(1) لا بد أن هناك أكثر من طريقة للحديث عن التجربة، لكنني لا أعرف معظم تلك الطرق، فأرجو أن تسعفوا ارتباكي وأنا أقترح واحدة من الطرق التي لا أعرفها. ثمة ما يجعلني أميل إلى الاعتقاد بأن ما يحدث في الطفولة، هو ما نصادفه طوال الحياة في الشخص والكتاب. فالشاعر يتعرف على اللغة مثل الطفل، منبهراً بنعمة الحياة، مذعوراً بها في ذات اللحظة. لنبدأ بحكاية أحب أن أرويها لكم، وربما كانت هذه أمسية الحكايات. كنت في المرحلة الابتدائية، حوالي سنة 57، عندما لاحظ مدرس اللغة العربية محاولاتي في كتابة الإنشاء وشغفي بمعرفة المفردات الجديدة. وتفادياً لأسئلتي المتكررة عن معاني الكلمات، نصحني أن ألجأ إلى المعجم، ووصف لي (منجد الطالب) للأب لويس معلوف، إذا لم تخني الذاكرة. اشتريت المنجد، وفي الأسبوع التالي ذهبت إلى الأستاذ مباهياً بالمنجد، فلاحظ أنني كنت أضع إشارة في ثنايا الكتاب، سألني عن الأمر، فعرف أنني كنت قد بدأت أقرأ المعجم من الصفحة الأولى وقطعت قسماً منه مثل أي كتاب آخر. ضحك وهو يوضح لي أن هذا الكتاب ليس قصة، وأن المرء يعود إليه في وقت الحاجة فقط. كنت كمن وجد كنزاً جميلاً من الكلمات، فتعاملت مع القاموس كنص يستحق الدرس الدائم. أتذكر هذه الحادثة، الآن، لسببين. أولاً - لكي أعتقد بأن ثمة حساسية غامضة أسست منذ البدايات، شغفا مبكرا باللغة بوصفها جمالاً خالصاً في حد ذاتها. ثانياً - لشعوري بأن الكلام عن التجربة الشعرية لا بد له أن يتقاطع مع عنصري اللغة والإيقاع وبالتالي شكل الكتابة، كأسلوب حياة للشخص والنص معاً. لكن، كل ما سأقوله هنا هو قسم من حوار ذاتي كنت ولا أزال أجريه مع نفسي، كمن يستجوب تجربته، بآليات تتراوح بين الشك العنيف حيناً والثقة المبالغ فيها حيناً آخر. (2) منذ وعيتُ انحيازي إلى الكتابة الشعرية، صادفت سلطات تصدر عن تقاليد فكرية تضع المضمون في المقام الأول عند النظر إلى النص. وحتى عندما يجري الكلام عن شكل هذا المضمون فإنه يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وباستهانة لا تليق بالفن. غير أن اتصالي بمنظومات فكرية، تصدر عن تلك التقاليد، لم يتدخل (أعني لم أسمح لذلك الاتصال أن يتدخل) في صياغة كتابتي، فقد وجدت نفسي مأخوذاً بأهمية أن تصير طريقة القول عندي تجلياً ذاتياً وجمالياً. أعتقد أن الأمر كان مبكراً، فبعد صدور كتابي الأول (البشارة)، بدأتْ لديّ مشاعر عميقة، بأن الشعر هو سعيٌ دائمٌ إلى اكتشاف التجربة الإنسانية بحساسية تليق بها، وللنص أن يقول شكلاً جديداً. ربما كان هذا طموحي الفني الذي شغفت به، فإذا كنت لم أنجح دائماً في الذهاب إليه، فأرجو، على الأقل، أنني لم أكن قد تنازلت عنه. لقد كان عذاب المضمون في الحياة، وعذاب الشكل في النص، تجربة واحدة يصعب رصد تخومها. لقد نشأت مولعاً بشكل التعبير الفني، لإحساسي بأنه الدليل الأول على جمال الروح الإنساني في النص. وأظن أن هذا الواقع هو ما جعل النص - كما عبَّرَ البعض - يوحي كما لو أن الذي كتبه شخصٌ مختلف في كل مرة. أعتقد أن هذا أمرٌ مشوّق، أحلم بالفعل أن أكون شخصاً مختلفاً في كل مرة، خصوصاً وأن التجربة التي كتبتْ "قلب الحب" غير التي كتبت "الدم الثاني" أو "النهروان". أو "أخبار