لا أملك تعريفاً واضحاً للشعر يتيح لي أن أعرّف بالشاعر الحديث. وحين أطلق صفة الشعر على نوع أو شكل من الكلام فإنني لا أرتكز إلى مراجع نقدية بقدر ما أرتكز إلى تعودتها. فالشعر يقوم أولاً على تحريك ومساءلة المعاني التي احتفظنا بها للأشياء والموضوعات التي تحيط بنا، ويبدو لي أن اللغة الجديدة تعني القدرة على صياغة المعاني المفارقة أو الضدية، ليس على سبيل الاختلاف فقط وإلا بدت شكلية أو منحصرة في مهارة التأليف، بل على سبيل إيجاد صلات تحويلية لعلاقتنا بالعالم بوعي هذا العالم وإحساسنا به. والشعر بهذا المعنى، مفاجئ حتى للتعريفات التي قامت على نصوصه السابقة كيف نصنف فروست شاعراً إذا اعتمدنا تعريفاً ينطلق من نصوص شكسبير في الشعر الإنكليزي، أو كيف نصنف أنسي الحاج إذا انطلقنا من المتنبي في الشعر العربي ؟...
التعريف يقوم على الإثبات بينما الشعر يقوم على التحول والنفي. ولتبين الشعري ينبغي إدراك الحقل الذي يتم فيه هذا التحول. ولا أظن أن تودوروف نقل أكثر من ذلك في كتابه الشعرية، وكذلك كمال أبوديب في دراسته التي حملت العنوان نفسه بالعربية.
الشاعر الحديث، انطلاقاً من هذا، هو الذي يخلخل هذه العلاقة المشبوهة بين النص والتعريف. ذلك أن تطابق النص والتعريف لن يعني سوى تسويغ ما هو قائم ومألوف. أي أن النص سيقوم لدواع تقريرية أو أخلاقية أو بيانية، وهي جميعها، وإن كان ليس باستطاعة الشعر أن ينجو منها تماماً، ليست محدداً بنيوياً للكتابة الشعرية.
الآثار الشعرية التي ظهرت في الثمانينات أكثر التباساً من تلك التي ظهرت في العقدين السابقين. و الالتباس ليس صفة سلبية بالمعنى النقدي بل هو في طبيعة عمل تبدو همومه أشد وطأة في الوقت الذي لا تزال فيه اللغة التي توهمنا حيازتها مع ظهور حركة الحداثة شعر، مواقف وشعراء السبعينات أسيرة ما أنجزته هذه الحركة. وكان لا بد إذن من البحث عن لغة ممكنة لصياغة هموم شعراء الثمانينات. ثمة غبن لحق بهؤلاء الشعراء لا يتصل بتعثر جزء من نتاجهم الشعري بل أيضاً بتوهم اكتمال مفهوم الحداثة عند بعض شعراء جيلنا في المسار الذي ظهرت فيه تجربتنا في السبعينات. العودة إلى قصائد عدد من الشعراء الشبان الذين ظهروا في الثمانينات انطلاقاً من هذا الوهم سيعكس مدى انكماش هذه التجربة وانتسابها إلى تقليد حداثوي.
بالتأكيد ثمة نصوص ألحقت بالشعر لأسباب لا يمكن حصرها، تتعلق بالنقد، و بوابات النشر، وتقدم خطاب المناسبة.. وسواها، ولكن بالتأكيد أيضاً أن ثمة نصوصاً ستعبر ليس فقط عن ملامح مرحلة على قدر من الجدية بل وكذلك عن مدى جدية عدد من التجارب التي ظهرت بين شعراء جيلنا !!.هذا إذا أقصرنا الحديث عن شعراء الثمانينات. أما إذا تناولنا شعر الثمانينات بما في ذلك أدونيس وسعدي يوسف وأنسي الحاج فان الكلام سيتخذ منحى آخر لا مجال لتلخيصه هنا.
النقد منحاز بصورة أساسية - وربما يعود هذا إلى طبيعة عمله إلى حد ما - إلى المراحل الشعرية التي عرفت نوعاً من الاستقرار والاكتمال.
