سيروان باران، واحد من أبرز الفنانين التشكيليين الشباب الذين عرفوا كيف يصوغون عالمهم المتفرد في الرسم، كما بترك بصمتهم الواضحة. مؤخرا كان في زيارة خاصة لبيروت، حيث التقيناه، وكان هذا الحوار.
* لنبدأ من الأول، هل لك أن تحدثنا عن نفسك أكثر؟ أين درست الفنون؟
ـ أدعى سيروان بران عارف، مواليد بغداد في العام 1968 متخرج من كلية الفنون الجميلة، جامعة بابل، في العام 1992. لم أستطع الانتساب إلى جامعة بغداد، التي كانت هي الجامعة الأم، بسبب أن معدلي لم يسمح لي بأن أدخل هذه الكلية (كنت بحاجة إلى درجتين إضافيتين بعد)، فقررت أن انتسب إلى جامعة بابل التي تعد أيضا واحدة من أهم الجامعات في العراق، لكنها خارج العاصمة بغداد. خروجي من بغداد، وابتعادي عن أجوائها، جعلاني أعيش في مناخ جديد، هو عيشي بين آثار بابل. وفي الواقع ان كلية الفنون الجميلة في بابل كانت تقع في وسط آثار هذه المدينة. أضف إلى ذلك أني خضت تجربة أن أعيش وحدي، بعيدا عن العائلة كما عن كل شيء. وقد أفادني ذلك كثيرا في التجريب، فكان الجو الحضاري الذي أعيش فيه، والذي يعود إلى 5 آلاف سنة تقريبا، مصدرا للإلهام ودافعا إلى رؤية الأشكال البدائية التي صنعوها، لأعمل عليها وأحورها على طريقتي.
هذه هي فترة الدراسة، وبعد أن انتهيت منها، حيث حزت المرتبة الأولى في الكلية، تم تعييني معيدا في كلية الفنون الجميلة في بغداد. درّست هناك لمدة سبع سنوات. بعد التخرج، تعرفت بشكل أكبر الى الحركة التشكيلية في بغداد التي كانت في قمتها، في تلك الفترة من التسعينيات. لم تكن الهجرات قد بدأت بعد، كما أن بغداد كانت تضم يومها ما لا يقل عن 300 فنان تشكيلي «منافس»، ينتمون إلى تجارب مختلفة، وإلى أجيال مختلفة. أعتقد أن الحظ حالفهم، إذ كانوا قد استطاعوا الدراسة في جامعات العالم المختلفة وحين عادوا إلى العراق، حملوا معهم تجاربهم الغربية. كانت المنافسة على أشدها بين هذه التيارات، وكان همنا، نحن المتخرجين الجدد، أن نجد موطئ قدم بين هذه الأقدام الكثيرة، أو أن نملك بصمة خاصة، نستطيع أن نخترق بها هذا الجو.
كانت التجربة صعبة، وأحيانا كنا نعمل لمدة 18 ساعة يوميا، أنا ومجموعة من الفنانين الشبان، الذين سافروا في أغلبيتهم اليوم إلى أوروبا، ومنهم من أصبح مهما هناك. في أي حال، كان قام في بغداد، سنويا، في الشهر التاسع، مهرجان للفن المعاصر، وكان على قدر كبير من الأهمية، لأنه يتيح لنا أن نعرض تجاربنا ونطرحها بطريقة معاصرة ومختلفة، حتى نستطيع أن نتميز. كانت هناك أيضا جوائز تقديرية، للفنانين المتميزين. في العام 1991 حصلت على الجائزة الأولى للفنانين الشباب، وفي العام 1994 حصلت على الجائزة الفضيّة للفن العراقي المعاصر. وفي العام التالي حصلت على الجائزة الذهبية. وشكل هذا دعما كبيرا لي في بداياتي. كنّا نعرض تجاربنا بجدية، وهي أعمال ذات أحجام كبيرة. كنا في بداياتنا وكنا نريد إثبات وجودنا، فقدمنا في تلك الفترة بين 1990 و1997، أهم أعمالنا. كنت أعمل في تلك الفترة على التعبيرية، بيد أني في الجامعة كنت أدرّس الفن الواقعي وبخاصة فن البورتريه. لكن عملي الخاص كان يرتكز على تحطيم الشكل الواقعي..
