لم أكن أعرف عبّاس بيضون في ذاك الزمن اليساريّ الذي أظنّه سيتحدّث عنه اليوم. فقد تباعدت بيننا الأمكنة، وفي أغلب الظنّ، التجارب أيضاً. لكنّ اللقاء به كان لقاء تائبين على نحو مفارق. ذاك أنّهما، كلّ بطريقته، لا يزالان يملكان حنيناً إلى ما تابا عنه.
وهذه توبة غير مقبولة لدى المؤمنين المتشدّدين الذين غادروا إيماناً كي يستسلموا إلى إيمان نقيض. فهم يطالبون التائب بألاّ يحنّ إلى ما تاب عنه، وبأنّ يحوّل شعوره بالذنب، في حال وجوده، إلى تذنيب للإيمان السابق كلّه.
لكنّ الاحتفال بعبّاس وبسياسات عبّاس يومذاك فرصةٌ للإجابة عن ذاك السؤال الشائك: لماذا نحنّ إلى ما تبنا عنه؟ لماذا، نحن «اليمينيّين»، ما إن نفتح أفواهنا بعد كأسي ويسكي حتّى نتحدّث عن أيّامنا في «اليسار»؟، لماذا اختار عبّاس أن يتكلّم عن ماضيه السياسيّ، لا عن تاريخه الشعريّ مثلاً، وهو شاعر أكثر بكثير منه سياسيّاً؟
ما من شكّ في أنّ ارتباط تلك التجربة بشباب صاحبها يخلق لها مذاقاً خاصّاً لديه، جاعلاً استعادتها استعادةً لشطر مبكر من الحياة اختُبر فيه الجسد والمغامرة، بل اختُبر العالم المحيط.
لكنّني أظنّ أنّ الأمر أكثر من هذا. فمن ارتبط شبابه، أو طور من شبابه، بالفاشيّة، لازمه شعور بالتنصّل والخجل، إن لم يكن بشيء من التكفير الذاتيّ، سيّما وأنّ الولاء للأمّة لا يولّد صوراً ولا تنجرّ عنه أفكار وقيم. والقوميّات على أنواعها غنيّة بالخطابيّ فقيرة بالحميم.
فلنبحث إذاً عن السحر الخفيّ للماركسيّة. ذاك أنّ الصلة بها علّمت التائبين اللاحقين أموراً لا تُنسى، هي دَين دائم في ذممهم. لقد علّمتهم النقد الذي ما إن يُستخدَم راديكاليّاً حتّى تصل موساه إلى ذقن الناقد ذاته، وإلى ذقن الماركسيّة نفسها.
وعلّمتهم التحليل. فإذا ما أُرّخ للنصّ السياسيّ اللبنانيّ بدا مدهشاً أنّ معظم أهل التحليل جاؤوا من اليسار، فيما ممثّلو مدرسة الإنشاء، وهي التقليد اللبنانيّ الآخر، لم يمرّوا بتاتاً في اليسار. وإذا صحّ أنّ كثير التحليل «المتماسك» قد يغدو نظاماً استبداديّاً، فإنّ قليله شرط شارط كي يمسي العقل أكثر عقلانيّة.
كذلك علّمتهم الماركسيّة الحقّ والوقوف مع الضعيف، أكان فلسطينيّاً أم فيتناميّاً أم مجرّد فقير ومظلوم في هذا الكون. وفهمُنا للحقّ يومذاك كان بسيطاً بساطة أعمارنا، لا يتخلّله تعقيد ولا سياسة فكأنّه طهارة دينيّة في زيّ إلحاديّ.
والماركسيّة، أخيراً، علّمتهم الصداقة. فليس صدفة أنّ معظم التائبين اختاروا أغلب أصدقائهم من يساريّين سابقين، من غير أن يتحكّموا واعين بهذا الاختيار أو يقرّروه. فاليسار، في هذا المعنى، لم يكن طريقة في النقد والتحليل فحسب، بل كان أيضاً عبارة عن قيم حديثة في مجتمع غير حديث، وعن تطلّب لنظام مبالغ في نظاميّته الذهنيّة تفادياً لفوضى تستولي على حياتنا المفتّتة. ونظراً إلى افتقارنا، في الستينات والسبعينات، إلى معرفة بالليبراليّة، بدت اليساريّة الشكل الوحيد المتوافر عندنا للثقافة الغربيّة. يكفي التذكير باتّساع حركة الترجمة لأعمال أرباب الماركسيّة وأخواتها، من لينين إلى تروتسكي، ومن غرامشي إلى ألثوسير، ومن أدورنو إلى فانون، ناهيك عن المنشورات السوفياتيّة والصينيّة وغيرها، فيما كان اسم توماس جيفرسون أو جون آدامز مجهولاً.