مجنون ليلى" أو "قبر قاسم". فقد كان عذاب المضمون في الحياة من الكثافة بحيث يجعلني أصدق (عميقاً) بأن تحولات الشكل هي استجابة صادقة لقلق الروح والمخيلة، فقد كنت أتعلم، محاولاً تعويض ما فاتني من الدرس. كنت أحياناً أسهر ليلاً كاملاً متلمّساً ملامح شكلٍ ما، لنصٍ محدد، ثم أنام ظاناً أنه الشكل. وفي الصباح أكتشف أن الشكل ليس هذا، أو على الأقل ليس هو الذي يمكن أن أسكن إليه مرة أخرى. يوماً بعد يوم، ونصاً بعد نص، أكتشف أن الشعر لا يكتب بهذا الشكل.. ولا بشكل لآخر. (3) هل الشكل هو ما يقترح البعض تحديده في هندسة البناء البصري للنص. أم أنه ما يتصل بطريقة التعالم مع اللغة؟ أم أن لطاقةِ الرؤيا دوْرٌ فاعلٌ في منح النص شكلَه المنتظر؟ وأين يتقاطع شكل النص مع البنية الداخلية (الموغلة في التعقيد) لتكوين الشخص؟ لا أشير إلى مسألة الشكل والمضمون لكي أستعيد ما تجاوزته التجربة، لكنني أحاول مساءلة الرؤية الفكرية والفلسفية التي كنا نصدر عنها. ففي نفي الشكل دلالةٌ لما هو أبعد من شكلانية التعبير الأدبي، نفي الشكل كان نفياً للشخص الإنساني كفرد وذات، في مقابل ترجيح العمومية المتمثلة في المضمون، تحت شعار جماعية الرؤية، نفي الشخص هو، في العمق، نفيٌ رمزيٌ لفردية الإنسان ككل، والإنسان المبدع خصوصاً. ولعل أخطر ما كنا ضحيته طوال الوقت أن ذلك النفي الفلسفي لذاتية الإنسان كان نفياً غير واعٍ حيناً، وغير معلن حيناً آخر. وهذا ما سوف يكرّس في بنية الثقافة العربية بقية المفاهيم والمصطلحات التي تمارس تهميشاً واحتقاراً لكل تجربة إبداعية تصدر عن الذات وتذهب إليها. وقد أدى ذلك النفي إلى حرمان أكثر من جيل من التعبير الحر عن موضوعات حميمة مثل الحب، في حين أن الحب هو الشكل الجميل لحياتنا. وسوف يختلط علينا، في ذلك السياق الملتبس، المعنى الجوهري للأدب والفن، وبالتالي للثقافة بوصفها فعل تصعيدٍ للشخص الإنساني كذات في هذا العالم. (4) لست متعصباً لطريقةٍ في الكتابة، ولا أرى في الأشكال حدوداً. الاختلاف الإبداعي في التجارب هو الذي يمنح النص حريته الدائمة وجماله الخاص. وهو ما سيؤدي بالكتابة إلى اختزال المسافة بين الأنواع الأدبية، وتجاوز تخومها المستقرة الثابتة، ذهاباً إلى النص المفتوح، وهي تجربة أتاحت لي المزيد من متعة الاكتشاف الرؤيوي. في تجربة نص "الجواشن"، الذي كتبته بالاشتراك مع الصديق أمين صالح، ذهبنا إلى شكل تعبيري مفعم بالمكتشفات، ولكم أن تتخيلوا لقاء تجربة قادمة من القصيدة مع تجربة أخرى قادمة من السرد القصصي. تجربتان تشتركان في كتابة نص يختلف عن النوعين المستقرّين. لقد كان الأمر ممتعاً جداً وزاخراً بالجمال. لقد خرجنا من حلمين لنذهب إلى حلم ثالث. كنا في ما يشبه الانتقال بين غرف مختلفة في بيت واحد، هو بيت الكتابة. وعند العودة، في ما كتبت، إلى بدايات الخروج على حدود الشرط الفني للقصيدة، متمثلاً في النزع المبكر لمحاولة اكتشاف الشعر في ا لنثر، أجد أن محاولات بعض قصائد "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة" و "الدم الثاني" تشير إلى تململ فني غير مدرك آنذاك، تبلور، فيما بعد، بخروج مباشر عن التفعيلة منذ "قلب الحب" ثم "شظايا". الآن يمكنني تمثّل تلك