منذ سنوات - يمكن القول طويلة - والحياة الثقافية العربية تعيش في طقس من الندب لا ينتهي، وهي تتحلق حول جثة (الشعر العربي). ولإحساس الجميع بأن (الميت) كان يحتل مكانة على غاية من الأهمية، فإن (حفلة الندب) ما تزال قائمة، بحيث لم يفقد كثير من المفجوعين بالفقيد حرارة بكائهم.
لكن تأكيد هذه الصورة، أو نفيها، يحمل المعنى ذاته. فالذي يؤكد أن الشعر مات ينأى بنفسه بعيدا، بطريقة غير مباشرة، وينأى بشعره، ويبدو وكأنه الحي الوحيد في مدينة الأشباح. والذي ينفيها، ينأى بشعره أولاً، بطريقة غير مباشرة أيضا، ويبدو أنه سيد الأحياء.
كيف يمكن أن ننفي هنا.. كيف يمكن أن نؤكد؟
هذا هو السؤال.
لكن الفرار من سوداوية الحالة، ليس هو الحل الأمثل.
إذا ما حاولنا التحديق في المسيرة الإنسانية، فإن ما يمكن أن نراه بسهولة، هو أن عمرها الذي يمكن إن يحسب هنا بالقرون، ليس زاخرا بالشعر في كل لحظة من لحظاته، فثمة مناطق معتمة، كالثقوب السوداء في الفضاء، لا نعرف عنها شيئاً ولم تحمل لنا برعماً واحداً، والحياة العربية عاشت مثل هذه الحالة، وتصحَّرت الروح تماماً لفترات طويلة، وكان انخفاض منسوب الشعر قد وصل إلى أدنى درجاته.
من مات أولاً.. الشعر.. أم الروح؟
هذا هو السؤال.
لقد عانى البشر في تاريخهم، وعصفت بهم حروب وأوبئة، مجاعات، وزلازل كوارث سمعنا عنها، وكوارث لم ينج أحد ليقول لنا ما حدث تماما، حتى باتت كلمة شعر وسط ذلك كله، ترفاً مبالغاً فيه. ولكن من رمم ذلك المشهد كله، ومن وضع اللبنة الأولى، مُعْلناً انتماء الحياة للضوء لا للظلمات.
اليدُ أم القصيدة؟
هذا هو السؤال.
لم يتجاوز عمره خمسين سنة بكثير حتى الآن، ولكنه استطاع أن يقدم خلال عقوده الخمسة هذه، إنجازات لم تعد خافية، حتى لقد تكرر الحديث عن المستوى الذي بلغه الشعر العربي الحديث، مما كَّرسه نموذجاً متقدماً لما بلغته القصيدة في العالم، بحيث يمكن القول الآن: إن لدينا مخزونا شعريا هائلاً، يمكننا العودة إليه متى شئنا ودراسته متى شئنا، واغتراف التنوع الإنساني والفني من أعماقه، والحياة على ضفاف ينابيعه إلى زمن طويل قادم. فهل استنفدنا هذا الشعر، قراءة ودراسة، حتى نعلن انتهاءه، أم أننا انتهينا قبل أن ينتهي بزمن طويل، وهل كانت قدرة هذا الشعر على حَرْق المراحل والتجاوز السريع لذاته في فترة زمنية محدودة، وطرح ثماره الكبيرة جزءاً من الحس العام بأنه لن يعطي أكثر مما أعطى، وان الشعرية العربية غدت بلا رحم، وغير قادرة على إبداع ما هو أبدع مما أبدعته. وان لا مكان سوى للنهاية في هذا المشهد الواسع، وكيف لا يخطر بالبال أن يأتي، أو أن يواصل أحدهم هذا الطريق، متكئا بكامل روحه المبدعة على ما أُبدعَ، ليقدم ما هو أًبدع؟
هذا هو السؤال.
ونسأل، هل ثمة فرصة يمكن أن تلوح لهذه الأجيال المحترقة بناء غربتها وهزائمها هذه الأجيال الجديدة التي يلوح تشكّلها، وتتبرعم أزهار أو أشواك تجارب روحها المطعونة بالتهميش والتغيب، وعدم القدرة على التفوه بما في فمها من كلام، وقد حُشيَ بما لا تريد أن تقوله أو تسمعه أو تغنيه. هل ثمة فرصة تشبهها حقيقة، كما كانت هناك فرصة وزمن يشبه القصائد التي كتبها الرواد، بحيث أصبحت قصائدهم هي الزمن ذاته، وأحلامها هي وقْعُ وحنين البشر، حيث كانوا يملكون الأحلام والحنين وغير معنيين بطول المسافة بين الحلم واليد، والزهرة وأريجها؟!
ومن يستطيع الجزم، بمنطق يأسه أو جبروته، أن الحياة لن تنجب شعراء بعد الآن، وأن البشر لن يحموا قصائدهم التي لم تكتب كما يحمون أحلامهم التي لم تتحقق، ولسنا الأمة التي حققت كل أحلامها لنصل إلى نتيجة أنها ستتجاوز دون رجعة الشعر بما يعنيه من قيم كبرى، وهل يمكن أن يصبح الشعر ذكرى، مجرد ذكرى كأيام الجوع أو الحب الأول؟
هذا هو السؤال.
