عريض هذا السؤال، ويحيل إلى مقاربات، سأقول من كل نوع، ويمكن أن يجاب عليه من أبواب شتى لكأنه سؤال عن الشعر أو الشعرية في علاقتها بوعي آخر أكثر انشغالاً اشتغالاً على تخطي الاستعارة البائدة، المكرورة، المقيمة والقديمة، كما في صياغة، باللغة في المقام الأول، القصيدة صالة أم قصرت والعالم غوي أم غني أم صار حكيما. لكأن الشاعر الحديث كائن اجتمعت لديه الخلاصات والإيقاعات والمعاني، لكأنه وريثها ومستخدمها بخفة مختار مخير، يعرف ما ينتقي وما لا ينتقي، لكأنه عودة مبررة، بالمقارنة مع المراجع المشكوك بحداثتها، إلى نبع الشعر الذي هو كينونة ذات طبائع خاصة، مكتوي، تعي، وملومة لأنها تعيد طرح السؤالات وأولها : حداثة إزاء ماذا؟ وتبحث عن الشعر في أماكنه المتعارف عليها وفي أماكن مجهولة. إنه مخيلة سيكون أي موضوع موضوعاً لتأملها لبصيرتها، سينلغي الموضوع التقليدي لصالح الشعر المعلن التماعاته لوحدها : م وردة مقطوعة إلى أخرى مهداة ثمة العدم العصي على التعبير أونغاريتي. وحتى لو لم يكن ثمة من عدم عصي على التعبير بينهما فإن الموضوع، حتى لو كان موضوعاً محدداً بعينه، فإنه سيغدو لدى الشاعر الحديث مناسبة لقول ما لم يقل في هذا الموضوع، ثمة دوما محاولة لاستقصاء واستنطاق العصي، استقصاء العشبة في امتدادها في ضياء الحقل عبر تلك القوانين الهوائية للاستعارة. هذا الشاعر هو مسعى منهمك بمطابقة الشعر مع الشعر، طالعاً من حداثة اسمها الآخر تأمل تاريخي وعبر تاريخي أدبي وعبر أدبي. معارف ونقد للمعارف. إنه يقدر على بناء نصه، بأدوات النص، بأقل تقليد ممكن وبأقل إعادة، لأن هذين يبدوان محتمين بشكل وبآخر، اصطفاء وحذر يسمحان للأساسي بالتدفق والشخوص. موحداً ومفارقا، بجلاء شمسي، الكائنات والأشياء. ثمة أدوات تُصنع القصيدة بها ويمكن تعداد بعضها: الاستعارة، التشبيه، المفارقة اللفظية ثمة تسميات لسانية لها، الكناية.. الخ التي تخضع على يديه لإعادة غربلة، حدسية أحياناً. إنني أفضل التحدث عن النص والنصية في مقام الشاعر الحديث. إنه يغترف من كل ينبوع ويشرب من نهر آخر. إنه يدل على نفسه من النظرة الأولى، من حذاقته في تقديم الفعل أو الاسم، في تقديم أو تأخير الصفة أو الحال، في استخدام الصفات التي ليست بعيب شعري، في خلق الصورة البسيطة جداً ولكن العميقة جداً، أو في خلق الصورة المعقدة، المسترسلة التي توحي، فحسب، بأطناب بلاغي، الطويلة، الكثة والكثيفة التي لن يقبلها من لم يتوقف طويلاً أمام نثرنا القديم، في التحليق مع الإيقاع أو القطيعة معه، نص يوحي، مرات، بسهولة وتبدو للبعض تقنياته بمثابة قوانين أو ألعاب، سيان، معروفة وتبدو لغته وقد صارت مرجعاً لكل زاعم، وهو ذات الأمر تاريخياً مع الشعر، الأمر الذي لا يمنع نظراً حصيفاً من تمييز هذا النص، إنه يدل على نفسه بإشاراته.
