-
الشاعر الحديث - فيما أتصور - هو الذي يتيح لنفسه أفقاً مغايراً لما هو سائد والذي ينصت لأصوات الآبار العميقة كما لو كانت تتردد في أعماقه، والذي يتجزأ على السواكن الراهنة بكتابة تصبح فيها لصمته قوة ما يشبه الصراخ والضجيج، والذي يعرف جذوره كما يردك ملامح مصيره.
الشاعر الحديث - بهذا المعنى هو الذي يملك أن يتخلص من أوهام الحداثة وأمراضها. إنه يعيش زمانه الخاص ويخترقه بزمانه الإبداعي، يعيش الواقع ويحتفظ بالتفاصيل لنفسه، وقبل هذا وبعده، لا أعرف كيف يكون هناك شاعر حديث لا يولي لليومي اهتماماً في تجربته الإبداعية، إننا لا نزال نعيش جمالية اليومي الجاهلي حتى اليوم من خلال قصائد فذة اخترقت الأزمنة لتسمعنا صوتها الخاص دونما فجاجة أو تقريرية. ولا أتصور في نفس السياق مخيلة شعرية حديثة تعتمد في مرجعيتها على المكتوب وحده، ذلك لا يكفي، وإلا سيكون الشاعر الحديث مضطراً كي يكرر التجارب السابقة، العربية والغربية، ومن ثم أتساءل باستمرار. كم مرة يتردد الشاعر الحديث على المعارض التشكيلية وعلى المحترفات والمراسم الفنية ؟ كم غادر مسقط رأسه من مرة ؟
كم شاهد من فيلم أو مسرحية وكم من وقت يقضيه في سماع الموسيقى ؟
إن حداثة القصيدة هي حداثة الرؤية أساساً. ولا أعتقد بأن الرؤية الشعرية يمكنها أن تشكل من خلال القراءة وحدها، بل من الفعل كذلك.
-
لم أقرأ كثيراً من التجارب الشعرية العربية التي حبل بها العقد الثمانيني لأرى حدود تأثيرها في جسد القصيدة العربية الحديثة، قرأت لبعض الأسماء الإبداعية دون أن أعرف التطور التاريخي لتجربتها وهل هي نتاج السبعينات أو الثمانينات.
سأذكر على سبيل الاستئناس لا الحصر كتابات اللبناني الياس حنا الياس وخصوصاً مجموعته الشعرية الجديدة كثيرون غيري الأردني أمجد ناصر وبخاصة مجموعته الشعرية رعاة العزلة، الفلسطيني وليد خازندار صاحب أفعال المضارعة، التونسي الصغير أولاد أحمد بشاعريته التي تزاوج بين الغضب السياسي والسخرية، بين عنف الواقع وشفافية اللغة، وعبدالله زريقة من المغرب وخصوصاً في مجموعته الأخيرة فراشات سوداء وأسماء أخرى كثيرة : غسان زقطان، شوقي عبدالأمير، خزعل الماجدي، كاظم جهاد، سيف الرحبي، عيسى مخلوف، بيار أبي صعب، الزهرة المنصوري وعبدالقادر وساط المغرب.
إلا أنه من الإجحاف القول بأن كتابات هؤلاء الشباب لم تأت بجديد، بل أجازف بالقول بأن ابتكارات جديدة لبعضهم أجدها مندسة في قصائد شعراء عرب كبار.
إن هذه الأسماء وأسماء أخرى - وهذا رهان اطمئنان وتفاؤل - هي خميرة الحاضر التي ستصنع مجد غدنا الشعري. وأعتقد أن ما أتاح ويتيح لها ذلك، هو كونها تبحث في مرجعيات جديدة للكتابة الشعرية، تبحث عن الشعر في فضاءات النثر في القصة والرواية والسينما والمحكي الشعبي، وتهم اليوم أكثر مما تهتم بالذاكرة، ولا تخضع غالباً لاستبدادية وكيمياء اللغة والإيقاع الكلاسيكي.
-
أعتقد أن النقد العربي الراهن يعيش لحظة اندهاش تصل أحياناً حد الذهول أمام ركام الكتابات الشعرية الجديدة، وبخاصة كتابات شعراء السبعينات والثمانينات.
صحيح، هناك في المغرب جهود ندية فذة في هذا لمنحى أنجزها شعراء لهم انشغالات أكاديمية ولم ينجزها نقاد أقصد بالخصوص ما أنجزه الشاعر محمد بنيس والشاعر الراحل عبدالله راجع والشاعر محمد بنطلحة. ولكن مع ذلك يظل واضحاً أن النقاد العرب لم يتمثلوا أو لم يستوعبوا حركة الشعر العربي الجديد في موجاتها المتلاحقة. هل لأن النقد لا يتسرع كما تتسرع الكتابة الصحافية ؟ هل لأن الشعراء كثيرون والنقاد قلة ؟ هل لأن جمهور الشعر تضاءل فأصبح نقادنا يبحثون عن الأهم في السرديات العربية ؟ لست أدري. لقد أصبح الشعراء الجدد مطالبين بتشكيل نقابة ضد جبهة العصاة من نقادنا العرب الذين غزا الصلع رؤوسهم وترهلت أجسادهم وانتفخت بطونهم حتى لم يعودوا يلتفتون إلى ضرورات الأريحية القديمة التي كانت تطبع خطابهم النقدي.
واضح أنني أمزح، ولكنني مؤمن بأن الشعراء أنفسهم مطالبون بقراءة بعضهم البعض وتعميم تجاربهم وتبادل خبراتهم من خلال الحوار والنقاش والسفر في اتجاه بعضهم البعض.
