في ضيافة القصيدة:
ما أذكر عن لقائي بالشِّعر أنّه تمَّ في لحظة متوتِّرة من وعيي بالحياة وشرطها الإنساني. لنقُلْ كان نداءً هامساً وحاسماً من عبوري ذلك الوعي بما يشترطه من انتقال وجدانيّ ـ ذهني بين الأمكنة المتعيّنة والمحلوم بها، في لحظة من زمنٍ مشدود بسؤال الكينونة. لم يكن التعليم وطرق تدريسه العقيمة والجافّة للأدب يُحيطني بهذا الوعي أو يُرشدني إليه، لولا انفتاحي على خارجه حيث كتب الشعر اليتيمة تٌناديني، من أمكنةٍ أخرى، على صبواتي الوليدة من الحبّ إلى معاناته بما في ذلك معاناة صوغه لغويّاً. لقد بدأ تاريخ كتابتي للشعر في هذه اللحظة التي أحسسْتُ فيها برغبة عارمة وغامضة في التعبير كأيّ شاعر وجد نفسه في حياة صعبة أعزل إلا من لواعج سريرته. لا أقول إن المصادفة هي التي قادتني إلى القصيدة، بل الضرورة التي تتغذّى على شرطنا الإنساني، وأفكر في جان كوكتو وهو يصرخ: "الشعر ضرورةٌ، وآه لو أعرف لماذا! ". في هذه الضرورة وجدت نفسي متورّطاً في ضيافة القصيدة، أقترب منها وأُعانيها. أذكر الآن كيف كانت تلك الأيام الأولى لكتابة القصيدة تتقاسم معي عمري الجميل والصعب في آن، والتي كان عليّ أن أتعلّم آداب ضيافتها منذ تلك اللحظة.
كانت قراءاتي للشعر العربي تتنوَّع بين القديم والحديث، فتعرّفتُ على سحر الجاهلية، وحداثات المتنبي وأبي تمام والمعري العابرة للأزمنة، ورقّة شعراء الغزل في نسج رؤاهم للحبّ ومعاناته، وفيما بعد ـ تحت شعورٍ بالعجب والصدمة ـ تعرّفتُ على حيويّة الشعر الحر في عبوره إلى العصر وحداثته ونهوضه بمتخيّل شعريٍّ جديد، وعلى مفارقات محمد الماغوط وأمل دنقل ومظفر النواب وأحمد مطر الساخرة في نقد الواقع السياسي والاجتماعي، وعلى شعريّات محمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس وقاسم حداد وأنسي الحاج وسركون بولص العابرة بالشعر العربي إلى الكونيّ. كذلك تأثّرت باختيارات الشاعر من أصول فلسطينية وجيه فهمي صلاح والشاعر محمد بنعمارة في برنامجيهما الإذاعيين "مع ناشئة الأدب" و"حدائق الشعر"، حيث يُلقى الشعر شفويّاً، ويتصادى مع صوتي اليتيم. وأمّا حظّي من الشعر المغربي فكان ضئيلاً، إلّا ما وقع بين يديّ ممّا كان يُنشر متفرّقاً من شعر شعراء غذّوا في نفسي شعوراً بهويّتي الجريحة، من أمثال محمد الحلوي ومحمد بن إبراهيم وأحمد المجاطي، وإن كانت أشعار فنّي "العيطة" و"الملحون" الأصيلين أبلغ في وجداني؛ ثمّ سرعان ما انفتحتُ على الشعر الفرنسي وسواه من أشعار العالم مترجمةً إلى العربية، ولاسيما في مجلّتي "لوتس" و"الكرمل".
