ربما هي المرة الأولى في عُمان أن تقدم شهادات لكاتب لا يزال على قيد الحياة، إذ جرت العادة في بلادنا أن يُكرّم الكاتب بعد رحيله، فصك التكريم والاحتفاء مشروط بالموت والحتف، بالنحيب على ذكراهم بكتابة القصائد وتنظيم الكلمات التأبينية في رحيلهم، وهذا ما سيشكرنا عليه الأسلاف لأننا حافظنا على هذه العادة العربية المتوارثة في جزيرة العرب حيث استبدلنا اللطم والنحيب وذرّ الرمال بكتابة القصائد وذكر محاسن الفقيد، الذي لا نذكر مناقبه إلا بعد التأكد من غيابه، أما في أيام حياته بيننا لا يجد منا إلا البخس والوشاية و التقليل من شأنه الأدبي والثقافي.
***
لا أخفيكم أنه في اللحظة التي وافقت فيها على المشاركة في قراءة شهادات عن أحمد الزبيدي، انتابتني الأسئلة عن سر التذكير بالكاتب الزبيدي وإعادته إلى المشهد الثقافي العلني في هذه السنة تحديدا؟، وهل الحراك الشعبي العُماني، والحراك العربي أو ما يسمى (بالربيع العُماني) لهما الفضل في إماطة اللثام عن المثقفين والكتاب العُمانيين الذين فضلوا الابتعاد عن المؤسسات والقنوات الثقافية المدارة من قبل السُلطة؟، وهل يمكن الكتابة الآن عن آثار الربيع العُماني على الساحة الثقافية في السلطنة؟! كل هذه الأسئلة مرت عليّ وأنا استحضر اللحظات العصيبة التي عشناها مع الكاتب أحمد الزبيدي مدة ثلاثة أيام خلال استجوابه من طرف القسم الخاص بشرطة عُمان السلطانية حول أعماله الأدبية والروائية، وللأمانة ومن خلال تواصلي مع إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في سنة 2009، وبين الكاتب أحمد الزبيدي فقد رفض الأخير أن تصدر الجمعية بيانا تضامنيا معه، مفضلا التريث والانتظار لما ستسفر عنه الأيام، وهذه شهادة أقدمها للتاريخ.
هنا أيضا أقدم شهادة معرفية أو قل صحبوية ـ من الصحبة- عن الصديق الكاتب أحمد الزبيدي، وعلى الرغم من تأخر صداقتي ومعرفتي بالكاتب الزبيدي، إلا أننا لم ننقطع عن التواصل منذ اللقاء الأول في مدينة صلالة في بداية يونيو 2008، وهنا أجد نفسي ملزما بالإجابة عن السؤال الذي ربما يتبادر إلى أذهانكم، وعن سر التأخر في معرفتي بالكاتب الزبيدي الذي ينتمي بالميلاد إلى ظفار التي جمعت أول صرخاتنا في الحياة وإن كانت على فترات زمنية متباعدة، ظفار التي عاش فيها طفولته وتشكلت أول تجاربه في الحياة وفي الذاكرة والتي تتمظهر في الكثير من أعماله الأدبية، بل تكون أحيانا هي البعد المكاني ومسرح الأحداث كما في روايته (أحوال القبائل عشية الانقلاب الانجليزي في صلالة)، أعلم أنه إلى الآن لم أجب عن السؤال المطروح كيف تعرفت على الزبيدي ولماذا تأخر اللقاء إلى السنوات الأولى من نهاية العقد الأول في الألفية الثالثة؟، الحق أقول لكم أن الكاتب أحمد الزبيدي لم يكن اسما متداولا في الصحافة الثقافية العُمانية ولا في الساحة الأدبية العلنية في عُمان، وكأن ذاكر أسمه سيدخل قائله غياهب السجون، وهنا أذكر حادثة حضرتها في النادي الثقافي في العام 2009، في ندوة عن الرواية العُمانية، حيث ذكر المحاضر وهو أكاديمي عُماني رواية (قاع في مكان السقوط اسمه مسقط) ونسبها إلى مؤلف مجهول، وقد نبهه الصديق الشاعر سما عيسى وذكرّه بالاسم وهو ما ذكره لاحقا المحاضر، من هنا نفهم إلى أي حد يمكن أن يكون ذكر الزبيدي من المحرمات التي لا يقترب منها ومن ذكرها.
