاعر علي السبتي عن انطلاقة العسكر، من خلال فوزه بمسابقة إذاعة لندن عن منطقة الخليج العربي العام 1944، فهي التي قدمت العسكر لقراء الشعر في الكويت، ويتفق مع ذلك الشاعر فاضل خلف في حوار لنا معه، وهو الذي عاصر العسكر، وتعرف إليه حين ذهب ووالده لتهنئة العسكر بالجائزة، وكان حينها خلف قد سمع بفهد العسكر، منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، ليجد طابوراً من المهنئين الذين قرأ عليهم الشاعر قصيدته الفائزة بعنوان «الحنين إلى الوطن» التي يقول فيها:
وطني فديتك عِشْ، وَدُمْ، واسْلَمْ، وَطِبْ
فحمائم السلم القريب ستهدل
والمجد باسمك يا ربوع مُسَبِّحٌ
والفخر يهتف، والزمان يهلل
أسطورة شعراء الملوك
وكأي شاعر لا يجد غير مخيلته ليمتطيها، كان العسكر يحاول أن يخلق صورة جميلة لنفسه من خلال حياة مفترضة رسمها قبل أن يكون ذاته، فتأثر بما قرأ من سير الشعراء، وهو ما دفعه نحو البحث عن فرصة للتشبه بهم لتقتصر وظيفته في الحياة على الشعر الذي يحب أولاً وآخراً، فتجمع المصادر محاولة العسكر في أن يكون شاعراً للملك عبدالعزيز آل سعود حيث كتب قصيدة مدح له أعجب بها الملك ليدعوه إلى الرياض، وهو أمر لم يقبل به والد العسكر في البداية، خوفاً على ابنه الشاب في ذلك الحين، إلا أنه ذهب إلى الرياض، ولم يجد مراده ليصبح مدرساً لابن الملك، وهو أمر لم يعجبه ليترك الرياض ويعود إلى الكويت. ويتفق على هذه الرواية أكثر من شخص، إلا أن الأنصاري يرجح سبب عودته في أنه لم يتحمل العيش في الصحراء لاعتياده على حياة الكويت التي كانت أسهل من الحياة في الرياض آنذاك.
ذات الشاعر وخيوطها
لربما لا يوجد جحيم أكبر من ذلك الذي يخلقه المبدع لنفسه، لأنه بكل بساطة يملك وعياً كبيراً قد لا يتسع له، وللمكان والزمان اللذين يعيشهما، لذا تمثل شخصية الشاعر فهد العسكر جزءاً كبيراً من مأساته التي عاشها، ومسبباً للقصائد التي كتبها بمشاعر مختلطة بين الغربة والعزلة والرفض والوحدة، لذا فإن الحديث عن شخصية العسكر يبدو الأكثر صعوبة بالضرورة. الشاعر علي السبتي يقول إنه لم يقابل العسكر، لكنه كان يسمع عنه كثيراً، ويتمنى لقاءه، إلا أن الناس اعتزلته في تلك الفترة بسبب أفكاره وأشعاره وشخصيته الانعزالية ليصفه بأنه صاحب «شخصية غير جذابة أو اجتماعية، ويعرف عنه أنه لا يتقبل الانتقاد وسريع الثورة».
أما الشاعر فاضل خلف فقال «تحملته لحبي له ولشعره واستفادتي الكبيرة منه كشاعر، فقد كان أستاذاً لي وغيري من الشعراء مثل عبدالمحسن الرشيد»، وإن العسكر مفرط العصبية وحاد الذاكرة، يحفظ الكثير من قصائده وقصائد غيره، يتحدث باللغة العربية الفصحى في أغلبية الأحيان. كما تحدث خلف عن حياة العسكر المأساوية حين اختار أن يعيش في غرفة قريبة من «سوق واجف» مع مجموعة من عمال شركة النفط، بعدما طرده والده من بيته، وحتى موته في المستشفى الأميري.