جيلٌ بين قرنين:
لم يكن عُكوفي على الشعر، قارئاً وكاتباً، يتمّ خارج وعيي بعصري بقدر فهمي لمعطياته وأحداثه وهزّاته وزلازله في نهايات القرن العشرين، التي كانت تُقدّم، بالنسبة لي، علاماتٍ مضطربة ومحكيّات يائسة: أحداث84 و90 الاجتماعية بالدارالبيضاء وفاس، التي فجّرها واقع الفقر والاضطهاد بالمغرب. صمت المثقفين المطبق أو استقالتهم أو استخذاؤهم بعد "سنوات الرصاص". جنازة العاهل الحسن الثاني المهيبة التي أعقبها كشف حقائق مريعة. مآسي القضية الفلسطينية بعد أوسلو. الحرب على العراق وحصاره. المنايا المتقاربة لكلّ من عبدالله راجع وأحمد الجوماري وأحمد المجاطي وأحمد بركات، وانتحار كريم حوماري الفاجع. دويّ قصيدة النثر في المشرق والمغرب. منفى اللغة العربية. تراجع دور الأدب في المجتمع. صعود الأصوليّات من كلّ نوع. زحف العولمة في ظلّ انطلاق التكنولوجيات الجديدة التي بدّدت النزعة الإنسية، وحطّمت أطراً في الفكر والثقافة، ممّا ترتّب عنه ظهور أجيالٍ أدبية وفنّية جديدة لها صيغ أخرى في التفكير والرؤية والإحساس، وإن كان كثيراً لم يسلم من مثالب التهافت والسرعة والتجهيل، ومن صرعات "قتل الأب". ولقد بات الكثير مقتنعاً، قبيل ساعة من رحيله، بجنازات نهاية القرن العشرين ومآتمها وزلازلها، عكس تفاؤل البداية والصورة الطليعية التي ارتبطت به. ولم تكن بداية الألفية الجديدة إلّا نتاجاُ طبيعيّاً لمقدّمات قرن قيامي كالح، وإذا أوحت إلينا بشيء، فها هو مدبوغاً على ورقنا الذي نتنفّسه حزناً وإيلاماً. لذلك، لا يُخطئ القارئ أن يكتشف هذا المناخ من اليأس والاغتراب حيناً، ومن السوداوية والشعور بالعبث حيناً آخر، ذلك الذي يطبع شعر الجيل الذي أنتمي إليه، والمولود في بحر السبعينيّات.
في هذا المناخ، هناك الذّات فقط. الذّات المتشظّية، لكن المنفعلة والمركّبة التي تشي بهشاشتها، وتطفح بغيارات صوتها الحميم، وتنزع نحو المجهول، وقد ولّت ظهرها للمعضلات الكبرى، وعكفت بدل ذلك على ما يعجّ به اليومي والعابر والهامشيّ والخاصّ من تباريح ونقائض وتفاصيل وإيحاءات، مرتفعةً بانفعالاتها واستيهاماتها وعلاقاتها وحيواتها إلى مستوى أسطرتها، وبالتالي شخصنة متخيّلها الشعري. ونتيجةً لذلك، برزت رؤى شعرية جديدة في نصوص هذا الجيل والجيل الذي سبقه، تعكس في مجملها إمّا وضع الاغتراب واليأس والحزن التي تتملّك الذات، أو استقالة الذات من الواقع ونفض اليد عن إلزاماته وحاجياته، أو الرغبة الطافحة بالحب والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود، أو التوق لتحقيق التوحُّد مع المطلق. لكنّ قليلاً من أفراده من عبر إيقاع التحوّلات وفكّر في ذاتيّته خارج الخطاطات المعروضة، فخرج ظافراً بقصيدته، وأكثريّتهم حاصرت نفسها في ضرب من التنميط عديم الموهبة والجهد الفني، فتشابهت تشابه الرمل.
