حوارنا مع الشاعر أمجد ناصر، أو (يحيي النعيمي) يذهب إلى مناطقه الإبداعية، قريبها وبعيدها، يستدعي بدايات الصرخة الأولى لما صاره (أمجد ناصر) الآن، وهو الذي أنجز كتابه (فرصة ثانية) وهو قيد الطبع في إطار مشروع التفرغ الإبداعي، فضلا عن صدور كتاب (راعي العزلة) عن دار "بانيبال بوكس" اللندنية.
عشرة أعمال شعرية على مدار نحو أربعة عقود، كانت محط اهتمام عدد كبير من النقاد والشعراء العرب من أمثال: أدونيس، صبحي حديدي، حاتم الصكر، كمال أبو ديب، صبري حافظ، عباس بيضون، عبده وازن، محمد بدوي، رشيد يحياوي، فخري صالح، محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، محسن جاسم الموسوي، رجاء بن سلامة، فتحي عبد الله، حلمي سالم، واحتفي بتجربته في عددين احتفائيين من مجلة "الشعراء" الفلسطينية و"أفكار" الأردنية. وكذلك صدر عنه عدد خاص من سلسلة "كتاب في جريدة".
أمجد ناصر شاعر وكاتب أردني مقيم بلندن, مدير تحرير صحيفة القدس العربي. يعتبر من رواد الحداثة الشعرية وقصيدة النثر. ويشرف على القسم الثقافي في صحيفة "القدس العربـي" منـذ إصدارها فـي لندن عام 1989، هنا حوار شامل معه.
الصحافة ساعدت على تنوع كتابتي.
سأبدأ بسؤال نابع من تجربتي الشخصية مع كتابتك، إذ لطالما جذبتنا، نحن قراءك، في اتجاهات متنوعة، لكنني في الأسابيع الماضية حاولت إعادة "القراءة" بهدف تحديد نقاط حديثنا، لكنني عجزت عن ذلك لفرط تنوع مجالات اهتمامك وغزارتها، ما سر هذين التنوع والغزارة؟.
قد تكون الصحافة وانخراطي في الشأن العام ساعدا على تنوع كتابتي إلى جانب القصيدة. قلة هم الشعراء، في كل حال، الذين لم يكتبوا شيئاً آخر غير الشعر. أكاد، في الواقع، لا أعرف شاعراً كرس قلمه، على نحو نهائي، للقصيدة فقط. في ما يخصني بدأت العمل الصحافي، أو الكتابة للصحافة، في سن مبكرة، كذلك كان اهتمامي بالشأن العام. قبل أن أطبع ديواني الأول كنت منخرطا تماماً في العمل الصحافي، وهذا يتطلب كتابة، وعملا في تحرير الكتابة كذلك. ربما يلاحظ من يدقق في كتابتي غير الشعرية عمل قلم التحرير فيها. إنها كتابة تخضع لمعايير مشابهة للمعايير التي أعتمدها في عملي المهني، كالحذف والدقة في التعبير، الاقتصاد، الوضوح، ما أمكن ذلك، والبعد الوظيفي. هناك بالطبع تفلتات من هذه المعايير في النصوص الطويلة التي كتبتها. بالإجمال هذا هو تصوري لتنوع مادة الكتابية وربما لاختلاف مناخاتها وأساليبها، فلكل حقل مفرادته وطرقه في التعبير.
على نحو لا تمنحني إياه القصيدة.
بهذا المعنى هل نعتبر أن الصحافة والاهتمام بالشأن العام هما اللذان جعلا كتاباتك متنوعة وعريضة وتطال حقولا مختلفة؟.
هذا ما يتبادر الى ذهني الآن. في كل حال النثر يغويني. أجده أكثر رحابة من القصيدة. أستطيع أن أصل إلى درجة أعلى من التعبير عن نفسي ولحظتي والموضوع الذي أتناوله في النثر على نحو لا تمنحني إياه القصيدة. آمل أن لا يكون هذا التعدد تشتتاً. آمل أنه يصب، في النهاية، في المجرى العام لموقفي حيال قضايا زماننا. لديّ انطباع أن كل ما أكتبه يذهب في اتجاه واحد تقريبا هو محاولة تظهير صور غامضة في رأسي عن الحياة والعالم. كل هذه الكتابة ترغب في إظهار صور مراوغة لم أستطع القبض عليها بطريقة أو شكل واحد من الكتابة، ولم تظهر لي دفعة واحدة، بل كان علي أن أمر بأطوار ومراحل كي تتظهر صورة أو أكثر وتنكشف لي مساحة صغيرة جداً من وجودنا في هذا العالم ومسؤوليتنا حياله. الغريب أنني أعتبر نفسي من المقلين، خصوصا، في القصيدة، فأعمالي التي طبعت في مجلد واحد لا تتجاوز 32 ألف كلمة. الكومبيوتر الذي دخل على حياتنا وأعمالنا هو الذي حدد لي بالضبط كم كلمة كتبت في الشعر. طبعا، لا يقاس الشعر بالكلمات ولا بالصفحات، فهذا مقياس كمي خاطئ ولكن ذلك يوضح لك أنني لم أكتب في إطار القصيدة العديد من الأعمال، إنها لا تتجاوز عشرة أعمال على مدار نحو أربعة عقود من إصدار أول عمل شعري لي.
كتابة على أرض الشعر وفي أفقه.
ماذا عن كتابك قيد الصدور ضمن مشروع التفرغ الأدبي؟. ما الذي يضيفه لتجربتك الإبداعية الثرة؟.
الكتاب بعنوان "فرصة ثانية"، وهو عمل شعري سردي مركب، فيه شيء من السيرة وفيه شيء من المكان وفيه شيء من الواقع وشيء من الحلم. لا أعرف كيف أصنفه. أسميه، مؤقتا، كتابة على أرض الشعر وفي أفقه. إنه ليس نصاً مفتوحاً ولا قصيدة نثر ولا سرداً قصصياً ولا كتابة مكان وبيئة. الناقدة العربية الكبيرة خالدة سعيد التي وضعت، مشكورة، مقدمة الكتاب سمته "لعب مرايا". فقد قالت عنه بالضبط: إنه نص متعدّد ومُحيِّر بما يَسِمُه من الزّوَغان والتداخل بين الرؤى الشعرية والقيم الحكائية، بين الذكريات الشخصية والإضاءات التاريخية؛ أو أنّها حكائية شعرية، رغم مراجعها المعيشة. هي شعرية، لا لأنّ العناصر الحكائية تجيء في لغة لَمْحيّة أو تنساب مشمولةً بضباب الذكرى، ولا لأنّ حضور العناصر يُفلت من التحديد والتوالي الزمني ويمتنع على الإقامة في موقع أو إطار معيّن. هي شعريّة لأنّ هناك رؤى ترفرف على مدى هذا النص السردي الذي لا يبوح باسمه ولا يبيح التصنيف، لأنّ هناك ما يترجرج في ماء الحلم بقدر ما يومض في ضوء الذكرى أو ينبثق من الحفريات. ومع أنّ القارئ يكتشف عبر النص تعدّد العوالم وطبقات الحضارات، فإنّ الفنّية الشعرية للسرد هي التي تبني مناخ الحلم والحنين... هذا الكلام الذي يدغدغ نرجسيتي الكامنة يريحني، مؤقتا، من عبء التصنيف والتسمية والشرح. أنا لست من الذين يقولون إنهم يكتبون وكفى، فالتصنيف والموضعة والخانات شغلتني بوصفها ركائز لإقامة نظام ما. فالكتابة، حتى الطالعة من رحم الفوضى، تسعى، من خلال الكلمات، إلى إنشاء نظام. إنها محاولة تقوم بها الكلمات في سبيل وضع نظام لفوضى العالم والأشياء. فنحن نكتب، شئنا أم أبينا، عبر وسيط ليس بوسعنا التحكم فيه كثيرا أو تغييره بالكامل يسمى نظام الكلمات، بوصفها تعبيرا عن معنى. أترك أمر التسمية على حدة لأقول أن هذا العمل قد يكون أهم أعمالي حتى الآن. إنه عمل شاق ومركب ويكاد أن يكون تتويجا لكل انشغالاتي السابقة والراهنة. لا أعرف كيف سيستقبل العمل، فنحن نكتب ولا نعرف بالضبط الوجهة التي تنتهي إليها الكتابة ولا كيف تندرج في إطار ما هو موجود. من السهل توقع عمل يشبه عملا سابقا ولكني لم أكتب عملا يشبه هذا من قبل، قد تكون هناك موضوعات وأساليب طرقتها من قبل ولكنها لم تكن قط على هذا النحو.
لا أعرف كيف سينظر إليه.
تبدو قلقا حيال هذا العمل أو لنقل تبدو قلقا من نوعية استقباله؟
قد يكون هذا صحيحا، ففي غياب التصنيف المسبق يصعب استقبال أي عمل كتابي، كل قراءة قائمة، تقريباً، على نوع من التوقع المسبق، أو لنقل أن أفقها يحدده الاسم الذي تندرج في سياقه، وبما أن هذا العمل ليس مسبوقا في مدونتي، على الأقل، ولم أعطه اسما واضحا، فلا أعرف كيف سينظر إليه. لدي تجربة سابقة مع الالتباس حدثت عند صدور كتابي "حياة كسرد متقطع" الذي قرئ مرة على أنه قصص قصيرة ومرة بوصفه قصيدة نثر. ربما لا مبرر لهذا القلق إطلاقا، فأنا أتحدث عن قراءة وهذا أمر صرت أشك في وجوده الحقيقي الآن.
ذاتي مثل ذوات الآخرين...
أنت أيضا موجود في بعض أعمالك، وخصوصا في كتاباتك الطويلة، فضلا عن أنك كتبت جوانب من سيرتك الذاتية فيها... كيف ترى إلى توظيف السيرة الذاتية بوصفها "تجارب شعرية" في القصيدة؟.
لا أحد بوسعه الفرار من السيرة الذاتية، أو من تداخل الذاتي في الموضوعي، خصوصا، عندما نتحدث عن الإبداع. نستطيع ذلك في البحث والدراسة والنقد والتحليل السياسي ولكننا لا نستطيع دفع ما هو ذاتي عندما نكتب عن تجارب حياتية، ناهيك، بطبيعة الحال، عندما نكتب قصيدة. هناك فرق بين التمركز حول الذات وبين تأمل شؤون الذات في العمل الإبداعي. إن حضرت ذاتي في عمل ما تكون إما عرضة للنقد والتفكيك والتأمل في فعلها أو لضرب مثال ما بوصفه تجربة حياة. ذاتي مثل ذوات الآخرين هي كينونة منفصلة ومتصلة في آن. هناك ما يخصها وحدها، وهناك، وهو الأغلب، ما يجمعها بالآخرين. لا توجد ذات تطفو على سطح التاريخ مهما كانت هذه الذات كبيرة أو فريدة من نوعها، فهي جزء من سلسلة الاجتماع البشري، هي جزء من تاريخ ما. هكذا عندما تدخل الذات في العمل الإبداعي تدخل بوصفها جزءا من لحظة تاريخية تحتشد وتتداخل بالغير، فالذات، بهذا المعنى، هي الآخر أيضا.
الواحد فينا أكثر من واحد.
ثمة إتكاءات عديدة في قصائدك، وكأنك تهرب من القول المباشر لإحالته على حيوات أخرى لأشخاص آخرين، على الأقل هذا ما يبدو لي، ما رأيك؟.
أسهل على الشاعر أو الكاتب أن يرى في ذاته آخر. أن يجعل من نفسه غيره، هكذا يسهل نقد الذات وتقليبها على وجوهها. ربما فعلت ذلك من هذا الباب. أي تصوير نفسي بوصفي شخصا آخر. هذا غير أننا نحن على قدر من التعدد. الواحد فينا أكثر من واحد. فينا من الانسجام والتناقض ما يحيرنا أحيانا. هناك ذات نظهرها أمام الآخرين، بوصفها ذاتا اجتماعية وهناك ذات نواريها أو ندفنها لأنها لا تجد مكانا لها في عالم الآخرين وقوانينه واعتباراته الصارمة. قولي لي من هو الشخص الذي لا توجد فيه شخوص عديدة؟. أو على نحو أدق من هو الشخص الذي يملك انسجاما تاما في الظاهر والباطن؟. أظن انه لا يوجد. ربما لهذا السبب ننسب للآخر في القصيدة أو الرواية والقصة ما نخجل، أو ما لا نرغب، في نسبته إلى أنفسنا. يبدو أن الكتابة عن الغير أسهل من الكتابة عن الذات خصوصا إذا كانت في معرض النقد.. أو المديح. ففي الحالتين هناك حرج ما.
شخصيتي تكونت على مفترق بيئتين.
يسير قاموسك الشعري في دواوينك وفق مناخين: في الأول نجد تلك اللغة التي تتكئ على أشياء العالم الطبيعية، والثاني يتعلق بالحداثة وأشياء عالم اليوم. كيف تفسر لنا ذلك؟
هذا سؤال مهم. يبدو أن مفردات العالم الذي نعيشه لا تكفي للتعبير عنا. صحيح أننا نعيش في أزمنة حداثة تقنية ولكنها غير كافية على ما يبدو لفهم أنفسنا. فنحن لسنا أبناء اللحظة الراهنة فقط، بل أبناء الماضي أيضا. لا يمكن فهم موقع الإنسان في العالم انطلاقا من لحظته الراهنة، لا بد من فهم الماضي ومعرفته. بل لعل الماضي أشد تحكما فينا اليوم مما حصل في أي زمن آخر. ولكن هذا موضوع مختلف بعض الشيء، ما أريد قوله هو أن ما تقدمه لنا الحداثة التقنية التي تخترقنا يوميا لا يكفي لمعرفة من نحن. أشعر بفقر مفردات الحياة اليومية التي نعيشها، أو عجزها عن وصف ما أرغب في وصفه. وبما أنني متحدر من أصول بدوية، وبما أنني عشت جانبا من تلك الحياة ولو على صعيد الثقافة والسلوك والموقف من العالم فقد حضرت في قصيدتي مفردات من تلك الحياة. العضوي في تلك الحياة أساسي. العضوي في الطبيعة والجسد، وهذان متداخلان في حياة البداوة أو حياة الريف. ربما أرغب في استحضار مفردات عالم آفل، أو على وشك أن يأفل. هناك مفردات عضوية، بل قاموس عضوي كبير في أعمالي، وبعض هذه المفردات كانت حية وفاعلة في طفولتي، وبعضها يتم تناقله عبر أجيال، أو قراءات. لا يذهب ما نعيشه أو ما نسمعه أو نقرأه سدى، إنه يدخل، من حيث ندري أو لا ندري، في تكوين شخصياتنا. شخصيتي تكونت على مفترق عالمين أو بيئتين، هما بيئة البداوة والبرية وبيئة المدينة والكونكريت والمكننة. لذلك، على الأغلب، تشكلت شخصيتي وتكويني من هذين العالمين أو البيئتين فصنعا شيئا هجينا ربما. هذا السؤال مهم لمعرفة ما الذي يغري القصيدة أو الإبداع عموما. هل الحاضر هو ما يفعل ذلك ام الماضي، هل تكفي الحداثة التقنية لوصفنا أم أنه ينبغي البحث عن شيء آخر. لماذا لا تزال كلمة مثل "سيف" أو "قمر" تغري القصيدة في الوقت الذي لم يعد هناك سيف وتكشف لنا القمر عن صخور ووديان مقفرة؟ لماذا تمدنا الطبيعة بمفردات في وصف المرأة، أو الحب، أكثر مما تمدنا به المدينة الحديثة؟. هل يتعلق الأمر بنوستالجيا أم باغتراب بشري كبير؟. هل نحن سعداء في مدننا وحداثتنا أم صرنا أكثر شقاء وبعدا عن جبلتنا الأولى؟ هذه أسئلة تطلع من سؤالك ولا أجد لها جوابا حاضرا.
الزمن هو الذي ينتصر في النهاية.
-هناك قصيدة لك بعنوان "أربعون" هي التالية:
تأخرتُ في النومِ قليلاً فوجدتُ الأربعين
التي هيأتها الأيامُ لغيري في انتظاري.
الصباحُ الذي ما عَرَفْتُهُ مذ شردني الشّرقُ
تراءى لأصحابي ذهباً فهبّوا إليه في ثياب النوم
ولم يعدْ أحدٌ بنبأ من سبأ.
وحيدٌ بأمارة اليدِ المبسوطةِ على المائدة
لي الضحى كلُّهُ مزهوداً فيه
أحسو قهوةً باردةً تحتَ قوسِ الرماد
وأرفعُ قامةً أخطأتْها الرِّيح.
هذه القصيدة التي ترد في ديوانك "كلما رأى علامة" ترجعنا مرة أخرى إلى فكرة الزمن، هل من علاقة خاصة لك بالبعد الزمني.. كيف تشعر أنت بمرور الوقت.. بل كيف تنظر إلى تلك القصيدة الآن؟.
كما تلاحظين القصيدة تتحدث عن الوصول بمشقة إلى الأربعين أو لعلها لم تتوقع أن يصل كاتبها إلى الأربعين إلا لأنه تأخر في النوم قليلا! وهذا صدى قادم من قصيدة سابقة لي كتبتها عن صديقي ميشيل النمري الذي اغتيل في أثينا وكان له من العمر 38 سنة، ففي تلك القصيدة قلت له: لو تأخرت في النوم قليلا لبلغت الأربعين، أي بمعنى لو أنه تأخر عن موعده الصباحي لربما أخطأته رصاصات القتلة. بخصوص قصيدتي عن الأربعين أجدها، رغم أنها محزنة بعض الشيء، مضحكة الآن أو نافلة، لأنني تجاوزت الأربعين التي بدت لي من قبل بعيدة المنال. هناك انطباع، تثاقفي على الأغلب، يراود الشعراء بأنهم لن يبلغوا الأربعين. هناك أسطورة متناقلة على ما يبدو تفيد أن أفضل الشعراء هم الذين ماتوا قبل هذه السن. طبعا هذا ليس صحيحا. المهم في الأمر أن الأربعين بدت لي، في وقت ما، حداً حاسماً في العمر. أفكر الآن أن ذلك لم يكن صحيحا، فإن كان في العمر متسع بعد قد تكون هناك ستون وربما سبعون، والأصعب أن تكون هناك ثمانون. أتذكر أن محمود درويش سألني، ذات يوم، ما إذا كنت قد بلغت الأربعين فقلت نعم، فقال لقد تساوينا في العمر! ولكن هذا خطأ. لقد تأكدت من خطأ قولة درويش إننا تساوينا في العمر لمجرد أني بلغت الأربعين، فهو نفسه، على ما أتذكر ويتذكر بعض أصدقائه، أصيب بالرعب عندما بلغ الستين. هذا كلام عن أرقام والزمن أكبر من الأرقام ولا يقاس بالأرقام، إنه كل الأرقام والمعطيات، إنه ما نحب وما نكره، ما حصلنا علينا وما لم نحصل، ما رغبنا في أن نكونه ولم نستطع. الزمن هو الحاضنة الكلية لتواريخ الأفراد والمشاعر والأفعال. وهو لا رحمة فيه، أقصد أنه من الصعب أن يصمم المرء زمنا خاصا به، ومن المستحيل أن يجعله يرضخ للرغبات. للزمن قانونه الخاص وهو قانون يسري على الجميع. إنه تقريبا الشيء الوحيد الثابت في حياتنا الرجراجة، هو المتحرك حتى لو أخلدنا إلى الصمت والسكون أو لو اعتصمنا في بروج مشيدة، فهو لا يتوقف عن الحركة ولا الفعل في الكائن الحي والجماد على السواء.. باختصار الزمن هو الذي ينتصر في النهاية، ينتصر على كل شيء، على القوة والضعف والجمال والقبح والحرب والسلم.. يمر بكل ذلك ويتركه خلفه كأثر حائل.
أفكر بأن ذلك شيء يشبه القدر.
لو عدنا للصرخة الإبداعية الأولى، لحظة اكتشافك أنك تريد أن تكون شاعرا: متى عرفت ذلك؟. في أي مرحلة من حياتك؟.