والتقى خلف بالعسكر حين كان في الثامنة عشرة من عمره، ليقول إنه قارئ نهم عاش على استعارة الكتب من مكتبة الرويح، وإنه شاعر لم يتأثر سوى بنفسه، استطاع أن يهرب من حياته المأساوية إلى الخيال الذي أبدع من خلاله وكتب باستخدامه قصائد من أجناس مختلفة، أهمها قصائد الغزل والخمرة التي تحتوي أحياناً على شخصيات خيالية، فالعسكر لم يعش قصة حب، وكل قصص الحب وعشيقاته الوهميات مجرد صنع من الخيال الذي يعوض من خلاله مشاعر الحرمان التي سيطرت عليه، ليتحدث عن إحداهن في قصيدة «لك الله»:
فلم تشغلك خولة لا
ولا «هند» و«دعد»
وناديت، بروحي أنت
يا ليلى ويا نجد
بين العمى والخمرة
وكانت غواية الخمرة هي الأكثر بروزاً في سيرة الشاعر، لأنها بكل بساطة جاءت كرمز لكل رحلات الخلاص التي سار فيها من جسد وحب وموت، ويبدو أن الشاعر لم يعتبر الخمرة تسلية أو إدمانا، بل رفيقا، حين تحولت الشوارع مظلمة بلون غرفته الصغيرة، ووحيا وهميا يؤمن به يدفعه نحو الشعر والجنح في ذكريات لم يعشها وخيال لم يزره بعد.
ويقول أحمد السيد عمر إنه عاش فترات انتقال العسكر من التدين إلى «الزندقة»، فالألم الذي شعر به بسبب العمى والمرض والغربة وكيف تأثر الشاعر بانتحار صديقه عبدالله بدر السعدون الذي قتل نفسه، بعدما أكلته الكآبة الشديدة، ليكتب قصيدة جميلة عنه أسماها «يا أخا الروح». كما قال إن العسكر كان يتضايق بشدة من أن يرى أحدهم عينيه دون النظارة، ليذكر حادثة حصلت بينهما حينما أخذ الشاعر لامرأة بدوية دفع لها المال لتضع «الدقوس الأحمر» في عينيه رافضاً أن يذهب للعلاج في المستشفى الأميركي، لأن والدته نصحته بذلك، وهي التي كانت الوحيدة التي تعطف عليه بعدما طرده والده وتعطيه المال.
قصائدي هي أطفالي
ولا يبدو العسكر أول الشعراء العازفين عن الزواج، إلا أنه من القلة الذين يعيشون في مجتمع مغلق يقطع أوصال العلاقات بين الجنسين، وتجد فيه من يصر على تربية وحدته لتكبر وتصبح صليباً كبيراً يحفر عليه كلماته، فقد رفض العسكر كل دعوة لتزويجه من امرأة تعتني به، وتنجب له الأولاد، ليقول إن قصائده هي أبناؤه، وهو ما أكد عليه كل من أحمد السيد عمر والشاعر فاضل خلف، حيث تحدث الأخير عن حادثة حصول الشاعر على ورث بعد موت أبيه، فعرض عليه أن يزوجه ويشتري له بيتاً إلا أنه رفض وصرف الورث على الكتب والخمرة. كما يشير الأغلبية إلى حادثة جمع أصدقائه لمبلغ مالي ليعالج في البصرة برفقة الأديب عبدالله الحاتم، إلا أن العسكر صرف المال في شرب الخمرة في أحد الفنادق الرخيصة هناك، وهي التي تغزل بها كثيراً ليقول:
وأدرها علي جهرا فإن الــ
ــراح أمست للعاشقين مباحا
خمرة تملأ النفوس سروراً
واغتباطا وتطرد الأتراحا
سؤال الوطنية وألم الغربة
«إنه شذوذ العباقرة» هذا ما رآه الراحل عبدالرزاق البصير في قراءته لحياة وقصائد فهد العسكر، فهو يرى أن فهم شخصية الشاعر ليست بأمر سهل، ورسم الخطوط بين قطعها لا ترجع للقارئ، لأن العسكر لم يرد سوى أن تصل القصيدة.. لا أكثر! ويبدو أن شخصية العسكر كانت أكبر من وقتها (لا بالمعنى الإيجابي أو السلبي)، لنجد أن الكثير من المقالات انشغلت بالتبرير والشرح لحياة الشاعر، بدلاً من الاعتناء بـ«أبنائه القصائد». وفي وصف شخصية العسكر، يقول الأنصاري إنه «رقيق الإحساس، حاد الشعور، شديد العاطفة»، يمضي وقته في القراءة والكتابة والشرب والاجتماع في ملتقى أدبي يجمع أدباء وشعراء الكويت، وهو ما تجده الدكتورة نورية الرومي في كتابها «شعر فهد العسكر» أنه أمر مبالغ به، لأن الكويت لم يكن فيها مثل هذا الملتقى الأدبي سوى لقاءات بين العسكر وأصدقائه القلة المقربين. كما تتطرق الرومي في كتابها إلى سبب عزلة العسكر عن مجتمعه الكويتي لم يذكره الآخرون، وهو التشكيك بوطنيته، حيث يرى البعض أن العسكر كان على صلة دائمة مع القنصل البريطاني، ويحصل منه على المكافآت، وهو ما زاد من غربة العسكر ليكتب قصائد تعبر عن رد فعله على هذا الاتهام وشعوره بالغربة في مجتمع لا يفهم حقيقته، على الرغم من قصائده القومية العديدة، ليبث حاله في قصيدة «شهيق وزفير»:
وطني! ولي حق عليك أضعته
وحفظت حق الداعر المتسكع
فلو أن لي طبلاً ومزماراً لما
أقصيتني، أو أن لي في المخدع!