أعتقد أن النقد لم ينجُ من المؤثرات الأيديولوجية والسياسية لفترة طويلة. ومع ذلك كانت هناك تجارب فريدة أذكر منها مثلاً دراسات خالدة سعيد حول عدد من النصوص في الستينات. بالطبع لم يكن النقد الأيديولوجي والوصفي مرضاً ثقافياً خاصاً بالعالم العربي، كما أنه لم يسقط كلياً في تقديم النص من مناطق انحرافاته الكثيرة. بل هو يزخر بالكثير الذي مهد لاستعادة النص الشعري إلى مكوناته وعناصره الداخلية.
الآن أضيف إلى خالدة سعيد أسماء أخرى تحمل ملامحها المميزة في النقد كمال أبوديب، يمنى العيد وجابر عصفور.. وإن كانت كل هذه الأسماء لا تزال تميل إلى النص المكتمل ولا تغامر في استطلاع تجارب أعتقد أنها تحمل دلالات كثيرة ستسهم، ولو بتفاوت في إضاءة المرحلة الشعرية الراهنة والمراحل التي سبقتها. وفي الحديث عن النقد لا نستطيع أن نغفل النقد اليومي الشائع في الصحافة. فهذا النقد مسؤول إلى حد كبير عن الفوضى السائدة في تقديم النص الإبداعي شعراً ونثراً. وباستثناءات قليلة يبدو لي أن كل شيء هنا يخضع لاعتبارات خارج الإطار الثقافي والنقدي.
أظن أن تذوقي الشعري لم يتكون تماماً أو بصورة قاطعة في قراءتي للشعر، ولكن أيضاً في قراءة الشعري الذي يمكننا العثور عليه في مختلف أنواع الكلام والكتابة. وأذكر بوضوح كيف أن ميلي للشعر بدأ أولاً مع قراءتي لجبران وأمين نخلة.. ونصوص دينية أدعية رمضانية ونهج البلاغة كنت أجدها في خزانة أبي... ثم بدأت أقرأ الشعراء المهجريين الذين مهدوا لي قراءة الشعر الحديث. وبين هاتين القرائتين في سنوات متأخرة الثانوية العامة، السنوات الجامعية الأولى.. وجدت نفسي أعود إلى قراءة الشعر العربي الكلاسيكي.
الآن حين أتوقف عند المجموعات التي تركت وقعاً خاصاً ومميزاً في ذاكرتي، لا أستطيع أن أجزم بدورها أو مدى تأثيرها في بلورة نظرتي إلى الشعر أو في نتاجي الشعري. من هذه المجموعات أغاني مهيار الدمشقي، مفرد بصيغة الجمع لاحقا لأدونيس، لن لأنسي الحاج، نهايات الشمال الأفريقي لسعدي يوسف، ماء إلى حصان العائلة لشوقي أبو شقرا، حزن في ضوء القمر لمحمد الماغوط، نهر الرماد لخليل حاوي و أنشودة المطر لبدر شاكر السياب.
بالطبع هناك مجموعات شعرية ونثرية أخرى يمكن ذكرها ولكنني أشعر أنها تستتبع جدلاً لن ينحصر في هذه السطور.
لست من جماعة شعرية.. ولا أظن أن تشكيل أو ظهور هذه الجماعة ممكن في غياب منبر صحيفة، منتدى وحيز يتيح للنصوص أن تجد تقاطعاتها وتباينها دون أن تخضع للحذف أو الاستثناء، وأن تجد منافذ نشرها وتعميمها في الأوساط الثقافية العربية أظن أن علينا أن نتذكر هنا جيداً غياب بيروت. أضف إلى ذلك : أنا أعتقد أن الجماعة الشعرية أو الاتجاهات الشعرية تتشكل تلقائياً وبعد أن تتخذ الملامح الشعرية لعدد من الشعراء أبعاداً تحويلية واحدة أو متقاربة، وإلا تحولت إلى نوع من التواطؤ ينتهي بها إلى افتراضات وأوهام لن تثبت في ذاكرة الشعر.
شخصياً لا أجد نفسي في جماعة شعرية وإن كنت أجد أن لغتي تقترب أحياناً أو تحاذي لغة عدد من الشعراء : سركون بولص، عبدالله زريقة، نوري الجراح، وديع سعادة، الياس الياس، سيف الرحبي الديوانين الأخيرين. بسام حجار الديوان الأول، هاشم شفيق، أمجد ناصر الديوان الأخير، صادق الصائغ، خالد المعالي ورشيد الضعيف.