لا أعرف بالضبط متى. فمن الصعب أن نحدد موعدا لشيء كان يتسرب فينا ويعتمل في داخلنا، أو لمورِّثٍ (جينة) نحمله من دون أن ندري، مثلما نحمل قسمات الوجه والأمراض والطول والعرض جيلا بعد جيل. ولكن يمكن لي القول إنه بدأ في أواخر عهدي بالمدرسة، ربما في الثاني ثانوي، والمؤكد أنه كان واضحا لي سنة التوجيهي. سبق لي وأن ذكرت شخصين أثرا على توجهي أو ربما ساعدا على تبلوره هما إبراهيم المومني الذي التقيته في عمر السادسة عشرة أو السابعة عشرة ومحمد إبراهيم لاقي الذي تعرفت إليه في الثامنة عشرة لأنه كان أستاذ اللغة العربية في مدرسة الفلاح الثانوية الخاصة في الزرقاء بعد أن طردت من مدارس القوات المسلحة والتربية والتعليم في منتصف ذلك العام. هذا يعني أن معرفتي بلافي حدثت في النصف الثاني من عام 1974 واستمرت فترة قصيرة لأنني بعد تخرجي من المدرسة بدأت أداوم في صالون عدنان علي خالد للحلاقة في الزرقاء الذي كان بفضل انشغال صاحبه بالكتابة والثقافة أشبه بالصالون الثقافي، ثم في نادي أسرة القلم الثقافي الذي تأسس في تلك الفترة وكنت من أعضائه الأوائل. تلك هي الفترة التأسيسية في حياتي الأدبية بل، ربما، في حياتي عموما. من هناك بدأت ترتسم الخطوط العريضة، الغامضة التي ستسير عليها حياتي حتى اللحظة. يبدو أن خيارا واحدا نتخذه في فترة ما من حياتنا سيظل يطبع هذه الحياة إلى النهاية. أفكر بأن ذلك شيء يشبه القدر. صحيح أنني اتخذت ذلك القرار بملء إرادتي ولكن ما هي إرادتي في تلك اللحظة؟. بل أي إرادة أو وعي يمتلكهما شاب في الثامنة عشرة من عمره كي يحدد بناء عليهما مصيره كله؟. في الواقع لم أكن أدرك أن كل ما أعقب ذلك سيحدث على النحو الذي حدثت فيه الأمور لاحقا. لم أفكر إلا في لحظتي نفسها، ولم أكن أملك سوى وعي لحظتي تلك. وهو، بطبيعة الحال، وعي محدود. كانت هناك أحلام يقظة وتفكير ما في المستقبل ولكن لم تكن هناك صورة واضحة لما سأكون عليه.
لا اعرف من هو قارئي.
نشرت مجموعتك الشعرية الأولى "مديح لمقهى آخر" (1979)، كما أصدرت الأعمال الكاملة في مجلد عام (2002)، أيضا صدرت لك عدة مجموعات بعد ذلك.. ما الذي يستطيع الشعر تغييره في العالم؟ إلى أين قادتك رحلة الكتابة هذه؟ ما الذي تأمل أن يشعره "القارئ" عندما يقرأ قصيدتك؟.
لا أعرف أي صورة يمكن أن تتكون عند قارئ قصيدتي، فالقراءة متعددة بتعداد الأشخاص وأمزجتهم وميولهم. يمكن لقارئين اثنين أن يستنتجا شيئين مختلفين من قصيدة واحدة، وهذا يعني أن الكلمات مهما كانت مباشرة ومحددة يمكن لها أن ترسم أكثر من صورة واحدة أو تحدث أكثر من انطباع واحد عند متلقيها. في الحقيقة لا أعرف من هو قارئي، أين هو، ما الذي يشده إلى قصائدي في حالة وجد فيها هذا القارئ. أنا أقيم منذ فترة طويلة خارج المحيط الطبيعي لما أكتب، ولا أعرف أين يصل كتابي ومن هو الذي يقتنيه. أعرف ربما رأي زملائي الشعراء والكتاب ولكن ليس القارئ المحايد الذي لا علاقة له مباشرة بالكتابة، أعني الذي لا يمارس الكتابة. هذا القارئ لا أعرفه، لكني أتمنى أن يجد في ما يقرأ محاولة من شاعر في فهم حياتنا والمساهمة في جعل هذه الحياة ذات معنى. أطمح في أن أُقرأ على أنني شاعر حاول أن يكتب قصيدة تشبهه وتنتمي إلى زمانه من دون أن تتخلى عن طموح الفن في أن يوسع رقعة الجميل في الحياة والناس، وهذا كما تلاحظين طموح كلاسيكي لا جديد فيه. أما بخصوص ما الذي يمكن للشعر أن يفعله في عالمنا فلا أعرف بالضبط، أخشى أن الدور الذي نعطيه للشعر أكبر مما يحتمله، فالشعر أكثر هشاشة من الواقع. لا أعرف واقعاً عاماً غيره الشعر. ربما بوسعنا أن نتحدث عن أثر الشعر في الأفراد، في الحالات الإنسانية، في النفوس المستعدة لاستقبال هباته الغامضة، ولكن ليس في العالم بما هو مكان لعمل القوة. إن كان هناك دور للشعر، وأرجو أن يكون، فهو بطيء وغير ملموس. إن وجد تأثير للشعر فهو بعيد المدى وليس انقلابا بين ليلة وضحاها، فالخير والجمال أضعف، دائما، من القبح والشر. ومع ذلك فالكتابة لا تكتفي بنفسها ولا تصبح ذات معنى بمعزل عن تلقيها، إذ أنها بمجرد أن تنشر على الملأ فهي تطمح إلى تأدية دور، وتدخل في نوع من التفاعل ولكن ليس سهلا رصد هذا التفاعل.
ليحيى أصدقاء وأمكنة ليست لأمجد.
في الحديث عن أن تصير آخر، هل شعرت يوما بأنك نادم على كتابتك باسم مستعار (أمجد ناصر)؟ هل يداهمك الحنين لـ (يحيى النعيمي) الذي كنته ذات طفولة متمردة؟ هل من غواية خاصة للكتابة باسم مستعار؟
كل شخص يطمح إلى أن يكون آخر. بل إن فينا، كما قلت لك من قبل، هذا الآخر. هناك الآخر الذي نطمح أن نكونه ولا نستطيع وهناك الأنا التي نفر منها أحيانا، وهناك الآخر، أو قولي الآخرون، الذي يراودننا في أحلام اليقظة. هذا الآلة العجيبة التي تنقلنا إلى حيث شئنا وتجعلنا نكون ما نرغب في أن نكونه، ونحصل على ما نشتهي الحصول عليه، ولو للحظة محددة. وأنا عشت طويلا في أحلام اليقظة، بل ان أحلام اليقظة هي أول ممارسة شعرية لي إن جاز هذا الوصف. بالمناسبة، تعجبني حياة الممثلين. فهم الوحيدون القادرون على أن يكونوا آخرين. بوسعهم تقمص حيوات عديدة، فكم هو ممل أن يسجن المرء في اسم واحد ومهنة واحدة وواقع واحد. أنا أعيش، بالفعل، نوعا من ازدواجية. ليست فقط بالاسم بل أحيانا في الواقع. ومن المصادفات الغريبة أنني اكتشفت، مؤخرا، أني من مواليد برج الجوزاء وليس من مواليد برج الأسد كما كنت أظن من قبل. لا أعرف كثيرا عن الأبراج والفلك ولكن ذلك الاكتشاف العرضي جعلني أفكر، للحظة، بواقعي الداخلي. أعرف أنني "يحيى" ولكني أعيش معظم الوقت كأمجد. أنسب إلى يحيى البراءة والقلب الأخضر والى أمجد الأخطاء والذنوب. فيحيى لم يعش حياة أمجد ولكن يمكن لأمجد أن يتمنى لو كان يحيى، أو لو عاد يحيى. لا أحتمل أن يناديني أحد في بيت أهلي في المفرق باسم أمجد. أشعر أن هذا الاسم يسيء إلى والدي وإخواني وأخواتي، فهو يجعلهم يشعرون أنني لم أعد منهم. كما أنني لا أرد على من يناديني يحيى خارج بيت أهلي. في الواقع لا ألتفت. كأن أحدا غيري هو الذي ينادى. فأنا أمجد منذ نحو اثنين وثلاثين عاما. إذا كان بورخيس قد تصور نفسه بورخيس آخر فأنا في الواقع أعيش هذا الأمر لأنني لا أتصور نفسي شخصا آخر بل أعيش هذه الحياة المزدوجة. أمجد ناصر ليس اسما مستعارا بهذا المعنى، أي أنه ليس اسما يوقع على غلاف كتاب أو مقالة في جريدة بل إنه شخص من لحم ودم وعائلة وأطفال وأصدقاء وعمل، مثلما ليحيى أصدقاء وأمكنة وذكريات ليست لأمجد ناصر. إن عدد الأشخاص الذين يعرفونني كأمجد، فقط، أكثر بكثير من الذين عرفوا يحيى.
حضور المكان في أعمالي..
لنتحدث عن الجائزة الأقرب عهدا التي حصلت عيها مؤخرا (جائزة ابن بطوطة) لأدب الرحلة، ماذا عن أدب الرحلة بوصفه ملمحا هاما في نصك الشعري منذ البدايات؟
كتابة الرحلة بدأت عندي تحت شعور قوي بأن القصيدة لا تكفي للتعبير عن قضايا وشؤون عديدة، أو لا تسمح بنيتها شبه المغلقة لمزيد من التوسع واستضافة النثر بمعناه الواسع، وأنا من محبي النثر ومن الواقعين في غوايته، كما أن عملي في الصحافة أمدني بعلاقة خاصة بالواقع. يقال أن النثر هو غواية الشعراء وقد يكون الشعر غواية الناثرين، رغم أنني لم أعد أميز اليوم كثيرا بين الاثنين. الفواصل بين النثري والشعري صارت عندي ضعيفة أن لم يكن قد أمحت، خصوصا ونحن نتحدث عن قصيدة نثر وشاعر قصيدة نثر. تداخل النثري في الشعري موجودة دائما ولكنها ربما لم تكن على النحو في أدبنا من قبل. لكن كتابة الرحلة شيء آخر، فليس فيها هذا الاختلاط وإن كان الشاعر ينقل لغته ومجازاته وحساسيته نفسها إلى هذا الجنس الأدبي الذي بدأ بالانتعاش مجددا في سجلنا الأدبي الحديث. إنها كتابة لصيقة بالواقع وبالمكان والمعاينة، هي بهذا المعنى اقرب إلى ما يسمى في الغرب بالريبورتاج الأدبي. قد يكون حضور المكان في أعمالي هو الذي جعلك تشعرين بدخول الرحلة على خط القصيدة. في الواقع إن الأمرين مختلفان إلى حد ما. لا أرغب في وضع محددات قاطعة وحاسمة للأجناس الكتابية ولكن لا بد من بعض الفصل. قد تنطوي كتابة الرحلة على الشعري ولكنها ليست قصيدة، وقد تنطوي القصيدة على ملمح من أدب الرحلة، وهو غالبا المكان والتفاصيل اليومية، ولكنها ليست أدب رحلة.
ربما للجوائز معايير لا تنطبق علي!.
نلت العديد من الجوائز، وحظيت بتكريم غير جهة ثقافية... ليس من بينها جائزة أردنية، بصراحة لماذا؟ وهل يغني التكريم العالمي عن تكريم الشاعر في بلده؟.
الجواب ليس عندي. ولكني أظن أن غيابي الطويل عن البلد جعلني غير منظور، غير واضح بالنسبة لمن يهتم بهذه الأمور عندنا. وربما هناك معايير للجوائز لا تنطبق علي. لا أعرف ما هو السبب. عندنا مثل يقول الغائب عن العين غائب عن القلب، وأنا، بالفعل، غبت طويلا.
الأردن حاضر في كتابتي وذاكرتي.
وأنت في بيروت ـ مطلع 1979 كتبت تقول:.
"لعمّان رائحة الجياد.
والقميص الوحيد المعلق في خزانة الأرملة.
لعمان رائحة الأجساد المرهقة.
أفكر الآن:.
هل كان البنك العربي.
قريباً من ماء السيل.
قريبا من آخر ليل،.
أم كان بعيدا عن قلبي".
ألا تراودك عمان لتعود؟ ألم تتعب من السفر والغربة؟.
بلى، تراودني، ولكن عندما يرمي المرء جذوره في مكان ما يصبح صعبا اقتلاع هذه الجذور. الأردن، عموما، حاضر في كتابتي وذاكرتي. كما أنني على صلة بالبلد من خلال زياراتي السنوية وعلاقتي بأهلي وأصدقائي واهتمامي، عموما، بوضعه على غير صعيد، أعجبني تعبير للكتابة الالمانية هيرتا موللر الحائزة أخيرا على جائزة نوبل حول الوطن يقول، ما معناه، إنه المكان الذي لا تطيقه عندما تكون فيه ولا تكف عن التفكير به عندما تكون خارجه.
الشعر عندي جمرة ثاوية في الأعماق.
يقول الناقد صبحي حديدي في تقديمه "وحيداً كذئب الفرزدق"، وهو عنوان مختاراته من أعمالك التي صدرت في دمشق، "أمجد ناصر ما زال وفيّاً للشاعر الأوّل"... فهل حقا أنت وفيٌّ للشاعر الأول وأنت المهجوس بالتجريب فكأنما ثمة أكثر من شاعر، وأكثر من تجربة نصّية يخوضها الشاعر فيك؟ وكأنك "سندباد بري" مثلما يصفك عباس بيضون في تقديمه لأعمالك الشعرية؟.
لا أظن صبحي حديدي يقصد بقاء الشاعر الذي صرته على صورة الشاعر الذي بدأ خطاه قبل أربعة عقود، إن كان هناك وفاء ما فهو وفاء للشعر نفسه، رغم أنني لست من الذين يخلعون صفات القداسة والنورانية على الشعر ولا أعتبره مخلصا أو منقذا. في الواقع كل ما فعلته كان مهجوسا بالشعر، كل شيء بما في ذلك نثري ورحلاتي وتشعبات حياتي وموقفي من الحياة والعالم. الشعر عندي جمرة ثاوية في الأعماق وليس لهبا. لست من شعراء اللهب بل من شعراء النار الكامنة تحت الرماد، إن جاز لي هذا الوصف. هذا قصارى حسن ظني بنفسي وهو ليس قليلا ولا متواضعا كما تلاحظين. إنه وفاء لخيار أول هو الشعر ولكنه ليس وفاء لأساليب وطرق في الكتابة، فهذه الأخيرة قابلة للتغير والتبدل ولكن على الأرضية ذاتها كما أحسب.. حتى تجريبيتي ليست بعيدة عن خياري الأول، إنها ليست أكثر من مجرد مقاربات من زاويا مختلفة للشعر، أو محاولات للقبض عليه في حالاته المختلفة. فالتجريب ليس عملا مقصودا لذاته، لا بدَّ أن هناك هدفا من وراء كل تجربة. هذا الهدف، بالنسبة لي، هو الشعر سواء بمعناه الذي تلحظه القصيدة أو بمعناه العام.
أن يعرفني ابناي من خلال صورة الشاعر.
ماذا عن المختارات الأخيرة التي صدرت لك مؤخرا عن دار نشر لندنية تحت عنوان "راعي العزلة" بترجمة راقية أنجزها خالد مطاوع؟.
هذا كتابي الشعري الأول المترجم إلى الانكليزية وهو يضم طيفا واسعا من معظم أعمالي الصادرة حتى الآن وقد اشتغل على ترجمته قرابة خمس سنوات الشاعر والمترجم الأمريكي من أصل ليبي خالد مطاوع. الكتاب صدر حديثا عن دار "بانيبال بوكس" اللندنية وقد تكون له طبعة لاحقة في أمريكا. الشيء الوحيد الذي سرني في صدور هذا الكتاب هو توفيره إمكانية أن اقرأ من قبل ابنتي يارا وابني أنس اللذين لا يعرفان، للأسف، اللغة العربية، أقصد أنهما لا يعرفانها قراءة وكتابة وان كانا يتكلمان بلسانها العامي. فهما أول شخصين أطلعتهما على الكتاب. إنه سبب ذاتي، فأنا أرغب أن يعرفني ابناي من خلال صورة أخرى هي صورة الشاعر وليس فقط صورة الأب. هما يعرفان بالطبع أنني شاعر ولكنهما يفتقدان إلى وسيط لغوي إلى شعري.
قصائدي المترجمة إلى الانكليزية.
أشرع لنا بعض النوافذ على الترجمة، فالنشر بلغات أخرى هو أيضا اكتشاف لأدب الآخر (نحن) كيف قدمت ترجماتك المختلفة.. المشهد الشعري العربي؟
هي قدمت نموذجا لشاعر واحد هو أنا، وأنا لست الشعر العربي، فهذا الشعر متعدد في الأجيال والأصوات والتجارب ومن الصعب، بل من المستحيل، حصره في شاعر واحد مهما كان كبيرا، فهناك ترجمات لأدونيس ومحمود درويش، وهما الأكثر ترجمة إلى اللغات الأجنبية، ولكن حتى تلك الترجمات لا تكفي للقول إن هذا هو الشعر العربي. سمعت بعض الآراء وقرأت بعضها في خصوص قصائدي المترجمة إلى الانكليزية كانت مشجعة، بل ربما متفاجئة لأن المهتمين بالشعر في الغرب لا يعرفون الكثير عن شعرنا ويظنون أنه يصدر من إرث خاص لا تجمعهم به صلة. هناك موقف غربي يرى في الحداثة منتجا غربيا وهذا صحيح ولكن الحداثة، حتى وإن بدأت غربية، فهي اليوم نتاج عالمي تشارك فيه شعريات عالمية مختلفة بينها الشعرية العربية التي استأنفت مسيرتها عند نقطة العلاقة مع الغرب بصرف النظر عن شكل هذه العلاقة والطابع الصدامي الذي تخللها عبر قرن كامل. علاقتنا بالغرب ملتبسة فهي تقع بين حدي الافتتان والصدام، بين تبني مفاهيم فكرية وسلوكية ومعرفية وبين رفض ومواجهة. طبعا في السياسة يبدو الصدام أوضح، بينما لا يظهر هذا بشكل واضح في العلاقة المعرفية والفكرية. قد تساعد الترجمة على تجاوز التنميطات التي تسم علاقتنا بالغرب وعلاقة الغرب بنا، ولكن هذه الترجمة لا تزال محدودة وهي الآن تركز على الرواية، أو على نوع من الكتابات السردية، التي لا تبتعد، في رأيي، كثيرا عن حدود التنميط. علينا أن نعترف أننا لا نملك الكثير والمميز لنقدمه إلى الآخر على الصعيد المعرفي عموما والأدبي على نحو خاص، لسنا في وضع يشبه اليابان أو أمريكا اللاتينية أو حتى إفريقيا. عندما نقارن روايتنا، خصوصا، بروايات هذه الثقافات تبدو متواضعة. هناك مشكلة عندنا تتعلق بمستوى المنتج نفسه وهناك مشكلة عند الآخرين تتعلق بالصور المسبقة.
أعرف أنني "يحيى النعيمي" ولكني أعيش معظم الوقت كأمجد ناصر.
***
سيرة ومسيرة الشاعر..
أمجد ناصر ?مواليد? المفرق عام 1955??، بدأ كتابة الشعر والانفتاح على الحياة السياسية في الأردن والعالم العربي في المرحلة الثانوية، عمل في التلفزيون الأردني والصحافة في عمان نحو عامين ثم غادر إلى لبنان عام 1977.
أصدر مجموعته الشعرية الأولى ? "مديح لمقهى آخر" ?عام 1979 بتقديم من الشاعر العراقي سعدي يوسف ولاقت صدى نقديا لافتا في الصحافة اللبنانية والعربية، واعتبرها النقاد بشارة على ولادة شاعر ذي صوت وعالم خاصين?.?
كان من أوائل الشعراء الشبان الذين انتقلوا إلى كتابة ما يسمى" قصيدة النثر" بعد تجربة مميزة في كتابة قصيدة التفعيلة، فبدءا من عمله الشعري الثاني "منذ جلعاد" (1981) واصل أمجد ناصر، الذي وصفه سعدي يوسف بأنه "عرار" الأردن الجديد، كتابة هذه القصيدة حيث أعطاها خصوصية عربية كانت تفتقد اليها في علمه الثالث "رعاة العزلة" (1986)، حسب قول الناقد صبحي حديدي، فقد اختط الشاعر الأردني الشاب طريقا خاصا به على هذا الصعيد وتمكن من استضافة موضوعات بدا أنها غير ممكنة في هذه القصيدة كما يلوح ذلك في عمله الشعري "سُرَّ من رآكِ" (1994) الذي يعتبر الأول من نوعه في شعرية الحب العربية الحديثة بحسب وصف عدد من النقاد العرب، فقد رأى فيه الناقد العراقي حاتم الصكر "إحياء حديثا لديوان الغزل العربي"، إضافة إلى عمله "مرتقى الأنفاس" (1997) الذي تناول فيه، على نحو بانورامي وذي نفس غنائي ملحمي، مأساة أبي عبد الله الصغير آخر ملوك العرب في الأندلس.