التجارب كمرحلة تأسيسية لما يمكن اعتباره قلقاً يبحث عن آفاق التعبير الشعري. في البداية كانت مسألة التصنيف النوعي حدوداً تغري بالتجاوز، وفي سياق الممارسة الأدبية انشغلت بما يحررني من تلك التخوم، وأظن أن ذلك كان شكاً صارماً ومفيداً للتجربة، فمنذ اصطدامي باصطلاح (قصيدة النثر) لم أعد أثق في التصنيفات الرائجة، فثمة معتقدات سائدة في النقد الأدبي، تخضع لضرورة وضع التوصيف قبل الذهاب إلى التجربة. (5) بدأ التفلت من حدود القصيدة، التي أخذتْ تضيق على الأفق الذي تقترحه تبلور الرؤية والتدفق الشعري، مما دفعني إلى خارج الوزن وخارج التفعيلة، كما أن اكتشافي متعة حرية التعبير الفني وما تطرحه من مسؤولية جديدة أمام الكاتب، وضع أمامي إحساساً مضاعفاً بخطورة الأداة التي تستحوذني وأشتغل بها: اللغة. الاحتفاء باللغة، إذن، هو شرط أول لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنية وطاقة المخيلة لا تتحققان بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة. هذا الاحتفاء يشكل، في اعتقادي، طبيعةً أساسية عند الشاعر، وهي ضرورية لكي يجعل النص قريناً مخلصاً للشخص ومعبراً صادقاً عنه. سوف يتبلور هذا الشغف مع تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية: الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، المعاني، الاستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الموسيقى، تلك الموسيقى التي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقها أو تعبر عليها بضجيج خارجي عام، ورأيت في ذلك كبتاً لحرية الحرف، كوحدة وذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يرى في الحرف سوى جرس يمكن أن يصخب في نهاية كل كلمة وعند خاتمة كل قافية.. في ذيل الشطر أو التفعيلة. لقد خشيت من نظرةٍ تهمل جماليات اللغة وتحبسها في درجة الوظيفة. فيما كنت أتعلم، يوماً بعد يوم، بأن اللغة هي الطاقة التي أصوغ بها حياتي. لقد كنت أكتشفت تلك الطاقة الكامنة بلذة وشغف، وأجد في ثناياها روحاً شعرياً يضيء غموض الأفق أمامي، ليس على الصعيد الفني فحسب، ولكن خصوصا على الصعيد الروحي. في مراحل مختلفة من حياتي تلقيت دروساً قاسيةً أحياناً، ولكنها تبعث في الروح دهشة المعرفة وجمالها. ولم يغادرني ذلك الطفل الذي لا يزال يتذكر ملامساته الأولى مع اللغة (مثل ملامسة الحب). فبالإضافة إلى درس المعجم الأول، ثمة دروس لا تخلو من دلالة. ولكي لا أذكر هنا إلا الطريف منها، فقد نلت (علقة) لا تُنسى بسبب سوء تقدير لغوي. كنت في العاشرة تقريباً، وكنت أعمل مع أبي في دكانته. عندما أرسلني لكي أحضر الغذاء من الدار، فتأخرت في العودة، ولما سألني عن سبب تأخري، قلت له: لقد تأخرت أمي في إعداد الطعام لانشغالها بأخي الصغير المريض و (المتغلب). فما أن سمع كلمة (متغلّب) حتى نفض عدة الشغل وأغلق الدكان وهرع راكضاً إلى الدار. لكي يجد أخي يلعب في مهده. فاستدار يعاقبني لأنني أفسدت عليه يومه بهذا التعبير المرتجل. كلمة (متغلب) تشير إلى معنى لم أقصده بالطبع، فهي تعني، حسب دلالة متداولة عند العامة، أن أخي يغالب الموت. لم أنس هذا الدرس المبكر أبداً، وقد تعلمت فيما بعد بأن اللغة، فيما هي ثروة