بالطبع يرد هذا من قبيل الملاحظة وليس على سبيل التقويم النقدي، وإلا فإن هناك تجارب أخرى على قدر من الأهمية، وإن كنت أرى أن ثمة لغة فائضة ومتفاوتة تحد من توهج بعض هذه التجارب وتجعلها أسيرة اعتبارات تأليفية وتقنية شكلية انظر المطولات خاصة.
الشعر هو هذه المصادفات التي تقع عليها أحياناً في اللغة والحياة. المشكلة الحقيقية هي كيف يمكننا أن نصوغ هذه المصادفات وأن نلتقطها بشغف وبوعي ومشاعر استثنائيين لا تتسع لهما اللغة أحياناً. وحين أقول مصادفات فإنني لا أضعه خارج نطاع اليومي والمألوف بل في ما ينبغي تأمله واكتشافه في هذا اليومي. أن نصوغ أبعاد هذا اليومي وعلاقاته بصورة دائمة.
الشعر - لي - هو محاولة إخفاء احتراف هذه الصياغة وجعلها في صميم الكلام واللغة. إن يكون مفاجئاً ببداهته وجدتّه في آن.
ليس لتعبير جيل شعري أي معنى إذا لم تكن أصوات هذا الجيل ذات تأثير فعلي في الحركة الشعرية والثقافية. والمراحل الزمنية الواحدة لا تكون أجيالاً شعرية بالضرورة.
الرواد و الآباء الشعريون تعبيران اخلاقيان، ومع ذلك كان ينبغي أن يأخذا موقعهما الضروري في النقد. ألا يحد هذا من ادعاءات الفرادة على نحو ما توهمها عدد من الشعراء والكتاب؟ الحديث في حركته البسيطة والمعقدة، تقوم على التواصل أولاً. إنه الحضور الأكثر تجسيداً للزمن والواقع بين حضورين لا نملك حيازتهما على نحو تام : الماضي والمستقبل.
السالف أو القديم حين يحل في الواقع بصورة تلقائية تسهم في صياغته وتجدده سأستقبله بحب كبير. بل الاستقبال نفسه سيكون مسافة لا ضرورة لها. ولكنه حين يحتل هذا الواقع أو يعمل على مصادرته واقحامه في الصورة - الأصل فسيكون لي حديث آخر.. حديث صعب وطويل.
التراث هو الـ نحن والحديث عنه كماض أو تاريخ لا يقل خطورة عنه كمستقبل أو تطلع. أكاد لا أفوت جديداً من المجموعات أو الدواوين الصادرة لكل الشعراء العرب.. ولكنني أتابع باهتمام جديد أدونيس وسعدي يوسف وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وشوقي أبو شقرا. وبالإضافة إلى الشعراء الذين ذكرتهم في مكان آخر هنا : محمد العبدالله، قاسم حداد، عباس بيضون، حسن عبدالله، نزيه أبو عفش، عبداللطيف خطاب، حلمي سالم، وبول شاوول. وأيضاً الشعراء الذين وقعت على قصائدهم أو دواوينهم الأولى ممن أطلقت عليهم شعراء الثمانينات مخلوف أبو زيد، الشامي، حبش، جابر، بزي وأبو خليل.
أكرر ملاحظتي هنا : أن هذه المتابعة لا تعني بالضرورة موقفاً أو تقويماً نقدياً.
هل وقع الشاعر في فجوة النون
بينما الساعات تمر فوق رأسه البطيء؟
هل يحرق يديه
وهو يشير إلى ضوء في بئر؟
هل يحصي عينيه على النافدة
وأصابعه على الورق ؟
هل يتسلل إلى انتظاره
كحصان في النوم...
بينما السفر يلف شريطه الطويل
وغيابك يجمع احتفاله على الأبواب؟
فراغ كموضع الجمر.
انظروا
كيف وقع صوته
كحذاء في القلعة
ثم
طارت قبعة المهرجان
قصائد
لماذا
كلما حاولت أن أتكلم
أسقطُ
عن ظهر بيتنا ؟
كل ليلة يطعن ليلته
وينجو من النوم.
أضع أبي في كتاب
وأحاول أن أنام.
من الكلام أيضاً
صباح
كأنهم يديرون الصباح
بساعات كبيرة
يخرجون من البارحة
ويتركون حواراتهم على السلالم
ضجر
وشردوه
مسلة تغزل الوقت
كمن يقرأ عناوين ضائعة
على أجنحة العصافير
كشحاذ
يداه مبسوطتان
فوق رصيف فارغ.