| (1) يولد الشاعر انتحارياً، ويولد منتحراً، إنه كشاف غوامض، وغواص في وجود يظل مجهولاً وعصياً على الكشف. وهو في غوصه يندفع في مغامرة تأخذ شطر الخطر، وتهدد باللاعودة. وما يتحقق الشاعر إلا في تلك الاندفاعات الشعورية المتطرفة المعبرة عن نفسها في حالات متبدلة ومتغيرة سرعان ما تترجمها إلى شعر مخيلة رهيفة وعلاقة مع الكلمات لا تقر على نظام، ولا تأمن نظاماً.
لذلك يبدو لي، باستمرار، وبشيء من الإدراك الحسي أن الشاعر إرهابي، لما في علاقته باللغة والأشياء من تطرف وتمرد على رغم ما في مسلكه من علامات لطف، وبالرغم مما يسبغه حضوره في العالم، وعلى الأشياء من لطائف ونباهات.
إرهابي، بمعنى أن كلماته، صياغاتها، صور مخيلته، دلالاتها، إيقاعاتها، عنف الطاقة التي فيها، عناصر الإدهاش، مصادرها في اللغة، منطقه، سمات التوتر الشعوري الكامنة في الكلمات، حركة الجمال في ظلال لغته، اللحظات المجسدة كأسرار، كل هذا، وغيره أيضا، في أوقات وحالات من حياة الشعر وحياة الشعور، يملك أن يرهب. كم مرة قيل لشاعر كلماتك ترهبني؟ (2) يولد الشاعر مراراً. في كل قصيدة له مولد. وفي كل مولد له روح جديدة يهددها الموت. والقصيدة التي لا تختلف عن غيرها من قصائد الشاعر تنذر بموت روح من أرواحه. في دورته الشعورية (نظير دورة الدم) وفي الجينات التي تولد صفاته المائزة يسري طابعه الخاص. لذلك سوف لن تعني الكتابة شيئا مهما لشاعر ما لم تصدر بقوة وطغيان حقيقيين عن تلك المنطقة الأعمق فيه، حيث يسكن كائنه الأحب، شخصه الأول: الطفل النائم، المستيقظ، اللاعب، الدهش، الغاضب، المتفرج، الساهي، المتردد، الخائف، النافر، المستعد، الفوضوي، الأنيق(روحا)، المشاكس.......ولكن، دائما، العاشق النـزق، المتطرف. لا تتحقق الكتابة في أبهى حالاتها قبل الوصول إلى هذا الطفل المتواري فينا. وما يتم هذا لكائنات يعوزها نـزوع جامح(متطرف) علامته انحياز مطلق ونهائي نحو الحب، واستلهام للجمال هو في حقيقته شوق إلى الحرية. عند هذه التخوم يولد الخطر، وتتخلق المفارقة المأسوية من صدمة المعاكس والمخالف. (3) يولد الشاعر وفي روحه تسري محبتان محبة الحب كجوهر لا يموت ومحبة المحبوب كشخص ميت. من ألم الإدراك يتخلق الشعر، ومن علاقات الفاني بالخالد تنسج الموهبة فلكها في الشاعر. من فداحة وإشراق، ومن يأس هو كل ما يملكه مؤمن شكاك يتخلق الشعر. وما الجمال في شعر شاعر إلا لبوساً، أو نظيراً لتطرف الحركة في الشعور وعلامته ما يهز ويخضّ ويسحر. هنا، أيضاً، على هذا الصراط، يلتقي الخصمان الكبيران: الحياة والموت. ومن هذا العلو تهب روح الشاعر، وتتنـزل كلماته. وما يتناقض هذا، بالمعنى الجوهري والعميق للكلمة، مع صورة الشاعر شخصا مقيما أو مسافرا في العام 1995، ورهنية نظم ودول وقوانين وأعراف تصوغ وتثبت أوضاعا ومجريات مجتمعية وإنسانية(لا إنسانية) حديثة، فكلامنا ليس تصويرا لكائن نبوي، بل تصوير للشاعر رائياً ومقتحماً وُجودات وراء وجود مظهري تتكرر ملامحه، فهو-الشاعر- بداهة، كاسر قشرة ومخترق ألباب، شخص حي، يسلك كغيره في الشبكة المرئية، لكنه يتصل بحركة الأعمق والأكثر جوهرية في الكينونة، حيث يكون في وسعه الإنصات إلى الأشياء الهاربة بدءا منها في تجلياتها البسيطة ووقائعياتها الملحوظة (في اليومي وظلاله) وصولاً إلى ما تتيحه اختراقات الحواس من وصول إلى مصادر النعمة حيث يدرك المدرك من المعرفة بالحس وتنكشف الحياة السرية للأشياء. حيث النور ما يزال بصيصا في كنف ظلمة الوجود، وحيث يخفق الماء الأول للمخيلة. هل يبدو هذا التصور رومانطيقياً؟ ربما، إنما في مثل هذا الميل يتبدّى اللاذع مما لا طعم له والفاتر مما يتوهج. برق اللغة دليل إلى نفس تبرق. وفتورها علامة نفس رخوة خامدة. ومن ثم في ضوء كهذا نتبين الشاعر من لص الكلمات. (4) الشعراء الحقيقيون هم عندي أولئك الذين كتبوا شعرهم وهجست أرواحهم بالموت، وكادت أجسادهم تميل وتذهب بخفة وسعادة، ولم يفصحوا، في أي وقت عن رغبتهم في الانتحار، لكنهم عاشوا صراع الفكرة، بدمويتها القصوى، مع كل كلمة كتبوا. هؤلاء المتطرفون هم الشعراء. مع كل قصيدة، للشاعر هناك تجربة انتحار، ومشروع خلاص من الموت. فالموت له جاذبية استثنائية لا سيما عندما يرى فيه الشاعر وجها آخر لحياة تختزلها قصيدة تتوق إلى السيطرة على الزمن وإذابته في نسيجها:(ماضيا) كذكرى.(حاضرا) كذكرى.(مقبلا) كتوقع منذور لأن يتحول إلى ذكرى. هنا، في انشغال الشاعر بالهارب، ربما، يمكن الكشف عما هو عبثي في وجود الكائن بينما هو يقف على الزمن كحدوث متصل يرفعه الإنسان إلى مرتبة القدر في حركة الكلمات يتحول الزمن بكليته إلى حجر. ليكن ألماسا، لكنه حجر يطوح به الشاعر نحو الأقصى من الوجود، ونلمحه في الشعر كشهاب يندفع، ونسميه، من ثم، انخطاف القصيدة نحو جاذبية قوية. لكن الحجر ما يني يرتد عائدا إلى المدار كفلك مضيء مغر. هنا مشابهة ليس في أصلها اختلاف جذري مع حالة الصخرة التي يحملها سيزيف من الهاوية ويرتقي بها الجبل إلى القمة، حيث ما أن يضعها حتى تفلت وتعود فتستقر في القاع، وليعاود إلى ما لانهاية النـزول إلى الهاوية والصعود إلى القمة. طغيان الجاذبية، وعناد الأشياء يصنعان قدر الإنسان المضاد لحريته، وانفتاح الحرية على الموت. (5) ثمة بعد قصِيّ في نفس الشاعر. أصوات تهوّم وتناديه، كمثل أصوات حوريات البحر عند هومير اللواتي نادين أوديسيوس ولم يكن في وسعه الفكاك من سحر أصواتهن. وإن كان أوديسيوس أدرك إمكان المضي في المغامرة مع إمكان السيطرة على نفس ترغب أن تطيع إغراء الجمال وتستجيب لسحره، فطلب من رفاقه شد وثاقه إلى صاري السفينة عندما راحوا يقتربون من منطقة تلك الأصوات، فإن الشاعر هو ذاك المغامر الذي يبقى جسده حرا طوع حواسه، وحواسه حرة لتنجذب نحو تلك الجهة الغامضة فيه بكل ما يسكنها ويتحرك فيها من أصوات لا تحقق لشعره دون الوصول إليها، ولا وصول إليها دون الاستعداد للفناء فيها. بل إن شعر الشاعر نفسه هو ضوء ذلك الانغمار في غموض تلك الأصوات وما تمثله من تعدد في شخصية الشاعر إذ يستجيب لإغرائها، ويقد من هذا الإغراء ما يسميه النقاد بـ(سر الشعر) وجماله الغريب. وهذه الاستجابة تحمل المتعة مقرونة بالألم وشقاء الشعور. ومن على هذا المعبر المفتوح على المفاجآت يشارف الشاعر على الانتحار، وتتجاذبه في تلك الوجهة قوتا الحياة والموت على نحو ممزق. ولا فرق جوهريا بين حالتي أوديسيوس والشاعر، لأن أصوات جنيات الأول هي الأصوات التي سمعها هومير في ذروة تحققه في بطل ملحمته. فهل يكون، إذن، في مشابهة أخرى، مثل الشاعر في علاقته بنفسه كمثل الشخص المنتظر في الحكاية العجيبة، المنذور لفتح غرفة ظلت مغلقة لأزمان، فما تنكشف أسرارها إلا مع وصول ذلك الشخص استثنائي القدرة. وكما أن في أغنى الحالات التي تصوغها الحكايات العجيبة مثال من يدخل غرفة فما يخرج منها أبدا، كذلك في حالة الشاعر وكينونته ذلك التوقع المخيف من أن يحمل العبور بعيدا وعميقا في النفس مصيرا مأسويا. إن مغامرة الاكتشاف عبر النفس قد تقود عالما في الفيزياء إلى السيطرة على الذات ومحيطها معا، لكنها بالنسبة إلى الشاعر تحمل مخاطر الوقوف على نهاية العالم. مخاطر الانتحار. إن الشعر للشاعر تجربة قاتلة لمجرد كونه انفتاحا هائلا على العالم واستعدادا للفناء فيه، على اعتبار أن ما من تجربة ذات لهب قدسي ما لم يكن خوضها حدثا غير مسبوق، بكل ما يعنيه ذلك من صدامات وارتطامات للشعور وهو يرهف ويشف حتى ليكاد يذيب صاحبه ويسكبه في كل مرئية من مرئيات