* قبل أن ندخل قلب هذه الحركة الفنية ومسارك الفني، دعنا نعد قليلا إلى الوراء، ما الفرق الذي كان موجودا ما بين جامعة بابل وجامعة بغداد؟
ـ الفرق كبير بينهما، أولا جامعة بغداد هي جامعة عريقة والكلية الأم، الذي درّس فيها فائق حسن وأهم الفنانين العراقيين مثل كاظم حيدر وخالد جادر وغيرهما. لكن جامعة بابل كانت مميزة بأمر مهم جدا: جميع الأساتذة والفنانين الذين درسوا في أوروبا وأميركا وعادوا بشهادات عليا، كان عليهم قبل أن يُدرّسوا في جامعة بغداد، أن يمروا في جامعة مستحدثة. أظنني كنت محظوظا، إذ وجدت أفكارا شبابية، أوروبية وغربية، بعيدا عن تأثيرات مدرسة بغداد وفائق حسن، لأن كلية الفنون الجميلة في بغداد وعبر فائق حسن، تشكل تأثيرا كبيرا على الفنانين. صحيح أننا تأثرنا به، والحقيقة أنني تابعت محاضراته لمدة سنة كاملة، في فترة الدراسات العليا، بيد أن جامعة بابل كانت تتمتع بروح شبابية عالية، والأساتذة هناك يحملون معهم تجربة تدريس جديدة، ويرغبون في إظهار طاقاتهم عبر التدريس. في الحقيقة، لا الجامعة ولا الأساتذة يمكن أن يصنعوا الفنان. الفنان يولد موهوبا والجامعة تفتح أمامه الطريق العلمي ليبتعد عن البدائية التي يعمل بها في مطلع حياته. صحيح أن الرسم يحتاج إلى عاطفة عالية لكن الأهم من ذلك هو العلم الذي يمكن من خلاله أن تخرج بعمل صحيح يؤثر بالمتلقي كما بعمل يحمل بصمته الخاصة.
* قلت إن الجامعة كانت وسط الآثار، أي كانت هناك هذه القيمة التاريخية لبابل. كم أثر ذلك في رؤيتك كفنان، على منظورك للأمور؟ كم لعب ذلك المكان دورا في أحاسيسك؟
ـ صحيح أنني كنت أملك حبا للحضارة العراقية لكن قبل دخولي الجامعة، لم أكن قد رأيت شيئا، ولم أحس بشيء. بعد دخولي إليها، وبعد أن كنا نخرج إلى الطبيعة كي نرسم، كنا نذهب إلى المناطق الأثرية. إنها مناطق تعود إلى 4 آلاف سنة، وإذا ضربت قدمك في الأرض، تخرج لك جرّة من باطنها. أول مفاجأة لي كانت ذات يوم، حين فكرت بأن أخرج وحدي وان اذهب إلى نمرود، لرؤية القصر، إذ يقال إنه برج بابل. قالوا لي في الجامعة إن الطريق قد يشكل خطرا ما، لأنه يجب أن امر على مدينة الكفل ـ وهي مدينة مهجورة، كان يعيش فيها اليهود منذ آلاف السنين ـ وبما أنها مهجورة، فربما تقع على المجرمين والسارقين والخارجين عن القانون، كما عليّ فيما بعد أن أسير في صحراء لمدة ربع ساعة. ذهبت وبعد أن قطعت هذه الصحراء تفاجأت بأن ثمة بناء عملاقا يصل إلى 400 متر. حين رأيت هذا البناء الطيني العملاق، شعرت برهبة كبيرة، وأحببت أن أسأل عن هذه المنطقة، فوجدت امرأة ألمانية كانت جاءت إلى هناك في بعثة تنقيبية في العام 1971، إلا أنها طلبت في ما بعد من الحكومة العراقية أن تبقى وتعيش في هذا المكان. فبنوا لها منزلا وبقيت تعيش في هذا المكان إذ نذرت نفسها أن تبحث وتنقب مجانا الى نهاية حياتها. تعرفت إليها وبدأت تعطيني فكرة عن هذا المكان. من تلك اللحظة بدأت أتحسس وأعيش كل ما هو موجود. بدأت أشعر بأني أعيش في جو صحي حقيقي، يمكن لي من خلاله أن أصنع فنا حقيقيا. هذا البناء العملاق، كان قد أصابه نيزك كبير. التفسير الديني يقول إنه نمرود وان غضبا من السماء سقط عليه، لكن في العلم كما قالت لي المرأة الألمانية، نجد أن نيزكا أصابه. في أي حال، أصبح هذا المكان مكاني المقدس الذي اذهب إليه كي أعمل، رسمت الكثير من اللوحات عن هذا المكان، تحسست الطين، وهذا ما أثر على عجينة المادة عندي.
