ترجمة إسماعيل أزيات: تسعة شهور بعد اختفائه المباغت، لا أتمالك نفسي في التفكير في محمود درويش. أفكّر فيه جالسة، مستلقية، واقفة، راقدة، مستيقظة. أقرأ اشعاره، أبكي وبالضرورة لا أتمالك نفسي من تذكّر اليوم الذي التقيتُه فيه لأوّل مرّة. كان يوما من أيام تشرين الاول/أكتوبر 2007. وكان بيت الشعر في باريس، في إطار مهرجان الخريف، نظم أمسيات احتفاء بمحمود درويش.
عند وصولي إلى المكان، كان محمود درويش جالسا يتحادث مع أحد الأشخاص. اقتربتُ منه، خجولة ومتأثّرة قليلا، بتمهّل، بهدوء، شبيهة بفتاة بالكاد بدأت تتجاسر وتتجرّأ. تطلّعتُ إليه وأنا أنظر في عينيه وقدّمتُ إليه نفسي من دون انزعاج، من دون استحياء. هذا الخوف الذي كان يستشعر لذة ماكرة في أخذ قلبي رهينة، اختفى فجأة:ترجمة إسماعيل أزيات: تسعة شهور بعد اختفائه المباغت، لا أتمالك نفسي في التفكير في محمود درويش. أفكّر فيه جالسة، مستلقية، واقفة، راقدة، مستيقظة. أقرأ اشعاره، أبكي وبالضرورة لا أتمالك نفسي من تذكّر اليوم الذي التقيتُه فيه لأوّل مرّة. كان يوما من أيام تشرين الاول/أكتوبر 2007. وكان بيت الشعر في باريس، في إطار مهرجان الخريف، نظم أمسيات احتفاء بمحمود درويش.
عند وصولي إلى المكان، كان محمود درويش جالسا يتحادث مع أحد الأشخاص. اقتربتُ منه، خجولة ومتأثّرة قليلا، بتمهّل، بهدوء، شبيهة بفتاة بالكاد بدأت تتجاسر وتتجرّأ. تطلّعتُ إليه وأنا أنظر في عينيه وقدّمتُ إليه نفسي من دون انزعاج، من دون استحياء. هذا الخوف الذي كان يستشعر لذة ماكرة في أخذ قلبي رهينة، اختفى فجأة:
ــ ' أنا جزائرية، أعيش في باريس وأكتبُ لصحيفة جزائرية ' قلتُ.
ــ الجزائر؟ أجاب بابتسامة خفيفة على شفتيه، 'يا أهلا بالجزائر' أضاف.
حكى لي باقتضاب عن ما عاشه في هذا البلد الذي، يبدو، يحمل له قدرا من الانجذاب ومن العرفان. ثمّ بعد ذلك تحدّثنا عن شعره.
من النظرة الأولى بدا لي محمود درويش متعبا جدّا. كنتُ أحسّهُ منهكا، موهنا. كان في أعماق عينيه شيء يشبه الحزن، نظرة ناعمة ومتعبة في آن جعلت أحاسيسي، في فسحة قصيرة، قصيرة جدّا من الزمن، تتحرّك وأدرك وجود أشياء مشتركة بيننا، أشياء لا أستطيع أن أسمّيها ولا أن أعيّنها. ليس إلاّ لاحقا، خلال الأمسية، وأثناء الاستماع إليه ينشد أشعاره بطريقة مهيبة، في قاعة غاصّة استسلمت غريزيا لفتنة الصّمت التي لا تُقاوم، فهمتُ أنّ نظرته وسعت ألما يبدو أنّه يفلت من كلّ إدراك بشري. خلتُ أنّي أرى في نظرته سيماء رجل مجروح. أجل، مجروح في أعمق أعماق كيانه. رجل تخترقه الزوابع التي خرّبت حقله الداخلي، رفع الكلفة مع الهزائم، مع الخيبات، مع الجراحات، مع، مع، مع ...، أيّة آلام مزّقت هذا القلب الهشّ إلى هذا الحدّ!
بالتطلّع، بالتحدّث إليه، أحسستني ضائعة في نظرته التي كانت تتكلّم عن منفاي، عن تيهاني، عن لا فهمي لهذا الكمّ من العنف ومن الحقد، عن فوضاي الليلية والنهارية التي تبحث، بلا كلل، عن إعطاء معنى لإحساس الخوف الذي، بلا انقطاع، يخنق قلبي التعيس المتعب من فرط هذا القدر من المراوغات الذهنية والثقافية.
