هكذا اذن؟
لم تكن الكلمات جاهزة، بل هي حبيسة انذاك: 1972 (موت ابراهيم زاير)، لكنّ قوى الكلام المتحفّز كانت تفعل فعلها الشاقّ المخبوء في الطوارئ. يهمهم الموت ويستدير غير مكترث بغضبنا وعجزنا معا، ونحن الاحياء بعدُ نحقّق في ذكرياتنا عن اصدقاء فاتونا لنبرهن على مفاهيمنا عن الصداقة الخالدة وشراكة المصائر، حيث يقصد الآخرُ الى الآخر قصداً، متواطئاً مع المصادفات التي لا شأن لها بتصاعد الانفاس المتضافرة في صَرْح العلاقات المتخصّصة القائمة على مبدأ يستأنف طريقته في تحسّن النيّات والافعال.
إنّ الامتيازات الثقافيّة والنشاط الانساني لـ"ابراهيم زاير" في مدّة لم تتجاوز العقد من السنوات؛ جعلتْ منه احدى العلامات غير العابرة في عراق الستينيّات من القرن الماضي عند اولئك الذين درسوا معه خاصة، والآخرين العاملين معه في مجالات متنوعة، فضلا عن اصدقائه الذين طالما افتقدوا شخصه المشحون بالتطلعات والذي كانت التجارب – مهما كانت - تضعه على حدود الشعور العمليّ بالمسؤولية الاخلاقيّة، ممّا كان يكفي لتوقع الخَطر الذي يُحدق به بين آونة واخرى. فهو، على كل حال، لمْ يتفرّغْ لأيّ نوع ولأيّة درجة من الاستقرار، بل كان يتناوب على المراكز الحساسة والمضطربة الجديّة في ذاته: التغلّب على طفولة ناكصة؛ حيث الآمال الذكيّة وعنفوانها المتردّد؛ العملّ الثقافيّ الخاص ّ والعامّ، التفكير والممارسة وطنيّاً وقوميّاً، الصحافة تصميما وتحريراً، الفنّ تصويرياً وفوتوغرافيّاً وسينمائيّاً، الكتابة في المسرح والسينما وتاريخ الرسم واحوال الثقافة التربويّة والاعلامية، النصوص الشاعريّة، المذكرات المتلاحقة، مشروع رواية بمسوّدة كاملة تقريباً. وإنَّ ما يخيّط كلّ ذلك هو الشهية المترعة باحلام الحياة ومبادئ الوجود وفنه والصبر باتجاه المستقبل الذي لمْ يتأكد في يومٍ ما. وهنا، نعم هنا بالضبط؛ صرع ابراهيم براءته الحانقة التي ربما ضبطها للمرة الاخيرة: لاهثةً طريدة في شقوق السنة الثامنة والعشرين (1944-1972) ومآزق ما قد يتبقى كالرماد الذي كانت نواته تخفتُ متكاملة البرود.
إنّ اصدقاءه يتاوهون من الظروف التي جعلته يرى في موته ضرورة وحلا، وما كان لتحليل المفاهيم أنْ يساعد على تحسين او تخفيف فزع موت الشاب الناضج الذي عملتْ ارادته على تهيئة اهداف مأمولة في حين كان عقله مستعداً للارتياب المقبول في الاعماق التي لاتني تتجادل حول اذاها الصادق.
هل يمكن تخليص الوجدان من صورة " ابراهيم زاير" بكلمات لا اثر للاخلاص فيها؟ لا اعتقد ذلك. الان صارت الاقوال يسيرة، فقد كانت الحكمة السلبية في نهاية كل لوعة من التياعاته؛ هي التي تتوج اناقته الخاصة وتكملها بنشاط لا ينفرط في الظاهر ولكنه كثيرا ما يتوعك في الداخل متقيدا بمرارة حبيسة تثور قليلا، كالقليل الخطير الذي تتسابق فيه المصادفة مع الورطة بتجاهل تام للقواعد العقلانية التي اعدها ابراهيم لحياته النظامية في بداية ترشيح وعيه للعمل العمومي.