لقد فجّرت "التجربة الشعرية الجديدة" في المغرب جماليّاتٍ كتابيّة جديدة، وعكست فهماً جديداً لآليّات تدبُّر الكيان الشعري، ممّا يمكن للمهتمّ أن يتتبّعه ويتقرّاه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور منذ أواخر التسعينيّات، ونُشرت على نفقتهم الخاصة بسبب غياب الدعم والعماء الذي ووجهوا به، أو في إطار سلسلة "الإصدار الأول" الذي أطلقته وزارة الثقافة بعد ردح من القهر. من تلك الجماليّات:
- العزوف عن المعضلات كبرى والهواجس التاريخية والسياسية الحرّى، والعكوف الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم، وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها الأشياء، العالم والمجهول.
- النزوع المستمرّ، في إطار قصيدة النثر، إلى بساطة القول الشعري، الانفتاح على السرد وجماليّاته البانية، كما الاعتناء بالكتابة الشذرية.
- إدخال اللغة الشعرية في شبكة علائق معجمية وتخييلية جديدة قلبت نظم بناء الدلالة.
- الاهتمام بهوامش الجسد وفضّ مسمياته المختلفة، بهذا البعد أو ذاك.
لكن نصوص التجربة في كثيرٍ من هوامشها لم تسلم من تشوُّهاتٍ في الخلقة والنموّ لا تزال تُعاني منها حتّى اليوم، طالما أنّها كانت معرضة للإهمال والنسيان والصمت بسببٍ من أنّ النقد انصرف عنها إلى شعر الروّاد بأسلوب اطمأنّ إليه من المجاملة والمحاباة، وإذا التفت إليها ظلمها ودفع في اتّجاه تأويلها تحت هذه اليافطة أو تلك، بنيّة النبذ والسخرية. أما الأنطولوجيات التي كانت توضع، من حينٍ إلى آخر، فقد صارت موضة تكرّس ما هو مكرس.
وإذا أردنا أن نحصر لانحةً أولى لجيل "التجربة الشعرية الجديدة" بالمغرب، أمكننا أن نذكر: كمال أخلاقي، رشيد منيري، يونس الحيول، منير الإدريسي، محمد مسعاد، نبيل منصر، منير بولعيش، الكنتاوي لبكم، محمد أحمد بنيس، محمد المسعودي، عبدالسلام دخان، سعيد ياسف، محسن أخريف، عبدالحق ميفراني، نجاة الزباير، عبدالغني فوزي، عبدالدين حمروش، مزوار الإدريسي، حسن الوزاني، أحمد العمراوي، أمل الأخضر، مصطفى غلمان، أحمد الدمناتي، عبدالرحيم الخصار، طه عدنان، علي العلوي، محمد بشكار، جمال الموساوي، أبوبكر متاقي، ياسين عدنان، عبدالرحيم كنوان، صباح الدبي، فؤاد أفراس، محمد أنوار محمد، إبراهيم قهوايجي، لبنى المانوزي، عبدالإله الصالحي، لطيفة المسكيني، احساين بنزبير، جمال بدومة، نفيس مسناوي، رشيد منسوم، عبدالهادي روضي، فاطمة الزهراء بنيس.
وأيّاً كان، يحقُّ لنا، في العقد الأول من الألفية الثالثة، أن نتكلّم عن ألفيّةٍ شعرية مغربية جديدة بما للزمن من استحقاقاتٍ، تأتي عبر ما تراكم في مجال النّوع الشعري والإضافات التي شهدتها القصيدة العربية المعاصرة.