بالتطلع إليه يحيا في هذا الفضاء من الكلام ومن السّحر، ضعتُ في نظرته العميقة العذبة جدّا والتي جاءت لتقلب كياني خلسة. تركته يفعل ذلك. كلاّ، لم أرد مقاومته لأني باستسلامي إليه، وجدتُ ذاتي. وبعثوري على ذاتي، لم أستطع منع دموع عيني لأنّي في هذه اللحظة من الانخطاف ومن النشوة، لم أتمالك نفسي من التفكير في عائلتي التي ظلّت في الجزائر، هذا البلد الذي لا يكف يتخبّط في تيه شيزوفريني. لم أتمالك أيضا التفكير في كلّ الفلسطينيين الذين يعيشون على حافة الأزمة القلبية، دون نسيان بالطّبع كلّ أصدقائي، رجالا ونساء، المقيمين بمخيم شاتيلا ببيروت، وآخرين يعيشون ويستمرون في العيش في مكان يأخذ هيأة عالم مغلق مليء بالحطام له مفعول الصّدمة الكهربائية. فضاء حياة، الأزقة فيه ضيقة ومنفرة، المساكن مبنية بشكل عمودي والجدران مكتظة بالرسومات والكتابات التي ترمز إلى حياة المخيم. وهموم السكان من كلّ نوع تعطي للزائر الذي لم يُنبّه إلى هذا الواقع إحساسا بالإختناق، بالضّيق وبالحزن العميق.
محمود درويش؟ رجل مهذّب بشكل حقيقي. رقة، رصانة، حسّ احترام الآخر ... عيناه كانتا جميلتين، نظراته كانت عذبة ومثيرة. عند انتهاء الحفل، لم أمسك نفسي من أقول له: 'رائع جدّا'، وهو ينظر مباشرة إلى عينيّ، قال لي باللغة العربية:
ــ من ؟ الشاعر أم الشعر؟
ولأنّي لم أتمكّن من مقاومة هذه الفتنة المجنونة المنبعثة من هذه الابتسامة المرصّعة بالنّجوم ومن هذه الكلمات التي تسيل من فم تروبادوري، أجبتهُ:
ــ الإثنان!
يا لها من جرأة! فاجأتُني أقول لنفسي.
في هذه اللحظة كنتُ سأهب أيّ شيء لأجل أن أضيع بين ذراعي من خلق قصيدة الحبّ
المدهشة 'ريتا والبندقية'. قصّة الحبّ النّاقصة، الخائبة. 'آه ريتا /بيننا مليون عصفور وصورهْ / ومواعيد كثيرهْ / أطلقت نارا عليها .. بندقيهْ /إسم ريتا كان عيدا في فمي / جسم ريتا كان عرسا في دمي / وأنا ضعت بريتا ..سنتين / وهي نامت فوق زندي سنتين / وتعاهدنا على أجمل كأس واحترقنا / في نبيذ الشفتين / وولدنا مرّتين!'
أجل، أضيعُ، أضيعُ فقط بين ذراعي هذا الرّجل الذي هو، بالنسبة إليّ أسطورة، ألوذ بخفّة روح أبياته الشعرية التي تقودني رغما عنّي نحو إحساس الحريّة المدوّخ، نحو انعدام الجاذبية الذي طالما تمّ نشدانه بإلحاح!
الآن، الوقت رخو. الشاعر ما عاد يغنّي أبدا، أجل، صمَت. صوته توقف عن الحركة، عن الجريان، عن الوثب، عن الارتجاج، عن الإثارة، عن المداعبة، عن اللّثم، عن إحداث الحزن، عن جعل الحكاية المعقدّة بسيطة، حكاية تواصل الرّكض بلا توقف في متاهات الحكاية الكبرى التي تبدو متعبة من فرط تلاحق الانعطافات.
الشاعر؟ صمَت حتما في ليلة بسبب قلبه الذي تخاذل غير متحمّل ثقله. يا لكلماته، لصوره، لاستعاراته، كم تزن وهي تسافر الآن عبر الفضاءات المتحرّرة من حدودها البليدة، عبر الزمن الذي يترك نفسه يذهب نحو سحر هذه الآلاف والآلاف التي تغنّي كما تتنفّس، هذه الأصوات المتعدّدة والمتنوّعة التي تحمل رسائله عن السّلام والحبّ والتي تحرص على أن:
'في وسعنا أن نغيّر حتمية الهاوية! '(قصيدة طباق)
التغيير؟ نعم. والشاعر؟ إنّه الآن وحيد. من سيُؤانسه؟ أسيشخ إذن وحيدا دون أحد يتكلّم معه؟ على من سيستند؟ على من سيعتمد؟ أسينام وحيدا في هذا الغاب الشاسع المسكون بقوى مظلمة تبدو أنّها تلاحقه وتطارده حتى في نومته الأبدية؟ من سيمسح دموعه حين ستسيل بغزارة؟ من سيدفىء روحه التي تموت في الضوء الشاحب للغسق؟ من سيقدّم له أنباء عن أرضه، مسقط رأسه وعن هذه الزيتونة التي تنتظر بلا ملل عودة شمس الربيع العذبة والغناء التليد لعصافير تحتجب عن النّظر لتبكي؟ من؟ من؟ من؟ قلْ لي من؟ من سيضمّد جراحات قلبه المقتول؟ من سيهدّىء من لياليه الموجعة؟ من؟ من؟ من؟ ...
24 أيار/مايو 2009
عن صحيفة المواطن الجزائرية