شهد الشعر العربي خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية تحولات كبيرة، وعلى أكثر من مستوى، وبرزت ظواهر جديدة، ليس بالضرورة أن تكون كلها ذات حضور يدفع بالقصيدة إلى مزيد من التطور، كما أن الأحداث الكبرى التي شهدناها، تركت أثرها الواضح على مسيرة القصيدة وموقع الحلم في حياتنا. وفي ضوء هذا كله تزايدت الدعوات لعودة القصيدة إلى ما نسيته أو أهملته، إلى الحميمي المغيب والذاتي والتفاصيل اليومية، كما لو أن القصيدة العربية لم يكن قد سبق لها أن احتفت بهذه الأشياء، ومنذ انطلاقتها في نهاية النصف الأول من القرن العشرين.
كما شهدت الحركة الشعرية العربية شيوعا غير عادي لقصيدة النثر، وانشغل كثير من المثقفين بالظاهرة أكثر من انشغالهم بالقصيدة نفسها، وذهبت بعض الآراء في تطرفها إلى أقصاه، حين حرَّمت على قصيدة التفعيلة الدخول إلى مملكة الحداثة، كما حرم أفلاطون دخول الشعراء لمدينته الفاضلة.
ولم تسلم قصيدة النثر من هجمات مضادة أخرجتها من مملكة الشعر في أحيان كثيرة. لكن توالي هزائم الحلم دفع بالقصيدة أياً كان شكلها إلى ظل لا يخلو من الضوء تماما.
وقد لعب بعض النقد العربي والصحافة العربية دورا كبيرا في تمزيق صورة القصيدة حين تم التعامل مع المواصفات (الجديدة) للشعر كيقين غير قابل لأي اختبار، حيث الأسود في جانب والأبيض في جانب آخر. وفي خضم هذه الحالة الملتبسة ضاع متلقي الشعر والتبس الأمر على عينيه وقلبه، ولم يعد قادرا على التقاط الفرق بين ما يمكن أن يعنيه ويسكنه، وما يمكن أن يضلل حواسه ويربك معاييره.
وليس هنالك شك في أن الشاعر العربي قد وجد نفسه لأول مرة في مواجهة سؤال الوجود كمبدع ظل يحتل واجهة المشهد لقرون طويلة، خاصة وأن عددا كبيرا من شعرائنا العرب قد عاشوا اللحظة الفاصلة الحرجة بين ما كانت عليه القصيدة وما آلت إليه من حيث مكانتها الكبرى والتفاف البشر حولها كما يلتفون حول النار في ليالي الصقيع.
ولا شك أن تسيب المعايير النقدية، بل وتراجع النقد، وتحول العلاقات الثقافية إلى نمط من العلاقات الاجتماعية المرهونة للعلاقات الخاصة، أو النفعية بشكليها المعنوي والمادي، وتوقف كبار النقاد عن حراسة التطور الخلاق، أوجد حقائق مختلفة تماما، واحتل الإعلام كواحد من أخطر قوى هذا العصر المكان الذي كان يحتله النقد كفعل ثقافي، وغدت صورة الشاعر أو الكاتب بوجه عام تنمو على صفحات الجرائد ووسائل الاتصال المرئية أكثر من تشكّلها ونموها في صفحات الكتب. وفي أحيان تم رهن المتلقي لحقائق إعلامية لا وجود لما يسندها على أرض الواقع، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة.
وسط هذا كله، أصبح لا بد من إعادة ترتيب المشهد من جديد، لكن الأمر ليس سهلا، إذ أن ما نشهده على أرض الواقع يشير إلى توالد متتال للتراجع الثقافي العربي، إما بفعل تردي الواقع اليومي والتاريخي لما يمكن أن يشكل صورة أخرى مختلفة ليومنا العربي، وإما بفعل تغير أنماط الاستقبال ووجهتها، حيث ترتحل العين بعيدا عن صفحات الكتب باتجاه الشاشة الصغيرة، التي تعمل التكنولوجيا بكامل طاقتها كي تجعلها أكبر، ربما لخلق مزيد من الوهم بالحرية.
ورغم أننا نتحدث عن الشعر، إلا أن زج البشر في الحلقة الضيقة الغالية المسماة رغيف الخبز، وارهاقهم بها، قد دفع بهم للبحث عن متنفس مضاد يجد صورته في كل ما ينأى بهم بعيدا عن حقائق يومهم القاسية. ولم يكن هناك أكثر توافرا وأقل تكاليف من ذلك الفيض الهائل من برامج التلفزيون.
لكن الفعل الثقافي كظاهرة مرتبطة بمعنى وجود البشر على هذه الأرض، لا يُسَلِّم بهذا، أي لا يستطيع أن يتوقف عند الحدود المرسومة بقوة هذا الرماد المختلف على درجة نصاعته من قبل البعض، وعلى درجة حلكته من البعض الآخر.
فحيث هناك حياة، تعمل الثقافة، ويعمل الإبداع، متكئا على جوهر الحقيقة لا على قشورها، ومتكئا على معنى الظاهرة لا على هوامش قوتها أو هوامش ضعفها.
* * *
(أفق التحولات في الشعر العربي) يأتي بعد كتاب (أفق التحولات في الرواية العربية) الذي أصدرته دارة الفنون مؤسسة عبد الحميد شومان، ويتزامن مع صدور كتاب آخر هو (أفق التحولات في القصة القصيرة)، وتشكل الكتب الثلاثة سلسلة ندوات مخصصة لهذه المحاور.
وسواء اختلفنا أو اتفقنا على حجم هذه (التحولات) إلا أن هذه الشهادات التي قدمها المبدعون، ومن خلال خبراتهم الكتابية والتي يصل عمرها أحيانا إلى أربعين عاما، تشير بوضوح إلى أن ثمة ما حدث ويحدث فعلا، إلى ذلك الحد الذي يجعلنا نحس بأننا عشنا زمنين مختلفين لا رابط بينهما سوى ذاكرتنا وهؤلاء الشهود.
وبعيدا عن أي أحكام قاطعة يمكن أن تدعي الحقيقة دون أن تمتلكها، تجاورت في هذه المحاور حساسيات إبداعية مختلفة، ورؤى متنوعة قد لا تلتقي بالضرورة، لكن هدفنا الأول كمؤسسة ثقافية أن تتحاور هذه الحساسيات والأشكال والرؤى على أرضية الاعتراف بالحضور والتحقق المؤهلة لاحتضان أسئلة الثقافة وأسئلة الإبداع وطموحهما، لا على أرضية النفي التي لا تعمل إلا على مضاعفة رقعة التصحر في أرواحنا.
لقد عملنا على أن يشاركنا في هذه المحاور مبدعون من مختلف الدول العربية، لكن الأمر لم يكن يسير دائما حسب أمنياتنا، إلا أن استمرار هذه المحاور أيضا كمشاريع ثقافية مفتوحة، ولا تنتهي بانتهاء صفحات محور الشعر أو القصة أو الرواية، يفتح المجال واسعا لاستكمال صور المشهد الثقافي العربي بالاستماع إلى شهادات أخرى في المستقبل القريب، تستكمل هذه الشهادات وتضيء جوانب أخرى من واقعنا الثقافي والروحي.
دارة الفنون
مؤسسة عبد الحميد شومان