إذا كانت الظاهرة المنتشية، ذات التقاليد العريقة في الثقافة العربية هي الشعر فما المانع من أن تظهر آثار شعرية في الثمانينات وأن تضيف إضافات. هذه بداهة. سوى أن الأمر أبعد من ذلك قليلاً ويتعلق بظاهرة التقسيمات الصارمة، المتجهمة للأجيال المستمدة بدورها من تراتبات قادمة من حقل آخر. من عقل آخر. إننا بهذه التصنيفات نختصر، عسفاً، الشعر العربي المعاصر كله إلى بضعة أسماء بمثابة منارات مؤبدة، وبعدئذ سنهبط في الزمن ونأخذ من كل جيل لاحق اسماً أو أثنين ونتجاهل ما سواها. نتجاهل بذلك قيماً أدبية. إننا نميل إلى إلحاق الأحدث بالأسبق دون أعراف ودون نقود مبرهنة، إننا نجد لكل قادم أباً ولكل طالع سلفاً. يبقى أن الفارق التراجيدي بين الأجيال الأولى وأجيالنا هو أن أولئك ظهروا في فترة من التاريخ هي فترة نهوض أولي، بذور حداثة ظلت لدى بعض أسمائه بذوراً. كانت الأمية فاشية والمدرسة والمطبعة لم تتخذا بعد طابعاً شاملاً. كان نشر الكتاب أكثر سهولة. إن العرب قد شهدوا تحولات بالمعنى المحايد للكلمة لا يمكن تجاهلها في العقود الأخيرة. إن التنافس اليوم على أشده على المستوى الثقافي، كما أن مساحة النور صارت أوسع. وإننا نتخطى حوار تلك الفترة إلى حوار أرحب بحيث أن أسئلة الأمس لم تعد هي ذاتها أسئلة الغد، وبالتالي فإن ما يظهر اليوم في الشعر العربي لم يعد يلقى إلا بأسئلة من طبيعة أخرى، بالضرورة، يجب إعادة اكتشافها رغم العراقيل الموضوعة ورغم المواضعات التي لم تعد ممكنة.
في ذمتي فإن الأساسي الذي يمكن أن يُنقد فيه النقد العربي الراهن، وهو ليس بشيء واحد على كل حال، هو عدم قدرته على رؤية تعددية الشعر، كثرة طرائقه ولغاته. إنه ينبري فحسب للدفاع عما يعتقده هو شعراً. إن معياره يحتاج إلى معيار، إن الناقد غائب ومغيب ومتغيب كذلك، وهو لا يستطيع قراءة الأثر اللاحق إلا بصعوبة، كأنه يخشى الاقتراب منه، وكأنه يطيل التحديق فيما صار معلوماً ومعروفاً. إن أصواتاً تطلع منذ حقبتين متتاليتين أخيرتين تستحق التوقف عندها ملياً. لم نقرأ حتى اللحظة دراسة واحدة معمقة عن شعر شاعر مثل سركون بولص مثلاً، لم يتبق سوى الشعراء أنفسهم لكي يكتبوا عن بعضهم. ظاهرة عافية، إن النقد مرتبط بمستوى الحوار الممكن في مجتمع معين. هذا الأخير محكوم منذ أواخر السبعينات بالمؤسسات التي تقوت وازدهرت وتوطدت، لقد ضاقت الهوامش، نقد لا يستطيع رؤية المستجدات لأنه لم يتخلص بعد من عقدة المجتمع العربي التي تمنح الآباء سلطة استثنائية والتي ما زالت تضع للقبائل أماكن قابلة تماماً للنقد. لقد طلعت الأجيال الموصوفة الأخيرة ضمن ظروف لم تتهيأ لسابقاتها. ففي لبنان الحرب الأهلية وفي الخليج الطفرة الجمناستيكية النفطية وفي الأردن وفلسطين الانشغل بالحراب الإسرائيلية وفي مصر مروق السيد السادات وفي سورية والعراق حدثت أشياء كثيرة. وكان يرث إرثا أساسياً ويجابهه إبداعياً رغم صعوبات معتبرة : فإن طباعة عمل شعري اليوم صارت أصعب مما هو الحال أثناء الخمسينات، وإذا تحامل هذا النقد على الشرخ ونهض مهموماً بالإبداع فإنه لا يرى إلا ما يراه يستحقه عن جدارة.