اخذ النضوج بتقديم اول مقترحاته حين شرع الفنان يكتب يومياته في سنوات الدراسة المتوسطة، وكانت الصفحات الكثيرة جدا تنم عن رغبة في التدخل – من خلال السرد التفصيلي – في عدد من المظاهر والمشكلات المعطاة والمثارة في اوساط الاسرة والدراسة وصداقات الاقارب والتجربة السياسية المحلية المتمركزة عادةً حول الضحايا، ثم تصاعدت اليوميات لتكشف عن المجال النفسي \ الاخلاقي لشاب يصارع معوقات المعرفة الشخصية و يعالج المفاهيم بالعمل. صارت الثقافة بمعناها الايجابي –التربوي احد اكثر انشغالاته سواء في علاقاته بقضية تطوير قابلياته او في انتاجه اللغوي ونشاطه الحر.لم ينتظرْ طويلا ليجد في" نجيب محفوظ " ذلك الوصف الذي يمهد لتعيين عوامل الانشقاق في الشخصيات التي لا تكف عن طرح مشكلات التوازن بين الفرد العربي والمحيط الذي يوجد فيه ؛حيث يراقب احدهما الاخر بنوع من تهديد غامض، لكنه على كل حال تهديد موضوعي ضروري، اذ ما الذي هناك غيره؟
درس "ابراهيم زاير" الرسم دراسة مطولة كاحسن ما كان عليه الحال في عراق ستينيات القرن العشرين – في معهد الفنون الجميلة و في الاكاديمية – وتلقّى خبرات الجيل الاول والثاني وانضم الى الجيل الثالث من الرسامين، وهو الجيل الذي خرج من الريادة الى القيادة، ومن البناء الى الانطلاق، ومن العمل القياسي الى المبادرات التجريبية. وكان عليه ان يتعايش مشدودا بوجدانه مع الدراما الوطنية في عفويتها وتخلخلها القاسيين، هذه الدراما التي ما كان لها ان تهدأ او تجد نظامها الخاص حتى تعلقت بالخسارة القومية لحرب حزيران 1967. ليس هذا بالامر البسيط لدى اولئك العراقيين الذين كانوا بحاجة الى ايما امل غير قائم على الذاكرة قدر علاقته بالاحلام المعقولة في تواضعها، الاحلام التي ربما ودعتهم وهي تومئ في السراب، او تلك التي استاجروها من هنا وهناك. لا بد من امل حتى ولو كان ضائعا، للصدى العقيم او التحديق الذي كثيرا ما تطاير في هستيريا العبث الخانق او عدم الاكتراث للياس الاهلي التام.
في النصف الثاني من الستينيات؛ ليس هناك من وقت طويل ليضيعه مثقفو بغداد وقاعدتها في العثور على صداقاتهم - التي هي كالوعود الصحيحة -، في الحقيقة كانت الاسماء كالاشاعات ذات الغواية مع شئ من الواجبات، وارتبط ابراهيم بنوع من الاصدقاء على نحو خاص، هم مزيج من الضمائر الحية وشفافية العلاقات الاجتماعية ومسؤولية الدوافع الثقافية والبداهة الوجودية، وكان يتخلص بسرعة من البروتوكولات والروتين والانتفاع والتطفل العاطفي المائع التي رايناها تشوب علاقات المثقفين بالثقافة وفيما بينهم. ان اصدقاءه اولئك هم على درجة من التجربة في توسيع الافق والجرأة على الاستئناف وتحقيق القابليات. ساكون امينا لذاكرة نظيفة لو سمّيت " مؤيد الراوي " و " انور الغسلني" على راس قائمة الاصدقاء الذين لم تقيدهم تجاربهم السابقة ولم يتخذوها بديلا عن حياة ممكنة بل ادخلوها بالقوة كما هي بالفعل في الحوافز وشاشات الاعماق، من غير ان تستغرقهم غياهب اليقظة العابرة، او ان يستلقوا في ردهات اللاشعور على اطلال الغرور الرمزي المتماوت. واذا كان من الجائز لي تشبيه طائفة اصدقاء ابراهيم، فهم اقرب الى مؤسسة تلقائية للتدريب على فن الوجود بالمعنى التقريبي، غير المقصود حصرا؛ للتهذيب اليوناني المتصاعد الفاهم، وكانت هذه نتيجة صداقات الزمن الانتقالي في العراق وليست بالضرورة مقدمات او خطوات السيرورة للجميع، لكن الجميع تمتعوا اخيرا بالخلاصة التي لا يجدون صعوبة في الموافقة عليها. ان التقصير محسوب على الارادة التي قد تجد نفسها متجاوزة للتشاؤم او التفاؤل اللذين اعطياها عقلا لا يجفل من حياة المفاهيم.