فنقد الدين وإدانة العنصريّة والدعوة إلى المساواة بين الجنسين ورفض أشكال التحكّم الجائر...، قيمٌ كان واحدنا يحملها في ردوده العصبيّة، باحثاً عن تفسير يؤوّلها ويجعلها من حمولات الرأس أيضاً.
وأظنّ أنّ هذا المعنى الأخير أكثر ما بقي في عبّاس السياسيّ. ذاك أنّ السياسة عنده شديدة الصدور عن القيم وعن آمر ضميريّ وأخلاقيّ لا يتعب إلحاحه. وما المقالات التي كتبها في جريدة «السفير» في عامي 2005 و2006 غير توثيق لهذه النزعة المتمكّنة منه والأصيلة فيه.
لكنّ الغريب، في حالة عبّاس، ذاك التجاور بين الشاعر والفنّان الذي فيه، وبينه كسياسيّ. فالأوّل يذهب به إلى ما وراء السياسة، مستنطقاً من الهموم الإنسانيّة ما هو تكوينيّ فيها، رائياً إلى أيلولتها تفكّكاً يكاد يكون مطلقاً، أو لا جدوى تكاد تكون تامّة. والثاني يحمل، كأيّ سياسيّ، وعداً، وينحو إلى صياغة تَلمّ أطراف المفكّك وتُقنع بأنّ جدوى منظورة تقيم في آخر «الممارسة».
وهذه العجالة تبقى، بالطبع، أضيق كثيراً من أن تتناول موضوعاً شائكاً كعلاقة الشعر بالسياسة، والسياسة بالشعر، خصوصاً أنّ وراءنا، في هذا المجال، سِيَراً وتجارب متناقضة تمتدّ من أودن إلى باوند ومن نيرودا إلى بريخت، ويضرب بعضها في أزمنة أقدم.
بيد أنّ عبّاس، على عكس كثيرين ممّن ناضلوا وكتبوا معاً، لم يُحاذ الرؤيويّ واللاعقلانيّ في سياسته، كما أنّ شعره، ربّما باستثناء قصائد مبكرة، لم يستدرج السياسة إليه من قريب أو بعيد. وفي هذا وفي ذاك كانت له خصوصيّة تبعث على اندهاش آخر بشخص مدهش.
وإلى ذلك ثمّة، في ما أظنّ، فارق مهمّ بين الطورين السياسيّين العباسيّين، وإن حكمتهما القيم نفسها: ففي أواخر الستينات وفي السبعينات، لاح لنا العالم قضايا وأفكاراً فحسب، وكان يكفي واحدَنا فخراً أن يُسمّى مناضلاً. وعبّاس الذي سُجن مرّتين على الأقلّ، فوقع في يد «المكتب الثاني» قبل أن يقع في أيدي الإسرائيليّين، والذي عُذّب مرّتين، كان ذاك المناضل الذي أتمّ مشيخته بمقالات في مجلّة «الحرّيّة» وقّعها باسم فادي محمّد وبنقاشات الخلايا وتآمرها وبانشقاقات الأحزاب والفصائل.
أمّا لاحقاً، أي اليوم، فصار العالم لدينا دولاً وأوطاناً أيضاً، لا قضايا فحسب، وصار مطلب واحدنا أن يمسي مواطناً. وما يأمر به التحوّل هذا هو أنّ الأفكار لا تنهض إلاّ على دول وأوطان. فأقم الدولة ثمّ عارضْها، لأنّ المعارضة من غير دولة ضرب من البربريّة.
وعبّاس أستاذ في التنبيه من البربريّات على أنواعها.
* هذا النص تقديم لشهادة عباس بيضون التي ألقاها في الجامعة الأميركية - بيروت
الاربعاء, 18 مايو 2011