* تقول كان هناك في جامعة بابل عدد من الأساتذة والفنانين الذين أتوا من أوروبا وأميركا وكانوا يملكون مفهوما جديدا. كيف أثرت بك هذه المفاهيم الجديدة، وثانيا، حين عدت إلى تكملة الدراسات العليا، عدت إلى بغداد كي تكون تلميذا لفائق حسن ومدرسة بغداد، أي عدت إلى أفكار كانت إلى حد ما ـ وكي لا أقول متناقضة ـ مخالفة للأفكار الجديدة التي تعلمتها في بابل.
ـ كانت جامعة بغداد تعلمك أن تكون رساما جيدا، أما الفنانون في بابل ـ وبعيدا عن أن يكونوا أساتذة ـ فقد جعلونا، منذ المراحل الأولى، نبدأ بالتجريب. أي صحيح أن ترسم بورتريه جميلا، لكنك لا تثيرني في هذا العمل. وحين كنا نشاهدهم يعملون كنا نرى أن مفاهيمهم بعيدة جدا عن مفاهيمنا. كانت تلك البداية الأولى لتحطيم الشكل وللتجريب. أعطتنا جامعة بابل مجالا كبيرا للتجريب، هذا أولا، أما ثانيا فنجد أن المنافسة في جامعة بغداد كانت على أن تثير فائق حسن، في بابل كانت مختلفة، أي بعيدة على أن تثير فلانا أو علانا. كانوا في بابل يدفعوننا الى أن نقوم بعمل يحاكي العالمية لا المحلية. أعتبر أني كنت محظوظا بذلك، وبخاصة أنه لم يكن هناك أي «نجم كبير» مؤثر بحيث يمسخ شخصيات جميع المتواجدين.
* ماذا قدمت لك دراستك مع فائق حسن، الذي يعد واحدا من أشهر الفنانين العرب؟ ما الذي تذكره عنه؟
ـ لم أدرس فعليا عنده، بل كنت أتابع محاضراته المفتوحة. وكان يرحب بأي شخص يأتي ليرسم ويعمل على أن لا يسيء إلى المحاضرة. كنت أدخل محاضراته أيام الدراسات العليا. والأهم أنه لم يكن يعطي الملاحظات. كانت طريقته تكمن حين يأتي ليهشم عملا، في إعادة بنائه من جديد. حين يكون لديك مئة طالب، فأنت ستجد ثلاثة على الأكثر يفهمون هذه اللعبة. أنا كنت أريد أن افهم اللعبة، أي كيف يهشم وكيف يبني. بعد المحاضرة كنا نستعيد ما قام به. هذا الفهم للتقنية، جعلنا نتمكن كثيرا من أدواتنا في اللوحة. حين كنا نأتي لنرسم لوحة، لم نعد نجد أي مشكلة في تأسيس اللوحة، أو إنهائها. واحدة من أهم ملاحظات فائق حسن كانت تكمن في قوله ليس من المهم أن تبدأ بلوحة جميلة بل المهم في إنهائها بطريقة صحيحة. من هنا كان هدفي أن أفهم كيف أنهي اللوحة بطريقة صحيحة.