في اثناء دراسته في "معهد الفنون الجميلة" بداية الستينيات تعرّف على نخبة من زملائه وعايشهم وجادلهم وتمرّن على التخطيط والرسم تمرينا وسواسيا جارفا، وكانت الوجوه الانسانية والاوضاع البدنية، وتلميحات القوة والجمال، هي اكثر تعبيراته التشكيلية سيادة، ولم يفرغ من التخطيطات الى النهاية، وكانت الالوان (المقدمة الضرورية للتلوين) آخر التضمينات ذات الاثر في اشغاله، وقد مارس البحث في آثار الرواد، وعند جواد سليم بوجه خاصّ؛ التي جعلت من الحياة اليومية الشعبية مدخلا قويا الى لوحة التذوّق المشترك.
في مرحلة " معهد الفنون الجميلة " بدأ " ابراهيم زاير " اختبار قدرته على الاستقلال والتخارج، فاشترك في تمثيل مسرحية، والقى كلمة تابينية عن " جواد سليم" ثم تسلّم الاتجاه الذي انتظره كالوعد وهو الوصول الى الصحافة، اوّلا حين نشر قصةً، وثانيا في عمله مصمما.
خلال سنوات قليلة من العمل في الاخراج الصحفي استطاع ان يتصدر التصميم في الصحف والمجلات التي عمل فيها (اللواء، الجمهورية، النصر، العمل الشعبي، الراصد، الاذاعة والتلفزيون.....).
وحين انتقل الى بيروت في اوائل السبعينيات مارس التصميم والتحرير والكتابة اضافة الى تجربة سينمائية في الاخراج ايضا (مخرج مساعد).
ان ما اعطى عمله التصميمي طابعا خاصا؛ اضافة الى كونه رساما محترفا وكاتبا يملك سيطرة على الحادثة التي تعنيه، هو اطلاعه على اليات العمل الصحفي مباشرة وبشكل تفريعي من خلال بعض كبار تقنيي الصحافة العراقية والمصورين الفوتوغرافيين انذاك مثل: سّجاد الغازي، هادي الانصاري، عبدالوهاب بلال، محمد كامل عارف، لطيف العاني، ثم علاقته الطليعية بانور الغساني ومؤيد الراوي وعارف علوان وجاسم الزبيدي وصادق الصائغ واخرين... هؤلاء هم بعض اعضاء الورشة التي عمل فيها بالتداخل، من حيث انه رسام وناثر ذو تطلعات جوهرية وراديكالية، وتمتد الورشة الى العلاقات والمرجعيات التي كان يحتك بها في صداقاته مع المثقفين والفنانين والشعراء خارج الصحافة.
في اخر ايام عمله في الصحافة – وهي ايامه المتبقية من الحياة – كان يبدو حرفيّاً متوازنا، وفي الواقع انه بدأ العمل في الصحافة متجها في الاصل نحو التكامل؛ فهو مصمم، ورسّام ايضاحي وتعبيري وبورتريتي وكاريكاتيري، وكاتب عمود يوميّ وريبورتاج وقائد مقابلات، ومحرّر عناوين وتعليقات موجزة، ومسؤول صفحات يومية واسبوعية عامّة وفنيّة. بالنسبة اليه تمّ هذا المشروع وكان عليه الخروج منه. وكان ذلك هو المجاز والحقيقة. من الطبيعيْ ان تكون الحقيقة هنا اكثر بلاغة من المجاز، فبعد حرب حزيران 1967 كان الشعور بالمسؤولية لدى مثقفي الستينيات مزيجا من الاحباطات والدوافع، وكان ابراهيم يحث نفسه الى ان يكون ملتزماً بوعيٍ يتجاوز مسؤوليّة غيره، واخذتْ نتائج الحرب تقترح عليه ما يكتبه ويرسمه وشكّلت محيطا نفسيّاً وعقليّاً له، وسرعان ما ربط بين الوطنيّ و القوميّ، واختار العمل السياسي الانتظاميّ واخرجته التجربة مهيض الجناح (1970) وكنا نتصارح: ان لا تتحول لحظة ضعفنا، نحن المثقفين العراقيين الجدد، الى قاعدة تحت تصرف قوة السلطة آنذاك، من اجل ان ننجو من اوبئة اليسار العالمي والمحلي بكل التدرجات ثم نتفهم اضطرابات الغُدَدَ – اذا جاز التعبير - قدر طاقتنا ونشخصها لحسابنا بشكل من الاشكال وبالمعادلة التي طرفاها: الترصين النظري النقدي المتحرر من جهة والوزن الاخلاقي المرهف والواقعي للممارسة المبدعة من الجهة الاخرى، بعد استبعاد الرؤية المشوهة التي سببتها ثم غذتها في بيئتنا فوبيا وبارانويا التجارب القاسية والمغلوطة دون ان تتعرض الى نقد ذاتي فعلي او ينالها التطور اللاحق، ولا شك في وجدانية تلك