كريمة، فإنها كذلك تنطوي على خطر فادح، إذا نحن لم نحفظ لها الحب والتبجيل. مواليد البحرين عام 1948، أصدر عددا من الدواوين والكتب النثرية منذ عام 1970 من بينها : البشارة، الدم الثاني، قلب الحب، القيامة، شظايا، انتماءات، النهروان، يمشي مخفورا بالوعول، عزلة الملكات، قبر قاسم، وصدرت أعماله الشعرية في مجلدين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2000، ومن كتبه الأخرى نقد الأمل، أخبار مجنون ليلى، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، الجواشن بالاشتراك مع أمين صالح. | (6) عندما لا يصدر الكاتب - في النص - عن تصورٍ/ مثالٍ، سابق يقلده أو ينسج على منواله، فإن مسؤولية الإقناع الفني تتوقف، عندئذٍ، على طاقة المخيلة والجمال. حيث ينبغي على الأدوات والعناصر المبتكرة أن تكون قادرة على بعث الروح الإنساني في شكل يليق بالحرية التي يزعمها. وينبغي أن يتشكل هذا الفعل في لحظتين: لحظة الكتابة و لحظة القراءة وهو شكل يشبه الأفق وليس قانوناً. الانزياح التعبيري عند المبدع عنصر فطري في الموهبة، وربما كانت هي واحدة من أهم مكوّنات الإبداع. وللشاعر حرية أن يتصرف، لحظة الكتابة، كما لو أن اللغة ملكية خاصة له. وإذا تيسر له أن يجعل مقترحاته تشعر القارئ، بأنه إزاء تجربة تأخذ الأمر مأخذ الجد، ولا تستهين بخطورة ما تفعل. فسوف لن يعود أمام التجربة إلا أن تثق في الأفق وتطير إليه بجناحين فاتنين: الموهبة و المعرفة شهوة الانزياح، على صعيد آخر، هي ضربٌ من التمرد الذاتي ضد الشرط الموضوعي للواقع. وبما أن أشكال التعبير المستقرة هي تجليات متماهية لسلطة الواقع وقوانينه، فإن الفنان سوف يعبّر عن ذاته المتمردة دوماً، ضد موضوعية المواصفات السائدة والثابتة، خاصة تلك التي تتحول إلى كابحٍ مركبٍ أمام تطلعات الإنسان المتغيرة يوماً بعد يوم. إن الذهاب نحو تجربة النص لا يشكل نفياً لأي نوع أدبي آخر. على العكس، ففي حضور كافة أشكال التعبير، قديمها وجديدها، حوارٌ إنسانيٌّ يمنح المشهد الفني تنوعاً وثراء. أكثر من ذلك، فإن التنوع اختبار لجميع الاجتهادات الفنية، لمعرفة قدرتها على التقاط لحظة الإنسان في راهن حياته، غير أن الأشكال ليست فوق مستوى المستقبل، فسوف يشاركنا قراء جديرون بالمستقبل أكثر منا. قراء قليلون، نادرون أحياناً، لكنهم مكتملو الحواس. قراءٌ، مثل جوهرة المرايا، يرصدون الأفق معك، يذهبون إليه معك، ويشكّون فيه معك. وحين يستفردون بالنص، تنتابهم نشوة الكشف، كأنهم في المستقبل. (7)
كنت ممن يشعرون بميل أليف نحو الإيقاع. حتى أن كتابتي خارج الوزن لم تغادر الموسيقى بشكل ما، ولا أزال أشعر بلذة روحية غامضة، في الكتابة وزناً. وأكاد أقول بأن مدخل أي نص أو تجربة هو دائماً لحظة كثيفة من الموسيقى. أظن أن للحس الموسيقي في التجربة صلة بالمكنون النفسي والاجتماعي المبكر. ثمة أساس أقدر الآن على إدراك جذوره الأولى، منذ الطفولة. فقد ولدت في بيت تقام فيه الطقوس الحسينية على مدار السنة وخاصة في عاشوراء. حسينية النساء الموجودة في دارنا هي جزءٌ من حياة العائلة. وكنت أسمع وأعايش البكائيات واللطميات ذات الإيقاع المتنوع والكثيف والمشحون بالتعبير المستعصي على الوصف، وكنت