وفي عمله الشعري "حياة كسرد متقطع" (2004) يختط أمجد ناصر طريقا جديدة في قصيدة النثر العربية ويصل بالشعر إلى حدود سردية غير مسبوقة من دون أن تتخلى القصيدة عن توترها الشعري الثاوي في أعماق النص، وقد لاقى هذا العمل ردود فعل عديدة في الحياة الشعرية العربية بين مرحب بهذه الانفتاحة الجريئة على السرد وطرائق النثر وبين من اعتبر أن جرعة النثرية فيه أكبر من أن تتحملها القصيدة، ولكن تظل أطروحة أمجد ناصر في هذا الكتاب اقتراحا جماليا جديدا يثير سجالا في ساحة شعرية عربية يكاد ينعدم فيها، الآن، السجال على قضايا الشكل والمضمون، وهذا ما أكد عليه الشاعر والناقد اللبناني عباس بيضون في حواره مع أمجد ناصر بعد صدور الكتاب. انتقل أمجد ناصر من بيروت بعد حصارها عام 1982 إلى قبرص حيث واصل العمل في إطار الإعلام، ثم انتقل بعدها إلى لندن عام 1987 ليعمل في صحافتها العربية، وشارك عام 1989 في تأسيس "صحيفة القدس العربي" وأشرف على قسمها الثقافي حتى اليوم.
ترجم بعض أعماله إلى اللغة الفرنسية والايطالية والاسبانية والألمانية والهولندية والانكليزية، وشارك في عدد كبير من المهرجانات الشعرية العربية والدولية كمهرجان الشعر العربي في القاهرة ومهرجان جرش في الأردن الذي أشرف على القسم الدولي فيه، إضافة إلى مهرجان لندن العالمي للشعر الذي كان أول شاعر عربي يقرأ في أمسيته الافتتاحية ومهرجان روتردام العالمي للشعر ومهرجان مدايين في كولومبيا، إضافة إلى مشاركته في لجان تحكيم جوائز عربية ودولية في الأدب والصحافة كجائزة محسن القطان الأدبية وجائزة "الروبرتاج الأدبي" التي تمنحها المجلة الألمانية المرموقة "لتر" وجائزة الصحافة العربية في دبي وصندوق دعم الثقافة العربية، وقد أصدر عشر مجموعات شعرية وكتابين في أدب الرحلة الذي يعتبر من أوائل المثقفين العرب المعاصرين اهتماما بهذا الجنس الكتابي وكتابة فيه، ونال في نهاية عام 2006 جائزة محمد الماغوط للشعر، وجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في العام الماضي، كما استلهم أعماله تشكيليا بعض الفنانين العرب من أمثال ضياء العزاوي وفوزي الدليمي ومحمد العامري وحكيم جماعين وصدرت استلهاماتهم هذه في كتب فنية.
حقق عنه أكثر من برنامج وثائقي تلفزيوني أبرزها الفيلم الذي أنتجه التلفزيون الأردني بعنوان "سندباد بري" لمناسبة اختيار عمان عاصمة للثقافة العربية عام 2002، وما أنتجته "قناة العربية" في إطار برنامج "روافد" وبثته على حلقتين، واستضيف مؤخرا في برنامج "نلتقي" على تلفزيون دبي.
*****
قالوا عن الشاعر أمجد ناصر.
"أقرأ شعر أمجد ناصر بشغف قارئ يحرص على أن يستقصي أسرار الكتابة الشعرية، فأرى في هذا الشعر طريقة في تحرير الكلمات من ذاكرتها وإطلاقها من جديد في حركة مضيئة نحو فضاء أخر، أرى فيه كشف للفروقات بين الأشياء التي يظن أنها عادة متباينة، ولا رابط بينها. هكذا لا تعوم الكلمة في سديم العواطف ترزح أسيرة تحت عبء مذهب ما، وإنما تتموضع بؤرة موسيقى وصورة ودلالة بؤر عمودية وأفقية على السواء".
(أدونيس)
"قصيدة (رعاة العزلة) رائعة الشاعر أمجد ناصر، إنجاز إبداعي متقدم، يسعى الشعر به إلى تصفية حسابه مع الماضي الشعري، بما في ذلك ماضي الشاعر نفسه. ولا ينجم عن ذلك المسعى المهم تغيّر في شكل القصيدة ذاتها فحسب؛ وإنما في شكل معناها أيضاً، إنه العمل الشعري المبهر الذي تحرر معه الشاعر أمجد ناصر من سلطة الإيقاع ومن الرواسم المكررة، ونجح في تعزيز المنحى المخالف لما ألفه في قراءاته وفي كتاباته".
(الشاعر عبد العزيز المقالح)
***
شهادات
البحث عن زمن مُكتَشَف
نصّ الشاعر أمجد ناصر فرصة ثانية: أصوات وخطى على طريق الملوك ، ساحرٌ متعدّد ومُحيِّر بما يَسِمُه من الزّوَغان والتداخل بين الرؤى الشعرية والقيم الحكائية، بين الذكريات الشخصية والإضاءات التاريخية؛ أو أنّها حكائية شعرية، رغم مراجعها المعيشة.
هي شعرية، لا لأنّ العناصر الحكائية تجيء في لغة لَمْحيّة أو تنساب مشمولةً بضباب الذكرى، ولا لأنّ حضور العناصر يُفلت من التحديد والتوالي الزمني ويمتنع على الإقامة في موقع أو إطار معيّن. هي شعريّة لأنّ هناك رؤى ترفرف على مدى هذا النص السردي الذي لا يبوح باسمه ولا يبيح التصنيف، لأنّ هناك ما يترجرج في ماء الحلم بقدر ما يومض في ضوء الذكرى أو ينبثق من مدهشات الحفريات.
ومع أنّ القارئ يكتشف عبر النص تعدّد العوالم وطبقات الحضارات، فإنّ الفنّية الشعرية للسرد هي التي تبني مناخ الحلم والحنين.
ل شيء هنا مُزاحٌ عن موقعه، أو يلبس خلاف دوره ويحكي بغير ضميره. كل شيء يلعب لعبة الانعكاس في المرآة: يطلع الصميميُّ الحميم من خاتم أثريّ، أو كأنّه أثَريّ. الوقائع الماضية تظهر في موكب الأخيلة. يلتبس الإخبار بالمَجاز. ينهض لَعِب المرايا وتَداخلُ المواقع، وتتعدّد الأصوات التي تركت أصداءها في ذاكرة الراوي، وتتداخل أصوات العالم الذي يتموّج بين الأزمنة.
كأنها سيرة ذاتية للمكان، تتداخل بها وتتخللها خطوط من سيرة المُخاطَب - المرويّ له. تهجم الذكريات رجراجة زائغة. والكلمات الغريبة التي رافقت المرويَّ له منذ الطفولة لا تغيب. كل شيء يتمركز حول تلك البدوية عميدة ذلك العالم، والتي تبدو أشبه بالإلاهات الأثريات. كأنها فاتحة العبور إلى العوالم المتقاطعة، فاتحة رحلة إلى عتبات ماض يمتد آلاف السنين. فاتحة لاستعادة أزمنة المكان وفتح صفحاته واستجلاء صوره بدءاً من الأُسَريّ الخاص وذكريات المراهقة والخلاّن. هي استعادة ماضي مكان حائر بين البداوة والمدينة، واستحضارٌ متواترٌ للعتبات التي تفتح المدى على البدايات ورحلة التحولات.
صيغة الخطاب تحجّب المتكلّم والمعنيّ، بينما الغلالة الشعرية تحجب الوضوح الزمني. والراوي هنا ليس براوٍ مستقلّ يروي عن غائب، بل مرآة تنعكس فيها صورة الراوي الحقيقي (فكأنه يكلم صورته ويدفعها إلى موقع المخاطَب).
هذا السرد المتقدم عبر المرايا، يلفّ كل شيء، حتى المستوى المرجعي الراهن، بغلالة المضيّ وغموض المعنيّ وبُعد العهد ولمح المجاز. فلا سرد مباشراً ولا حوافيَ محددة يرسمها وصف ولا تعبير. سرد، رغم وعيه بذاته وبوظيفته، يقترب من الكلام في الحلم ومن لغة الشعر، حيث يُستَدخَل كلُّ شيء ويُعاد ارتسامه في مخيّلة الراوي - الكاتب، ويقوم تعدّد الخطابات وتبادل الحجب وتتأرجح الوقائع على حافة الخيال.
هكذا يكشف السرد مساره:.
تتماوج الأشياء والذكريات لكنها جميعها مأخوذة في بحر الماضي. لا شيء يحرّر الأحوال من زمنيتها مثل الماضي. إنه هنا بحرٌ كبير تسبح فيه العناصر وتتلاقى الأزمنة بجاذبية الأهواء ودفق الأخيلة.
عبر هذا البحر اختار أمجد ناصر أن يسوق سرده. والسرد هو فن السفر إلى الماضي وقيادة قاطنيه. هكذا حين يستدرِجُ السردُ الأوابدَ ينشر الأسرار ويستحضر الأجواء الغامضة والألغاز الطالعة من مهاد العصور. وها هي تلك الآثار والحكايات تبثّ الغموض الخرافيّ - ابن الزمان الذي يلفّ كلّ شيء: لتلك الأسباب، ولأخرى أقلّ وضوحاً في ذهنكَ، لن تعزل الماضي عن الحاضر ولا ما خبرتَه شخصيّاً عمّا سمعتَه من الناس أو قرأته في الكتب. ستترك للذاكرة أن تتداعى وللعين أن ترى، وقد تحلم في رابعة النهار.. .
هذه هي طريق النصّ المعلَن: تداعيات الذاكرة، ورؤية العين، وأحلام النهار.
***
كلّ شيء يبدأ من خاتم مختلف ، لا نعرف طبيعة اختلافه؛ هل هو خاتم أم ختم أم طلسم يُفرَك فتظهر الصور وتنطلق الحكاية؟ كل شيء يبدأ من صورة جانبية لامرأة مقرفصة على هيئة غزالة معمّرة يراها المروي له فوق حجر الخاتم الأزرق الكابي. خاتم اشتراه من بائعة متجولة. الصورة التي يكشفها الخاتم تستدرجه أو تستدرج خياله، وتوقظ فيه حنيناً إلى الصحراء. ومن تلك الصحراء التي انحفرت طبوغرافيتها المضللة في أقدام طفولات حافية ينطلق البحث.
صحراء، على حدودها أقامت أسرة الراوي / المرويّ له. صحراء سيكتشف أنها حبلى بحيوات وحكايات آبدة؛ بكلمات وأسماء غريبة. وعلى أجنحة الحكايات والذكريات الغائمة والصور اللّمْحية يبدأ الانزلاق إلى ماضٍ أوّل هو زمن طفولته ويفاعه، ثم ينزلق من ذلك الماضي إلى ماض خلفه ماض وعهود.
هكذا ندخل في النص مثل دخول في أرض سحرية تستدرجنا. فهنا لا يحضر الواقع إلا ماضياً ومُستَعاداً في خيوط الحكاية؛ لكنها حكاية تمزقت خيوطها الزمنية وتبعثرت عناصرها أو تداخلت، لأنّ الزمن طبقات أزمنة. ولا حضور للشخصيات إلا في نوادر وصور، بل في شذرات وإلماحات، داخل مسيرة البحث عن الزمن، لا الزمن الضائع بل الزمن المكتَشَف. إنها في الوقت نفسه سيرة بلد على مفارق الحروب؛ ذاكرة بلد عند ملتقى دول ونهايات عهود؛ بلد عند تقاطع الهجرات وتجاور المتناقضات، وتسارع التحوّلات؛ بلد عند ملتقى البدو والحضر؛ أرضه حبلى بالأوابد والممالك؛ ومع أنها مدى صحراوي فإن ينابيع الصور تنفجر فيها، وإليها يتوافد للارتواء غرباء مفتونون. يتقدّم هذا كله، يتجاور ويتقاطع داخل السرد الشارد في سديم اللازمن والتباس الشخصي واللاشخصيّ، وتجاذب المعيّن الحيّ والأسطوريّ. سردٌ هو نوع من تذوّق أعطيات التيه ، كما يعبّر الراوي.
المقاطع الشعرية، أعني تلك المميَّزَة نصّيّاً، إذ تخترق هذا السياق السردي، فكأنما تهبط من غيب أو تنبثق من وراء ستار الذكرى؛ كأنها تتسرب من جميع الشقوق وعند كل المنعطفات وتتماوج فيها اللغات. مقاطع شعرية هي لغة حلم وهذيان، لغة التباس وتداخل بين الراهن والغابر؛ التباس مفتوح على الأسطورة.
بعض الشخصيات في هذا النص تدخل المسرح أو تنبثق من الحكاية، ونكاد لا نعرف إن كانت حقيقية أو وهمية. ذلك أنّ الحلبة هنا تتسع لكل مراتب الحضور والظهور وكل مستويات المكان. كأننا أمام المخايلجي في خيال الظلّ، لا نعرف أي طيف سيدفع إلى شاشة الوهم، وحيث غياب البعد الثالث للحلبة يستدعي حلبات افتراضية.
هنا مسرح للحلم أو للوهم تولد من أحشائه عوالم وشخصيات من أزمنة عديدة وهويات مختلفة للمكان. فالصورة التي بدت، منذ المطلع، سحرية يرسلها حجر الخاتم الغريب، ستقود السرد وتتعيّن كمحور لهذا العالم؛ وبغيابها تبدأ التحولات: سيتغير كل شيء وتموت كلمات من قاموس الصحراء، وتموت عناصر وصور ولهجات وعلاقات وأنماط حياة. صورة هي محور المكان وملكته. المرأة المقرفصة على هيئة غزالة معمرة تحمل الثِّفال الغامض وقاموسَ عالمها الذي سيغيب بغيابها. إنها الغزالة - الأمّ التي بها يبدأ النص مثل الفواتح السحرية أو المقدَّسَة وبها يُختَتَم.
هل النصّ، في بعد من أبعاده، سيرة تحولات المكان وتراجع البداوة، وسيرة الشباب الفائر؟ سيرة التجارب الأولى والصداقات والهروبات الأولى والاكتشافات الأولى؟ أم سيرة اكتشاف لاوعي الذات ولا وعي المكان رجوعاً إلى زمن غابر يُكشَف عنه ليكون فخَّ المساءلات ومنجم الدّهشة؟.
هوَذا طريق مُلغِز مثل طرق الدخول في حكايات المغامرات والغرائب. طريق لاكتشاف جادة كونية وقف على حجارتها المرصوفة، في إتقان، ملوك ورسلٌ حفَظَ الحجرُ أسماءهم.. إنه كلام عن الماضي على مسافة بعيدة أو قريبة، كأنه نظر من وراء ستار أو من وراء الغيب. رحلة تستحضر في الوقت نفسه أخبار المغامرين المهووسين أو الملتبسين، الجواسيس منهم والحالمين الخياليين والمجانين الباحثين عن شرق أسطوري، ينقّبون جميعهم عن الحكايات النائمة والممالك البائدة والبلدان النائمة والثروات النائمة.
وهذا النص، هو أيضاً يشتغل كالحفر في الحلم على الذكريات، على بلدة عند أطراف الصحراء، على طفولة ومراهقة وخلاّن. أخبار وفواجع معاصرة تنبجس في النص كأنها أساطير مثقلة بالرموز والدلالات. بحث أركيولوجي في الزمان أشبه بإجراءات اكتشاف الآثار والعوالم الغابرة. يبحث هذا العائد عن مدن وأوابد نسيها أقوامها ونسيها التاريخ ونامت شخوصها آلاف السنين وتحجبت صورها بالغبار. إنه بحثٌ شعري في التصحّر العمراني والبشريّ، في جفاف الذاكرة وجدب الخيال؛ بحث شعريّ في مدن تنام تحتَ مدن تحتَها مدن، في ذاكرة غطّتها الرمال، ومدن جانَبَتْها الطرق وخرجت من خارطة الأيام.
ويشتغل كالحفر على ذاكرة معاصرة هاجمتها الحياة الجديدة وبدّلَت أسماء الأشياء فيها؛ كما يشتغل على صور ومِهَن وعادات، على قصص المراهقة والمغامرات الأولى. والذاكرة آلة تنقيب، لكنها لا تسلَم من خطف الخيال ومقالب الهذيان.
الراوي، في النص، يأخذ موقع المرآة ليردّ ل البطل صورته عبر ضمير المخاطَب، وهو ما لا يندر في الشعر الموروث، منذ الخنساء حتى شعراء بني عذرة، لكنه يندر في السرد غير الشخصي. أمّا نصّ أمجد ناصر فهو مَمْسوسٌ بالشعر ومخترَق، ليس فقط عبر المقاطع الشعرية المميَّزة في صورتها وموقعها على الصفحة وحضورها، سواء استدعاها السياق أم لم يستدعها، بل الشعرية تحضر عبر الموقع الذي يقف فيه الراوي كصورة في المرآة تخاطب صاحبها، وتحضر في الزاوية المائلة جداً التي يُرى منها.
لكنّ في النص مرايا لا مرآة واحدة. مرآة الذاكرة ومرآة الحلم (إضافة إلى مرآة العِلم). غير أنّ نظرة قادمة من ذلك العالم الغريق تضيء الحلم؛ إنها نظرة الصورة التي تخرج من زمنها، تعبر الأزمنة وتصيب المتكلّم الحقيقيّ الذي يقف أمام المرآة أو يتخفّى وراء قناع المخاطَب؛ فينهار القناع في لحظة لقاء خارق وتنكسر المرآة. ذلك أنّ نظرةَ الصورة الجدارية التي تلاحق الراوي، تكسر اللعبة، تستدرج المتكلّم - البطل الحقيقي، للخروج من المرآة ومن وراء قناع المخاطَب، فيقف راوياً متكلِّماً عارياً من قناعه مختَرَقاً، مُصاباً لا في الروح وحدها بل في الجسد كذلك، كنوع من الوصال الذي يعبر الأزمنة.
تلك نظرة سيعود لالتماسها مراراً. حقّاً، هل هناك إغواء خارق بدون لعب الخيال؟.
هكذا فالأوابد، في هذا النص، تحيا حياة أخرى في الغياب، أو تحيا ما بعد الحياة. وفضلاً عن هذا البعد التأمّلي الغامض لا يغيب الوصف التحليلي في الوقت نفسه. ويشتغل النص على التضاد، فيقيم التجاور بين عناصر البداوة بما يميّزها من إقامة في السطح ومن وهج وجفاف وفقر وغياب، وبين تلك الأوابد الثريّة النائمة في العمق والظلّ، في السكون وفي السرّ، تلتفّ بلُغز الزمان.
* مقتطف من مقدمة الناقدة خالدة سعيد لكتاب أمجد ناصر الجديد فرصة ثانية الذي يصدر، في إطار مشروع التفرغ الإبداعي، عن وزارة الثقافة الأردنية قريباً.
الراي
29 يناير 2010
***
الفَنُّ متمكِّناً
(1)
كانت بيروت، حيثُ حللتُ، في أواخر السبعينيات، مدينةً تنام على قلَقٍ، وتصحو في الصباح على حدود.
أمّا نحن الذين لُذنا، بِظَهْرِ النمِرِ مَرْكَباً، فلقد كانت لنا جمهوريتُنا، جمهورية الفاكهاني، الممتدة بين جسر الكولا والشيّاح. ثمّتَ كنا نحلمُ، ونكتبُ، ونحبّ...
وثمّتَ أيضاً، كنا نُقتَلُ: غِيلةً حيناً، وقصفاً إسرائيلياً أحياناً.
في هذا الاحتدام، الذي يشدّ العصَبَ حتى جنون التوتّر، نشرَ أمجد ناصر مجموعته الشعريةَ الأولى مديح لمقهىً آخر (علينا أن نتذكر أنه كان في الثانية والعشرين من العمر)، لكنها حملتْ، بصورةٍ جنينيةٍ، مِيسَمَ كاتبِها المبكرَ، المِيسَمَ الذي سيتأكّد أكثرَ فأكثرَ مع كل مجموعةٍ تجِدُّ، منذ جلعادَ وهو يصعد الجبل ، صعوداً حتى أيامنا هذه.
كنتُ أشرتُ إلى أن مديح لمقهى آخر تحمل ميسَماً ما. والحقُّ أن الإحاطةَ بهذا الميسِم ليست بالنظرة العجلى. النظرةُ العجلى لن تأتي بشيء. إذاً، على المرءِ أن ينتزعَ انتزاعاً، ما يراه مؤشراً إلى آتٍ.
من جانبي، رأيتُ ما حسبتُه، مؤشراً، ليس عن فرْطِ تفاؤلٍ، وإنما عن اقتناعٍ بما بين يدَيّ.
انتبهتُ في مديح لمقهى آخر إلى: شجاعة التحديق، الاهتمام بالنتوءات والثقة بالنفس.
لقد انتبهتُ إلى أن صاحب المجموعة يملك عينين نفّاذتَينِ، وإلى أنه يستخدم هذا العامل البصريّ، بأمانةٍ وشجاعة، وإلى أن النظر منصرفٌ، حتى في تلك المرحلة المبكرة جداً، إلى ما هو ضروريّ.
وانتبهتُ أيضاً إلى أن أمجد ناصر، في محاولته الإحاطةَ بعالَمنا، يتجنّبُ المُوَطّأَ، والممهّدَ من السبيل والمرأى، ويفضِّل الاهتمامَ بالنتوءاتِ التي غالباً ما يتجنّبُها السُّراةُ المترَفونَ، الذين يخشَونَ على نعومةِ أقدامِهم.