الارادة، ولكن رصيدها من المعرفة والحس السليم قد تاكد بالمقارنة مع شحوب "النظرية الرمادية " فيما بعد، وان كانت المقارنة لا تقود الى برهان صائب في مثل هذه المنعطفات، وربما حتى في غيرها ايضا. وذا كان الاستطراد يحلو هنا: فقد كانت الثقافة عندنا لا تعني اقل من النقد بالتمام وكنا نسمح باي شئ الا اقلاق صيرورتنا التي كان اكثر ما نخشاه عليها هو التراجع. ولكن المبررات تتغلغل الينا من الحبة الى الجذر الى النسغ فتتواصل لعناتنا نحن البرجوازيين الصغار على الوعكات التي ارادت ان تقول لنا اننا سببنا اذى لانفسنا. وسرعان ما نشفى قبل ان نلزم الفراش، كما هي عبارة مايكوفسكي، تلك هي ذاتية الطبقة التي واصلنا قطع الطريق عليها، كانت الارادة ثورية حقا، مثل الشعر والفنون غير المحافظة وكانت ثورتها " دائمة "، على ان لا نُلزِم اتجاهنا - او نتطيّر- لا شكليا ولا مضمونيا كما فعل البعض والبعض حسب مقالات الظروف العامة والخاصة للفن والمتفننين. ويجب ان لا نقوم بتبسيط اكثر سيظر بالفهم النقدي الذي كنا نتوخاه من اجل اشياء قد تبدو الان حشرية و ملزوزة، وحتى الخطأ نفسه سيُعَدّ ثمينا في سياق حياة جيدة لها ارادة وقابلية معا على الاسئناف والتقدم معا ايضا.
ذلك من حظوظ الحداثة المامولة
وذهب ابراهيم الى بيروت مع المقاومة الفلسطينيّة، وكانّه بدا متماشيا مع القدر العامّ نحو القدر الخاص الذي حاصره.... أيمكنني أن اصف اللحظة هكذا؟ : لم يكن يريد ان يخرج مشلولا في تجربة عامّة من خلال تجربة خاصّة؛ وارجو ان لا اكون قد قمت بتبسيط مبتذل لواحد من اعزّ اصدقائي، كان قد صرع انفاسه مرّة واحدة وللتو على هذا الوتر ّالمشدود؛ يلوذ من الوطنية بالقوميّة فتحصد التجربة العامة سنبلته الخاصّة.
هكذا اذنْ، ترك مشروعه؛ الذي صار اليماً؛ موضوعا في ذاكرتنا الغاضبة دون ارادة منّا؟ نفتح ونطوي كلّ شئ مثل كتاب لا تستسلم صفحاته لترقيم متّفق عليه.
خطّط في عمله الصحفي لمئات من الوجوه النسائية (وجوه فتيات يانعات في الغالب) ولقامات الرجال الناهضين بين اعناقهم، الشبيهة بجذوع السدر، واكتافهم المبنية مثل الخرسانات (كانت سحنته الشخصية تنطبع هنا وهناك) الرجال يتجهون الى ان يكونوا منحوتات حديثة لنساء خارجات من التماثيل السومرية، الوجوه التي تلهو بالخلود دون زمن يحتمل فساد البشاشة، والعيون اللوزيّة التي لا تُغمِضُ ودّها الكريم. كل ذلك الوضوح تعمل على هامشه يد الرسّام، اللامبالية حينا، مشيرة الى انه يقوم بتوظيف موهبته وليس تمثيلها تماما، لانّ تمثيل قواه التصويريّة سيكون على لوحٍ مستقلّ، اذا جاز التعبير.
ظلّتْ كتاباته الغزيرة جدّاً تتصدر انتاجه وهذا يعني على نحو خاص منافستها لطباعة تخطيطاته وعرض لوحاته. وكان خطابه اللغوي مباشرا في التعبير عن حقيقة فكره الفنّي والاجتماعي والتربوي، عدا تلك النصوص الشاعرية التي وصف فيها لحظات الطبيعة في بغداد وكيفيّات تلقي الحياة عند الصباح، وعدا القصائد المتحقّقة مع تخطيطات كان تصرّفه فيها مختلفاً عن عمله اليومي (نشر القصائد والتخطيطات في العدد الثالث من مجلة "الشعر 69" و صمم كذلك غلاف العدد) تناولت كتاباته اليومية المعتادة متابعات لجوجة للفنّ: الرسم، النحت، السيراميك، التمثيل في المسرح والتلفزيون... الخ. وكان يظهر امتعاضه واقتراحاته وتقريعه للكثير، كما كان يهلل ويستشرف مستقبل بعض الرسامين (محمد مهر الدين، مهدي مطشر، محمد علي شاكر... الخ)، ووجّه نقدا ايجابيا لاكاديمية الفنون الجميلة ونشر رسائل مفتوحة الى بعض الوزراء ضمنها المبررات التي يجب على السلطات ان تاخذها في الاعتبار للاهتمام بالفن ورسالته الجمالية والاخلاقيّة العامّة.