هذي عقوبة موطني، وجنايتي
هي أنني لتيوسه لم أركع
رائد التجديد ورمز التحول
ويعتبر الشاعر العسكر رائداً للتجديد في الشعر الكويتي، لأنه لا يتكلف الشعر، لا يحاكي القدامى. له خيال خصب وأسلوب ساخط وروح داعية للتجديد كما يصفه عبدالله زكريا الأنصاري، بينما تقول نورية الرومي إن العسكر مثّل تغير الحياة في الكويت وحالة التجديد التي كانت جديدة على المجتمع، ليمثل بذلك الفترة الانتقالية في مواجهة التقاليد والأعراف، وليتهم العسكر بالانحلال والإلحاد بسبب الفهم الخاطئ والمباشر لقصائده التي ترى الرومي بأنها تدافع عن المرأة، وتدعو إلى ثورة ضد التقاليد التي تستعبد الإنسان. كما تجد الرومي في الشاعر حاملاً للواء الرومانسية الجديدة، حيث إنه تأثر بالتجديد الذي أصاب الشعر العربي من تطوير للموسيقى والعروض والدلالات الشعرية.
خطوة أولى في الشعر
ونلاحظ أن أغلبية قصائد العسكر تنتمي لشعر الغزل الفاحش الذي يدلل عليه من خلال الأوصاف التي يستخدمها والأسماء الغزلية القديمة التي يوظفها في الكتابة عن عشيقات وهميات. وبالتالي فإن هذا الجنس من الشعر كان بالضرورة السبب الأول في محاربة العسكر الذي لم يتردد لحظة في تفضيل منح الحرية لخياله على منح حريته لقيود المجتمع، ليكون بذلك «شاعر الخطوة الأولى»، كما تصفه الرومي في دراستها.
ويقول الأنصاري عن شعر العسكر إنه كثير، كان مصيره الضياع أو الحرق، فالشاعر غزير الإنتاج حسبما عرف عنه أصدقاؤه، كما أنه صارح الأنصاري قبل وفاته بأنه أراد أن يطبع ديواناً له إلا أنه لا يريد أن ينشر القصائد التي قد تزعج البعض، ومات قبل أن يحصل ذلك. ويشير الأنصاري إلى أن العسكر لم يكن من طبعه المدح، بينما يرى السبتي أن العسكر له قصائد في الهجاء والغزل الفاحش وفي أنها سبب من أسباب عزلته عن الناس، ومن بينها قصيدة بعنوان «الأحمدي» لحنها الفنان عبدالله الفضالة ولم يتم إذاعتها. كما يؤكد الأنصاري في بداية كتابه عن العسكر أنه واجه صعوبات كثيرة في جمع قصائد الراحل، لأنه حين راسل أصدقاءه، بعضهم «لم يتجشم عناء الرد، ومنهم من لم يتحمل تعب الكتابة، وبعضهم من اعتذر لعدم امتلاكه لشيء من آثار الشاعر، والبعض القليل من الأصدقاء المخلصين زودنا بما لديه»، كما يؤكد فاضل خلف أن عبدالله زكريا الأنصاري وصالح شهاب كانا المدونين الرئيسيين لقصائد العسكر بعدما فقد بصره.