وتلمّستُ في مديح لمقهى آخر ثقةً بالنفسِ، واضحةً، ومُعْلَناً عنها. قلتُ: إنها، حقاً، لَبِشارةُ خيرٍ!
لم تخِبِ البشارةُ، ولم تخْبُ.
(2)
بيروت لم تكن ملتقاي الأول مع أمجد ناصر.
في النصف الثاني من السبعينيات، نُقِلْتُ بأمرٍ من طارق عزيز وزير الثقافة والإعلام في العراق آنذاك، من المركز الفلكلوري حيث كنت سكرتير تحرير لمجلة التراث الشعبي ، إلى منصب نائب مساعد أمين مكتبة في دائرة ملحقة بوزارة الريّ، تقع قرب السدّة ، غير بعيدة عن مقهى عرب الذي كنا نرتاده أيام الدراسة الجامعية.
كنتُ في تلك المكتبة القديمة، التي تعود أصولُها إلى الاحتلال البريطاني، وكانت في سابق مجدها إصطبلاً لخيول العثمانيين.
هناك كانت كتب الريّ، والسدود، والفيضانات، وكتب الرحّالة الأقدمين، ومشاريع الريّ الكبرى، المنفّذ منها، وغير المنفّذ. وكنتُ مكلفاً بمتابعة ترسُّب الطين في أنهار العراق وجداوله، وتقديم تقارير رسمية إلى جهات رسمية عن هذا الترسُّب!.
كنت أجلس في أعماق المكتبة، وأقرأ عن حضارة الأنهار والحروب.
هناك قرأت، أنا المغضوب عليه، أناباز زينوفون.
لم يكن أحدٌ يجرؤ على زيارتي.
أعرفُ هذا، وأعرفُ ما قد يتعرّض له من يجرؤ على زيارتي.
***
في ضحى أحد الأيام، قال لي عبّاس (وهو مساعد أمين المكتبة، إذ ليس في هذه المكتبة العتيقة أمينٌ) إن أحداً يريد أن يراني.
قلت له: ليتفضّل.
أمجد ناصر كان الزائر!.
عرفتُ منه أنه في زيارة إلى بغداد.
الحديث محدود، بالطبع، فللجدران آذانٌ، كما يقال...
ما أزال أقدِّرُ للرجل هذا الموقفَ، فعديدُ زوّار بغداد كان عظيماً، أيّامَها، لكنه كان الوحيد الذي زارني في ممتحَني بالمكتبة القديمة لوزارة الريّ!.
***
في أوائل الثمانينيات، أحسستُ بأني أردُّ لأمجد بعضَ فضلٍ، حين حملتُ له، من هند في بيروت، رسالةً وأشياءَ أخرى، وسلّمتُها له، وهو في عدن بالمدرسة العليا للاشتراكية العلمية...
المدرسةِ التي فرَّ بجِلْدِهِ، وجَلَدِهِ، منها!.
(3)
لَكأنّ العقودَ الثلاثةَ التي تمدّدَ عليها شِعرُ أمجد ناصر، هي عقود الامتحان القاسي المديد، إذ جرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسورٍ كثيرة، وانهدمت جسورٌ وقلاعٌ، وزالت ديارٌ، وفُتِحتْ أبوابٌ، وغُلِّقَتْ أخرى...
في هذه العقود، تساوى الغثُّ والسمينُ. والمعرَبُ والمعجَم. والناطقُ بالضادِ وغيرُ الناطق. تساوى محررُ الصفحة والشاعر. الأبيضُ والأسودُ.
وثارتْ عواصفُ كبرى في الفنجان.
المعاركُ الشعرية التي حُسِمتْ في أوربا وأميركا، منذ قرنَينِ، ثارَ نَقعُها، وخفقتْ بيارقُها عندنا، أمارةً على موقعنا الفعليّ من التاريخ الثقافيّ والشعريّ. لقد كان المشهدُ مؤلماً، وما يزال.
البابُ الوسيعُ الذي كان بإمكان قصيدة النثر أن تفتحه أمام تطور النصّ الشعريّ العربي، انهدَمَ تحتَ سيلٍ عَرِمٍ من تفاهةِ المُسَطَّرِ المجّانيّ، غيرِ ذي العلاقةِ بالحياة وأشيائها، واللغةِ وأفيائِها...
لقد كانت عقوداً للتخلّف العامّ في أمّةٍ تُدفَعُ خارجَ التاريخِ دفعاً.
أين أمجد ناصر من هذا كله؟.
أعتقدُ أن الرجل زوى نفسَه عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعترَك، وظلَّ يطوِّرُ رؤيتَه وأداتَه، مستقلاًّ بنفسِه، لايرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ.
مُقامُه بأرض لندنَ، منحه مسافةً كافيةً وضروريةً، للنظر من بعيدٍ، ولتطويرِ النظر إلى الداخل.
صار يطلّ بموضوعيةٍ على ميراث الشعر في العالَمِ، ويقارِن بين ما نفعله وما يفعله الآخرون من شعراء الأمم الأخرى، معتمِداً مدخلَه الخاصّ والخصوصيّ إلى ما نفعله وما يفعله الآخر.
الفنُّ تعَلُّمٌ دائمٌ، مثل ما هو سفرٌ دائمٌ.
وظلَّ أمجد ناصر يتعلّم.
وبينما شُغِلَ كثيرون ببناء أبراجٍ من الملحِ، ظلَّ الرجل يشتغل بأناةٍ على بناء نصِّه الصعبِ والمختلف.
ونعود، من جديدٍ، إلى مديح لمقهىً آخر ، كي نرصد، عبر العقود الثلاثةِ، التحديقَ وقد أضحى أشدَّ شجاعةً، والنتوءاتِ وقد أمست أكثرَ حِدّةً حتى لتكاد تجرح من يلمسُها، والثقةَ بالنفسِ وقد برّرتْ حالَها تبريراً مؤصَّلاً.
يا يحيى.
لن تعرفَ نفسُكَ الراحةَ .
نبوءةُ الأمّ، تكتسبُ معنىً وعُمقاً غيرَ عاديّينِ.
وسيظل أمجد ناصر تحت الظل العجيب لهذه النبوءة. الظل الذي يتنزَّلُ قصائدَ مثل غصون مثقلة بالثمار.
الثمارِ الاستوائية!.
(4)
في التجلي المتاح الآن، حتى حياة كسردٍ متقطع ، تُمْكِنُ للمرء متابعةُ اهتماماتٍ جديرةٍ بالعناية.
لنأخذ المادةَ الخامَ مثلاً:.
أختارُ، عامداً، أقصرَ نصٍّ في المجموعة: ذكرى (صفحة 29).
الرصاصة التي أطلقَها من مسدّس والده العسكريّ (البرشوت).
عندما كان يلهو تحت قوس القيظِ والضجرِ وكادت تودي بحياة.
أخيه الأصغر استقرتْ في الدرفة الوسطى من أول خزانة ثيابٍ.
اشترتها العائلة وتُركت هناك (قصداً على الأغلب) لتظل مادةً.
للكلام عن بِكْر العائلة الذي خرج ولم يَعُدْ .
المادة الخام،ُ هنا، غيرُ مُدّعيةٍ. هي مجموعة أسماء جامدة وأفعال. أمّا الفضْلةُ (النعت هنا) فقد كادت تلتحق بالاسم الجامد. الوسطى مثلاً في الدرفة الوسطى لا يمكن عدها فضلةً (بالمعنى الاصطلاحي السائد). إنها جزء من الدرْفة. جزءٌ من الاسم الجامد.
***
اعتمادُ الكتلةِ وحدةً:
قد يكون هذا الجهدُ الخارقُ، المخالِفُ، المنجَزَ الفنيّ الأكثرَ تواتراً في حياة كسردٍ متقطع .
المجموعةُ كلُّها تعتمدُ هذا المنحى الفنيّ.
ليس في المجموعة قصيدةٌ واحدةٌ تأخذ بالتسطير المبتذل.
لقد استُبدِلَتْ بالبيتِ، الكتلةُ (لنَقُل المقطع تيسيراً).
***
الصورةُ:
تتشكّل القصيدة من لعبة الصورة.
الصورة هي التي تُعَيِّن حركة النصّ.
قصيدة فتاة في مقهى كوستا ، ص 23، يحقُّ لها أن تتباهى بأنها قصيدةُ صورةٍ.
ليس ثمّة من كلام في النصّ.
فتاة في مقهى كوستا إنجاز فنّي باهر، عنوانه: التخلي عن الكلام.
***
طبقات القراءة:
في استعدادٌ للطيران ، ص 47.
هنا، تتجلّى مهارةٌ عجيبةٌ، توغِلُ في تواضعِها.
كلُّ كلمةٍ، مُشَفّرةٌ، مثل بريدٍ سرّيّ.
لك أن تحاول فكَّ الشفرة، بطريقتك، بقدراتك، الثقافية أو غير الثقافية، وفي كل محاولة فكٍّ ستجد الأمر عجيباً.
أليس هذا هو الفنّ المتمكن؟.
الراي
29 يناير 2010
أخلاقية الرحيل تدلّني إليه
(1)
أتخيل يومه الأول الذي رحل فيه إلى القصيدة.
خرج من بيته في عمّان يحمل مزوداً مملوءاً بخبز وجبن وزيتون وثلاث برتقالات وقنينة ماء. في جيب معطفه أوراق مالية قليلة كان ادخرها منذ شهور. غادر المدينة من باب اخترع لها اسم باب الرحيل . وفي الطريق إلى دمشق عثر على مقاتلين فلسطينيين يستريحون عند نبع تظلله أشجار الكستناء. كان بعضهم يغنّي وبعض آخر ينام. رحب به المغنّون من بينهم وطلبوا منه أن يحافظ على شاربيه. في اليوم الموالي رحل معهم.
وتلك كانت رحلته إلى القصيدة.
هكذا أتخيل يومه الأول بعد أن غادر الثانوية وقرر الالتحاق بالمقاتلين الفلسطينيين. كانت رحلته إلى بيروت سنة 1977، حيث الثورة الفلسطينية ترفع أعلامها وحيث شعراء وكتاب وفنانون من بلاد عربية مختلفة يناصرون الفلسطينيين ويتبادلون خبرات وحريات ثقافية وكتابية وإنسانية لم تكن في متناولهم وهم في العراق أو في سوريا أو الأردن أو في أرض عربية أخرى.
وتابع الرحلة مع الفلسطينيين إلى قبرص وعدن، ثم رحل إلى لندن. أمكنة هي في حد ذاتها علامات على تاريخ شعري، وعلى جماليات إبداعية.
في كل مكان من هذه الأمكنة كان لأمجد ما يتعلمه وما يتخلى عنه. وفيها كلها كان يدرك أن الرحيل إلى القصيدة اختيار لمسار الصعب، الأصعب.
أما أنا، فقد التقيت به أول مرة في العدد السادس من مجلة الكرمل . كان ذلك سنة 1982. قصيدة ذات رنين أردني. عجلون . كان لا بد أن أقرأها بالعناية الكافية. العنوان وحده يستدعي ذلك، لأن غرابته تعطي الكلمة إيقاعاً تحسه أصداء تتكرر في خلاء.
ثم التقيت به ثانية بعد سنتين في العدد الثاني من مجلة المهد ، الصادر سنة 1984 في عمان. قصائد من صقيع بعيد هو عنوان القصائد الجديدة، التي يظهر فيها شيء من بادية أردنية تسكن الذاكرة. لقاء عبر قصائد. لم أكن أتوفر آنذاك على ديوان مديح لمقهي آخر ، الصادر سنة 1979، رغم حرصي على متابعة الإصدارات الشعرية العربية. قصائد مجلة المهد دلّتني على شاعر سيصبح أحد أصدقائي، في الحياة وفي القصيدة. أثارتني جملته الشعرية المكثفة:
غمام منحدر من أعالي البرج.
برج نازل من أعالي السماء.
نجمة خضراء خضراء في سلال العنب.
ذهب يتهدل في سهول الشمال.
صبية تربي جديلتها.
وتفرك نهدها بالحناء ليوم الزفاف (عجلون) .
كثافة الصورة تتفاعل مع واقعية الرؤية (في البيتين الأولين)، ثم مع سورياليتها (في البيت الثالث على الخصوص). ثم جملة واحدة في بيت واحد ينتهي بنقطة.
لا فرق بين البيت الشعري والتركيب النحوي والصورة الشعرية. والانتهاء بالنقطة هو الضغط على زر آلة التصوير لتثبيت الصورة، مستقلة بذاتها. هذا الاقتصاد في الكتابة كان يعنيني أكثر مما يعنيني المزج بين صور واقعية وسوريالية في القصيدة الواحدة.
لكن القصيدة نفسها كنت عثرت لاحقاً عليها في أول ديوان حصلت عليه، رعاة العزلة ، وكان أهداه لي من قبرص فور صدوره سنة 1986. عدت إلى المقطع نفسه فوجدت أبياته موزعة في الصفحة بطريقة مختلفة، على النحو التالي:
غمامٌ.
منحدر
من أعالي البرج
برج
نازل
من أعالي السماء
نجمة
خضراء
خضراء
في سلال العنب .
هذا التوزيع البصري الجديد، لجزء من المقطع نفسه من عجلون ، شجعني على مواصلة القراءة. هنا الصورة تظهر شيئاً فشيئاً، وكأن الغمام ينحدر ببطء شديد، فنرى الصورة منحدرة بدلاً من الصورة السابقة الثابتة. حدث هذا التغيير في القصيدة على إثر إعادة كتابتها. وفي إعادة الكتابة ما ينبئ بأن الشاعر يختار التحرر من وهم القصيدة المقدسة، التي لا مساس بأي جزء منها. إعادة الكتابة، إذن، مبدأ شعري، قبل أن تكون تلاعباً من وراء بصر القصيدة وقارئها.
(2)
انتقلت بين القصائد، وتقدمت في التعرف على أبجدية الجمالية التي يرحل إليها أمجد. كانت كثافة الصورة وإعادة كتابة فضاء القصيدة تعودان لمرجعية شعرية أنا قريب منها، رغم أنني لم أكن أطرح على نفسي حدية الفصل بين الموزون وغير الموزون في القصيدة، كما لاحظتها عند أمجد. ذلك اختياره. كنت، من جهتي، منشغلاً بشيء آخر.
وما قرّب مني قصائد أمجد الأولى هو الجرأة على الشك في تقنية موجودة قبله. لا يعني هذا الشك سوى أنه ذات مختلفة، ورؤية مختلفة. في هذا المختلف الجريء، المتحرر من سلطة الحقيقة، تتبعت منازل الرحيل لديه. وعبر السنوات، أصبح التواصل بيننا تلقائياً، ومجموعاته قريبة مني. أسفار وقراءات ونقاشات. كل ذلك كان يكشف لي عن شاعر لا يفارقه القلق، ولا يتردد في الإنصات إلى الحياة فيه وحوله.
دائماً ينتبه إلى العالم فيما هو لا ينفك يراجع المعرفة بالقصيدة. وفي ديوان سُرّ من رآك وجدت المختلف يسري في أعضاء القصيدة. هنا الشبقي سيد الكلمات، يجذبها إلى ماء الشهوة بكل فيضانها.
(3)
كتابة القصيدة لدى أمجد ناصر كانت على الدوام ذات حركية تهجم على صاحبها مثلما هي تهجم على قارئها. ذلك ما كان له مع مرتقى الأنفاس . المجموعة المبنية على مقاطع تتواصل عبر توقفات. إنها توقفات تستأنف فيها القصيدة ما يفتحها على مواصلة مصاحبة مأساة أبي عبد الله، آخر ملوك غرناطة، وهو يغادر قصره ليتجه صوب المرية ومنها يهاجر إلى فاس. حركية الكتابة تعني أن العناصر التي كانت لأمجد في قصائده الأولى لا تفارقه فيما هي تستفيد من شرائط جديدة في العمل الشعري:
أنا عبد الله المكنّى بالصغيرٍ،
بكِرُ أمي
وُلدتُ تحتَ لبدة الأسدِ
رايتي حمراءُ
ودليلي نهار يميلُ،
سلكتُ طُرقاً مشاها أسلافٌ خطرونَ
بهمّة دمٍ يطردُ دماً
ووصلتُ إلى ما دال للقادمين .
الاقتصاد نفسه للجملة - البيت، حيث نتأكد مرة أخرى أن أمجد ليس من أولئك الشعراء الذين يحذفون السابق في كتابتهم، من دون أن يكون ثمة مبرر لذلك. في قصيدته هذا التذكر للبيت، وهو في الوقت نفسه يعتمد اقتصاد التكثيف، حيث يعرض لنا الشاعر حياة أبي عبد الله في ثمانية أبيات. تكثيف يدلنا على الخصيصة الشعرية في الكتابة. وهذا التكثيف لا ينفصل عن البيت الذي ينمو من داخل القصيدة بطريقة لا نبصرها إلا إذا كانت رؤيتنا حادة، على هذا النحو مثلاً:
وقعتُ كما يقع الساردُ مرحاً في خفته.
لا نسبي يرجعني اليومَ إلى منزلتي بين الأهلينَ.
ولا ارتدّتْ عينايَ بدرك من هاوية تسحبني إليها الأجراس.
الأنفاسُ
أرختْ
نقابَها
الهوى.
القاسي.
اجتباني،.
الإمارةُ
لوّحتْ
بنذيرها .
هكذا يمكر الشاعر بالبيت وقارئه دون أن يعلم أحد من غير العارفين أن ما يفعله الشاعر دعوة صريحة إلى رؤية ما يكتبه على الصفحة في نشيد يستعيد مأساة ملك خذله زمنه فكانت هاويته هاوية تاريخ لا هاوية فرد وحده. هذا البيت، الذي تفرد بكلمة واحدة، لا يقصد أن يملأ أكبر ما يمكن من بياض الصفحة، بل يريد أن نعيد قراءة هذه المأساة في تمزقات لا يمكن أن تكون سليمة التركيب أو سليمة التقسيم. إنها الوقوع في هاوية لا أحد يستطيع أن ينقذ الملك المندحر منها. لا حكمة، ولا إرادة، ولا صدفة. كل إلى هلاك ينزل عبر البيت في البيت - الأبيات.
(4)
حياة في سرد متقطع رحيل في الرحيل. لا يريد أمجد أن يقدم لنا، في هذه المجموعة، ضمانة على ما يرحل إليه. إنه يرحل، من دون شروط. وللقارئ أن يدرك الطريق التي يأخذه إليها، في كتابات تصرخ بهدوئها في وجه الحدود. نصوص تحاول أن تلتقط الشعري في منعرج يكاد لا نعرف من أين جاء وحلّ بالقصيدة.
كتابة تقوم على المفاجأة بالشعري، من خلال ما ليس، في الظاهر، شعرياً. ولا نجرؤ سوى على أن نتابع السير، لأننا إن عدلنا عنه لن نجد طريقاً غير هذه التي نلمحها ولا نلمحها. هي طريقنا الوحيدة في قراءة ما يكتبه أمجد ناصر، بحب الشعر، وحب الحياة وحب حرية القصيدة.
لهذا فإن قصيدة أمجد ناصر تشارك في صياغة جمالية جديدة للقصيدة العربية. ولا أنظر لما يكتب إلا من خلال اختيار هذا المسار نحو الصعب، الأصعب، رحيلاً يحتفل بالحياة بقدر ما يحتفل بالقصيدة. لا شيء يلتبس عليّ في علاقتي به وبقصيدته. فأخلاقية الرحيل والوفاء لهذه الأخلاقية هما دليلي إلى أمجد ناصر، شاعراً وصديقاً، وهما وحدهما الساهران على معنى المصاحبة.
الرأي
29 يناير 20010
***
الكوجيطو وطوبوغرافيا الجسد
تتعدّد مداخل قراءة نصّه الذي ما انفكّ يتوسّع في كلّ مرّة إلى حقول جديدة؛ إلاّ أنّي أحبّذ في كلّ مرّة أقرأ فيها أمجد ناصر أن أقرأه كلاعب وأن ألاعب نصّه وهو يستوي جملاً ومفردات يعالق بعضها بعضاً أو يراوغه. إذ ينبسط القارئ لتتالٍ في العبارة يأخذه إلى أصقاع أخرى من التّشكيل اللّغوي، ثمّ لا يلبث أن يُقذف به في مسار مغاير تماماً أو يرمى به في هوّة وينقطع به حبل المعنى فيوشك أن يسقط في سديم لولا ما يبقى متدلّياً من حبل المعنى يتمسّك به متأرجحاً بين حالة وأخرى للشّاعر.
هذا التّكثيف المشطّ في توصيف لعبيّة نصّ أمجد ناصر يمكن التوسّع فيه والتبسّط في مناسبة أخرى تقاربُ تجربتَه علميّاً؛ وهو ما شرعنا في إعداد العدّة له ضمن مشروع يتناول تجارب شعريّة عربيّة محدثة ضمن قراءة ليدولوجيّة (لعبيّة) لها.