شاركت في تلك الطقوس منذ الطفولة، ويستحوذ إيقاع هذه اللطميات على ذاكرتي وذائقتي حتى الآن. في تلك الطقوس ثمة تمايز بين أنواع اللطميات، فلموقف السرد التاريخي صيغة وإيقاع يختلفان عن موقف وصف المقتل، وللندب روح غير روح الرثاء، ولإيقاع حسرة الدفن والسبي والفقد تصعيدٌ عاطفي يختلف عن لحظة استحضار القتلى. كما إن مواكب العزاء، وهي تجوب الطرقات، مثل حزن يختزل المسافة بين التاريخ واللحظة الكثيفة الراهنة، كان لها طبيعة تختلف في النوع والدرجة، فحلقات لطم الصدر لها إيقاع باهر منتظم وفاجع يختلف عن إيقاع (الزنجيل) وهو ضرب الأجساد بالسلاسل، فالمشاركة الشاسعة في هذه المواكب سوف تغني التنوع العميق للكورس الأعظم. كل هذه الطقوس كانت تشكل سياقاً روحياً لا يمكن تفادي تأثيره على طفل يستيقظ تواً على اكتشاف اللغة، ففي هذه الطقوس كانت اللغة تلعب دوراً جوهرياً ويومياً في التعبير عن تفاصيل تراجيديا الحياة والموت، حيث تتقاطع اللغة مع التاريخ المتعالي والأسطورة الشعبية، وتتأجج شهوة التعبير عن امتزاج حزن الشخص في العائلة بحزن الأزل في لحظة واحدة. كان المشهد أسطورياً خارقاً بالنسبة للطفل. في حقل آخر، سوف يُشحَذ الحس الإيقاعي (شخصاً ونصاً) من خلال المهن التي عملتُ بها وعايشتها منذ أن بدأت في الحياة العملية، وقد حدث هذا في سن مبكرة. حيث عملت مع والدي في الحدادة، وكانت لي عدتي ومطارقي الخاصة، وعشت في سوق الحدادين، حيث كان إيقاع المطارق يشكل جوقة متداخلة يستطيع المرء، بفعل الخبرة، أن يميز، عن بعد، حجم المطرقة ونوع الحديد المطروق، وما إذا كان محمياً أم بارداً، ومن المشوق أيضاً أن تنصت إلى الحداد وهو يتلاعب بالمطرقة حيث: ضربة على الحديد ضربتان على السندان وأذكر أن أحد الحدادين كان يبالغ في تنويع إيقاعه متلاعباً بمطرقته، بحيث يذهب إلى الطرق على صخرة يضعها بجانب السندان، زاعماً أنها نوع من الحجارة تشحذ المطرقة وتصقلها لتحسن تطويع الحديد الخارج من النار، وكان ذلك ضرباً من الاستمتاع وتبجيل العمل، بتحويله إلى طقس يزخرفه الإيقاع المبتكر الذي تخلقه مخيلة العامل. وعملت أيضاً عاملاً في البناء، حيث الإيقاع يتمثل في أغاني العمل وتكسير أنواع مختلفة من الأحجار (البرية والبحرية) فلكل نوع من الأحجار صوت مختلف عند تكسيره وإعداده للرصف. كما أن عملية رصف الأحجار الطبيعية، بمزاج البناء، يشكل إيقاعاً حسياً وبصرياً تقترحه ذائقة العامل نفسه. وأذكر أن (المعلم) الذي عملت معه في البناء. كان يستهجن الطابوق الصناعي، لفرط جاهزية أحجامه وأشكاله الرتيبة، لكونه يحرم العامل من لذة التشكيل العفوي والرصف الحر، مما يمنح شكلاً أكثر جمالية من التكرار الثابت والممل. بمعنى أن عامل البناء كان يجد ذاته في الإيقاع الذي تمنحه إياه حرية التشكيل. وعشت مع النجارين، صناع السفن، ويسمونهم عندنا (القلاليف)، وهي مهنة تتصل كثيراً بمهنة الحدادة مهنياً واجتماعياً. وفي اللغة: قلّف السفينة: خرز ألواحها بالليف وجعل في خلالها القار، مما يسمى : القلافة. العامل في ورش (القلاليف) يمكنه تمييز وقع المطارق المختلفة الأحجام على الأنواع الكثيرة من الأخشاب، حيث كل جزء من السفينة يتطلب نوعاً خاصاً من الخشب، والمحترف