إن أول معرفة لي بالكاتب الزبيدي كان في حواره في ملحق شرفات في جريدة عُمان، وقرأت الملحق الكترونيا في تونس، ولهذا لم أتصل بالأصدقاء الذين أجروا الحوار للتعرف بأحمد الزبيدي على أمل الرجوع إلى السلطنة ولقائه، وكنت قد نشرت في صيف 2006 في صحيفة 'القدس العربي' نصا أدبيا بعنوان (ما تبقى من ظفار)، وقد حظي النص بقراءة واهتمام من قبل العديد من الكتاب الذين عبروا لي عن ذلك، وهو النص الذي كتب عنه الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور في 'القدس العربي' أيضا، بعد نشره في مجموعتي القصصية (بذور البوار)، وربما هو النص الذي جعل أحمد الزبيدي يسأل عن كاتبه، إلى ان اجتمعنا معا في ظفار، ومن يومها ونحن على تواصل ولقاءات مستمرة بحضور العديد من الأصدقاء من داخل السلطنة ومن خارجها، وخلال تلك المدة الزمنية القصيرة، استطعنا أن نعرّف بأعمال الكاتب الزبيدي من خلال جريدة الوقت البحرينية، مرة عبر الكاتبة البحرينية باسمة القصاب التي خصصت صفحة كاملة عن لقائها بالزبيدي، ومرة أخرى حينما منعت روايته من معرض مسقط الدولي للكتاب 2009، حيث كتبتُ عن هذا المنع ونشرت الخبر في جريدة الوقت البحرينية أيضا، كما كتبت عن التحقيق معه في القسم الخاص، ونشرت ذلك في مدونتي الالكترونية (ذاكرة ظفار) كما نشرت فيها أيضا الحالات المرضية التي يدخل فيها الزبيدي العناية المركزة، ومؤخرا كتبت عنه في عمودي الأسبوعي (إضاءة) في جريدة 'الرؤية'، مقالا بعنوان (أحمد الزبيدي كاتبا وإنسانا).
***
يقول الكاتب الفرنسي جوليان بندا في كتابه 'خيانة المثقفين ' لو كتبت قصائد تتغنى بالملك فسوف تُستقبل استقبالا حسنا، أما لو حاولت أن تنوّر الناس فسوف تسحق'، وهذا ما ينطبق على حال الكتابة الأدبية في السلطنة منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ تفتح وسائل الإعلام أبوابها وتجند موظفيها وأجهزتها لاستقبال وبث القصائد المغناة في احتفالات الثامن عشر من نوفمبر، ومثيلاتها من أشعار 23 يوليو فيما يسمى بيوم النهضة أو كما يسمى سابقا بعيد الجلوس، بينما يحبس الكاتب والمؤلف الذي لا يُمجّد ولا يُبجّل السلطة أعماله في الأدراج ولا يجد من يشجعه على نشرها ولا من يقتنيها، وهذا ما مر به الزبيدي منذ عودته إلى السلطنة في بداية السبعينات، حيث ظل الكاتب الزبيدي على موقفه الصلب المؤمن به والذي عمل لأجله في مدن المخاض السياسي القاهرة ودمشق وبغداد من خلال الاتحاد العام لطلبة عُمان، وحينما وجد أن الساحة لا تتسع لأفكار المشاركة السياسية وبناء المجتمع المدني ومنح الحرية والديمقراطية للشعب الذي رزح طويلا تحت آلة القمع والظلام والظلم، فقد انكفأ الزبيدي على قلمه وكتباته مقاوما الإغراءات والهبات التي تمنح لمن فضل التنكر للمبادئ التي آمن بها وعمل لها، إذ أن المثقفين يصبحون نافرين من النظام الأساسي المهيمن عندما يجدون فرص المهنة أمامهم مغلقة وعندما يغامرهم إحساس بتباين المنزلة بالفجوة بين تقديرهم العالي لأنفسهم وضآلة حصتهم من السلطة والثروة' كما يقول الفين غولدنر، في كتابه مستقبل المثقفين ونشوء الطبقة الجديدة.
بعد حركة الاحتجاجات الشعبية في عُمان والتي جاءت كنتيجة حتمية لما آلات إليه الأمور في عُمان، والتي أثبتت أن الدولة لا ترتكز على الحكومة وحدها بل على مرتكزات أخرى كالثقل السكاني والجغرافيا، وأن الحكومة ما هي إلا السلطة الإدارية لتنفيذ خطط وبرامج اقتصادية واجتماعية وسياسية، وأن الولاء للوطن ليس بالتمجيد والشعارات بل بالمنجزات لأجل الوطن والمواطن، حينها اختفت الأصوات التي لطالما بينت أنها أحرص الحارسين على الوطن، وبقيت الأقلام والكلمات التي عبرت عن طموحاتها وآمالها بوطن يسع الجميع ويتسع للآراء والأفكار، كما يقول الكاتب اللبناني مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور، 'لا يمكن أن تكون هناك حرية أو ديمقراطية أو مواطنة في حالة هدر الإنسان بمعنى التنكر لإنسانيته وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه'.
ختاما ونحن نشكر الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء على إعادة الاعتبار الثقافي والأدبي للكاتب الزبيدي في الساحة الثقافية العُمانية، فإني أحيي صديقي وأستاذي وأخي الأكبر أحمد الزبيدي (أبا الأحنف) وأتمنى لك العافية في صراعك المرير مع الأمراض المزمنة وسلطات الرقابة الأدبية، وأشكر الخالق عز وجل أن أمده بالصحة حتى سماع هذه الشهادة وهو بكل قواه النضالية، وأعده وأعاهده ألا أكتب حرفا في رحيله، وليعذرني رفيقي على ذلك مع علمي بما يمكن أن يترتب عليّ من آلام نفسية، إذ تُغني وتكفي هذه الكتابة وهو بيننا عن عشرات المقالات والكتابات بعد موته.
*كاتب عُماني
(ألقيت هذه الشهادة في الاحتفاء بالكاتب الروائي العُماني أحمد الزبيدي)
القدس العربي
2012-05-09