لكن ذلك لا يمكن أن نقوم به في هذه الشّهادة، فنكتفي ها هنا بإطلالة على أنا الشّاعر وهي تتحوّل في نصّها إلى كوجيطو لاعب . وإذا كان يمكن أن نعمّم بحيث نعد الذّات اللاّعبة هي الذّات الإنسانيّة في مطلقها وهي تلاعب الوجود؛ فإنّ الإنشاء الإبداعيّ، بما هو إنشاء فرديّ، إنّما يقتضي التّركيزَ على أنا الشّاعر دون أن يعني ذلك بالضّرورة انفصالاً بين ذاتيّته الفرديّة والذاتيّة الإنسانيّة الكلّية.
وليس لنا في هذا المقام أن نستغرق في التّنظير للعبيّة الفنّ، وإنّما نكتفي بالقول إنّ التّعويل على الكوجيتو اللّعبيّ في قراءة علاقة الشّاعر بنصّه، من شأنه أن يحافظ على منزلة الذّات في فكّ مغالق الأثر، ولكن في انزياح عن المنظور الرّومنطيقيّ الذي يُعلي من شأن الذات ويغفل عن أنّها ذات لكونها تتحرّك في فضاءٍ هي مشروطة بمفرداته وما ينعقد بينها من أواصر قابلة للتّنويع والتّبديل لا محالة، وذلك شرط من شروط لعبيّتها، لكنّها لا تُتجاهل. وربّما جدر بنا أن نشير إلى أمر آخر هو في حقيقته من قبيل البداهة إشارة على سبيل التّذكير، ليس إلاّ: وهي أنّ اللّعب نشاط جادّ، وليس نقيضاً للجدّية كما قد يتبادر إلى الفهم السّاذَج.
***
وإذا كان يمكن في سياق آخر أن نتناول حضور أنا الشّاعر في نصّه من خلال تأويل بسيكولوجيا اللاّعب؛ فإنّنا نقف في هذه المناسبة عند حدود اللّعبيّة النّصيّة ، حيث الشّاعر لاعب نصّي وحيث رقعة اللّعب هي أيضاً رقعة نصّية .
والعيّنة التي نستحضرها من ذلك تكمن في تحويل الجسد إلى هذه الرّقعة التي يحرّك عليها قطعه: الكلمات/الأشياء؛ فهو من أجل أن يضطلع بهذه العلاقة اللّعبيّة يتعاطى مع الجسد طوبوغرافياً: يثنيه، يبسطه، يرقّقه، يكثّفه، يكشطه، يصبغه... وكلّ حركة من هذه الحركات تضفي عليه قصداً معيّناً. وصحيح أنّ القصد الأيروسيّ هو الطّاغي وذلك لاعتبارات تتعلّق أساساً بالحيويّة الجنسيّة الطّبيعيّة للجسد؛ لكن هذا القصد يتنوّع بحسب ما يرسمه الشّاعر من جغرافيّة للجسد: جغرافيّة معزولة تخومها عدميّة أو تكاد عندما يلاعب الشّاعر نفسه في عزلة وفي ذكرى غائمة أو في لحظة حنين حارقة:
قادني قميصي المبتلُّ عند الإبطيْن
والنّاشف في الرّيحِ
إلى
أعضائي .
أو جغرافيّة مفتوحة على الآخر، على طوبوغرافيا الجسد الأنثويّ في لعبة تذاوت أو تجاسد:
لا عليكِ
ولا عليَّ
سوى قميصيْن مُشَجَّريْن
لم نكن
نحن
أو هما
سوى منكبيْن يحترقان
بالملامسات .
ويتضاعف هذا التّفاعل اللّعبيّ حتّى لا يكون فقط علاقة بين الشّاعر ونصّه للنّاظر من خارج (وهذا شأن علاقة كلّ مبدع بأثره)، ولكن أيضاً علاقة بين الشّاعر ونصّه داخل لعبة النّصّ ؛ فكما يلعب بمفراته تلعب هي به أيضاً (وهذا لا يكون إلاّ موسوماً بفرديّة التّجربة). وطرافة اللّيدولوجيا الشّعريّة في تجربة أمجد ناصر هو كونها ليدولوجيا حزينة، على عكس من يُنتظر من غبطة وبهجة من فعل اللّعب.
الرأي
29 يناير 2010
القصيدة والصحراء
(1)
لأنهم غادروا القرى
والمضاربَ المُجنّحةَ افتقدوا الحنينَ
إلى جلسةِ القرفصاء
قرفصاءُ؛
نصبٌ لأجسامٍ تحلمُ على ساقين
في هيئة زاويةٍ منفرجة
العيونّ مغارفُ الكلامِ،
والأيدي التي تخضُّ الهواء ببطء
تتداور تبغاً ناعماً كشَّعر البنات،
مساومات ونوادرُ مغلفةٌ بشمّع المساء المسهبِ
نزاعاتٌ على النّسب الأول للقبيلة المجاورة، والجدّ الثالثِ للحصان المُحجَّلِ،
شايٌ بالقرفة أو النعنع يفضُّ الاشتباكَ
آهةٌ مطعونة بشبريةِ الوله
تشلعُ القهقهات من الحنايا،
عندما فجأةً تهبُّ رائحةُ المرأةِ
وتطقّطقُ العظام
قرفصاء:
يُمكُنكُ أن تفعلَ ذلك
على أبواب المسارحِ،
وأقسامِ الشرّطة
في البعيد المُضبَّبِ
في قاعات الترانزيت،
وأمامَ رجالِ مكافحةِ الإرهاب
بوجهكَ المقطوفِ من حقلِ شعيرٍ
تجلسّ القرفصاءَ أنّى شئتَ،
ولكنْ..
أكلُّ القرفصاءِ
قرفصاءُ؟!
(2)
ولا تتركوني هنا
في سماء الصحارى
تحجّ إليّ العقارب من كل صوب
وتسعى أفاعي الشعاب إلى نقرة الماء
يا للصفير النحاسي في أفق من هباء
لقد ضاقت الأرض في قامة الإبل
ثم انحنت دورة الوقت تحت السروج
فلا خيل تصهل في مقبل الليل
ولا راحل يهتدي بالنجوم
ويا لِيَدي.. ويا للعراء
ويا لانهمار الخراب على جثة الشيخ عودة
ويا للسكون الملوث بالانقراض
ويا...
***
النصّان أعلاه مقطعان من رعاة العزلة و مديح لمقهى آخر ، المجموعتين الثالثة والأولى لأمجد ناصر، الشاعر الأردني الذي ترك الأردن فتى إلى لبنان فقبرص فلندن اليوم.
كان الفتى، المتحدر من أسرة بدوية، الذي هجر الاردن باكراً وأسلم نفسه للشتات والمنفى والاقتلاع، قد استشعر، باكراً أيضاً، هذا المصير، فبدت مجموعته الأولى مديح لمقهى آخر استعادة قبل أوانها للسيرة البدوية، ومرثية للحياة البدوية، ومديحاً للعالم البدوي. أي بداوة هي بداوة أمجد ناصر، وأي حنين هو حنينه؟ لنبدأ بقراءة سوسيولوجية للمقطع الأول. کليس لأنهم غادروا القرى والمضارب .. عبارة ملتبسة.
القرى ليست المضارب في حد علمنا، بل لا تنتميان إلى المجتمع نفسه. القرى للفلاحين والأرض والزرع والاستقرار والتوطن، والمضارب للبدو والترحل والرعي. أما جمعهما، على نحو تلقائي، في عبارة واحدة وكأنهما شيء واحد، فليس بالطبع سهواً ولا خطأ علمياً.
المضارب تؤاخي القرى في مجتمع انتقالي ما يزال يحمل سمات مرحلتين. والمجتمع الأردني هو هذا المجتمع. إنه في آن واحد بدو المضارب وبدو القرى وبدو المدن على ما توحيه العبارة.
إذا كان أردن أمجد ناصر حقيقياً إلى هذا الحد، فإن حنينه لا ينصب على ماضٍ مفقود ولا على أسطورة بائدة، ولا على مجرد تاريخ ولا على عالم في المخيلة والذهن فحسب، حنينه ينصبّ على عالم انتقالي مركب من لحظات متضاربة، متفاوتة. هؤلاء البدو هجروا المضارب إلى القرى، أو جاوروهما ثم هجروا الاثنتين إلى المدن. فهم بدو الشتات، وأمجد ناصر حين ترك الأردن إلى لبنان كان يواصل هذه الهجرة وذلك الشتات، فلا ينقطع بذلك تماماً عن تاريخ هو انقطاعات وانتقالات متواصلة ولا يخون حاضره ولحظته الراهنة.
* المفارقة والاستعادة
ماذا يبقى من هذه اللحظة بحسب المقطعين السابقين؟ القرفصاء !. القرفصاء تلك الجلسة الحائرة المحيرة. ليست استقراراً في الجلسة ولا هي مجرد استراحة سريعة، ولا هي انتظار ولا هي انصراف كامل ولا هي في الخارج تماماً ولا في الداخل تماماً. إنها شيء من كل ذلك وخليط من كل ذلك. إذا كانت اللحظة التي يتكلم أمجد ناصر فيها تقع بين المضارب والقرى والمدن، فإن القرفصاء تقع بين الانتظار والثبات والداخل والخارج. إنها جلسة قلقة لكنها قائمة، كما هي لحظة أمجد ناصر وواقعه.
أما إذا واصلنا قراءتنا السوسيولوجية، كما سميناها، بدا لنا أن قرفصاء أمجد ناصر نصب، أي أنها نصب للجسد أو تَمَثُّل (من التمثال) له، في ذلك قدر من الجمود وقدر من الفن فإذا أضيف الحلم أجساد تحلم بدا أن قرفصاء ناصر مجدداً حمالة معانٍ، أو حمالة لحظات.
النصب لا يعني الجمود، وقد يكون النصب أو التمثال نصباً لحركة كما هي الحال في تماثيل رودان وجياكوميتي الماشية أو تماثيل مور المستلقية. في النصب إذن تثبيت لحظة، أي تحنيطها أو ترميزها بالمعنى الفرويدي، والحلم يضفي على هذا الترميز معنى المفارقة والاستعادة في آن معا. أما ما يدور في هذه الجلسة فهو شتات أمور مختلفة ومتضاربة ومتعددة شأنها شأن الجلسة واللحظة نفسيهما.
ما يدور في الجلسة عناوين يسهل تعدادها. هناك بشكل عام الحديث الذي لا تمنع القرفصاء، وهي جلسة صعبة وانتقالية، سريانه واسترساله. ثم هناك التبغ الذي يدور عليه من يد إلى يد بين الموجودين. أما ما يدور أثناء ذلك، ونحن ما نزال في قراءتنا السوسيولوجية، فمساومات ونوادر ونزاعات على نسب القبيلة الجامع ونزاعات على أنساب الجياد.
ثم هناك الشاي بالقرفة والنظر المشتهي إلى حد طقطقة العظام إلى النساء العابرات. وإذا راجعنا بيانات أمجد ناصر عن هذه الجلسة بدا لنا أن ما يحصل فيها هو قلق انتقالي متفاوت متضارب. المساومات التي تمت إلى عالم التجارة والبيع والشراء تقترن بالنوادر الآتية من عالم القرى والمضارب وبالخلاف على النسب الآتي من عالم البداوة.
ثم هناك هذا التشهي للعابرات الذي لا نعرف أين نحله، لكنه في الغالب يتطلب مسافة بين الناظرين والعابرات لا تتوفر في القبيلة الواحدة. وتحتاج إلى مجتمع مختلط، وبكلمة فإن أمور جلسات القرفصاء هي كالقرفصاء نفسها لا تستقر على حال واحدة من الزمن والانشغال. لكنها أحوال تتنازع الجالسين من أطوار وجوانب عدة.
فإذا انتقلنا إلى اللوحة الثانية في المقطع الأول وجدنا أنفسنا هذه المرة في المدينة. والمدينة نقيض ونقض للصورة الأولى، أو هي انحدارها وافتضاحها وكاريكاتورها إذا جاز التعبير. فالقرفصاء تستمر اليوم أمام المسارح وأقسام الشرطة وقاعة الترانزيت وأمام رجال مكافحة الإرهاب، وهذه جميعها مطارح غريبة إن لم تكن مهددة وعدوة.
الترانزيت ، حيث فِرَق مكافحة التهريب، وأقسام مكافحة الإرهاب. ليس البدوي إذن هو الذي اغترب حين اقتلع من الصحراء واستقر في القرى، لكنه البدوي - الفلاح - الراعي الذي اقتلع إلى المدينة، المدينة هي محل انحدار وهبوط ومهانة البدوي الذي تستحيل قرفصاؤه من نصب إلى هزأة وغربة.
* الأسطورة
المقطع الثاني من مديح لمقهى آخر موضوعه عودة بن تايه، بطل البداوة الذي شارك في حروب الشريف حسين ضد الأتراك. وإذا كان المقطع الأول أقرب إلى التعليق والكاريكاتير والفكاهة السوداء والمسرح، فإن المقطع الثاني مرثية بكل معنى الكلمة. وهو ليس مرثية فحسب، لكنه على غرار مالك بن الريب مرثية ذاتية. والمرثية ليست للشخص وحده ولكن للصحراء والزمن الفروسي. يقول عودة، كمالك بن الريب: لا تتركوني .
وهو يخشى أن نتركه في أرض مهجورة بلقع باتت مسكناً للعقارب والأفاعي. إنها بالصحراء التي فارقها بنوها. لكن الصحراء ليست مكاناً فحسب، إنها تاريخ وحياة، بل هي في الواقع أسطورةٌ عنوانها، بحسب المقطع، الفروسية والترحال، الصفير النحاسي وقامة الإبل وصهيل الخيل والسير في الليل بهدي النجوم، صور شتى من حياة زائلة. حياة لا نعتم أن نفهم أنها ماتت مع عودة بن تايه، وأن إشاراتها زالت بزواله. لا يخاف عودة الموت والقبر، لكنّ ما يخافه أمجد هو زوال الأسطورة البدوية نفسها وبقاء عودة وحيداً مهجوراً في مكان زالت معالمه وامّحتْ آثاره واختفت أسطورته.
إذا كانت لحظة أمجد ناصر هي اللحظة الراهنة، وهي لحظة أقرب إلى المسرح منها إلى الملحمة، وهي لحظة متناقضة وهي لحظة رحيل وشتات، فإن وراء هذه اللحظة أسطورة باذخة وملحمة ودوياً وعالماً عاصفاً بالرحيل: الصحراء ، وأمام هذه اللحظة مستقبل عدو ونهاية مشؤومة وانهيار وتنازل: المدينة .
والحق أن قصيدة أمجد ناصر حنين، وربما مرثية، لكنها حنين لزمن غير أسطوري وغير ملحمي وغير دراماتيكي. حنين لزمن انتقالي هادئ وبسيط وأليف. حنين ناصر إلى عالم الهوامش والتفاصيل والرتابة اليومية والعادات البسيطة. حنينه إلى لحظة هي نفسها على مفترق، وحين يباشر أمجد ناصر حنينه ينكشف شيئاً فشيئاً ضعف هذه اللحظة وهشاشتها، يتكشف أنها لحظة انتقال وترحال وشتات. إنها لحظة زوال وتبدل لا يجد الحنين شيئاً كثيراً أمامه، لا يجد الحنين أمامه سوى النظرة العجلى قبل أن يجدَّ في الرحيل.
***
متمرد يشاكس بطائرة من ورق
واهِمٌ كُلُّ مَن يقول إننا لم نتغيَّر، ففي ذلك ادّعاءٌ متفاصِحٌ يفضحُ جَهْلاً بقوة الزمن كعاملِ قَلْبٍ وإعادة تشكيل. غير أنَّ مَن يَجرؤ على التطرف، بالمقابل، بالإشارة إلى أننا شخصيات جديدة ، نتخلّق في كل حينٍ نحياهُ، كأننا كائنات أُخرى؛ إنما يكون قد ذهبَ بعيداً في شططه، ناسياً أنَّ ثمة جوهراً في كل كائنٍ حيّ ينغلُ فيه (في كُلِّ كُلِّهِ) لا ينقلبُ على نفسه بقدر ما يتحوَّلُ، أبعاداً وأعماقاً وتجليات صُوَر، انسجاماً مع التحولات الجاريّة في الواقع، وتكيّفاً في سبيل النجاة وسط وقائع الخراب الضارب جهات يومنا الأربع.
ما الذي تغيَّرَ في أمجد ناصر، صديقي، الذي عرفته قبل ثلاثة وثلاثين سنة؟ في العام 1977 تحديداً، أي في النصف الثاني من القرن الماضي (لنا أن نتخيّل كم كانت من عواصف، وتيّارات، وأنهار، ورياح سموم مَرَّت)، سوى أنه كان يحيى النميري، وقتذاك، فأصبحَ أمجد ناصر بعدها بسنتين، وحتّى الآن؟ هل تتغيّر الشخصيات عندما تتغيَّر أسماؤها؟ أو فلأضعْ السؤال على نحوٍ آخر: هل تتغيّر الشخصيات بعد أن تنتحلَ لأنفسها أسماءً أُخرى، بصرف النَظَر عمّا دفعها إلى فعل ذلك؟ من جهتي، أعتقدُ أنَّ لا تغيّر حقيقياً، أي جوهريّاً، يحدث وأن يصيبها في داخلها ومن داخلها.
أما ماذا وكيف يرى الآخرون، الغَيْر، فليس هذا مجال تفكُّري وفضاء سؤالي ها هنا. فأمجد ليس أوّل مَن غَيَّرَ اسمه ولن يكون الأخير، بالطبع. فبالتوافق الزمني حدثَ وأن أكْسَبَ ثالثنُا، داود الزاوي، نفسَهُ اسماً آخر شاعَ وذاعَ في الأوساط الثقافية العربيّة والملتقيات الدوليّة، تماماً مثلما حصل مع أمجد، فباتَ يُعْرَف ب: زكريا محمد. أما أنا؛ فربما هي المصادفة، أو التقدُّم عليهما في العُمْر، أو ضرورة المرحلة ، ما جعلني أعودُ إلى اسمي المُسَجَّل في شهادة الميلاد ليكونَ دالاًّ على صاحب القصص المنشورة منذ البداية - بعد أن كنتُ، في بيروت، أنشرُ كتابات أُخرى باسمٍ آخر! وربما، أيضاً، هو الفارقُ بين شاعرين، وقاصّ / روائيّ.
أيُّ مفارقة هذه!
أعودُ إلى عَمّان من بيروت، فأخلع خالد... عن كتابتي، لأنشرها باسمي العَلَني.
يغادران عَمّان إلى بيروت، فيُخليان قصائدهما من يحيى و داود ، ويَخلعان عليها، منذ نَشْر كتابيهما الأولين، اسمين جديدين.
أهي مفارقةٌ خالصةٌ حقاً، جاءت هكذا بلا وعيٍ، أو بمحض الصُدفة بلا أي تدبيرٍ مُفَكَّر به، أم تكتنفها جُملةُ تضمينات تستحثّ على التأمُل، وتستدعي النبشَ في داخل كُلِّ واحدٍ مِنّا؟ وماذا عن غواية الاسم؟ فنحنُ، لحظة أن نقررَ استبدال أسمائنا أو العودة إليها، إنما نمارسُ ما يشبهُ طقوس تجديد وجودنا ، بدرجةٍ ما وعلى نحوٍ ما ولغايةٍ ما، دون أن نعي أنَّ إرادتنا في فعل ذلك تنحصرُ في مساحة الرغبة ، أو الصورة المُرْتجاة ، نعممها على الخارج بنجاحٍ كبيرأحياناً، غير أنَّ داخلنا ينغلقُ دونها!
إذَن: ليست هذه ب معموديّة تُكرّسُ للواحد مِنّا ولادةً جديدةً بالرمز، وبحسب المدلول المسيحي.
وهكذا نعودُ إلى نقطة الجوهر لنستأنفَ ما هو ليس بقابلٍ للانتحال، ونبني عليه.
يتلّخص جوهرُ أمجد ناصر، رغم العقود الثلاثة والثلاث سنوات، وكما عاينتهُ مؤخراً، في مُفردتيّ: التمرّد والمشاكسة. وهو، ضمن هذا التكثيف، لم يبتعد كثيراً عن ذاك ال يحيى القديم، الأوّل، الذي عرفته داخلاً عمّان لائذاً بأحلامه فيها، فارّاً من المفرق فالزرقاء، عَلَّه يجد في هذه المدينة ما يغذّي أجنحةَ طموحات وتحليق هي من السّعَةِ ومخزون الوعد ما تستعصي عليه إمكانيات تلك التجمعات المرتَجَلَة، الأقرب إلى شَوك البوادي الناشفة وعشوائيّة نموها - عَلَّهُ يفلتُ من عبثيّة الذبول، ذبوله وذبول الأحلام والطموحات في داخله وانتثارها جميعها.