يستطيع أن يدرك عن بعد، بمجرد السمع، على أي نوع من الخشب يشتغل هذا العامل، ويعرف أيضاً حجم المسامير، وما إذا كان الخشب رطباً أم يابساً، بل إن بعضهم كان يستطيع تقدير مرحلة العمل، بمجرد سماع رجع المطارق على هيكل السفينة. أذكر أنني كنت أجلس في ركن بعيد على السفينة، في الورشة المحاذية لمدرسة المحرق القريبة من البحر، وأضع أذني على سطح الخشب لكي أصغي إلى الإيقاع الذي كانت المطارق والمثاقب اليدوية تزخرف به فضاء المكان. وكانت رائحة الخشب وإيقاع المطارق يأخذاني إلى النوم. وإذا أضفنا إلى هذا كله، ذلك الولع المبكر بأغاني الغوص والبحر المشهورة في البحرين والخليج باسم (الفجري)، أستطيع الزعم بأن للنزوع العميق نحو الإيقاع في كتابتي، جذر يتصل بالحساسية التي بدأت في التكون منذ اللحظات الأولى لتعرفي على الحياة بكل تجلياتها، وظني أن نزوعاً لحرية خلق الإيقاع قد رافق تلك التجربة. وقد منحتني لحظة التأسيس تلك بذرة الشعور بحرية العلاقة مع لغة التعبير عن الذات، مهما كانت آليتها، حيث يصعد الإيقاع ويتعمق كمفهوم يتجاوز الفيزياء، ليصبح أكثر شمولية ورحابة وعمقاً. لقد كنت محاطاً بتجليات الإيقاع من كل جانب مادياً وروحياً، وفي شتى مراحل حياتي. حتى أنني أجد في كل أشياء الحياة ضروباً من الموسيقى لا يمكن تفاديها. من كل تلك الأشياء البسيطة يمكن أن تتكون تجربة الإنسان، ويمكن للشعر أن يأتي من أبسط الأشياء وأكثرها تغلغلاً في التجربة. (8) كيف يمكنني الآن توصيف تلك الخبرات في سياق تجربة الكتابة التي صارت قرينة الحياة؟ أليس من شأن ذلك أن يشحذ الذائقة عند طفل يتعرف على اللغة من حيث هي عزف حياةٍ معروفةٍ بآليات غاية في التنوع والغرابة؟ ثمة حادثة قد تشي بدلالة طريفة تتصل بهذا الموقف. أذكر أنني بدأت أعرض محاولاتي الشعرية (أوائل الستينات)، على مدرس اللغة العربية آنذك، وكان قد جاء من الأردن تواً وهو الأستاذ عبدالحميد المحادين (الذي لا يزال صديقاً قريباً من تجربتي)، وهو بالمناسبة أول من اكتشف ميولي الشعرية وشجعني على الكتابة. وفيما هو يصوّب لي أخطاء اللغة والوزن في تلك المحاولات، سألته أن يعلمني شيئاً من بحر الخليل، فأسدى لي نصيحة، أخشى أنني بالغتُ في الالتزام بها. فقد قال لي: دع عنك البحور الآن إذا أردت أن تكتب شعراً. ويبدو أن ثقتي بحاسة الإيقاع جعلتني أتفادى تعلم تلك البحور، حرصاً على حس الفطرة، من أجل أن أقول فيما بعد: إذا كنتُ قد خرجت عن درس الخليل بن أحمد، فلكي أكون مخلصاً لدرس الشعر. (9) لقد تعلمت التالي:- في اللغة العربية (دون الوقوف عند حدود بحور الخليل) طاقة لا متناهية من الإيقاع، يمكن للشاعر أن يكتشف هذه الطاقة ويتمتع بجماليتها. كما إن التفريط في هذه الطاقة خسارة فادحة لا تعوضها العناصر الأخرى في الكتابة عموماً، وفي الشعر خصوصاً. غير أن الشاعر لا يخرج على جاهزية الحدود لكي يهرب من الوزن والإيقاع، على العكس، إنه يفعل ذلك لكي يتفادى سهولةً تستهينُ بطاقاته وطموحه الفائق. إنه يفعل ذلك، أيضاً، لكي يكتشف أخلاطاً جديدة من الموسيقى، تلائم روحه ورؤيته، في كل نص. الشاعر هنا/ الآن، يأتي إلى الكتابة عارياً من جميع الأدوات والآليات الجاهزة التي توفرت للشاعر