طقوس حرق «الفجر الصادق»
هل اختار الشاعر الكويتي الذي حفر «الخطوة الأولى» في التجربة الشعرية الكويتية أن تُحرق قصائده؟ وهل عاش الشعراء عمليات الإحراق التي طالت فهد العسكر مراراً وتكراراً لحالاته الشعرية بين الثورة والقصيدة والغزل والخمرة والعمى والمرض والعزلة والغربة في الحياة والموت؟
عمليات الإحراق تبقى مشتعلة، إلا أن قصة حرق قصائد العسكر محور لا يتفق الجميع عليه، فيرى الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري أن قصائد العسكر تم حرقها، بينما تختلف معه نورية الرومي لتقول إن عائلة الشاعر لم تؤكد بشكل قاطع حرق قصائده، فتارة يؤكد أخوه خالد حرقه لقصائد الشاعر ثم ينفي ذلك بقوله إنه مازال يحتفظ بالديوان المعنون بـ«الفجر الصادق»، كما صرحت ابنة خالة الشاعر بأنها حرقت قصائده فور سماع خبر موته، إلا أنها تذكر تفاصيل الحرق بشكل مختلف للرومي عن تلك التي روتها لصحيفة الوطن العام 1966 وهو ما يربك حقيقة روايتها.
ويعلق الأنصاري على فرضية حرق قصائد الشاعر بقوله: «إننا لا نعرف الدوافع التي حملت هؤلاء الناس ليتجرؤوا على حرق أفكار لا تضرهم، وإنما هي أفكار تصور جانباً كبيرا من تاريخ الكويت الحديث.. ولو فرضنا أيضاً أن بعض تلك القصائد التي أحرقت وحُكم عليها بالموت كانت مخالفة للوضع أو منافية للدين في نظرهم، فإنه كان يجب الاحتفاظ بها وتمحيصها تمحيصاً دقيقاً والإبقاء عليها للتاريخ وللأجيال القادمة التي لا يحق لنا أن نعتدي عليها». ومن خلال المقارنة بين الآراء المختلفة التي حملتها الكتب والمقالات والحوارات، يمكننا أن نرجح عدة احتمالات ومنها، أن عائلته أحرقت قصائده متهمة إياه بالزندقة، أو بسبب قصائد الهجاء التي لم تر النور، أو لربما طلب الشاعر أن تحرق أعماله لأسباب فنية أو لحديثها عن أمور خاصة أو حساسة. كما يمكن أن نعتقد بأن القصائد لم تحرق، وبأن ما ضاع من شعره هو ما يضيع من شعر أي شاعر لا يدون كل ما يقوله. إلا أن الدكتورة نورية الرومي في كتابها تطرح بالتفصيل كيف أن الديوان الذي جمعه الأنصاري ليس كاملاً، وذلك لوجود مشاكل في العروض أو المعنى في القصائد التي نشرت مجموعة لأول مرة العام 1956 في القاهرة.
الموت بعيداً عن الصخب
بعد هذه الحياة المعقدة والمأساوية، قد نعتقد بأن من حق هذا الإنسان أن يموت بشكل طبيعي، إلا أن الجميع حرمه من أبسط المطالب وهو الموت بعيداً عن الصخب. العسكر أصيب بمرض «التدرن الرئوي» لينتقل من غرفته الضيقة المظلمة في سوق واجف إلى سرير أبيض في المستشفى الأميري حتى يموت في أغسطس 1951 عن عمر يقارب الخامسة والثلاثين أمضاها بين الرفض والظلمة والألم. وتقول الرومي إن العمى أثر فيه نفسياً كثيراً، فاعتزل وانغمس في الشرب، وأهمل صحته حتى مرض وتوفي ليدفنه بعض الغرباء. ويقول الأنصاري إنه كان يعمل في القاهرة حين توفي العسكر، بينما كان فاضل خلف في إجازة في بغداد ليعرف بخبر موته من خلال مجلة البعثة بذات الطريقة التي عرف بها السبتي خبر موت العسكر، على الرغم من تواجده في الكويت. ودُفن العسكر في المقبرة العامة بعدما صلى عليه إمام مسجد المديرس عثمان العصفور مع ثلاثة غرباء.
إذن، هكذا كانت حياة فهد العسكر، شريط أسود مر بمرارة لم تترك له ولنا سوى القصائد التي وصلت إلينا، لتبقى الأسئلة معلقة حول حياة هذا الشاعر، ذاتها الأسئلة التي كان يتمتم بها طوال حياته البائسة.. أسئلة عن الإنسان والإبداع والحرية والجمال، أسئلة أجاب عليها العسكر بمجموعة من الشكاوى التي لونها بكلمات جميلة، ليعبر عن مروره السيئ على الحياة، ليبقى أمله الوحيد في إيجاد حياة يستحقها في قلوبنا وذاكرتنا قائلاً:
أنا إن مت أفيكم يا شباب
شاعر يرثي شباب العسكر؟.
تاريخ النشر : 2009-12-29