أكانَ يتنبأ أنها، عمّان، ليست بالحاضنة الحقيقية القادرة حقاً على رعاية أحلامه، والحدب على أجنحته الفتيّة ما تزال؟ أكانَ يرى أنَّ هذه ليست سوى محطة ستقوده إلى محطات ومحطات، وكُلّ واحدة منها ستشكِّلُ لتجربته الفنيّة عَلامةً أو وشماً، بالانجبال بتجربته الحياتيّة اليوميّة على أرصفة المدن الغريبة، وحُجراتها، ونسائها، واكتظاظ مقاهيها ومكاتب صحفها بفصائل الشعراء والمثقفين، الذائعين منهم والواعدين - الموعودين؟ فإذا كانت بيروت هي التي أطلقت ديوانه الأوّل حاملاً اسمه الجديد، مديح لمقهى آخر (وهذا امتيازٌ بعُرف ذاك الزمن)، فإنَّ عمّان وحيثيات البلَد كانت تضجُّ في أوراقه وتقول للقارئ الذي لا يعرف، أنَّ ثمة مقاهي دائماً في جميع المدن، ودائماً هي موجودة ليعبرها الشعراء العابرون، وليستذكّروا فوق كراسيها، لَمّا يؤوبون زُوّاراً، طلائعَ أحلامهم التي باتت تُسمّى، في ما بعد: مشاريع.
أجَل. كان أمجد ناصر، ولعلّها البذرة في خاصيّة التمرد والمشاكسة في شخصيته، يُضمر لنفسه مشروعاً سوف يحققه ذات يوم. ولكن ما هي حدود مشروعه يومذاك؟
على الوجه الآخر لصورة له بالألوان، يُحدّقُ فيها بالبعيد، بشَعرٍ طويل ولِحية وشارب على طراز غيفارا، وسيجارة مشتعلة بين أصابع تستندُ إلى الصدغ، بعثَ بها من بيروت، كتب: الصديق الحبيب إلياس، من أجل رفاقيّة صلبة تستمر طويلاً وطويلاً جداً نذرنا أنفسنا للحياة والجماهير. مع ذكريات الأخبار. يحيى النميري، 7/ 1977 .
كُنّا تصادقنا وعملنا، على نحوٍ أو آخر، في صحيفة الأخبار المهمَّشة، الواقعة حينذاك في شارع وادي صقرة المقفر إلاّ من سيول الوحول الثقيلة شتاءً، وأسراب الحشرات الطائرة بحجم نصف القبضة صيفاً، ضمن مجموعة ضمّت شخصيات اتصفت بالقلق وقتذاك، كزهرة عمر (كانت تنشر تحت اسم ميساء)، ومحمد داوديّة، ومحمد كعوش، وسهير التل، وآخرين. وكان أن أجرى أوّل حوارٍ معي ونشره على صفحاتها. ثم كان خروجه المفاجئ إلى بيروت، ملتحقاً بزكريا محمد/ داود الزاوي.
إنَّ الغاية من إيراد كلمات الإهداء على الصورة، هو تبيان طبيعة الأحلام والطموحات التي جَعَلَت من أمجد ناصر شاعراً يُحدد دوراً له في الحياة، لكنه دورٌ لا ذِكْرَ للشعر فيه. وهذه مسألة تبدو ناشزة، في ظاهرها على الأقلّ، إذا ما استعدنا سيرةَ عديد من الشعراء والكُتّاب أعلنوا أنهم كانوا يضفرون مشروعهم الشعري في جديلة مشروع التغيير الاجتماعي والسياسي الكبير والعام، حيث كانوا جزءاً فاعلاً فيه ومتفاعلاً معه.
غير أنَّ المسألة تُغري بالتأمل أكثر وطَرْح الاحتمالات، حينَ نجدُ عَبّاس بيضون يشير إلى خصوصيّة أمجد في تقديمه للأعمال الشعريّة في طبعتها الأولى 2002، وفي معرض قراءته للمجموعة الأولى مديح لمقهى آخر الصادرة العام 1979، أي بعد سنتين من كلمات الصورة، وبالمقابل من: ذلك الإغداق الشعري القائم آنذاك، ومع كل ذلك الطموح البعيد المدى للشعر والأوهام حول الذات والمشاريع الكبرى الشعريّة (....). وإذا شئنا أن نتوسع كثيراً في ذلك قلنا إن اختيار أمجد ناصر في هذه الفترة مع عدد من شعراء الطور الثاني من القصيدة الجديدة كان اختياراً لقدرات الشاعر الذي عاد من جديد كائناً عادياً .
عادَ الشاعرُ ليكونَ كائناً عاديّاً من جديد!
كيف؟
تتجلّى العاديّة لدى هذا الكائن / الشاعر في إدارة الظهر للفهم الثوري - الانقلابي المتسيّد القائل إنَّ الشعر يكتنز في تضاعيف قصائده مفردات، وروح، وشحنة التغيير القادم، لا للمشروع الشعري السائد فقط (إذ هو عنوانه - يا للمفارقة الهازئة!)؛ بل للحياة العربيّة برمتها أيضاً.
وأن نكون كائنات عاديّة، وشاعرة كصفةٍ أساس فينا، فإننا لا نكتفي بالإعراض عن استعراض القضايا الكبرى في كتاباتنا وكأنها شعارات الشارع مسبوكة بإيقاعات رقّاصة ولغة متفاصحة ذات صِناج وتهييج؛ وإنما نغوصُ إلى عُمق الحياة العاديّة لنقرأ على هوانا، ونعاينُ بأعيننا، تفاصيلها التي كانت مهمَلة. وهذا ما تحوَّل إليه أمجد ناصر.
ولتلافي خطأ الفهم أو سوء القراءة؛ أعني: هذا ما تحوَّل في جوهر الشاعر المتمثِّل في التمرد والمشاكسة. لقد تمرّدَ على السائد والمهيمن في القصيدة، كخطابٍ وشَكْلٍ ومُتَلَقٍّ مأمول يبتغي إرضاءه. وكان في صنيعه هذا مشاكساً، كعادته، ولكن داخل الكتابة الجديرة باسمها، وليس على حواف وسطوح الخارج الاجتماعي الراضي باحتجاجٍ هنا وتَعريضٍ هناك - أكان شخصاً، أم ظاهرةً، أم تجمعاً ثقافياً وأدبياً، أم نَمَطَ مسلكياتٍ سلطويّة طاووسيّة مغرورة ومضحكة في آن، تطفو على وجه المشهد الثقافي آنذاك - وربما حتّى الآن، هو موضوع التعرُّض.
لعلَّ اختماراً كامناً للتحوّل إيّاه، مبكّراً وأصيلاً، ما كَوَّنَ ما بدا لنا قفزةً خاطفةً لم تتعدَّ السنتين ، فصلت بين مضمون كتابة الصورة وإيحاءاتها من جهة، وما جَلَّتْهُ لنا أوراق المجموعة الأولى. وكذلك (أميلُ إلى هذا) ربما هو الوعي لديه بأنَّ تشابُك اليومي على الصعيد الشخصي المنخرط، بشكل أو بآخر، باليومي على صعيد الآخرين (الجماهير)، داخل المصهر البيروتي الساخن تلك الفترة الملتهبة بكّل المعاني، عملَ على التمييز الواضح بين الثورة في الشعر وعلى الشعر، و الثورة على الخنوع، بتمظهراته كافة في الحياة، وإنْ كان داخل الثورة ! فالتمييز هنا لا يعني الانفصال أوالانبتات، بقدر ما يدلل على العُمق البريء لمقولة: أعطِ لقيصر ما لقيصر، وأعطِ لله ما لله !
أُدركُ أنَّ صورة جوهر أمجد ناصر (التمرد والمشاكسة)، التي طُبِعَت في كتابة تفاصيل اليومي، والعادي، والهامشي، والمُهمَل، قد تجاورَت مع صورة القصائد التي اكتشفناها فجأةً عند يانيس ريتسوس، واحتذى حذوها جيشٌ صغير من الشعراء.
لكنني أدركُ أنَّ أمجد تابعَ ما بدأه في بدايته الأولى، وقبل أن تصلنا قصائد اليوناني مترجمةً، لأنني أعرفُ تلك الورقات الصغيرة المثناة، الخارجة بزهوٍ واعتداد من جيب قميصه الفضفاض الكالح أيام عمّان الأخبار، ومطعم هاشم، وشرفة رابطة الكتّاب، وشقة وادي سرور. أعرفُ تلك الورقات التي لاحقَ عبر سطورها تضاريسَ المرأة في خروجها الصباحي، وملامح المدينة وأشياء أرصفتها البسيطة.
ففي اللحظة التي انضوى وانطوى فيها شعراء الأردن، بمن فيهم الشبان الجدد أصحاب الوعود حينذاك، تحت ألوية القصائد (بأشكالها غير العموديّة) المتخندقة داخل الموضوعة الوطنيّة و الثوريّة و الرافضة و الملتزمة إلخ، بغنائيتها الرخوة؛ كانَ هو، وزكريا محمد معاً، يكتبان ما هو خارج السياق، ويشهرانه في المحافل المحافظة في صميمها، رغم ادّعائها عكس ذلك. كانا مثل وَلَدَين شَقيين، مشاغبين، يصنعان من قصائدهما طائرات ورقيّة صغيرة، ويقذفان بها في فضاء قاعات المنابر الواطئة، فيجفل الحضورُ الغافي على وَقْع المعتاد!
أين وصلَ أمجد ناصر، الذي كان يحيى، في تجربته -ولا أقول مشروعه -، فذاك رهن المستقبل.
بعد محطات عمّان، وبيروت، وقبرص، ولندن حيث ما عادت هذه الأخيرة محطةً؛ أين وصلت قصيدته بالأحرى؟ هي لم تعُد تلك التي في مديح لمقهى آخر ، ولا الذكريات والأمكنة المستعادة في منذ جلعاد كان يصعد الجبل ، أو جميلات الكتابة / التحوُّل (في نَظَري) في رعاة العزلة .. إلخ.
ذلكم سؤالٌ مسببٌ لإشكالٍ تتصادى الحواراتُ العاقلة، وغير العاقلة أيضاً -وربما هي الأشد صخباً والأعلى ضجيجاً- بين جَنَبات المعنيين بالشأن الشعري خصوصاً، وبماهيّة الكتابة تخصيصاً، وبهوية المتلقي تحديداً، وبكيفيّة التواصل تعييناً، وشروط التوازن، أو التخلخل، بين كتابات تنسجمُ مع منطقها الخاص.. وقراءات ترتهنُ لموروثها العمومي!
***
عمر من الشعر والغربة
التقينا للمرة الأولى في بيروت قبيل اجتياحها، وكان راعفاً بالشعر والعصيان، وأذكر أن أول حوار جدّي دار بيننا، في ذلك المثلث البرمودي ببيروت على حاجز وهمي بين السياسة والسياحة، كان عن روسيا وأفغانستان وما كان يقال في تلك الأيام عن الخاصرة الأيديولوجية المهددة للاتحاد السوفياتي قبل أن يفقد الطاووس ريشه.
أدركت، على الفور، أن هواجس الشاعر، حتى لو اشتغل بالسياسة، هي الأعمق من كل المتداول. منذ تلك الأيام اقتربنا حتى أصغى أحدنا إلى زفير الآخر رغم التباعد الجغرافي. وما قرأته لأمجد شعراً ونثراً طيلة تلك العقود العجاف كان، وما يزال، الأقرب إلى شجوني وربما الأقرب إلى جوهر المسألة كلها.
فهو لم يراهن على غير الشعر رغم امتلاكه شكوكاً كثيراً ما كابدها مبدعون أصيلون يعون الشرط البشري الباهظ حول مفهوم الجدوى سواء تعلق بالكتابة أو بالوجود ذاته، وانفرد أمجد بعزفه الخاص على وتر الحداثة المحررة من اكسسوارات الموانئ والقرائن الوهمية، لهذا لم ينزلق نحو التجريد. ثمة مفردات في قصائده يمكن للمتلقي أن يلامس أجسادها بالأصابع المجردة، إنها، بالفعل، كتلك الأكباش المبلولة، تنتفض وتسري القشعريرة في نخاعها.
والشعر في نهاية المطاف معادلات حسية لمنظومات سديمية ومجردة، وهذا ما منح شعرية أمجد حرارتها وطزاجتها، حتى الغربة لم تتحول لديه إلى لعبة شعرية لأنها ليست غربة اقتلاعية ولا قسرية، فهي خيار معرفي إلى حدّ ما بقدر ما بدت خياراً وطنياً وفكرياً في آونة عربية كانت الأبهى بقياس آخر.
ولعلها مناسبة لإعادة النظر في ثنائية التغريب والحداثة، فالشاعر الحديث ليس دائماً ذلك الصياد المحروم من حصته في الطريدة التي اصطادها، كما يقول الأنثربولوجي بيير كلاستر، حيث يمارس الغرباء في ليلهم الخاص انتقاماً لغوياً من القبيلة، كي يستردّوا ما سُرق منهم في النهار، وأمجد ناصر لم يحول معجم الكلمات الهجينة إلى ملاذ حداثوي لترميم فجوة بين حياته وشعره.
إن الانفراد، لا التفرد، كما يقول متعهدو النقد المدرسي، هو نتاج الجدل الحيوي بين الذات والعالم.. وأحياناً بين الذات وتجلياتها. وحين أعيد قراءة ما كتبه أمجد من شعر ونثر، أشعر أن مكابدات الكتابة لا تنقطع عن شقاء الروح وفرحها السماوي حسب تعبير شهير لبرجسون وهي تحاول اجتراح معنى لعالم بلا معنى، وجدوى لتاريخ يبدو في النهاية كما لو أنه كوميديا أخطاء متواصلة.
قد يكون هناك حبل سرّة واحد لا ينقطع بين الوعي واللاوعي، أو بين العقل والقلب، فالحركة البندولية بينهما هي ما تجعل القلب يفكر أيضاً كما تضيف إلى العقل بعداً عاطفياً يؤنسنه. لهذا أرى أن نثر الشعراء الحقيقيين اختبار لمنسوب الوعي وعمق الرؤيا، ونادراً ما كتب شعراء مبدعون نثراً سطحياً يتغذى على فائض الشعرية وما لم تقبض عليه القصيدة، ونثر أمجد به إحكام وتقطير لما تكثّفَ لديه من قراءة وتجربة.
في آخر مكالمة هاتفية قبيل سفر الصديق الباقي محمود درويش، دار حوار بيننا نحن الثلاثة وكان محمود قد عبّر كتابةً عما كرره مراراً بشكل شفاهي عن رأيه بأمجد ناصر شاعراً وناثراً وصديقاً، وقرأ محمود لأمجد، بالهاتف، ما كتبه عنه، وكانت بيده الورقة التي دون بها تلك السطور، ولا أدري الآن أين هي. ربما كان مصيرها هو مصير ما تبقى من عائلة محمود وأيتامه وأرامله من مسودات وأقلام وقمصان أنيقة وأحذية... قد تتحول إلى كمائن لمن يسطون عليها ويدسون فيها أصابعهم العمياء.
ولأن المناسبة احتفائية، فإن ما لدي ولم أقله عن أمجد شاعراً وصديقاً يحتاج إلى مقام آخر، وهنا لا بد من الاعتراف بأن الاحتفاء جمالياً بشعراء ومبدعين أحياء وفي ذروة عطائهم هو الأطروحة النبيلة المضادة لأطروحات الوداع الموسمية حين لا يظفر المبدع العربي لجته حياً، مما دفع شاعراً مثل ستيفن سبندر أن يقول، عشية رحيل السياب، إنه يود لو يعيش شاعراً بريطانياً ويموت شاعراً عربياً!.
دفتر افكار
الأندلس في النَّفَس الأخير
يقع لفظ الأندلس في منطقةٍ ملتبسة، إذ ينهض من سطوع الحقيقة (المكان والتاريخ)، ويطلّ من ثنايا المجاز (رديف الحنين إلى الجنّة المفقودة) في آن واحد. هكذا تفرض مقاربة الأندلس شعراً أو نثراً على الكاتب الانصياع إلى تلك المنطقة الملتبسة. لكن هذا الانصياع ليس درباً للخضوع، بل لعلّه دربٌ لقول الشخصيّ والعامّ في آن واحدٍ، شرط أن يتقن الكاتب الإمساك بحريّته كاملةً غير منقوصة.
ذلك لأنّ الحقيقة والمجاز لا يأتيان إلى اللفظ منفردين، بل كتوأمين، وفي امتزاجهما معاً على هذا النحو ما يعينُ الشاعر/ الكاتب على التحرّك بينهما. فالتاريخُ في متناول اليد ولا يمكن عدّه نافلاً، أمّا الحنين فمتربصٌّ لكثرة ما أُهرق من دمّ القصائد مدحاً وحزناً وأسىً على ما ضاع من ترف الحضارة الأندلسيّة البهيّة.
وتختصرُ لحظة الفقد والضياع تلك، تاريخاً برّمته. فهي البرهة التي تفتح الباب مشرّعاً على الماضي التليد، لتأمّل الأحوال وتقلّب الدول ومآل المصائر، دفعةً واحدة، وبعدها تفتك الحسرة بأصحاب القلوب أكانت رقيقةً أم لا، فالمشهد يكمله وجودُ الأميرِ أبي عبدالله الصغير؛ آخر ملوك الأندلس، الذي سلّم غرناطته حبّةً حبةً لأعدائه. وإن فتك بيت الشعر الشهير بأبي عبدالله (ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً/ لم تحافظ عليه مثل الرجال)، فقد فتك مصيره التراجيدي بأكثر من شاعر وأديب. الأميرُ حاضرٌ شعراً (أراغون، محمود درويش) ونثراً (واشنطون إيرفينغ، أنطونيو غالا)، ثم حاضرٌ في الاثنين معاً في ديوان الشاعر أمجد ناصر؛ مرتقى الأنفاس الذي أعيدت طباعته حديثاً وصدر في بيروت عن دار النهضة العربية، وفي كتابه النثري البحث عن أبي عبدالله الصغير المنشور أخيراً في سلسة كتاب في جريدة .
النثرُ فنّ كريمٌ بطبيعته، ففيه من الألوان والأساليب ما يكفي لبسط البلاغة كلّها، ليس هذا فحسب، بل إن حبّة رمانة -إن جاز التعبير- تزينه في نصّ أمجد ناصر؛ النثر يقدح زناد الشعر. أما الأصل فتدوين سفر لحضور مؤتمر في غرناطة (تموز 1991) نظّمته الناقدة والشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي. هكذا، لن يفلت بشرٌ أو حجرٌ من قلم أمجد الدقيق: أرى أسلافاً يتمدّدون على الأرائك. أشمّ عبيراً يهبّ من الحدائق المحيطة. أسمع أصواتاً توشوش، قصائد تُتلى، خفق حرير على خصور نحيلة . لكن الشاعر لا يتلكأ طويلاً أمام الماضي، بل يفتح معانيه على الحاضر: أنهينا جولتنا ونحن نترنح تحت وطأة مشاعر تخصّ العربي، ربما دون غيره. إنها مزيج من غريب ومحيّر من الانتشاء بالماضي والإحباط حيال الحاضر .
ولا يغفلُ البتة عن مهمّته في الإصابة في الوصف عند عتبة قصر الحمراء: هناك أكثر من سبب للخفّة التي يشعرها المرء في أحشائه قبل قدميه. هنالك، كذلك، أكثر من مصدر للروائح الفوّاحة التي تتحالف مع الرقّة المعماريّة لجعل المشي، بين ردهات هفهف فيها حريرٌ ورنّت قوافٍ وتكلم مفّوهون وحيكت دسائس، أقرب إلى السكر. الحمراء ليست قصراً ولا حديقة، هي كذلك، لكنها أكثر . إنها كتابٌ مفتوحٌ أيضاً، لم تكن الكلمة فيها أقلّ من النقش والخطّ والتوريق، بل لعلّ الكلمة والخطّ والتوريق والزخرفة لم تمتزج، في مكان، كما امتزجت في قصر النصريين الذي يتربّع، بلا استعلاء ولا قوة، على الرابية الغرناطية . جمال المكان واحتدام المشاعر والمعرفة المتدفقة من أوراق الباحثين المشاركين في المؤتمر، كلّها معاً وعلى حدة، عبدّت الطريق للقادِم ملكاً ك خلسة المختلس : الشعر الجميل.
مجموعة مرتقى الأنفاس مكرّسةٌ للأمير، أو قل للحظته الشكسبيرية بامتياز، حين ألقى نظرته الأخيرة على غرناطة، ثمّ أطلق تنهيدته الشهيرة، التي أبتْ الرحيل فاستوطنت قمم أحد الجبال، وسُميّت: تنهيدة العربي الأخيرة .