* ألم يكن الفنانون في جامعة بابل يركزون على الطريقة في إنهاء اللوحة؟
ـ بالتأكيد كانوا يركزون عليها، لكنهم كانوا يركزون على كيفية إنهاء العمل المعاصر، لا العمل الواقعي. كان فائق حسن يعطينا جرعة كبيرة في كيفية أن نرى وأن نترجم على اللوحة. كانوا في بابل يجعلوننا نرى ونهشم وكيف نترجم اللوحة من جديد. هذا الفرق.
* هل نستطيع القول إنك بدأت في بابل مع اللوحة المعاصرة قبل أن تتمكن من اللوحة الواقعية أو الكلاسيكية؟
ـ كلا. لقد درست في بابل عند أهم الفنانين الذين تخرجوا من عند فائق حسن من مثل عبد السادة عبد الصاحب، رحمه الله، إذ توفي في حادث بعد سقوط بغداد. استفدت منه الكثير وكنت أعتبره نسخة من فائق حسن وقد أفادني في كيفية إنهاء اللوحة بطريقة صحيحة. بعد ذلك، في المراحل اللاحقة، كان هناك فاخر محمد الذي درّسني الألوان. قال لي «لا استطيع أن أضيف لك أي شيء، عليك أن تذهب إلى عند فائق حسن، لأنك بدأت تعمل بطريقة جيدة، فهو من سيضيف لك أكثر». وعندما أعطاني ورقة توصية، ذهبت لعند فائق حسن، قرأها لكنه لم يقل شيئا، حيرني موقفه أأدخل أم لا، فقال لي أحد الطلاب أن ليس ثمة مشكلة، أستطيع الدخول ومتابعته فلست بحاجة إلى توصية.
* هذه هي تجربتي الأولى مع فائق حسن. دخلت وكنت أعتقد أني متمكن من الرسم بطريقة جيدة، لكن عندما شاهدته يرسم، وكيف يبدأ باللوحة وكيف ينهيها، أحسست أنني كنت أعمل بطريقة بدائية جدا.
بأي معنى كانت بدائية؟
ـ التقنية التي كان يعمل بها فائق حسن كانت تعتمد على اختزال عال، بينما نحن لم نكن نعمل بالاختزال، بل كان يهمنا أن نصنع تفاصيل عالية حتى نصل إلى الشكل. اكتشفنا عندها، انه عندما تعمل ببساطة وبسرعة وبتوقيت معين تصل إلى أداء عال. هذا ما اكتشفته عنده. كان يعمل ويرسم بوقت قليل واختزال عال وكل شيء في مكانه الصحيح. هذه هي الآلية التي تعلمتها منه.
حين بدأت أعود إلى بابل، أصبحت هناك شخصا آخر، أصبحت آتيا من عند فائق حسن. حين كنت أرسم كان الطلاب يأتون لمشاهدتي لأنهم يرغبون في أن ينظروا الى تجربة فائق التي كنت أحملها. هذه التجربة أفادتني لوقت معين، إذ فهمت كيف علي إخراج اللوحة بطريقة صحيحة، كيف أتحسس عجينة الزيت. لم أكن أتحسسها من قبل، كنت أتحسس الشكل فقط. كذلك استفدت من كاظم حيدر، وبخاصة في كيفية تفكيره بطريقة إخراج اللوحة بطريقة معاصرة.
*ماذا تقصد بذلك؟
ـ كان مفهوم كاظم يختلف عن مفهوم فائق حسن. كان كل واحد منهما يعمل في واد. بدأت أفهم من كاظم كيف يعمل على السطح الملون وكيف يختزل الشكل ويعطيه أهميته. هذا اللعب، استفدت منه مثلما استفدت من الجميع. كنّا في مرحلة تجريبية، كنّا طلبة. بعد ذلك بدأت أشارك في معارض مع اساتذتي، وبدأت أعمل على المرحلة التعبيرية، على الأجساد المحطمة، وعلى مذابح النخيل. نتجت عن المعارك في بغداد مذابح النخيل فعملت على هذه الفكرة، أي كيف تقطع وتقع ارضا. بعد ذلك، انتقلت إلى الجسد التعبيري. وهكذا بدأت التجربة منذ العام 1991.