الوجود، فما تعود تستحق التجربة اسم المغامرة لو ظل شاعرها دون هذه الحالة. وذا ضرب ساطع من ضروب التطرف. (6) من هنا أيضاً، من تحول المرئي عن عاديته إلى غموض ينادينا لنكشف سره يتلغز الجمال، ومن هبوب الفراغ، من مغادرته شيئيته ليعبر الحواس ويتحقق كخلاء حي ينذرنا بولادة ما. يولد الشعر مفاجئاً ومدهشاً، ومخيفاً في طاقته وغموض خروجه من عماء الحواس إلى نور الكلمات. وما الكلمة، بعد ذلك غير نعمة تهدئ الروع لكونها تضبط ذلك الانفلات المخيف للروح، ذلك السرحان، ذلك التيه والهيام حد التلاشي في الأشياء، ومن ثم التحول فيها، ليس على نحو ما يحدث للدراويش والمتصوفة في انجذابهم نحو المحبوب الذي هو الحق، فما تقر عين الحبيب حتى يقر في محبوبه وقد أفناه الوجد، وإنما على نحو يبعث في الكائن مع كل تجربة روحا جديدا. فالكلمات في شعر هي نظام من العلاقات يمسك الشاعر عن خوض أبعد، فيستعيده إلى الحياة وهو يكاد أن يفلت، فلا تترك له أن يتبدد. فهي نظام له القدرة على إعادة التشكل في حيز من الاستقلال عن الشاعر يتضاءل ويعظم. وللشاعر مكابدته، وصراعه مع هذه القدرة، ولكنهما في حدود غير معينة نظام وتشكيل يصونان حياة الشاعر، يبقيانه في تخوم من الانفصال يمكن للأرض أن تستعيده منها! هنا، من تعقيد العلاقة بين الشاعر ومخيلته، والشاعر وقاموس ثقافته، وبين المخيلة والتجربة الإنسانية لصاحبها، في هذه الشبكة المركبة، تكمن الهبة في صورة قصيدة. ومن ثم القصيدة حقل دلالات التحقق والإخفاق معا، وما الرجوع بها غير دليل ناقص على:(.....الخلاص من الموت.....العودة بسلام.....إلى ماض آخر على صورة مستقبل، هذه المرة، إلى ما بعد القصيدة وقبلها. أيضا إلى ما ينسف وجودها تماما، للبدء من جديد في مغامرة أخرى). القصيدة، إذن هي الهبة الشقية. فأن يبقى الشاعر بعد ولادة القصيدة أن لا يموت بولادتها، أن لا يموت بموتها.. أن يقبض الثمن... أن لا يدفعه أبداً.. أن....أن..إلخ، ذلكم هو المأزق الوجودي الأفدح للشاعر، ودليل، بلا علامات، إلى محن لا تنقطع. | 7 عند آفاق كهذه نعثر في شعر الشاعر على بذرة الانتحار، حيث تختفي الكلمات وتولد الصور وحيث يتلاشى النحو ويولد الصوت، ويرى، ولكن من جهات لا مرئية، يصعب تحديدها. ننسى الشعر في سطوع الشعور كطغيان نهائي لجاذبية الروح وجمالات تفتحها على العالم. صور تخلب وتصدم، وأصوات تغبط وتقلق. ومن ثم سوف يخيفنا ما يبرق ويوسوس في هذا الذي نسميه الشعر، ثم لا نعثر له على قواعد نشد إليها جسده الزئبقي النافر على سطوح متوترة، ولا على تقاليد تسبق القصيدة كأثر يتيم.
إن كل شعر يذكرنا بنظير أو يحيلنا على مرجع له، إنما يعتوره خلل فادح فيه مقتله. القصيدة إذن، هي الهبة التي رجع الشاعر بها، وبواسطتها من انتصار على الموت. والغريب أن الشاعر سرعان ما يعرض عن هذه الهبة/المكافأة، ويبدو كما لو كان يتنكر للنعمة، ولمانحها، إذ يتحول انتباهه عنها، ويتهيأ لحدث آخر. لذلك ربما يشعر بعض الشعراء المرهفي الحس والذكاء بمشاعر مركبة ومتناقضة بإزاء قصائدهم. مشاعر تدخل فيها عاطفتا الحب والكره، وكذلك الخوف وربما أحاسيس هي غبطات جسدية هاربة. ولا غرابة في الأمر. أو لم يشبه شعراء ومعهم نقاد، لحظة ولادة القصيدة بذروة النشوة يكسر برقها الصلب. أو تكون القصيدة حقا أثرا مما هو خاطف في لقاء جسدين عاشقين؟ والسؤال الآن من كان الطرف الثاني في لحظة الشاعر عند ذروة الخلق؟ أهي امرأة؟ ذات أخرى؟ أم هي اللغة. كائنها السري؟ بعض الشعراء يعرض عن نشر شعره الجديد، فيهمله، ربما خوفا من أن يكون في هذا التشكل للشعر(في نظام هو القصيدة) قتل لأشواق الذات الشاعرة المتطرفة في طلب تحرر أبعد غورا وأنقى، وأكثر اتصالا بالوجود، أو بحث عن كمال فني ما نسبة إلى مثال لا تتضح معالمه، وهو مثال لم تظهر صورته في صورة القصيدة. لكن هل إن مثل هذا الطلب المستحيل هو شيء آخر غير طلب الموت! قصاصة في شبهة العلاقة بين الشعر والحب هنا درجة قصوى متطرفة، هائلة الضوء وظليلة، غريبة الأسرار. العاشق لا يذهب إلى حبه فهو ساكن ومسكون فيه، كذلك هو الشاعر لا يذهب إلى الشعر، كل ما يفعله الشاعر هو البحث عن الكلمات لتحمل عنه الشعر، لتنقذه من شعوره، لتتسع فتمتلئ بالفائض وكذلك بالناقص فيه، لتلطف به وتتلطف بالألم الذي يتركه شعور الشاعر بالامتلاء، بالفراغ والخواء بعدما يصب الشاعر نفسه ويصوغها في كلمات. لا يعوض ألم أن لا يعود لديك شيء، أن تصبح خاويا، إلا هذا المخلوق النابض في حياته المنفصلة عن حياتك، والذي نسميه القصيدة. لكن انفصاله مؤلم. ليس ثمة ما يشبه خروج القصيدة في كل مرة من ألم انفصال جسد القصيدة عن جسده المتخيل. وإذ يعود الشاعر إلى نقصانه بعد ولادة القصيدة، إنما يعود ليواجه حقيقة أنه لم يعد كما كان قبل أن تكون قصيدته. إنه الآن شخص مختلف: بدءا من جسده المتخيل سوف يختلف الشاعر عن جسده المتخيل. هل يرأف بنفسه؟ هل يحزن لأجلها، هل يندم؟ وبعد ذلك هل يقسو على نفسه فيدين لولادتها؟ إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال أو ذاك يحيل بالضرورة على منطقة النرجسية في الشاعر وهي مساحة تتعدد فيها صور حب الذات والهيام بها، صور محبتها وصور الرهبة منها. الصور التي قد تبدو لغيرنا فظة وغريبة، امتيازا يخص الشاعر، بينما هو مصاب وممتحن به. هنا، يخيل إليّ أن الشعر صورة قصوى من الصور الأكثر تلغيزاً للوجود، للحب بصفته درجة هائلة من الوجود المتطرف، من التطرف في استقصاء الآخر فينا، البحث عنه في مساحة وجوده وغيابنا، مساحة غيابه وغيابنا، أرض متقلبة لأعمال الشعور، أرض ثراء ظليل، ولامع، وثمار لا تعد ولا تحصى، لا تدرك لها أسماء. والشعر يريد أن يسمي، أن يغامر في أن يسمي. لكن الشعر على ما فيه من إفصاح هو الحالة السرية للحب، الحالة الأكثر حقيقية لما يكاد أن يكون وهما. وما الشطح والإشارة والقول وكذلك التصوير الشعري إلا بدائل موهمة وموهمة لأحداث ووقائع أصلية تجري في مكان قصي، سري، يدفع بها الشعور بين الكلمات ووراء الكلمات. إنها أحداث تجري في متاهة هي الذات وعالمها. أحداث هي، من موضعها القصي ذاك، النار المغذية لما نظن أنه هو شيء قائم في ذاته لكنه في حقيقته الخفية بديل من شيء آخر لا أمل في العثور عليه. القصيدة بديل من ضائع. وهكذا نأتي لنعرف الأسرار فنضاعف من ألم الجهل بها. قصاصة لشاعر بالكلمات تهدم شخصا، بالكلمات تستعيده من الموت. بالكلمات تفتح وجودا وتدخل، تغيب في زهرة وتظهر في أخرى، تنهل من الرحيق وتنهل من الموت الذي في الرحيق. ومن ثم تكون قصيدتك عسلا، لكن نهارك يمسي غريبا لأنه خرج إلى قصيدتك وتركك فارغا. لأنك خلو من كل روح، لأنك ميت في حياة القصيدة، ولأن حواسك الهاربة تعيش في الكلمات. الكلمات التي ما تنفصل عنك إلا لتؤكد أنها عدوك. الكلمات التي تخرج منك لتؤكد أنك لم تعد لها. ولم تعد لك، ولم تعد موجودا. الكلمات تحملني على التفكير بالشاعر: من الأكثر خطورة الشاعر أم القارئ؟ الشاعر يلعب بدمه والقارئ يتفرج. يلعب الشاعر بدمه لا لأنه يستهين بوجوده، ولكن لأن نداء غريبا، مسا غريبا يسري في دمه، ويهمس إليه، فيفتتن حتى ما يعود يطيق حدودا لجريان الروح في الجسد وجريانها في الأشياء. أهو "همس الجنون" ما يجعل الشاعر يلعب بدمه إذ يمسك الكلمات، أم هو منطق من فشل في أن يحرر الكينونة مما يأسر جمالها ويلجم اندفاعاتها. فلم يبق له إلا الكلمات؟ وعندما لا تبقى له حتى الكلمات، عندما لا تعود ممكنة، أو عندما لا تعود تكفيه، من الأخطر، أهو الأكثر ديمومة من الآخر، أم الأكثر خفة في عبوره وانقضائه؟ بالكلمات يثور القارئ بما يملؤه شعورا وضياء، ويذهب الشاعر إلى فراغه المعتم. قصاصة لقارئ لأي قارئ سأقول كف عن تذكر اسمي، وانس أنك عرفت هذا الاسم، انس وجودي، لأتمكن، أنا أيضا من نسيانه، اسمي ووجودي اللذين لا يكفان عن تهديدي. لا تفكر بي بالطريقة التي فكرت أنها تليق بهذا الشخص. الحقائق هي الأوهام. لقد امتلأت وهما، وملأتك. خدعتك بما خدعت به نفسي، ولم يعد ينقصني إذ أصل وأجد هذا اليوم مسجى في اختصار لا نهاية له. إلا أن أتمدد فيه، وأشبهه، أن أشعر بقوة أنني مريض مثله، أن أكف عن الاعتقاد بنضارة طالما هددني بها وجودي، فأغريت بها نفسي، وأغريتك، أيها القارئ الوهمي، القارئ الذي طالما توهمت، لم يعد يكفيني لأستحق عبور هذا اليوم، إلا أن أخون صورتي، إلا أن أتمادى في خيانة صورتي. قصاصة لمدينة ماذا نفعل في أوروبا في مدينة لا جبل فيها، وتحت سماء كالحة وواطئة. ماذا نفعل، ماذا نفعل، غير أن نستيقظ ونتحرك وننام، غير أن ننام ونحلم أننا في الجبل، وأننا ننظر جهة الصيف. نخرج ونخرج، ونعود، نصعد السلالم ونهبط السلالم. نختفي ويطول اختفاؤنا، ليكون في وسعنا أن نظهر بشوق وراحة ضمير، ننسى الأشياء، لنتذكر أننا نسينا أشياء وعلينا أن نتذكر ليكون لوجودنا مبررات كافية. ننتظر شخصا في الطريق. نترك شخصا ينتظرنا في المحطة. فبتمام السادسة. في السادسة تماما على رصيف المحطة، اتفقنا. لكننا لا نأتي، نتركه هناك في انتظاره الضروري، لنا وله، لتكون هناك قصة، دراما صغيرة، مادة للحوار، قصة يتكلم فيها ونتكلم ويتكلم آخرون، ليكونوا موجودين، وليجري التمييز بين اسم وآخر وبين مزايا وأخرى. ماذا نفعل في أوروبا تحت سماء عدوة، سماء ضد كل ما عرفناه من صفات السماء؟ ننتظر وننتظر وننتظر، شخصاً، كان بدوره صرف الزمن وهو ينتظر، ثم ما أن يصل حتى يكتشف أنه ما زال حيث كان. ثم نخرج وندخل، وعندما ننتبه نقلب القاعدة، فندخل ونخرج. ماذا نفعل في أوروبا، أي قدر حملنا على الثأر من أعمارنا بهذه الطريقة، أي انتقام من الذات أن نـزحف على هذه الأوروبا المترعة بالظلمة وأن نمشي في ظهراني هؤلاء الأوروبيين الذين ليسوا هنا إلا أن عسكرهم وإدارييهم ومؤرخيهم ما عاد في وسعهم احتمال ضريبة الدم الذي سفكوه في الشرق، والأحلام التي بددوا، ولا ضريبة اليأس من "الآخر"، وإذ نصل إليهم في ديارهم، بعدما رجعوا من قيلولتهم في صيف ديارنا الطويل، إذ نهجر سماءنا ونختار سماءهم، فأي خيار هو خيارنا إن لم يكن خيار الذي يرمي جسده في جسد عدوه، خيار المنتحر. نخرج دون أن نخرج، وندخل دون أن ندخل. نقف في المرايا ولا نجد أنفسنا. لا هنا هنا، ولا هناك هناك. وقت لا رجاء هنا ولا رجاء هناك. وها نحن لاجئين، وهاربين، نسمع العدو ونرطن بلغته، نحجم عن الولع بها، ليظل للغتنا فينا موقع القلب من الكائن، والنور من العقل. لكننا إذ تملأ بها الورق، نكتشف أننا نقتتل وأنفسنا حتى لا نموت وندفن في الورق. نملأ الورق الزائل بالكلمات الزائلة. قصاصة بين داخل وخارج هل يمكن القول بوجود نصوص شعرية عربية مهاجرة لها سمات وملامح مختلفة عن تلك التي ينتجها شعراء عرب يقيمون في أوطانهم؟