يحير إذن، هذا الاصرار على الإجابة، خاصة ونحن في منتصف أو قلب المشهد المأساوي لانكسارنا المتسارع.
لقد تكررت الجملة المتعلقة بتوقف الرواد وكثير ممن جاؤوا بعدهم، برحيلهم، أو بتوقفهم، إلى درجة لم يعد ثمة خجل من تكرارها مرة أخرى. ولكن ماذا عن شعر السبعينات والثمانينات، سواء ذاك الذي كتبه شعراء الستينات أو شعراء العقدين التاليين. هل ثمة إجابة نقدية حقيقية حول ما كتب خلال ثلاثين عاماً، وهي أكثر من نصف عمر الشعر الحديث. هل هنالك كتابٌ يدرسُ تجربة شاعر مهم لا خلاف عليه، تُرضي القارئ وترضي الشعر. هل هنالك دراسة حول حساسية القصيدة في هذه الفترة، لغتها، مشاغلها، طموحها، وما وصل إليه هذا الطموح. هل هناك دراسة لأثر الرواد فيمن جاء بعدهم من شعراء، وهل هناك دراسة أكثر جرأة في تأثر شعراء كبار بشعراء ليسوا نجوماً، وثمة شواهد كثيرة؟! ولماذا لم نبدأ بسماع الأصداء الأولى للبكاء المر إلا بعد مرحلة بيروت، وبدأنا بسماعه بوضوح أكبر خلال (الانتفاضة) حيث تصاعد الحس بالعجز، وبدا وكأن القصيدة وحدها هي المقصِّرة في مد يد العون للشهداء، فحُمّلتْ ما حُمِّلت من مسؤولية، وإذا بها في الحالتين متهمة: حالة الانكسار وحالة الانتصار الجريح. ولماذا لم تبلغ الحفلة ذروتها إلا بعد حرب الخليج و(سلام الشجعان).
فمن قضى أولاً نحن أم الشعر؟
هذا هو السؤال.
ونستعرض المشهد الثقافي على المستوى الفكري وعلى المستوى الإبداعي، فنسأل ما الذي لم يمت بعد، هل ثمة حزب لم يزل على قيد الحياة تماماً، هل ثمة فكرة واحدة يمكن التحدث فيها، أو رفعها عالياً دون أن يتبعها مئات الصبية بحجارتهم وأواني التنك وهم يعلنون جنونها، هل ثمة كيان يمكن القول إنه معافى، وهل ثمة إنسان عربي يمكن أن يواجه ذاته دون خجل؟
فما ومَن الذي لم ينهزم بعد؟
هذا هو السؤال.
والشعر أقرب كائنات الروح إلى الروح، وأكثر نقاطها حساسية وألفة، وفي تحولات كبرى كهذه، تُصاب المناطق الأكثر أهمية وحساسية وحيوية، وما حدث أن الشعر هو أرق وأهم مناطق الروح، وعمودها الفقري، الذي حين أصبنا، أصيب، وأصيبت الروح في عمق تطلعها لكل ما هو جميل وطيب وحر.
هل نشيع الروح هنا إذن أم نواصل القول: إننا نشيع الشعر؟
هذا هو السؤال.
ثم أن بشراً بهذا الانكسار، أين يمكن أن يبحثوا عن وردة في خرابهم، كي يصرخوا فجأة: إننا أحياء. وهل ثمة جيل يمكن أن نطلق عليه صفة الجيل، والأجيال كلها خُفِقَتْ جيداً في عصارة كهربائية هائلة؛ بحيث وصلنا إلى مرحلة ليس فيها سوى هذا الكوكتيل سيئ المذاق. ليس ثمة أجيال في هذه اللحظة، ليس ثمة ملامح واضحة، تعلن انتماء صاحبها لفئة عمرية محددة. وهل يمكن القول إن ثمة حكمة لم تزل في الشيوخ، وبسالة لم تزل في الشباب (غير أولئك الذين هناك، في ساحات استشهادهم)؟ بحيث يمكن أن نقول: إن بإمكاننا أن نرى جمالاً وسط هذا البؤس؟
هذا هو السؤال.
هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟
: نعم
ولكن هل مات الشعر تماماً.
: لا
كل ما في (حولنا) العربي، يؤكد موتا سريريا من نوع ما، لكن ثمة شيئاً هناك في الأعماق السحيقة يرفض الموت. هكذا يأتي … هكذا يأتون … هكذا يُكتب وهكذا يتطلعون لذلك الشيء الغالي البعيد، الذي يحسونه ولا يستطيعون تفسيره، ويحلمونه ولا يستطيعون القبض عليه. ذلك الجوهري فيهم، الذي هو بذرة الحياة وشمسها الخجولة. ذلك هو معنى الشعر الذي لن يصل إلى درجة الصفر أبداً.
قد يملك أحدنا إذن أن يعلن بالفم الملآن موت الحاضر؟ ولكن من يملك الجرأة واليقين الكامل ليعلن موت المستقبل؟
هذا هو الشعر.
وهذا هو السؤال.@