عبورٌ في تجربتي:
بصدد تجربتي الشعرية، فهي لا تزال فتيّة لا تذّخر جهداً للتعلّم والإصغاء إلى زمنها، كيما تبقى متيقّظة وحيّة. ولعلّ الروافد التي شكّلت تلك أقانيم تجربتي، فيما أرى، متنوّعة ومتجاذبة، منها ما يعود إلى التراث الشعري العربي، ومنها ما يمتح من اتّجاهات الشعر الحديث والمعاصر. وعلى العموم، أنا أنتمي إلى شجرة الشعرية العربية الأعرض التي تضرب بأطنابها في عمق التاريخ واللغة والثقافة، وما طفقت تجدّد آليات عملها الكتابي والتخييلي، وتأويلها الخصيب للذات والعالم. أنتمي إلى النصوص التي تحمي العمق، وتتطور داخل جماليات اللغة العربية. وهكذا، أزعم أن الصفحة التي أخط فيها شعري هي، سلفا، مسودّة بحبر أولئك الشعراء الذين أتقاسم معهم ميراثاً عظيماً من الحبّ والمسؤولية. وداخل هذا الانتماء الأعرض، أتعلّم كيف أنصت إلى ثقافتي المحلّية التي هي جزء أساسي ومختلف داخل الثقافة العربية الإسلامية. من ثقافتي المغربية، بجذورها الأمازيغية والإفريقية والأندلسية، أسترفد متخيّلاً مصطخباً يدلّني على التنوّع الذي يُلهمنا الحياة التي نتوجّه إليها، ويجعل الهويّة التي نتكلّمها أو نحلم بالعبور إليها دائمة التحوّل. من هنا، يهمّني التعبير عن روحيّة الشعر المغربي وروائحه وأمكنته ورموزه وهواجسه. ولا أفهم شاعراً مغربيّاً لا يعبّر عن ذلك، ويظلّ مغترباً في الأشباح بحثاً عن حداثةٍ مزعومة أو خلاصٍ كاذب. ومن الدالّ أن أذكر، هنا، أنّ أوّل قصيدة دشّنت بها ديواني"لماذا أشهدت عليّ وعد السحاب؟"، موسومة ب"مرآة أبودا وما فاض عنها في اللغة الأمازيغية"، ولم يكن هذا الديوان باكورتي الأولى، فقد سبقته بواكير أخرى كانت مسودّات ضمّت أخطائي الأولى، ووحيي الأول، ولغة عبوري الأولى، وقد مزجت أمشاجاً من الرومانسي والواقعي وأشكالاً من العمودي والرباعية والموشح والتفعيلة، لكنّها ضاعت منّي لكثرة تنقُّلي بين الأمكنة.
في ديواني"لماذا أشهدت عليّ وعد السحاب؟"، والديوانين التاليين "ما يُشبه ناياً على آثارها" و"ترياق"، أحاول قدر الإمكان أن أطوّر تجربتي، بدءاً من الغنائية التي أعمل عليها باستمرار بجذريْها العاطفي والرمزي، وانتهاءً برفْد المتخيّل الذي يدفع بالذّات إلى أقصاها في مخاطبة المطلق عبر وجوهٍ وحيواتٍ وعوالم متعدّدة، بهذا الشكل أو ذاك. فلا يعنيني في الأشكال التي اُكبّ عليها بقدر عنايتي بإيقاع الذات والعمل عليه داخل البناء النصّي الذي ترفده موسيقى هامسة من الإيقاع، ويسهم فيه تنويع التراكيب، مثلما عنايتي بالتصوير الشعري وإدارته في إطار من الحوار الخارجي الذي يستبطن الحالات الشعرية المختلفة، وهي تشفّ عن ذاتيّتي وشرطها الثقافي والوجودي.
لنقل هي تجربة تتنامى في عبورها الخاص، وفي انتباهها الخاص، منحازةً أكثر إلى كتابة تشفُّ عن ذاتٍ تعاني عزلتها، وتواجه هشاشتها، فيما هي تطفح بالحب والغناء والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود والأوهام. بهذا المعنى، لا أنسى أن أحتفظ بقدر من التفاؤل الذي لا يُعمي الرؤية، ويترك الوعد بلغة الحياة مستأنَفاً، على الدوام.
- نص الشهادة التي قدّمها الشاعر المغربي عبداللطيف الوراري في إطار احتفاء بيت الشعر المغربي بالتجربة الشعرية الجديدة، يومه 19 دجنبر 2009 بالدار البيضاء.
22 ديسمبر 2009