عشرات الشعراء العرب يقيمون اليوم في أوروبا، بين لندن وباريس وبرلين وأمستردام وبروكسيل وغيرها. ويمكن رد هؤلاء الشعراء مجتمعين إلى خارطة الجماليات الجديدة في شعرية عربية حديثة قدمت انفجارها الكبير مع أواخر الأربعينات. ولو سلمنا بمقاييس الأجيال نسبة إلى عقود المعمول بها في النقد العربي فإن المشهد الشعري العربي في أوروبا يغطي كل "أجيال" الشعر الحديث من زملاء السياب ومعاصريه حتى(الجيل التسعيني) مع تحفظي الدائم على مصطلح "الجيل". وهذه الصورة المركبة يصعب تفكيكها، لو استمر الكلام على شعرية حديثة واحدة، فضلا عن أنه يصعب استقراؤها إطلاقا بالأدوات المعرفية والنقدية الدارجة. فنحن مع الشعر العربي الحديث برمته، في الهجرة والإقامة، نحتاج إلى وسائل قرائية جديدة ومبتكرة، وهو لم يحصل حتى الآن. فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى ظاهرة مركبة ومعقدة كظاهرة الشعر العربي في أوروبا. لا بد إذن من البحث والتنقيب والتأمل بوعي نقدي مركب، ولا بد أيضا من القول بـ(شعريات) بدلا من الاستمرار في توهم وجود شعرية واحدة: شعريات عربية متعددة عبر الجماليات الحديثة أولا، ومن ثم عبر الجغرافيات. وعلى النقد أن يتحرك ويستجلي أطراف الجسد الشعري العربي الذي انفجر وتوزع في مشارق الأرض ومغاربها، بصفته انفجارا يختصر ويلخص انفجار الجسد العربي في برهة تراجوكوميدية، أحداثها أغرب من الخيال، وأحط من المتوقع! يبدو لي أن وقتا طويلا سيمر قبل أن يجري استدراك ما استجد في الأدب العربي عن طريق هذه التي يحجم كثيرون عن تسميتها بـ(مهجرية عربية جديدة)! على أن السؤال الأكثر إلحاحا بإزاء هذا اللجوء الفكري والأدبي والفني والسياسي والإنساني العربي إلى أوروبا، هو حصرا حول المغزى العميق له. وما إذا كان أسفر(أو هو يسفر) عن إضافات معرفية تعيد تركيب صورة (الآخر)، بعيدا عن تلك الأوهام التي صاغها حول نفسه في الحقبة الكولونيالية، بما يساعد بالتالي، على معرفة أفضل للذات الثقافية والحضارية، على سبيل تحديد موقعها من هذا الآخر الذي لم يعد خرافيا، ولا موهوما. على أن السؤال حول وضعية الثقافة العربية، بين هجرة وإقامة، يحيلنا بالضرورة إلى خطورة ظهرت عوارضها في جانب من النقاش الثقافي، عندما طرحت أواخر الثمانينات بين الشعراء والمبدعين فكرة(الداخل) مقابل(الخارج) ورأى بعض أنه بات هناك(مهاجرون) و(أنصار) في ثقافتنا العربية وتقسيم يشبهه بعض بـ(أبناء السيدة) وبعض بـ(أبناء الجارية). وخطورة أن تنشأ معارك مجانية بين المثقفين المهاجرين من جهة، والمثقفين المقيمين من جهة ثانية، قائمة. بما يمكن أن يودي بالجدل إلى السطح، ويحرم من المضي إلى تساؤلات عميقة، تلامس غربة الإنسان العربي مقيما ومهاجرا، وتنفتح بالسؤال على كل ما هو حقيقي وجارح في اللحظة العربية الحاضرة. قصاصة في الكلمة والشاعر أميل بالخاطف فيَّ، لأنكِ الكلمةُ، ولأنني. لأن جمال التصوير توطئة الخالق لجمال الأعماق. بجسدي وزورقي أميل، ويدي التي لمست الموت ضوّت، لما تلفت، لما عبرت الصور وعبرت الأصوات وصوَّحتْ في الأرجاء عطرك الخاطف. تنبَّهتُ، كنت أميلُ بكِ، بما حملت به ساعة ذهب العبور إلى مصائرهم، ووقفت لقدري، بكتفي، للمرسل من نور العين إلى مشهد الماء وهو يختطف باليد، حفنات ويتفرط ليصير ملائكة. كنت أنت عند الماء في شغف ما برق، لحظة، في النأمة الهامسة كرجاء، في الملتقط من آخر الصوت، وقدمك التي صعدت بلا حس، كانت تصعد في الارتجافة، حتى أن الهواء كان يصل خفيفا، وينهار. وفي الهناءة، في الحيرة، في المدرك منهما عند الأرجوحة، بين هنا وهناك، الهواء كان يرتطم ويتكسر، ويضيء في الحركة، في الهرب والرجوع، في النهضة، في الميل، في وصول النسيان، في الرغبة وألمها، في التشظي، في وهم التكسر، في الرغبة، في ألم المساء، في وعد الساطع من سؤال الشمس، في الحصة الصغيرة، المختطفة، في الوقت، في الهارب، وفي الأقل منه، في كثير سميته الظلمة لأنني لم أجد له اسما آخر. ولأن الكلمة، هي الحيرة، العتبة المنتظرة، العتبة الفارغة، البياض الناظر حتفه في ماء أعمق، الكلمة الناظر أبعد مما يتيح الفم تشكيل السر. وما الخوف، هناك، على الميل الآخر، سوى خوف الخارج من الظلمة إلى النور. يدك التي مسّت اللؤلؤة قبضها الليل واستبقاها عند اللؤلؤة. قصاصة عن الشاعر والتجربة كيف يقرأ الشاعر قصيدته؟ وماذا يجد فيها خلال قراءته، هل يكون مثلنا نحن القراء، أم أن القراءة حياة أخرى لديه. عندما يتأمل الشاعر في تجربة كتابة شعرية سابقة له، بقصد التحدث عنها، إنما يفعل بشيء من المكر، بشيء من الوعي الإضافي على وعي ومشاعر سابقين كانا في أساس تلك التجربة، وبالتالي فإن مستوى نضج ملاحظاته وهو يتكلم عن تجربة كتابة قصيدة قديمة له قد تطمس بحذاقة هفوات فنية في شعره. ليس لأنه قد يقول ما ليس في قصيدته، وإنما لأنه سيقول ما في نفسه، لكن لأن في الطيات العميقة من كل قصيدة أسرارا ربما لا تتكشف لنا من القراءة الأولى، ولا تتكشف وحتى للشاعر لمجرد أنه كتب القصيدة. مع كل كتابة جديدة له يلاحظ الشاعر بغبطة، مخيفة أحيانا، تحقق شيء من تطلع فني وجمالي ورؤيوي سبق أن صبا إليه وشغله قبلا، إلا أن الأكثر حقيقية في الأثر الفني الجديد أن هذا الأثر يشكل "مقبرة" لتجربة سابقة لنفترض أنها صدرت قبلا في كتاب للشاعر، فبفعل كفاح شعوري بطيء متواصل، وبحث رؤيوي مستمر يتمكن الشاعر من قتل ما تؤسسه التجربة السابقة في مشاعره وفكره، ودفن ما جرى قتله في طبقة غير مرئية في الأثر الجديد، بل إن الشاعر يمكن أن يحس في أوقات ما عندما يمسك كتاباً يجمع قصائده الجديدة بكاء كتيماً وبعيداً للمشاعر والرغبات والتأملات الأولى البريئة التي كانت في كتابه الأول، فإذا بها تتلامح هنا في كتابه الثاني، أو الثالث، لكنها لا تنفصل وتستقل عن مشاعر وخبرات وتأملات ورغبات مرتبطة بالضرورة بقصائده الجديدة. هذه مسألة مخيفة بالنسبة إلى الشعراء، وربما لا يمكن لشخص، شاعرا كان أو قارئا مرهفا، مهما كان قريبا من الشاعر ومتفهما لأحواله، أن يتحسس ما يصيب شاعرا في لحظة اكتشاف كهذه. إنها مسألة تتعلق بصراع غريب من نوعه بين زمان ظنناه انصرم وزمان راهن ينصرم، باستمرار، وزمان سري هو زمن الفن يصل بينهما. إنها لعبة الوقت في علاقة الفنان بتاريخه الشخصي وخبراته الشعرية. وفي هذه اللعبة، فإن الأثر الفني(القصيدة)على قدر نضجه يبدو خصما ضعيفا أو قويا للزمن، وكذلك خصما وصديقا لكل ند(قصيدة أخرى للشاعر) ثم خصما قويا للشاعر نفسه. وهكذا تتحول المسألة إلى صراع ينتقل من جماليته إلى حالة دموية بين القصائد والزمان التي فيها، على سبيل الاستئثار بالزمن الآتي، وحيازة المستقبل. من هنا يمكننا الوقوف على فكرة طالما وجدناها غريبة وغامضة، هي فكرة الانتحار. انتحار الشاعر وانتحار الفنان. إن صراع الجمال في الآثار الفنية لفنان ربما يصبح-إذ يعنف ويشتد- العتبة التي تقوده إلى الانتحار.والغريب أن النقاد يفتشون "عادة" عن أسباب خارجية، وقد يكتشفون أسبابا مقنعة لانتحار شاعر. ومن ثم يتأسس على "ما اكتشفوا" واعتقدوا أنه الأسباب المرجحة لحالة انتحار جدل ثرثار حول انتحار الشاعر أقربه إلى الصواب لا يعدو أن يكون عنصرا ثانويا في شبكة الأسباب، وبدهي أن السبب يكمن في كونهم قلما تمكنوا من اختراق التجربة الفنية إلى أعماقها، لأن الغالبية منهم تقرأ في النصوص والتجارب ما تريد أن تقرأ، وترى فيها ما تريد أن ترى، فتبقى خارج النص، في نصوصها هي، أسيرة أولوياتها وضحية مناهجها. والقلة من النقاد هم أولئك الذين يخترقون الجمال الفني، وينفذون إلى عوالمه، ومن هناك يلامسون شيئا من مجهول النفس التي أبدعته ويتعرفون إليها، ومع ذلك فإن هؤلاء الأقرب برؤاهم النقدية من الخلق الفني طالما أبدوا حيرتهم الصادقة من فكرة انتحار الفنان. لماذا طرحت، هنا، فكرة الانتحار والموت؟ لأنها تشكل منذ السطور الأولى في شعر شاعر رومانطيقي الموضوعة الأكثر جاذبية وإغراء وإلحاحاً له في توحده بنفسه، وهو (الشاعر) لا يني يلبي هذا الإغراء، ويسلم نفسه إليه فيؤلف حضوره بألوان وأصوات ومناظر وتذكرات ومعاينات وأفعال قد تلفت بعضنا فيها شتى الموضوعات والاهتمامات، ويسحرنا ما فيها من غنى يأخذ إلى مناطق صوتية وصورية بعيدة عن تلك المنطقة: الموت. فنمر عنها، ولا نتنبه إلى حضورها. إنما، فجأة، وكما لو كان لغما أرضيا وقدما بلغته، تقع الحادثة المفاجئة ويتضرج الشاعر بدم التجربة، ولسان الشاعر العربي القديم هو لسان حاله في كل العصور: وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل هكذا سقط عبد الباسط الصوفي وتيسير سيول، وخليل حاوي وغيرهم من الشعراء العرب. وما الأسباب التي ظننا أنها هي التي قادتهم إلى الانتحار غير ذرائع لنا ولهم، أو هي "الشعرة القاصمة". إنما وراء تلك الشعرة جبال من الغم والأثقال، وأكمات غامضة تهيم وراءها نفوس تقطعت صلاتها بالعالم.
مرْكباتُ الروح تقبلُ والموتى يهبطون بالحصص من وقت إلى آخر يأتي رجال إلى أمهاتهم ويبكون لأن الغرف أكلت نساءهم. لأجل صلاح فائق في مانيلا كامل غموض الشجرة ولا أصوات للأبواب وهي توصد أو لارتطام الكثرة عند حدود اندفاعات الشخوص
*** كل ما يرى يرى لأنه، دائماً كان هكذا في تجدده واختلاطه، من خلال الغبش بمصيره المدهش. *** لأنه دائماً كان مُلوِّعاً كجلوس الأشخاص إلى جانبك أنت الذي لست أحداً ! أذكرها مراراً تلك التقرُّبات المغبطة للغرباء وهم يخلطون مصائرهم بمصيرك حصة من الشوط على أن الانصراف ظلّ يطويهم ويأخذك إلى صَدَفة لتراقب من المقعد الذي صار لك وحدك جنونَ الأهواء *** السرعات تمسخ المحال لتكون أشياء كثيرة حبلاً من الدانتيلا الضاحكة في المطر ما يهمُّ في مثل هذه الأوقات أن تكون هايز أو أكس بريدج منطقتي العالم ! أو أن يكون الحصان الأسود لأمير من ويلز، بَدَلَ هذا الباص، مطية السعاة أمثالي بحقائبهم الجلد ذات الرائحة ورسائل القلوب!؟ *** ما يهم أن يتُلى الرجاء همساً أو يشطب العاشق بابتسامة مادامت العناوين الضائعة هي مفتاح جنة السعاة. وحين يتحوّل المطر إلى دموع والطريق الكاملة إلى أناس سعداء، حين تتحول الأعطال إلى سكينة في انتظار اندفاعة مفاجئة من بين الأشجار يتوجب علينا القول: لنمحو هذه أيضاً. *** سوف تكون للجميع ذكريات طفيفة عن جمال النهار وشاعرية الممرات لأنهم اليوم أيضاً، نجوا من طيش القبلة وها هم يتسلّمون أنفسهم غير منقوصة ليسلّموها إلى القبر. أوهام شخص من وراء زجاج مضبب يستقبل أولاً بأول وحسب القاعدة المعتمدة في المطر موت الألوان. ابتسم للكرسي كن ودوداً نحو السرير اغمز الخزانة راقب الستارة. امتدح أناقتها فكر بالباب، لأنه يفكّر بك. هو حزين أيضاً. ولأنه فقد مرحه وصخبه، فكّر به. وفكّر بالخطى وراءه لاتبتئس إذا ما تكلّم الجدار كلماته الكافرة لكل رأيه !! فقط دع النافذة مفتوحة لأن روحك تتأهب، الآن، لترتفع. وشكراً من يضحك الموتى إذ يوارون وجوههم في الأزهار وأية فكرة خبيثة تضيء جماجمهم وهم يميلون ليهبطوا إلى بيوتهم الجديدة أنت لا أحد في هذا الشارع إطلاقاً أنت لا شيء لا صوت ولا صورة ولو شئت أنت -في أحسن الأحوال - حذاء بين الأحذية قميص ومعطف وشال يحملها هواء أكتوبر إلى جبل الثياب تفاح النهار، سطوعٌ في المطر دموع شجرة يفترسها الهوام وصيف يمر لا مبالياً تفاح المطر. شجرته متكأ شخص في ظهيرة. مركز دوران المنزل. السماء ترسل هداياها إلى المنازل. وفي الأثر المديد على التراب الأسود الطري المسيرة العابثة لدودة القز! الأطفال يطيرون في المنزل ومن باب المطبخ إلى الحديقة، مهجورة يبتعدون بالمضارب يتصادمون يكسرون الهواء ويطلقون الشكوى، لأن بائع النهار دكانه عالٍ وهم على العتبات الواطئة يحصون الأبواب. الأغصان فصّلت لهم أسرة وجاءهم الآباء بالوسائد الظلالُ، وحدها، أشفقت عليهم الظلالُ والأوهامُ. |