المجموعة مؤلّفة من ست قصائد، مرتبة وفقاً لاستراتيجيّة تقول بالبداية من نحن ، والختام عند الأنا . فالقصيدة الأولى (الرابية) يحملها ضمير الجماعة المكسور : لن نعرف كم غفونا هناك/ تحت ظلال رموشنا/ وكم دارتْ بنا الأرض/ في كتبٍ تداولها مقتنونَ عديدونَ/ لكننا رجعنا أخفّ ما نكون ، المخاطَبُ فيها هو الأمير: وها نحن نعودُ/ لنشهدَ مصير النجمةِ والغصن/ ونرى الأمير / خفيفاً على الأرض/ بساقين من قصبٍ يستنهضُ العاصفة .
أمّا مفردة الخفّة في المقطعين فمن شأنها توحيد ال نحن المكسورة بالأمير، فالقصد هو التصويب نحو هدفين: الأوّل هو الإفادة من الصوت المكسور بوصفه مشيراً إلى الهامشي والمتروك، لأن إحدى سمات الحداثة الشعريّة -في القصيدة غير الموزونة بخاصّة- هي الاحتفاء بال(البطل/ الضدّ)، لا بالبطل، ما يعني مدّ جسور التماهي بين الشاعر والأمير.
أمّا الهدف الثاني، فهو إزاحة اللفظ عن معناه ورفعه نحو الكناية، ليغدو ملائماً للمعنى العام الذي يبتغيه ناصر: التعاطف مع الأمير الصغير في الحقيقة والمجاز: أفليسَ أخونا الذي من الصبا جدّلنا شعرهُ/ وربّيناه بين العذارى ليكون أكثرنا جمالاً/ تحت/ خائنة / العيون؟ .
ولا ينهض لفظ الخفّة واشتقاقاته بمهمّة المزج بين أنا الشاعر الحداثي و أنا الأمير، بل إن ألفاظاً اخرى تنهض بالمهمة أيضاً: المائل - الأنفاس. فللأوّل نجد: أينك أيها المائل على أكتافنا بقنْزعة المُلك ومجازه ، أو: مثلهم أدركتْ ميلان النهار أو رايتي حمراء / ودليلي نهار يميل أو: كنتُ ذا القامة المائلة تحت البروق/ جنحتُ إلى سفوح تتلقى صامتةً عظات الذُرى . وللثاني نجد: نتنفس معك / وأنت دليل السدى/ هواء الأسلحة يهبّ من ليلِ الغلبة ، أو: صعّرتُ خدّي لآلآء النهار/ لا أقدّم/ ولا أؤخرُ/ تاركاً التباريح تسلس قياد الأنفاس ، أو: ليس السيف/ ولا حجر الماس/ بل/ الأنفاس .
وفي كلّ مرّة ترد فيها هذه الألفاظ، ينتقل ناصر ببراعة من صوت الجماعة المكسور، إلى صوت الأمير/ الضحية، إلى صوته الشخصي، ولكن من دون أن يفصلها بحدّة، لأنّ مهمتها تقتضي تسليط الضوء على الملامح التراجيدية للأمير الذي اعتلى عرش غرناطة وسلّمها ورحل عنها ولمّا يبلغ الثلاثين: أسيرُ الزغب الهارب من بدن العشرين/ ذو الزفرة التي ذهبت مثلاً ، فهو الذي نودي بين العذارى، ولم يكن بيده حسامٌ، بل حمامة بيضاء طارت عندما ختنوه .
فتحديد ملامح الأمير من خلالِ الاستعمال المتقن لمسارب الألفاظ، يلائمُ إلى حدّ كبير رغبة الشاعر في التركيز على جانب الضحيّة في شخصيّة الأمير: المنشدون انصرفوا بمدائحهم/ العذارى بحفيفهنّ/ المتزلفون بما خفّ/ والطير منهكةٌ من الهجرات والقنص/ آوت إلى محميّة الله/ فأين آوي أنا؟ .
لكن معرفة الشاعر بحيثيات تسليم غرناطة وتهافت الأمير، يدفعانه لأن يهيئ له أرقاً أزلياً كصورة محتملة للندم على ما اقترف: اليوم ينام واصلو البرج بالوادي على سريري/ تحت تسعةٍ وتسعين اسماً لليقظة ، أو طويلاً/ أريد أن أنام/ خفيفاً/ إلى الأبد ، أو لا غالب اليوم إلا الذي بكل جوارحه ينام . فالنوم من نصيب الغالب، أمّا الأرق والسهاد فحصّة الأمير وحده.
بيد أن التماهي بين أنا الشاعر وصوت الأمير، بوصفهما يؤلّفان معاً ما يناسب أمرين: الحداثة الشعريّة وتصحيح صورة الأمير من خائن متخاذلٍ إلى ضحيّة ظروف عاتية قاهرة، لن يكون من دون ثمن شعري (بالمعنى المجازي قطعاً)، ذلك لأن جرعة التعاطف تزيدُ عمّا تسمح به المنطقة الملتبسة للفظ الأندلس، الأمرُ الذي يفرض على الشاعر أمرين: تعيين المكان ولغته بدقّة، فتحضر الألفاظ الصريحة لفظاً لفظاً لتدلّ على المكان: البيازين، جنّة العريف، قاعة السفراء، قاعة الأختين، صالة العرش، وصولاً إلى اثني عشر أسداً في تمام القنوط . ولن تتخلّف بعض الألفاظ القليلة الاستعمال (قنْزعة، يلصفون، الزلّيج، الطنافس، استبرقٌ، طيلسانه، شآبيب، النمارق، دهاقنة..) عن تعيين زمانها زمان الوصل ، وفي الأمر دلالةٌ بالغةٌ على صلابة التاريخ حيال الشعر ومجازاته.
ومهما حاول ناصر الابتعاد قصداً عن الحنين، على أساس أنه استهلك جمالياته الأندلسيّة، فإن الشعر يمكر به: الآيات لن تتلى بعدُ على مسامع النخيل ، ويتسربُ من خلال الحسرة الأخيرة: آه خفّتي / وصل الغريب/ بلا بارحةٍ أو غدٍ/ وصل/ الغريب /على /آخر / نفس ، إذ لا مفرّ من الحنين ولا من تنهيدة العربي الأخيرة. أمّا أمجد ناصر فيمنح القارئ فرصة القول بعد قراءة هذا الشعر وهذا النثر: لا مفرّ من الجمال، لا مفرّ.
الراي
29 يناير 2010
***
مدن أبعد من حلم.. وأقرب من قصيدة
يتمدد الإحساس بالمكان لدى أمجد ناصر من شعره إلى نصوصه النثرية التي وصفَ أولَها خبْط الأجنحة (لندن، 1995) بأنه أدب رحلة ، معيداً إلى الذاكرة المنجز الشحيح في العربية لهذا النوع الأدبي المهمّش، ليشفعه بآخر غير بعيد الدلالة عن الموقف الفضائي في نص الرحلة هو تحت أكثر من سماء (أبو ظبي، 2002)، مقترباً بذلك من الجانب الأثيري في الاحتكاك الظاهراتي بالمكان، والعكوف على تأمل مفرداته وتفاصيله.
فالأجنحة تذهب بالكاتب وقارئه بالضرورة لأكثر من سماء كنايةً عن الحرية التي يهبها ما يطرأ في الأسفار من تعرّف وكشف، وما يرافقها من مفارقات تسببها متغيرات الثقافة والعادات والرؤى المتقاطعة.
كثير من نصوص الرحلة المعاصرة المنطلقة من رؤية تحديثية تجعل السفر فعلاً لازماً، بمعنى أنه ذو هدفٍ خالٍ من المقصد النفعي. إن جمالياته كما في نصوص هذه المختارات من مشاهدات أمجد ناصر تتعمق في طبقات المكان الزمنية والبشرية ومشاهده البصرية.
ودوماً تكون الذات هي المقياس الذي يشكل جغرافيا تلك الأمكنة وذاكراتها، فتكون الأمكنة والمَشاهد البصرية مناسَبَةً لتذكراتٍ تستثيرها كِسَرٌ وتفاصيل ومشاهد مما تلتقط عينا الكاتب وتعود بها إلى مخزن الذاكرة.. فكما للمكان ماضٍ يحضر عند مشاهدة حاضرهِ ويأتي محفوفاً به (غرناطة مثلا وواقعة تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيحها دامع العينين) كذلك للذات تقابلاتها بين وعي قائم ينجز فعل الرصد والمشاهَدة، وآخر قادم من ماضٍ تستدعيه الذاكرة، شرفات البيوت والمساكن في نابولي والثياب المعلقة بمشابك على الحبال واستدعاء أمجد ناصر لتلك الشرفات التي غادرها في الوطن حيث تتدلى الثياب في محفل الشرفة مكتظة بروائح البيت وأهله، وهنا يعاين الكاتب مع قارئه ما يمكن تسميته: جماليات الشرفة شرفات كهذه نادرة في? ?مدن الشمال الأوروبي?، ?وإن وجدت فهي? ?للزينة فقط ، ?بينما الشرفة في? ? نابولي، بحسب تقديم أمجد ناصر لقارئه (كما هو الشأن في? ?مدن المتوسط العربية) ?هي? ?طراز حياة?.? للشرفات حياة كاملة?. الذين يقيمون في? ?بيوت ذات شرفات، أو برندات، ??يعرفون ما أقول?. ?ففيها تشرب القهوة في الصباح، وينشر الغسيل بألوانه المتضاربة، ومن تجاورها، جنباً لجنب، أو إطلالتها، على بعضها بعضاً، يتناقل الجيران أخبار الحي وتفشى أسراره المعلنة، ومنها تبدأ أولى خفقات القلوب الصغيرة وتضرب المواعيد وتفوح روائح الطعام (...) كل شيء، تقريباً، يحدث في الشرفات: الأكل، الشرب، السهر، البصبصة، النميمة المنعشة، الكتابة (لواحد مثلي)! .
العين، كما يرينا المقتطف السابق، تشتغل باتجاهين: شرفات المتوسط التي تمثلها بيوت نابولي ومساكنها، وتلك التي تستدعيها الذاكرة من مدن الشرق التي عاش فيها الكاتب ورصد فضاءاتها وما تمثله الشرفات من دلالات ثقافية.
اللحظة التي تعيشها الذات، هنا، لحظة ظاهراتية بجدارة، فهي تُسقط وعيها وإدراكها وشعورها محفوفة بوجود تلك الشرفات التي تتمدد لتكون إشارة نابضة بالجمال المرصود، وبلغةٍ تقترض من خبرة أمجد ناصر الشعرية، وتجربته في كتابة القصيدة الحديثة وقصيدة النثر تحديداً بإيقاعاتها المتنوعة وصورها وطاقة السرد وإمكاناته فيها.
ما نقرؤه هنا مقدم بلغة فائقة الحساسية، منتقاة برهافة يتجاور فيها المجاز والتمثيل اللغوي المجرد ويتآزران لتمثيل مَشاهد تنضح بالحمولة الشعرية فلا يحس القارئ برتابة أو نسقية، تطبع، في الغالب، هذا النوع من الكتابة عن المكان في أدب الرحلة المألوف الذي يقدم ريبورتاجات وتعريفات جغرافية للأمكنة.
يطلق الشاعر عباس بيضون على أمجد ناصر وصف سندباد بري وهو يقدم أعماله الشعرية (بيروت، 2002)، ليذكّرنا بسندباد آخر هو المروي له الذي كان السندباد البحري في ألف ليلة وليلة يقص عليه غرائب رحلاته السبع وعجائبها.
لكن هذا الوصف في ظني منزاحٌ من كتابات أمجد النثرية في نصوص الرحلة التي يكون فيها هو ذلك السندباد ولكن الراوي المتموضع على بر المدن وفي طبقات وجودها الثقافي والحضاري. ولمّا كان الكاتب غير قادر على فك ذاته الشعرية عن رؤية المكان والوعي به نجد في أحيان كثيرة موضوعات مما عالجها أمجد ناصر شاعراً تتسلل في مشاهدته راصداً للأمكنة، ومتأملا في دلالاتها، ومتعقباً أثرها الجمالي في التلقي، معيداً تشكيلها من مزيج الخيال والذاكرة والبصر.
يهدي أمجد ناصر مثلاً مجموعته مرتقى الأنفاس (بيروت، 1997) إلى أبي عبد الله الصغير في زفرته الأخيرة ، ممثلاً مشهداً تاريخياً لتسليم غرناطة وتوديعها، مستشهداً بعبارات من أراغون وأيرفنغ تصور المجلس الأخير لعبد الله، وهو يفكر وتنساب دموعه بعد أن يشاهد عاصمته وهي تختفي عن ناظره على الأبد. وسيحصل مثل هذا في تأملات أمجد ناصر في أفياء غرناطة وسواها من المدن في هذه النصوص التي لا تحرك الحنين إلى الأندلس فيها عصبيات أو أوهام عن دول دالت في عالم يتغير ويتحول فيه كل شيء، بل هي نعي لتلك اللحظات التي عاشها في المكان بشر تنفسوا هواءها وأطلقوا زفراتهم متحسرين على حياة كاملة تغيب، قبل أن يلقوا المصير المأساوي الذي يجسده ما سيحل بالمورسيكيين بعد زوال الدولة في الأندلس والمغرب.. وفي إحدى تداعيات أمجد ناصر ما يؤكد الوعي الحضاري بالمكان لا بدافع ماضوي فحسب، فهو -في مدن إيطاليا- يتذكر أولئك السياح الإيطاليين المسنّين وهم يتأملون بحنين وإعجاب آثارهم الرومانية في المكان العربي (الأردن)، فيغدو الحنين إلى الماضي عبر الأطلال تقليداً إنسانياً ليس وقفاً على العرب وحدهم، ولكن أمجد يلاحظ ساخراً أن العرب هم الوحيدون الذين يبكون على تلك الأطلال!.
في تأملاته المكانية لا يبدأ الكاتب من كليات أو وقائع مدوّية، فقد يأخذنا من وصف غرفته في الفندق إلى ساحات المدينة ومعالمها، وقد يبدأ زمنياً من لحظة الشروق التي لا يراها كثيراً في معتزله (أو منفاه) اللندني الطويل، المهم في هذا النوع من النصوص أن الكاتب يطلق أجنحته في أكثر من سماء ويدعها تحط به حيث يشاء البصر المنقاد للحظة وعي بالمكان، وتشكيل له من مؤثرات مختلفة، الشرط الوحيد المتحقق فيها هو الاندماج حد الامّحاء بالمحيط حيث يحس الكاتب بأنه لم يعد بينه وبين محيطه حاجز وأنه جزء مما يرى ويسمع ويشم ويحس فيعطي تلك اللحظات التمثيلية للمكان حميمية نفتقدها في كثير من الكتابات التي يقوم بينها وبين الأمكنة حواجز ثقافية أو لغوية.
صحيح أن تأملات أمجد ناصر لم تأت في مناسبات سياحية خالصة يتفرغ فيها للمشاهدة، لكنه يحوّلها (وهي مناسبات قراءات شعرية غالباً أو زيارات ثقافية) إلى مناسبات تأملية دون أن يقع في وهم أن الشعراء هم المحتفى بهم فقط في المدن التي يقرؤون فيها أشعارهم، فهو يهرع إلى الخارج ليرى البشر ويسمع نبض المكان ومظاهره، ولكن تبقى للشعراء حصة (سيجدها القارئ في النصوص) تكشف الكثير من عاداتهم الشعرية وصلاتهم باللغة والشعر، ورؤيتهم للكتابة، ووجودهم في الثقافة العربية أيضاً.
كيف يعيش الناس وينامون بجانب بركان نائم؟ وكيف تغدو للجبال هيئة الغامض في الليل والمهيب في الصباح؟ ومن يسيّر هذه الحياة التي لا تني تعج بالبشر ويضجون بها؟.
تلك تساؤلات المعرفة في نصوص الرحلة كما ستؤكدها القراءة، وكأنها قراءة على قراءة أمجد ناصر العذبة والشاعرية للأمكنة.
الراي
29 يناير 2010
فرصة الشعر
في اللقطة الأخيرة من فيلم العطر ، ينفّذ المخرج ضربة غير متوقعة على الإطلاق في منهجية الرواية الأصل وخطة السيناريو المستوحى منها؛ لعل توم تايكور يجد نفسه في هذه اللقطة الأخيرة يعيد اللعبة نفسها، لعبة التماهي، لولا أن سوزكيند كان أمكر فنياً، وكان حبل النجاة للفيلم بفكرة سابقة هي الرائحة.
توم تايكور كان نشأ أصلاً في المدرسة البريشتية، وتربّى ضمن مقاربات تحاول الثورة على هذا الوعي الذي سيكون أحد أهم معوقاته التعويل على الحماسة الجماهيرية المتعاطفة مع الفن مهما يكن مستواه، فسعى من خلال رؤيته السينوغرافية أن يطور وعيه معلناً التمرد على تداولية التماهي. تحول غرينولي مع توم تايكور متفرجاً، وهو الذي كان في الأصل مؤدياً، وتحول مخرجاً لحفلة إعدام الوعي، ولم يتعدَّ الأمر غير خدعة مسرحية بالمنديل المعطّر؛ المضمّخ بمركَّز ما قطَّره غرينولي من العطر/ اللغز؛ العطر/ الفرص.
كتب أمجد ناصر قبل هذا الفيلم أن الأمر يتطلب أكثر من منديل واحد، ولا يتعلق بمجرد خدعة مسرحية تنتهي فاعليتها بمغادرة الجمهور قاعة العرض، وإن يكن غرينولي خيَّر وفق مزاجية توم تايكور الكشف عن أسراره دفعة واحدة، فأمجد فضّل أن يسرّب أسرار عطره على دفعات، وأن يورط المتلقي معه لمعرفة حقيقة تركيب هذا العطر وليس بمنديل واحد. فالأمر عنده متعلق بأكثر من منديل، ولكل منديل عبقه ولكل منديل خفقته: كان منديل حريري يخفق كقلب ضالّ أو كعلامة طال انتظارها .
لكل قصيدة في حياة كسرد متقطع عطرها الخاص. لا يذهب الظن بأحد أن الحديث عن العطر يعني أن الشعر في هذه المجموعة من القصائد هو شعر مقطّر مركّز؛ ذهني في مذهبه، فسوف يكون هذا الحكم بالغاً في سوء الذوق. فأمجد ناصر من خلال تجربته الشعرية يتنكب التجريد وتنجو جملته من التكثيف المركز لتأتي مشبعة بطاقة من التخييل في سياق من الانسيابية تذهب نحو شكل من الخصوصية تميّزها في الأساس تركيبتها البلاغية المنشقة والمشتقة من فرادة لغتها، تعززها رؤية مغايرة في تشكيل صورة شعرية بكر؛ صادمة في مفرداتها، ويبقى الإيقاع مائزها الأكثر إثارة بما أنها ارتأت نحواً إيقاعياً مربكاً يغدر بالمفهوم المتداول للإيقاع عموماً.
الغالب أن هذا الكتاب منشغل بالبحث عن فرصة الشعر؛ فرصة لن يتم العثور عليها في الشعر ولا في البلاغة المألوفة ولا في القواعد الفنية، بل يتم رصدها من خلال إمكان الحياة ضمن مسيرة العيش اليومي، ومن ثمّ تخليص النص من شيزوفرينيته التي أصابته بها حداثة مشبوهة، وُلدت فصامية، وادّعت الثورة بأدوات تقليدية، وتظاهرت بالانقلاب متوسلة بالتمحّل اللغوي الذي هو في الأساس رجع صدى قديم وتوريث ناشز تحوّل تمتمات طلسمية أو إيقاعات لحروب بلا جيوش ولا أوطان بعيداً من هموم الواقع الحقيقية.
هنا في هذا الكتاب لغة دائخة بلذة الحياة وتعبها بلا ادعاءات رسولية أو اشتعالات عاطفية. لغة متفجرة حيوياً بما يُسكرها من ابتكار الحيوي من المعيش اليومي وشهوة الانبعاث من طاحونة المكرور المميت. لا مجال هنا للمفردات المعلبة الجاهزة مسبقاً، أو تلك الكلمات الانفعالية الضاجة. تكشف القصيدة في هذه المجموعة عن عدائية للقواميس والمجامع اللغوية والمشاعر البلاغية الفخمة، وتحتفي بالفضلة من اللفظ، ليس المتروك منها، ولكن المتداول الشعبي الذي يتعالى عنه الشعر الرسمي.