-
إنني أميل إلى القول بأن أسماء شعرية معينة، وليست مجموعة أو مجموعات هي التي غيرت في أعماقي شيئاً أو تركت في كتابتي بعض بصماتها، ولي أن أعترف بأن الشاعر سعدي يوسف معلم كبير، وبأنني أحب نثر محمود درويش والقصائد القصيرة لأدونيس، ولا أريد أن أنسى أسماء أساسية بالنسبة إليّ الفرنسيان غيللفيك وبيير ريفردي.
أما ريتسوس وكافافي الإغريقيان فكم يؤسفني أنني قرأتهما مترجمين إلى الفرنسية. عن أبرز الأعمال النقدية التي أثرت في وعيي الشعري ل كسبت الوعي فقد أذكر أطروحة الشاعر الصديق محمد بنيس حول الشعر المعاصر، وبالطبع - ومن مستويات مختلفة - دراسات وكتابات أدونيس، كمال خير بك، جابر عصفور، إحسان عباس.. وآخرين.
وللحقيقة أيضاً، أرى أن العديد من القصائد كانت بالنسبة إليّ زاداً نقدياً أكثر منه شعرياً، إن كثيراً من مثل هذه القصائد عربية وغربية تمنحنا أشكالاً ونماذج جيدة للكتابة وتصحح بعض أوضاعنا وتعثراتنا أكثر مما يفعله فينا ركام الكلام النقدي والخطابة الرديئة.
-
لا أنتمي لأي جماعة شعرية، وأتصور أن الشاعر لا يحتاج إلى جماعة مثلما يحتاج الباحث إلى مجموعة للبحث العلمي مثلاً، إن الشاعر لابد أن يلتقي مع آخرين في أفق إبداعي مشترك، ومن الأفضل أن يلتحم بهم في وجدانات القراء وذاكرتهم الجماعية.
إن الشعر لا يحتاج إلى جماعات ضغط، بل يحتاج إلى فضاءات هادئة وصامتة كي ينصت الشاعر إلى ذاته وإلى ارتطاماته الداخلية. ولنا أن نستعيد العديد من كبار الشعراء في العالم لندرك كيف ولماذا هم كبار دونما حاجة إلى جماعات تؤطرهم.
أما إذا كان على الشاعر أن ينتمي إلى إطار خارج عزلته، فهناك مجالات أخرى أكثر رحابة لاحتضان حركيته وقلقه الإيجابي.
-
الذي أعرفه أن الشعر بالنسبة إليّ ملاذ، إنه ليس احترافاً، بدليل أنني أعيش من مهنتي كصحافي، وليس هواية لأنه يلازمني روحياً وجسدياً.
أحياناً أحاول أن أقنع نفسي بكتابة الرواية حتى ليكاد يبدو لي بأن الشعر جسر ضروري نحو أجناس أخرى أكثر تعقيداً، ولكني لا أزال متردداً بين البوابتين. ومع ذلك ما زلت أقرأ الشعر وأكتبه، ولا تزال صفتي في اتحاد كتاب المغرب اعر.
-
من أردأ مظاهر الخطاب النقدي العربي المتسرع والانطباعي أنه أنتج شبكة من النعوت والصفات لا تزال تصادر الفاعلية الشعرية الجديدة لحساب شركة أسمالها مجهول.
ولكن هناك بعض المفاهيم قد نضطر لتداولها بقوة مقتضيات منهجية وإجرائية حتى نفهم كيف تنمو الأشياء وتتطور وحتى نتيح للجمهور المثقل بعزوف واضح عن الشعر أن يفهم بعض ما يحدث شعرياً، هنا والآن.
-
لقد ذكرت بعض الأسماء الشعرية التي أحببت تجاربها وأحاول قدر ما أستطيع مواكبتها، ويمكن أن أضيف في نفس السياق أسماء : فوزية أبوخالد، محمد حربي وعبدالله الصيخان من السعودية، زاهر الغافري من عمان، إبراهيم نصر الله فلسطين.
كيف قلت للممرضة عارية : قبليني ولا تنامي ؟
أخيراً بين البياض مرميا..
وبياض الليلة المفزعة من تشنّج الكلمات قد نلقاك
أيها البدوي، ارحل الآن في مساحة الجسدين
وما بين البياضين.
واحذر صيرفي الوقت.
هل قبلتك، فلم تسأل عن اسمها،
أم نامت وتركتك لانسياب العنق وحيداً ؟
كأنها أعطتك شيئاً.
كأنها وعدتك بغيمة أو برؤية وبنافذة.
آه..
غابة الشعر بين يدين، تدفق العرق، دوخة النعاس
ورائحة الشراب، الشراب.
والأسى في العينين، العقارب المعطلة.
والكرسي.
والأقمصة، ربطة العنق، المعطف المطري.
والمظلة.
وخزانة الكتب الفارغة، الصابون، رواية البوليس.
ولائحة القتلى.
واللوحة المغمورة بالغبار.
ومنديل الأنف، ورق المرحاض الرطب، الأحذية، رائحة الجوارب.
وعزلة الموكيت، الألوان بلا صوت.
والحمام، دفء الماء، المناشف والصمت..
الصمت، إلا من شفاه وصورة ممرضة على جدار..
وولد خال :
من يرى الآن هذا الولد
في الطابق العاشر.. حزيناً ؟
في الشارع الفارغ..
سيشم أول كلب عابر حمق القبلات.
الدار البيضاء المغرب
تموز يوليو 1989