* تقول إنه بين عامي 91 و96، كان هناك أكثر من 300 فنان تشكيلي. كيف استطعت بين كل هذه الحركات التشكيلية، أن تختار المكان الذي تخرج منه؟
ـ أولا هذا الكم الهائل من الفنانين هو الحافز الكبير كي نجرب حتى نستطيع إثبات أنفسنا. كانت تجربة صعبة لأنك ستبدأ بالتأثر وحين تتأثر سيبدأ الانتقاد. كانت هناك حركة نقدية كبيرة في بغداد، كان ثمة نقد «يغسلك غسلا» لدرجة تصاب معها بالإحباط. كنا نفشل يوما، ونتجاوز الفشل يوما آخر. أعتقد أن أهم مرحلة عندنا كانت في كيفية مواجهة هذا الكم الهائل من الفنانين المحترفين. كانت مرحلة صعبة، لكن الفشل برأيي كان في أن ينسحب المرء إلى تجارب فنانين آخرين. بيد أنك إذا أخرجت العمل الفني بطريقة صحيحة، حتى وان امتلك تأثيرات من جهات عدة، وإن كنت صادقا في عملك، فلا بد لك مع الوقت من أن تتخلص من هذه التأثيرات وتبدأ بتجربتك الفعلية، شرط أن يكون الفنان يمتلك شيئا.
* كانت تجربة محلية، أقصد أن العراق كان تحت الحصار في تلك الفترة، أي لم تكن هناك إطلالات كبيرة على الفن العربي الآخر، أو على الفن الغربي، كيف كنتم تتفاعلون مع ذلك كله؟
ـ كما قلت، كان هناك الحصار الذي خدمنا ولم يخدمنا في الوقت عينه. خدمنا بأننا استطعنا أن نستثمر محليتنا الموجودة ونقدمها كتجربة إلى العالم. ولم تخدمنا لأننا لم نكن نعرف ما هي التجارب الجديدة التي طرأت في العالم، وكيف يفكر الناس، بأي طريقة. ما استفدنا منه أن جو هذه المجموعة، ما بين عامي 80 و90، كان الفنانون قد عادوا من أوروبا وكانوا ما زالوا يحملون أفكارا غربية. كانوا فنانين جيدين، وحين يعرضون أعمالهم كنا ندخل معارضهم كأننا ندخل معرضا في أوروبا أو أميركا. هناك أكثر من 70 فنانا محترفا جاءوا بتجربة تملك تأثيرات غربية. وعلى الرغم من ذلك يجب أن نعترف بأن ثمة قطيعة كانت موجودة، إذ كما تعرف فالفن يتطور بسرعة خارقة في العالم. لكن استطعنا أن نخرج عملا ونجد بصمة خاصة بنا، لكن للاسف لم نكن نستطيع عرض أعمالنا في الخارج كي يرى العالم هذه التجربة.
* حتى عربيا لم تحتكوا بالآخرين؟
ـ عربيا كنا نحتك قليلا، إذ كما تعرف كان السفر ممنوعا لمدة عشرين سنة، أي أنه عمر طويل
* بالتأكيد ثمة العديد من الحركات التشكيلية التي حدثت.
ـ حدثت ملايين التغييرات. أحيانا كانت أعمالنا تخرج من العراق.
* في أي سنة غادرت بغداد؟
ـ بدأت أسافر من عام 1998 إلى الوطن العربي محاولا عرض تجربتي.
* كنت تخرج بسبب عرض أعمالك؟
ـ أعمالي الشخصية والفردية، بدأت في تونس والقاهرة والمغرب والخليج. وبعدها أصبحت محطتي الأردن، أولا بسبب أن الأردن قريب الى العراق وأكثر الفنانين العراقيين كما الناس العاديون كانوا يذهبون إلى هناك ليستقروا هناك.
