أمجد ناصر
(الأردن/لندن)

أمجد ناصرالريح قوية في الخارج. ولكنك لن تعرف ذلك. لن يهمك بالأحرى. فأنت بعيد، أصلاً، والريح هناك غير الريح هنا، فلن ترى، والحال، تمايل رؤوس أشجار السرو والتنوب التي أراها من نافذة مضببة. ليس غريباً أن تعصف الريح وتشتد هذه الأيام. إنه فصل الشتاء. الشتاء هنا عاصف. تعلم هذا رغم أنك لم تزر هذه البلاد. دعيت مرة للمجيء هنا ولكنك لست من النوع الذي تغريه المطارات والحقائب وغرف الفنادق التي تقلَّب على أسرتها سابقون مضوا إلى مصائرهم. أنت لا تعرف حتى كيف تستخدم يدك، كجناحٍ مرفرفٍ أو تلويحة موقَّعة، مثلما يفعل شعراء المنابر والحشود. قصيدتك هي التي وصلت وظل فيها شيء ناقص، إذ تصعب ترجمة الألم، أو نقل الظلال، كما تعلم. الأرض، هنا، قاتمة الخضرة. مفتوحةً على ريحٍ قادمةٍ من محيطٍ ليس وراءه شيء. هناك الماء. كطوفان. الماء كظلمة حتى نهاية العالم. قلت لمن فتح الباب: الريح قوية في الخارج؟ كان مبللاً بالمطر. فقال: إنها تمطر فحسب! الحرارة في ميزان سيارتي سبع درجات. نهر "إيليوت" إلى يميني. إنه موحلٌ. منسوبه مرتفعٌ أكثر من المعتاد. لا بدَّ أنها أمطرت كثيراً في الشمال أو الغرب. هذه المياه الفائضة عن الحاجة! هذه المياه المضجرة! لِمَ لا تهطل هناك، حيث تتشقق الأرض كخفِّ جَمل أو تلهث ككلب تحت درجة حرارة أربعين في الظل؟ هناك رجفة بين أضلاعي. ثمة ضوء انطفأ في مكان ما. لا بدَّ أن هناك قصبة تجمَّد فيها الهواء. اليوم، بالذات، لا تنقصني رجفة اضافية. إنني ذاهب إلى المستشفى، ثمة من سيأخذ أول جرعة "كيمو". لا تقلق، ليس أنا بالضبط. ليس بعد. إنه الذي وعدته ألاّ أكذب عليه، من الآن فصاعداً، إلا في الضرورة القصوى. وعدٌ كهذا ليس صعباً عليك. لقد نجوت، باختصار حاجاتك إلى الحد الأدنى، من الكذب والنميمة والعواطف المزيفة والأصدقاء الذين لا تضل طعناتهم طريقها القلب. لسنا مثلك. لم نخلص، كما فعلت بالفطرة، للقصيدة والسيجارة والكأس. فعلنا كل ما فعلت ولم نجد عزاء في الداخل. لم يكن يعرف الذي يجلس جنبي أنه ذاهب إلى ألـ "كيمو".
عندما قالوا له: "كيمو"، رأى الموت في حفنة تراب. لم يقرع الباب أحد. لم تكن هناك ريح في الخارج. الطريق جافة. مزجَّجة. لكن الصوت الذي جاءني واهناً من بعيد كان، على الأغلب، صوتك. قلت: حدث ذلك في الصباح. أخيراً مت. لم أكن أنتظر ولكني مت. هناك من ينتظرون. لست منهم. لا وديعة لدي أسلمها لأحد إلاَّ هذا الجسد الذي أتعبه الشعر والتدخين والكحول ولم يزهد، كما يظن البعض، في الشعر والتدخين والكحول. لم أخف. لم يتسن لي، في الواقع، أن أخاف، فقد حدث كل شيء بسرعة لم أستطع مجاراتها أنا الذي كان يربي البطء كابن وحيد. قد تكون المشكلة في اختلاف السرعات أو في المناورة التي لم أكن أحسنها، فجسدي متخشب وصبري جميل. ما تسمونه موتاً أسميه حياة نقلتها على ظهري ثلاثاً وخمسين سنة، ثم أنزلتها بعد أن تعبت قليلاً. كم يوما في الثلاث وخمسين سنة؟ عدها. ستستغرب كم يوما في ثلاث وخمسين سنة، كم دقيقة، كم ثانية. هذه عرفتها، تقريباً، تكة تكة. لست انتحارياً عكس ما قلت لي، ذات يوم، في فندق على حافة الصحراء. ألم ترني سعيداً في آخر مرة التقينا؟ أنت نفسك التقطت لي صورة باسمة مع الشاعر الذي كتبت عن ساعته التي تبقى بعده، عن قميصه الذي لا نعرف لمن تبرع به ذووه. لدي أنا، أيضاً، قمصان أحبها لا أعرف من سيرتديها بعدي. لدي ساعة كذلك ولكني لا أكتب كثيراً بالقلم. لم أستجعل يد الملاك أو فم الحفرة. كنت ساهياً فقط وربما متعباً. أنزلت الحياة عن ظهري قليلاً في الطريق ولما انتبهت اختفت. من هذه السهوة، أو هذا التعب، أطلت يد الملاك أو العدم. مت ولكن ليس بنقص الشعر، ولا بفائض من السعال. بل بشيء آخر لا أعرفه. كنت أزن القصيدة بعدد السجائر والكؤوس. تعرف أن كلماتي قليلة ومعجمي ضيق، فرجحت السجائر والكؤوس في الكفَّة. ما أصعب القصيدة ما أكثر السجائر والكؤوس. أعرف أن اقتباسي سهل. محترفو الرثاء لن يجدوا عناء. كلماتي تكفي. ولم أكن أقصدها بالضبط. لم أتركها دليلاً علي. هكذا يكون الشعر أحياناً.
سيستعيدونها مرة أخرى ولن تخذلهم الشواهد. هناك شاعر آخر غيري رأيت كيف حفروا قبره بشعره. ليس عندي وصية لك على هذا الصعيد أنت الذي ولد في الشهر الذي ولدت فيه وفي السنة التي ولدت فيها. أتذكر قصيدتك "عام 1955" فقد كنت أريد أن أكتب مثلها ولكن أنا، لا أنت، من بوسعه القول، بلا تفجعٍ أو أسى، "كبرت طفلتي ولم تجد في الأمر ما يستحق الذكر"!

21-2-2009