للوهلة الأولى سأقول بأن الطائر الخشبي و زيارة السيدة السومرية للعراقي حسب الشيخ جعفر هي من أوائل الأعمال التي أثارت انتباهي لبراعتها التعبيرية ولخروجها بجدارة عن المهيمن. إنه في هذين العملين بالضبط وليس في أعمدة سمرقند يطلع كشاعر من طراز فريد، شاعر مبني للمجهول للأسف بالنسبة للقارئ العربي، وقبله ثمة السياب وأدونيس وأنسي الحاج وغيرهم.
نقدياً سأتوقف ملياً أمام أعمال أدونيس ويمنى العيد وكمال أبوديب وجابر عصفور ومحمد مفتاح وعمل محمد بنيس النقدي الأخير. وفي العراق توقفت أمام مشاريع عبدالجبار عباس عندما كتب كتابه عن السياب وطراد الكبيسي عندما كان يتابع بحماس تطور الشعر العراقي الحديث، كما فاضل ثامر وعلي عباس علوان في كتابه عن الشهر العراقي الحديث. لم أسم سوى العرب، وثمة أعمال نقدية، أساسية، مترجمة فعلت فعلتها فيّ. لست واحداً من جماعة ولا من مجموعة تسعى إلى تأليف جماعة. لكن فكرة الجماعة تثيرني وتستثيرني ولا أقف البتة ضدها. كانت الجماعة دوماً تعبيراً رمزياً عن تفارق ما، عن هاجس ما غير مسيطر في ثقافة ما، عن طموح شرعي ومشروع، عن موقف ضد استبداد سلطة ثقافية ما. ثمة اليوم إمكانيات لتحقيق جماعة بل جماعات. الجماعة التي توتر مخيلتي، وربما لن تتحقق أبداً، ستطلع من فكرة مهمومة باثنين : قصيدة النثر و المنفى. قصيدة النثر التي مازالت قليلاً، منفية عن الفضاء الشعري العربي والتي تستحق التأصيل والتنظير المنهجي، والتي هي تعبير آخر عن الحرية في الكتابة والحرية. والمنفى، رغم أن جل الثقافة العربية تعيشه اليوم وتعيش فيه، الذي لما يزل هامشاً وطرفة.
ليس الشعر بالنسبة لي احترافاً ولا هواية، ولنؤجل قضية المشروع الكياني إلى ما بعد مماتنا أو صمتنا عن قوله. إن شروط الاحتراف، بمعنى ضيق ومهني للكلمة، لا يمكن أن تتحقق في الشعر اليوم، كان ذلك ممكناً في العصور الذهبية للخليفة العربي، لا يمكن اليوم الاعتياش على الشعر. أما الهواية فإنها تتبقى إمكانية غير مبرهنة أمام نماذج أساسية في تاريخ الشعر. فلقد كتب بودلير عملاً شعرياً وحيداً ومثله والت ويتمان، ولن أتحدث عن الطفل المخيف. كما قد انصرف الكثير من الشعراء إلى كتابته وحده منجزين مرات أكثر من عشرين مجموعة شعرية، لكأنه كان احترافاً، دون أن يخرجهم ذلك من مأزق العادية. إن كتابة الشعر لدي لا تنزع إلى مثل هذه التصنيفات وأن جملة للسياب يقول فيها بأن القارئ العربي سينساك إذا لم تنشر قصيدة طيلة ستة أشهر متوالية، والتي ينسج على منوالها بحرفية أكثر من شاعر عراقي أعرف، تبدو بالنسبة لي هوى وخرافة ولستُ أكيداً منها، على العكس فإنني شاعر من نمط لا أدري مدى ندرته ضمن هذا السياق من المسألة، فإنني أكتب كل سنة أو سنتين نصاً يتيماً طويلاً ذا فرصة ضئيلة في النشر في الدوريات العربية.