* كان من المسموح لكم أن تعودوا بدون أي مشكلة؟
ـ كان مسموحا. أتحدث عن عام 98، قبل ذلك كان من الصعب جدا القيام بذلك. أصلا كنت مرتبطا بالجامعة، ومن يرتبط بالجامعة كان ممنوعا من السفر، إلى أن غادرتها وأصبحت حرا، عندها استطعت أن أتحرك. إذاً، صارت محطتي الأردن، ومن هناك سافرت إلى العالم كي أرى وأشاهد.
* لو حاولنا أن نصف فنك ما قبل مغادرتك العراق وما بعد ذلك: كنت بدأت واقعيا، وبعد ذلك غيرت من أسلوبك، كيف تصف هذه النقلة، وبخاصة إذا تحدثنا عن معرضك الأخير الذي أقمته في سوريا؟
ـ في الحقيقة بدأت هذه التجربة عام 1992 وعرضتها يومها، لكن كما تعرف كانت بغداد تحت الحصار وكنا متمكنين من الفن الواقعي، لكن مفاهيم العائلة البغدادية أو المتلقين هناك كانوا يفضلون الفن الواقعي. كنا نمر بأزمة كبيرة هي أزمة العيش. كان راتبنا الجامعي 4 دولارات شهريا. كان هناك طلب على الفن الواقعي من قبل العائلات المقتنية للأعمال، إذ بدأت تطلب أعمالنا وتتوجه إلينا. من هنا أصبح العمل مستمرا أي عملنا في الواقعية، لكننا حين كنا نرغب في عرض تجاربنا لم نكن نقدم الأعمال الواقعية. كنا نعرض التجربة التعبيرية. أضف إلى ذلك أنه لم تكن هناك بعد المفاهيم عند المقتنين بأن يقتنوا تجربة معاصرة. هذا صحيح عملنا لفترة طويلة في الفن الواقعي، لكني لم أبتعد مطلقا عن تجربتي التعبيرية.
*هل نستطيع القول إنك كنت مجبرا على أن ترسم الواقعية لمئة سبب وسبب؟
ـ أولا أنا أحب الواقعية. والعمل التعبيري الذي أرسمه هو واقعي في أساسه حيث أستثمر الواقعية إلى التعبيرية. الشخصيات التي أعمل عليها تمتلك الخط والتشريح والجسد، وهذا يحتاج إلى إمكانيات الواقعية كي تستطيع أن تنفذها. ولغاية اليوم أحب هذا العمل وأعشق رسم البورتريه والطبيعة والحياة الصامتة. غالبا ما أعود إلى الواقعية، أشعر بأنه تمرين لي.
* تمرين كي تستعيد أدواتك؟
ـ أعتقد أنه تمرين للذاكرة فقط، حتى أريح دماغي وبالي.. لأن مفاهيم اللوحة المعاصرة تختلف كليا. أهم شيء في اللوحة المعاصرة أنها لا تملك توازنا، أي أعمل على الفراغ لأوازي الكتلة. في الفن الواقعي هناك قوانين صارمة عليك أن توازن في الكتلة الصحيحة. اللوحة المعاصرة لا تمتلك هذا ناهيك عن الاختزال والشكل واختيار الشخصيات الخاصة بي.
أعتقد أن الواقعية عندي بدأت تتطور، ابتعدت عن التصويرية، أصبحت معاصرة. إنها واقعية حديثة.
* في واقعيتك هناك الكثير من الانكسار في لوحتك، لنقل انه حزن كبير، وأعتقد أنه تبلور في تجربتك الأخيرة. هل المكان العراقي الذي اثر عليك؟
ـ قضية الفرح والحزن..