العربي عندما طرح تجديداته الحديثة أوائل القرن العشرين. ولا ينبغي الاستهانة بما بين أيدينا من الاحتمالات. وإذا تمكنا من عدم التفريط بمنجزات ومكتسبات القصيدة الحديثة، وأطلقنا ما هو مكبوت في إيقاعية اللغة، بوصفها الطاقة الموسيقية المتاحة أمام الشاعر دوماً، سأنحاز دائماً إلى أهمية الموسيقى في النص، واشعر بأهمية (العزف) على ما لم يكتشفه الخليليون حتى الآن. ففي اللغة العربية سحرٌ لن يلامسه أحد مثلما يفعل الشعراء، هؤلاء الذين يؤسسون مستقبل اللغة اللانهائي. (10) بقي أن أشير إلى تجربة بعض الأعمال المشتركة مع مبدعين في أشكال تعبيرية مختلفة. وهي تجارب تشي بالنزوع لمساءلة أشكال التعبير الفني. فبعد تجربة النص المفتوح على أفق الكتابة، (الجواشن) وما تبعه. ستبدو تجربة التقاطع مع أشكال تعبيرية مختلفة الآلية والأدوات، مثل الرسم والموسيقى والمسرح والغناء، نزوعاً مضاعفاً في البحث عبر الأشكال. تجربتي مع الفنان ضياء العزاوي واحدة من أجمل التجارب المشتركة وأكثرها متعة، حيث حققنا معاً كتاب (أخبار مجنون ليلى) في عدة طبعات فنية وطبعة يدوية محدودة هي الآن قيد الإنجاز، بالإضافة إلى المعرض الكبير الذي عرض فيه ضياء العزاوي أعمالاً عديدة في مرافقة النص الذي كتبته برؤية مغايرة تماماً للروايات التي نقلتها لنا المصادر القديمة. فقد كتبت عن الحب والجنون والشعر من وجهة نظر شاعر عاشق يعيش الآن. تجربة أخرى، هي تجربة (وجوه) التي حققتها مع التشكيلي إبراهيم بوسعد والموسيقي خالد الشيخ، بحيث كان المعرض التشكيلي يصعد إلى ما يشبه العمل السينوغرافي الذي ترافقه الموسيقى والغناء الكورالي. وأظن أن التجربة اقترحت شكلاً جديداً في حقل التعبير كحوار إبداعي متعدد الأبعاد والرؤى، ومفتوح على المحتملات. هذا السؤال والبحث عن النص في الحياة، سوف يؤدي بالاكتشاف المتواصل لنصوص لا متناهية الأشكال في حياتنا. لكن، هل ثمة مسافة فيزيائية/ شكلانية بين الحياة والكتابة؟ هل جئنا إلى النص، نعرفُ عن الحياة بالقدر الذي نجهله عن الكتابة؟ إننا نكتشف الشكل، مثل الحياة، فجأة. لا نذهب إليه، لكنه يأتي إلينا مثل ثلج الأعالي. مثل غيمة هاربة من قاموس. ربما هو نفس ذلك القاموس الصغير البعيد المؤسس، القاموس الذي قرأته، ذات يوم، بوصفه نصاً محتملاً يقترحه الخلقُ على الخالق. (11) لقد ذهبتُ إلى أكثر من تهلكة (أسميها مغامرة لتدليلها)، تمنيت دوماً أن لا أنجو منها، فالنجاة هنا تعني النهاية. والذي يتذوق لذة الكتابة لن يستطيع أن يعود عنها. فكلما تقدم بي الوقت (في الحياة والكتابة) تأكدت من عدم قدرتي على الإخلاص لأي شيء في الحياة سوى الكتابة، وزاد يقيني بأن أجمل ما في العالم على الإطلاق هو الكتابة، خصوصاً إذا كنت حراً فيها. الحياة بعيداً عن الكتابة ستكون دائماً ضرباً من الذل والخوف في عالم عراء بارد شديد الوحشية. بدون الكتابة أكون شخصاً ضالاً. بالكتابة فقط أستطيع الزعم أنني أحيا. معظم أشكال النضال والمؤسسات التي عبرتها كانت قابلة للخذلان والانهيار والخسارة. لم يبق لي بعد كل ذلك غير الكتابة، القلعة التي لا تستطيع الحياة أن تهزمها.
كأنني أردت أن أختم حديثي بنشيد التبجيل لكي أبدو بريئاً من أخطائي... |