لست ميالاً إليها، فإن الحدود لا يمكن إقامتها بين الأجيال الشعرية بالعنف الحاصل في كثير من النقد، وإن الذهاب، كل مرة إلى تسمية الجيل اللاحق بالجيل الشاب أو الشباب إنما هي حيلة ماكرة في التقليل من شأن هذا الشاب. إننا محكمون بـ شباب دائمليس من طبيعة الأشياء رغم أننا نتلامس والأربعين. وأن مفهوم الرواد هو من السعة التي يحضر البعض معها دون استحقاق شعري. إنها فكرة زمنية وليست شعرية وهذا مهم للغاية، في حين أن ليس ثمة أبوات في الشعر. هذه المفهومة مستلة من علم اجتماع القبيلة، لكن التمرد على السالف يتموضع في شرط معرفة عميقة بالسالف وحتى بمحبته، وبنقد جذري لما يستحق النقد فيه.
إن محنة تعداد الأسماء قاسية وأن المرارة لواقعة حتماً عندما تعدد أسماء ليس اسمك من بينها، لأن القائل قد نساك سهواً أو عمداً، لأنه لم يقرأك بما فيه الكفاية، أو لأنه قد انطلق من تصور مسبق للشعر، أو لأنه قد ربط الشعر في مكان ما بظاهرة لا تروقه، أو لأن اسمك أو شكلك لا يوحي بشاعر حقيقي ! إن الأسماء التي سترد هي مجرد أمثلة فحسب. فإنني أعنى بالشعراء اللبنانيين الجدد لسبب جوهري هو انفتاحهم على العمل الشعري بمحبة، على الجدة دون مخاوف وبمغامرة لا تراعي ما يراعى. إنني أقرأ عباس بيضون، عقل العويط الياس حنا الياس، عيسى مخلوف، بول شاوول، رشيد الضعيف، عبده وازن، حسن العبدالله وبسام حجار.
وأقرأ الشعراء السوريين الجدد لأنهم ما انفكوا مواظبين على نثر القصيدة، وإيجاد منافذ أخرى لها عبر تحويل المرئي إلى شعري : سليم بركات، رياض الحسين، حكم البابا، عائشة ارناؤوط، نوري الجراح، نزيه أبو عفش بندر عبدالحميد...
وأعنى بشعر أقراني العراقيين لأنهم يسعون بدأب للتملص من إرث ثقيل في الشعر الذي يجدون أنفسهم إزاءه نحو ضفاف مشمسة ومعشبة أخرى خارجين من الأوزان الثقيلة إلى الفناءات العميقة ومن الطرائق المقوننة إلى الطرق : سركون بولص، جليل حيدر، عبدالكريم كاصد، هاشم شفيق، كمال سبتي، زاهر الجيزاني، جمال جمعة، فوزي كريم، كاظم جهاد، عقيل علي، صلاح فايق...
كما أعنى بشعر أقراني الفلسطينيين والأردنيين لأنهم إزاء هول الواقع المتحملين على أكتافهم فإنهم يقدرون على تحمل هول كتابة أخرى، ناصعة وجديدة ليست كأس ويسكي في جنازة الشهيد قدر ما هي اندغام عميق مع فعله : زكريا محمد، أمجد ناصر، طاهر رياض، وليد خازندار...
ولن أنسى الخليجيين لأنهم يستمدون من الخليج أمامهم والرمل وراءهم والشمس فوق جباههم أعظم تأملات الكينونة أمام المطلق : سيف الرحبي، قاسم حداد...
ولن أنسى ما يطلع من المغرب العربي خاصة وهو يسعى إلى تأصيل شعر آخر : خالد النجار، باسط بن حسن وآخرين، آخرين كثر.