* قبل أن تكمل، لا أتحدث عن كوميديا ما، بل عن هذه الأزمة الوجودية العميقة؟
ـ في الأعمال الواقعية التي عملت عليها، كانت أعمالا محلية، أي عملت على الشخصية العراقية، ومن الصعب أن ترسمها شخصيات سعيدة. إنها شخصيات خلقت أصلا للحزن. إن شاهدت امرأة عراقية عن بعد ألاف الأمتار، مرتدية عباءة سوداء تمشي في مكان مغبر، تحمل ابنها، فلا يمكن أن تجعلها تبتسم، إذ ليس لها علاقة بالابتسام. إنها امرأة خلقت للحزن. الشخصية العراقية أصلا هي شخصية حزينة، لا أتحدث عن الذين يعيشون في بغداد بل عــن أولئك الذين يعيشون في القرى والمناطــق البعيدة، حيث الأئمة والأماكن المقدسة. إنها حضارة مبنية على الحزن.
* أعتقد لو شاهدنا أعمالك الأخيرة لوجدنا أن ثمة امتدادا لذلك، أي ان هذا البورتريه أو الشخص الذي ترسمه، نجده يتفتت ويتحلل، يتكسر أكثر من قبل. صحيح أن هناك أشكالا بشرية لكن ملامحها تضيع، أي كأن عالما يندثر؟
ـ حين بدأت أعمل على هذه التجربة التعبيرية بدأت أحاول أن أظهر الملامح الحيوانية داخل الإنسان أو لنقل الصفات الحيوانية: الغريزية والوحشية. فبدأت أحور الشكل وأحاول أن أمزجه مع أشكال الحيوانات. بدأ الشكل يتقزم وبدأت الرؤوس تشبه أكثر رؤوس الحيوانات كما الأطراف. أي أصبح الشكل الحيواني يظهر من داخل الإنسان. عملت على هذه التجربة كثيرا. عملت على هذا التهشيم. كانت التجربة صعبة لأنك حين تعمل على هذه التجربة التعبيرية في تحوير الإنسان من الممكن أن تسقط في الكاريكاتير.
* ما الذي قادك إلى هذه الفكرة أو التجربة؟
ـ بدأ التفكير بها منذ عام 1993. بدأت أختار أشكالا لأناس بعضهم رؤساء وبعضهم مدمرون، حورت أشكالهم هزليا. من هنا بدأت هذه التجربة.
* إلى أين ترى أن هذه التجربة يمكن أن تقودك في المستقبل؟
ـ مررت قبل هذه التجربة بتجربة رسم الخيل بطريقتي الخاصة. أي ليس الخيول المرسومة بالطريقة الواقعــية بل تلك التي نجدها في الكهوف، البدائية. كنــت أرسمــها بحركة دورانية داخل اللوحة. هذه التجــربة قادتني إلى العمل على الخط واللون والاخــتزال. في الواقع تحور الأمر من خيل الى حيوان خرافي آخر. في الحقيقة أفكر اليوم في تجربتي التعبيرية وأحاول أن أصل فيها إلى مرحلة الاختزال العالي..
* كيف تحدد مفهوم الاختزال هذا؟ لونيا، عبر الحركة
ـ من خلال تجربتي أعتقد انه إذا أقحمت لوحتي بالفكر فأنا لن أصل إلى أي تعبير عال فيها. أبتعد حاليا عن التفكير بموضوع اللوحة وفكرتها بقدر ما أحاول إخراج العمل بطريقة صحيحة. أعمل بحس تعبيري عادي للشخصيات الموجودة وأقدم التعبير الذي هو بداخلي. أعتقد أن الفن اليوم ليس بحاجة إلى فكرة. الفن اليوم هو إخراجي، أي تخرجه بطريقة صحيحة. لست بحاجة لأن تعالج لوحتك القضايا الاجتماعية بالطريقة البسيطة التي كانت موجودة منذ مئة سنة. اليوم عليك أن تقدم اللوحة بصفتها قضية بصرية مرئية. الناس ليسوا بحاجة لأن تحل أزماتهم باللوحة. لكن من الممكن أن تحل أزمتك أنت عبر لوحتك.
السفير
21 اكتوبر 2010