من شأن هذا الإدراك لفاعلية المعجم البري، أن يؤدي إلى توخي أسلوب خارج عن البلاغة، بل ما قبل بلاغي. ليس في سياق التجريب في الصيغة المعمول بها للمفهوم المهلهل للتجريب، لكنه يدخل التحكيك ضمن لغة العرب القديمة، وهو تحكيك بأساليب جديدة ينخفض فيها مستوى النحوية ويتم نسف مؤسسة الجملة في تركيبتها الصارمة بغية البحث عن موتيفات مغايرة للقول والنجاة به من النمطية والتكلس: ها أنت تجلس أمامها؛ بلا مبالاة؛ تبرطع بذيلك مرة أو تفرشخ ساقيك الطويلتين مرة أخرى . نص ذكر يفي بهذه الرؤية التجاوزية في الكتابة بأسلوبها المختلف والمغاير: الرصاصة التي أطلقها من مسدس والده العسكري البرشوت عندما كان يلهو تحت قوس القيظ والضجر وكادت تودي بحياة أخيه الأصغر استقرت في الدرفة الوسطى من أول خزانة ثياب أشترتها العائلة وتركت هناك (قصداً على الأغلب)، لتظل مادة لكلام عن بكر العائلة الذي خرج ولم يعد .
طبعاً يردد بعضهم شأن ابن الاعرابي ذات يوم مع أبي تمام: إن كان هذا شعراً؛ فما قالته العرب باطل . غير أنه قاموس طري يحتفي بفضلة اللغة ليجلو ما خفي من جمال كامن فيها. بل يذهب صاحب سر من رأى إلى ضخ قصيدته بمفردات من خارج اللغة العربية دونما أي انتقاص من لغة الضاد أو استهانة بها، لكنه انفتاح على العصر ومتغيراته: أليست تلك نبوءة جوزف فاندريل عن اللغة العالمية في كتابه اللغة ؟ رغم المزالق التي قد تتعرض لها القصيدة في استعمال هذا القاموس، فهي لا تفقد جوهر الشعر وصفاءه فتجيء الصور ذكية مبتكرة.
ولئن كانت غالبية النقاد تميل إلى تمجيد أساليب الاستعارة عند الشعراء وتقيس تفوّق شاعر على آخر بقدرته في التفنن في أشكال الاستعارة وأنواعها التصريحية والمكناة والأصلية والتبعية، غير أن أمجد ناصر يعود إلى الأصل العربي وهو التشبيه، ومن ذلك عنوان الكتاب، وكذا تنبني غالبية صوره على التشبيه وأنواعه ومختلف أركانه، يؤدي ذلك إلى البحث عن بؤر جمالية لتشكيل صوره بعيداً من الاساليب المألوفة، وإذا بالصورة عنده تتخذ طابعاً كلياً. وهو بقدر اشتغاله على التفاصيل ليس معنياً بالصور الجزئية، فهو القناص الذي لا يدع شيئاً يفوته من لحظته اليومية، ولكن لا يدع لهذه اللحظة أن تستغرقه أو تأسره، بل هو يعيد عجنها ضمن لحظات أخرى ليشكل منها لوحة أو مشهداً متكاملاً.
إنه وهو يحتطب العزلة، يعيد تشكيل الحياة متدفقة كسبب من أسباب تجدده، وإذا بها خفقة من خفقات هذا التجدد ولحظة انقلاب عليه مستمرة. ليس ثمة شيء يحرك الشاعر غير توقد إرادة التحرر فيه والحاجة للإفلات من طمأنينة اليقين؛ يقين من هو في حجرة تطل نوافذها على ما يشبه البحر من خلال أسيجة الأسر. إنه انشغال حقيقي بمصائر الكائن في تحولاته.
لا يتعلق هذا الانشغال بالسؤال الميتافيزيقي المكرور، كما إن هذا التطلع غير معني بالتعبئة الأيديولوجية بقدر ما يشغله الشارع في همومه الطارئة ذات التفاصيل المجانية، التي وإن بدت بلا أهمية إجرائية، فإنها تُفصح عن حقيقة جوهر الكائن في صنعه لواقعه، وهو ما يجعل للشاعر منفى في منفاه هناك.
إنه الإحساس الحاد بالمنفى داخل منفى آخر وإيقاع خارج الإيقاع. لذلك يزرع الشاعر قصيدته بخلايا سردية سرعان ما يعطل نموها. غير أنه لا يقصف أعشاشها موكلاً إلى القارئ مهمة الاعتناء بها وتشغيل مسارها السردي إلى النهاية وفق أهوائه. وهو إذ ينشغل عن ضفر خصلات الحكاية فلأنه ينمنم مكوناتها من الداخل وينوع عليها.
وهو إذ يشرع في بناء دلالة، فإنه سرعان ما ينسفها ليجعل من قصيدته محطة لتقاطعات فنية وأدبية وثقافية مفتوحة على اقتحامات الانواع السردية، خصوصاً القصة المضغوطة وأدب الرحلات وأدب السيرة واليوميات. يمزج بين هذه الأجناس فلا يغادر أرض الشعر على حد تعبير صبحي حديدي؛ فإطالة لحظة التوتر وإحكام مسار التأزم دونما استعجال لانفراجه والتنويع على مشهد واحد من الداخل من خلال حالات التداعي والقفز المباغت من جملة إلى أخرى دونما رابط والرصد الفوتوغرافي للحالة في مختلف تحولاتها، كل هذه الموتيفات تخلق نوعاً من الغنائية تنبني في بعض مواضعها على التناشز بين مفرداتها، وهو ما يحقق انسجاماً بين المتنافرات دونما تلاش للمعنى في جوهره، وهذا ما تؤكده دائماً القفلة الأخيرة التي يجيد أمجد ناصر فتلها ليصنع تركيبة عطره المميز الذي يدركه بجهده الفردي وعزلته في الزحام وتشمم رائحة العرق البشري ورائحة الحياة خلال المعيش اليومي. وإنها لمكابدة فردية تحقق لمن تقطع سرده فرصة الشعر دونما اتكاء على غيره.
***
قراءتان للبداوة: التجريب انشقاقاً والانشقاق ترحالاًَ
لا ينفصل شعر أمجد ناصر عن سيرته الحياتية والسياسية. شاب بدوي يقرر الانفصال عن محيطه القبلي ثم الالتحاق باليسار الفلسطيني، متخلياً في الوقت عينه عن اسمه واسم عشيرته صانعاً لنفسه اسماً جديداً هو الاسم الذي كتب ونشر وعاش به. كأنما بهذا كله، الخروج القبلي والانتماء السياسي ونكران الاسم، كان يؤسس هويته كما يشتهيها لا كما تنشأ من موروثات وتقاطعات ومصادفات.
هكذاً إذاً، يمكننا أن نبدأ قراءة شعر أمجد ناصر بوصفه انشقاقاً. انشقاق بدأ بالبيئة الأولى والأهل والعشيرة، لينتهي انشقاقاً عن الوطن نفسه بالمعنى الاغترابي للمصطلح. يخرج أمجد ناصر من الزرقاء إلى عمان مخلفاً وراءه أصداء السيرة الأولى، ومن عمّان يخرج إلى بيروت مصطنعاً وجهاً قتالياً وجسماً محارباً، قبل أن يمرَّ سريعاً في اليمن ويعيش فترة في قبرص ليستقرَّ أخيراً في لندن. في تنقلاته هذه كان أمجد ناصر يترك وراءه حياة كاملة أو شبه كاملة. لم يكن الأمر تخلياً فحسب إذ بدا أحياناً نوعاً من الانسلاخ. لم يكن نكراناً بقدر ما كان انجذاباً إلى الأمام، حيث الفجوة الكبيرة التي نسمّيها مجازاً: المستقبل.
* من حال إلى حال
هذا الانشقاق سيبدو في شعر أمجد ناصر واضحاً منذ كتابه الأول مديح لمقهى آخر . صحيح أن شعرية هذا الكتاب تنتمي في غالبيتها إلى شعر التفعيلة، لكن حساسية الكتاب كانت تبدو كأنها سبّاقة على المشهد الشعري الأردني آنذاك. إنها شعرية منجذبة وواقعة تحت تأثير التجربة العراقية الأكثر حداثة في ذلك الوقت. لم يكن عبثاً أن ينسب (الراحل) خليل السواحري محرر القسم الثقافي في صحيفة الدستور ، أولى القصائد التي نشرها الشاعر في الصحيفة بوصفه مبتدئاً إلى عبد الوهاب البياتي، وتحديداً إلى أباريق مهشّمة .
سينفي ناصر بعد نحو أربعة عقود قراءته المجموعة الأولى للبياتي في شهادة قدّمها في مؤتمر الشعر الأردني سنة 2002 (نشرت ضمن كتاب طريق الشعر والسفر الصادر عن رياض الريس للكتب والنشر )، لكن هذا النفي يتبعه إقرار بالهوى الذي شدَّ الشاعر المبتدئ آنذاك إلى شعر بدر شاكر السيّاب (أول حداثة تلقاها بتعبيره) وبتتلمذه على شعر سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ. وقد ظهر هذا الأثر في مجموعته الأولى مديح لمقهى آخر (1979) من خلال نزوع الشاعر إلى لغة خافتة نسبياً وشعرية تعنى بالجزئيات والتفاصيل والحسي والواقع المعيوش خلافاً للشعر الأردني وقتها الواقع تحت ثقل الثورة الفلسطينية وشعرائها المدوّين.
هذه الخيانة الأولى التي افتعلها الشاعر -استمتاعاً بالخيانة والاختلاف- ستتكرر في مجموعته الثالثة رعاة العزلة التي كُتبت بعد خروجه من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، وعيشه في قبرص، والتي تبدو واحدة من أمتع مجموعات الشاعر. في رعاة العزلة يتخلى الشاب الذي كان يضمر تشككاً بشعراء مجلة شعر ، عن قصيدة التفعيلة، مستسلماً لقصيدة النثر كما راجت في الشعر اللبناني.
بشيء من نكران الذات، وقدرة مهولة على الانشقاق، انحاز أمجد ناصر إلى التجربة اللبنانية الحداثية، دافعاً بندقيته وانتماءه السياسي الفلسطيني جانباً (كانت بيروت آنذاك تعج بالشعراء الذي يكتبون قصيدة التفعيلة وشعر الالتزام من محمود درويش ومحمد الفيتوري إلى شوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين وحسن عبد الله ومحمد العبد الله وآخرين).
إذاً، كان أمجد ناصر يحتفظ لنفسه بهذه المسافة عن الانتماء سواء القبلي أو السياسي، المكاني أو الثقافي بمعناه العام. ثم تتوالى كتب الشاعر بعدما انتهى به المطاف في لندن: وصول الغرباء ، سُرّ من رآك ، مرتقى الأنفاس ، و حياة كسرد متقطع . في المجموعة الأخيرة يدخل الشاعر في تجربة قصيدة النثر بالمعنى الأوروبي لها، أي نثر الكلام وتوزيعه أفقياً في الصفحة.
هكذا تكون لندن التي فتحت للشاعر شهية النثر كما يصرّح (نشر كتباً في النثر مثل خبط الأجنحة و تحت أكثر من سماء )، منحته أيضاً طاقة جديدة على الانشقاق عن تجربتي عمّان وبيروت.
ما بدا انشقاقاً مسلكياً وحياتياً وسياسياً وشعرياً بسلكه طريقاً تخالف الجماعة، غدا انشقاقاً شعرياً (أسلوبياً) داخل تجربة الشاعر نفسه. كان الشاعر من مجموعة شعرية إلى أخرى ينشق على نفسه معلناً في كل مرة تأسيساً جديداً. هكذا يغدو التجريب في شعره نوعاً من أنواع الانشقاق. التجريب هنا ليس نزوعاً نحو شكلانية ما، بقدر ما هو وقوع تحت سحر المكان الجديد وثقافته. ما بدا أيضاً انشقاقاً عن الجماعة والمكان، تحول انشقاقاً عن مستقرات جمالية وفنية.
وليست هذه الملامح في قصيدته إلا علامات على ذلك الانشقاق عن البداوة: الألم المنضبط، الشعرية الجافة، الغنائية المقننة، السيطرة على المشاعر، عناصر نقيضة لثقافة الحد الأقصى، ثقافة البداوة المتطرفة في التعبير عن الحب والكره والكرم والتسامح والرغبة والانتقام، تلك الثقافة التي يتحكم بها طرفان أقصوان: جفاف ومطر، فروقات حرارية بين الشتاء والصيف والليل والنهار، أرض بوار وزرع، صفير ريح وصمت، كثرة وقلة.
* استعادة الفقدان
هذه قراءة. لكن إلى أي حد يبدو عادلاً قراءة نتاج أمجد ناصر على قاعدة الانشقاق؟ ربما أن قراءة مضادة لما تقدّم جائزة أيضاً. من حيث انتهيت، من التجريب يمكننا إعادة القراءة. التجريب بوصفه تنقلاً من حالة إلى حالة ومن شكل إلى شكل ومن بنية إلى بنية، قد يكون تعبيراً عن بداوة ميزتها الأساسية التنقل وعدم الاستقرار والبحث المستمر والسعي المتواصل والقلق من الماضي والحاضر والمستقبل، من المعلوم والمجهول، من الظاهر والمستتر، من الواقع والغيب معاً.
لهذا لم يكن عبثاً أن يستعير الشاعر في سكنه البريطاني أمثولة أبي عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس في مجموعته مرتقى الأنفاس (1997). إنها استعارة عن الهجرة والضياع وفقدان المكان والخسارة. وعليه، يسهل علينا أن نضع الشاعر مكان الخليفة المخلوع، ونضع مدينة الزرقاء مكان الأندلس. هذه استعارة أيضاً عن الحنين، عودة إلى الثيمة الكبيرة في تاريخنا الشعري، أي الأطلال. أن يكتب شاعر قصيدة طللية من مدينة اسمها لندن، قصيدة تستنجد بتاريخ بعيد، مسألة يجب أخذها في الحسبان حين نحسب لهذا الشاعر خطواته الشعرية وانعطافاته.
في شعر أمجد ناصر قاموس يقودنا إلى تلك الصحراء المخفية تحت الجلد: سيوف، نصال، أحصنة، حظائر، ماشية، رمل، تراب، ذئاب، شمس حارقة، صقور، أفاعٍ، وحشة، أكباش، وشوم وغير ذلك من المفردات التي تحيل على المكان الأول. بقدر ما كان أمجد تاصر ينشق عن المكان، كان يحتفظ من ذلك المكان بلغته.
في شعر أمجد ناصر أيضاً فحولة لغوية وقوة سبك وجزالة. لغته قاسية وصلبة كأنما هي تعبير عن صلابة جسم وصلابة بيئة معاً. كأنما الشاعر الذي خرج على تراث العائلة العسكري (والده ضابط في الجيش الأردني وجده كذلك)، استدرك في شعره ذلك النظام العسكري والانضباط العسكري والصلابة العسكرية.
حدثت هذه الصلابة في التخلص قدر الإمكان من الغنائية والتعبير المباشر عن العواطف مثلما حدثت في الحقل المعجمي للشاعر ومثلما حدثت في نظام الكلام وبناه وترتبيه المتقن. بمعنى مرادف أن شعر أمجد ناصر يمثل خروجاً على صرامة العشيرة والعسكر، لكنه في الوقت نفسه استلهام لهذه الصرامة بطرق أخرى.
ذكرت قبل قليل مرتقى الأنفاس نموذجاً للاقتلاع. هذا النموذج سبقه كتاب آخر هو سُرَّ من رآك (1994) الذي يعود إلى التجربة اللندنية أيضاً. كتاب إيروتيكي يتناول الجسد المؤنث عضواً عضواً، وحالة حالة. لكن إذا تأملنا معجم هذ الكتاب ولغته لن نجد ما يدلُّ على رطوبة لندن وأجوائها الماطرة. بالعكس، نحن أمام نص صحراوي قاسٍ وجاف، بمفردات يمكن القول إنها مستمدة من بيئة أولى ومن كتب تراثية أكثر منها مأخوذة من الواقع. هكذا يغدو هذا الكتاب على طراوة موضوعه، معاكساً لتجربة ناصر المحاذية للواقع والمحتفلة بالعيش والمأخوذة باليومي لغة وأحداثاً.
تجربتا سُرَّ من رآك و مرتقى الأنفاس البريطانيتان، تحتفلان واحدة باللغة والجسد (اللغة والجسد لهما أصل واحد) وأخرى بالتاريخ. ربما هي من المرات القليلة التي يهرب فيها ناصر من الموضوعي إلى استعارات ضخمة، كالتاريخ في الكتاب الثاني، أو الجسد بمعناه الأسطوري في الكتاب الأول.
ربما كان المنفى حافزاً على استعادة التاريخ واللغة، حافزاً على العودة إلى ذلك الجسد البدوي المتروك في حرارة الصحراء. كأن اللغة تذكرٌ، تذكر المكان والجذور والأصل والمنبت، كأن الجسد هو التركة الوحيدة من ذلك الماضي في سُرَّ من رآك ، وكأن التذكر يفلت عميقاً باتجاه التاريخ في مرتقى الأنفاس ، باتجاه الأندلس التي يتواصل فقدانها.
والحال، نستطيع -في اعتقادي- قراءة شعر أمجد ناصر على ضوء خسارة المكان وعلى ضوء تعويض هذه الخسارة. بكلام آخر: خرج أمجد ناصر على العشيرة لكنه، في غفلة منه ومنها، سرق بداوتها.
الرأي
29 يناير 2010
***
نص
الوردة المحجوبة
نعرف أنكِ متواريةٌ هناك
خلف ذلك القفص الصدريّ الحارس
تتنفسين برئة الجبل وترقبين، من حجر السّرِّ الغائرِ،
قادمين وذاهبين يغريهم الكلامُ بالوصف
ثم يطبعُ الصمتُ على شفاههم أختامه الليلكية
نعرفُ أين أنت بلا بوصلة
نعرفُ طريقك الملتوي
كألم في الخاصرة
زرناك مراراً
دخلنا الدهليز والكهف
مِلْنَا وانحنينا
سقط علينا ضوءٌ سريعٌ
وتعاقبت عتماتٌ في رفّة الرمش الواحدة
كم مرةً قادتنا الخطوةُ واللهفةُ وجفافُ الحنجرةِ
في حجٍّ يشبه التيه إلى مرابعك
وعندما نظن أننا بلغنا أقصاك
نجد أنفسنا على أطراف حكايتك مرة أخرى
لا أحدَ يشذَُ عن هذه القاعدة عندما يراك
فَرْكُ العينين أمام الصباح المتمهل للبدوية الصهباء
سنقرأ بأكثرَ من لغة
سنصطحب معنا دليلاً متضلعاً بالأوابد،
أو ساحراً مختصاً بفكّ الرصد والطلاسم،
سنستعينُ بالمسابر والأشعة تحت الحمراء والكربون المشع
سننخرطُ في حلقات الحَفْرِ والبلاغة والفضول ونوزّعُ الأدوار
لكننا لن نتقدم كثيراً في الأديم المبرقع لاسمك وجسدك وحكايتك
فليس سهلاً عبورُ الهوّة إلى حيث ولد اسمُك، الذي نناديك بغيره، كاملاً
ولَمَعَ كاحلُك كتُوَيجِ سوسنةٍ سوداء
المعداتُ المتطورةُ التي نحملها لا تكفي،
ولا الخرائطُ التي نفردُها على الأرض،
الطفولةُ يمكن أن تقدم لنا عوناً
نلصقُ آذاننا على جرَّة أو جدار
رأينا آنيةً خزفيّةً في أيدي المنقِّبين
الزيتُ ينزُّ من اللقية المستعادة من الأنقاض
النبتةُ خضراء
العصفورُ أخضر
والحداءُ الذي لم يعد يُسمعُ في هذه الجهات،
يترددُ خافتاً على جانبي الهجران
الصخرةُ والتعويذةُ يتعانقان على هُدب الهاوية،
لا نعرف أيهما حمى الثاني طوال الوقت
هذا الصمتُ الذي يسودُ بعد عدوى الكلام ليس بلا لسان
الفراغُ المألوفُ لا يعني العدم أو اللاشيء
هناك كائناتٌ تواصلُ حياتها السرية في العزلة
وأصواتٌ لا تلتقطُ ذبذبتَها المسجلاتُ الحساسةُ التي نحملها
لكِ عشاقٌ كثيرون وقلبٌ ينبض من خمس جهات
لم يترك المحبون كلاماً كثيراً
بل جراراً تشققت تحت شمس الجفاف،
كانوا حينها يتكلمون بالناي والإزميل،
ثم إنهم تفرقوا في الأرجاء
نفسّرُ الأمر على النحو التالي:
أنتِ لم تبرحي واديك ولم تهجري آلهتك،
هم الذين فعلوا بعد أن صار للقافلة والدرهم وكيلُ نعمةٍ آخر
هكذا
عندما يتغيرُ الطريقُ تنزوي اللُّقى التي يَعدُنا بها الطريق
تنحجبُ أو تندثرُ الطريق لم يعد يمرُّ من هنا
تواريتِ وراء الجبال المُسنَّة
انغلقتِ على نفسك
ارتدَّتْ وردتُك إلى كأسها
شموسٌ وأقمارٌ وريحٌ تعاقبت بلا انقطاع
على أحجارٍ كانت، ذات يومٍ، آلهةً تُعْبَدُ وغرانيقَ تُرتجى
الرأي
يناير 2010