بعد ذلك، حسبّ اطلاعي، كتب تاريخا للرسم والجماعات الفنية العراقية، نشره في بيروت، ودراسة مطولة عن "برغمان" المخرج السينملئي السويسري، لا اعلم عن مصيرها شيئا.
صمّم غلافين لكتابين مع اكثر من غلاف لمجلات اسبوعيّة، لكنّ ما تميّز هو غلاف عدد مجلّة "الشعر 69" المذكور، الذي له علاقة باعماله مع " جماعة المجددين "؛ واشتغل اكثر من ملصق، وقدّم عروضا خاصة ومشتركة لرسومه.
في النصف الثاني من الستينيّات كان هناك عدد من الرسامين ذوي المواهب و الارادات الطليعية، ومنذ ذلك الوقت ظهرت نزعة ابراهيم زاير الصارمة لتحقيق لوحة تجريدية لا تشوبها شائبة، وقد مارس تراكما لا باس به للالتقاء بالتعويض الواضح في المعرض الثالث لجماعة المجددبن عام 1967، فقد عرض تجريداته غير المتردّدة والتي لا اثر للازدواجية التعبيرية فيها. كما لا وجود للادعاءات الادبية وليس فيها ادلّة جماهيرية جاهزة كنا نحذّر – بصوت عالٍ – من احتمال دناءتها الايديولوجية المرشحة للاستشراء كما نرحب بالقوة الشعبية لتلك الادلة على المدى البعيد.
انّ المسافة التي استطاع ابراهيم ان يضعها بين فنّه المستقلّ وبين العمل الصحفيّ الذي واظب عليه، هي من اهم خصائصه النقدية، فلوحات ما بعد معرض المجددين الثالث، تلك التي تمثل خير تمثيل ارادته في فنّ مستقلّ، ولوحات المعرض نفسه كانت تمنح انطباعا عن رسام لا يتهاون ولا يضحي بعالمه الخاص مهما بدا مزدحما بانواع المنجزات والوعود العامّة. انّ علاقاته كانت تخصصية لا يمكن تاجيل موضوع الحداثة فيها، اقصد علاقاته بالرسامين آنذاك وبعدد من الكتّاب والشعراء (منهم: طالب مكي، عامر العبيدي، فايق حسين، رافع الناصري، علي طالب، ضياء العزاوي، سلمان عباس، سالم الدباغ، مؤيد الراوي، انور الغساني، عبد الرحمن البيعي، سعدون فاضل، سركون بولص، عبد القادر الجنابي، شوكت الربيعي، عمران القيسي، شريف الربيعي، فاضل العزاوي وعارف علوان... الخ) وقد كان التاثير تقريبيا: (جماعيا وبينياً) ممّا يولّد نوعا من الشعور بالحصانة والاخلاص الفني غير المعزول، والذي - مع ذلك - لا يقلل من فرصة المبادرة الخاصّة التي كانت تحظى بضمان تؤكده وتشرف عليه الارادة الشاعرية الضمنية والصريحة والاقرار بضرورة خلع العادات الثقافية الرتيبة لصالح ما هو ملائم بالفعل للمستقبل.
من حقّي الان كما هو من حق مفكري الفنّ العراقيّ الحديث - والرسم منه خاصّة - ان اجد ما فدح حياتنا الفنية من خسارة بغياب "ابراهيم زاير" مؤلما، فقد انتقص موته المبكر صورة هذا الرسام والمصمم التي كان من الممكن ان تكتمل وان تندفع اكثر واكثر، والذي باشر بتوزيع الكتل وتحريكها على السطح التصويري بكلّ البساطة والاقتصاد والتلقائية وعناصر الاكتفاء التشكيلي وما يقرر ان يكون الاسلوب تجريديا.
امّا ما فدح الصداقة - لو كان حيا ليختطف نظرة ثاقبة او يتنفس بامتنان ورضى مطمئن نسمة هواء مرحة عند دجلة في خريف بغداد - فهو الذي ما زال الى اليوم يرفّ كالدمعة البعيدة حين يغص بها صوت مبحوح؛ ألا
فلا
حانَ
ذلك الحينُ.
الخميس 12 نوفمبر 2009