نوري الراوي قامة كبيرة في تاريخ الفن العراقي الحديث، حين يبادرك الكلام، تتناسل ذاكرته بقائمة طويلة من الأحداث والشخصيات الثقافية والسياسية التي شكلت أبرز ملامح النصف الثاني من القرن العشرين، أما على مستوى بلده العراق، فهو واحد من الرموز الفاعلة، ليس في بلورة ملامح التشكيل العراقي وحسب، وإنما لكونه شاهداً وصانعاً لكثير من الإنجازات التي ترافقت مع موجة الحداثة العالمية التي طالت الأدب والتشكيل وغيرت في المفاهيم والتوجهات . “الخليج” تحاور الراوي في مقر معرضه الذي افتتحه مؤخراً في مؤسسة العويس الثقافية في دبي .
يتذكر نوري الراوي طفولته فيقول “نشأت في منطقة الفرات الأعلى حيث مدينة “عنات” البابلية التي تقع ما بين الجبل والنهر، وبمساحة لا تزيد على 1000 متر، وهي منطقة ذات الطبيعة الربانية الساحرة التي تتميز بالجمال، وأمام المدينة 10 جزر تقع الواحدة بعد الأخرى، منها جزيرة من العهد البابلي القديم اسمها “جزيرة القلعة” تتكون من ست طبقات، العليا من الفترة العباسية وفيها منارة مثمنة الشكل فريدة من نوعها، وتعتبر أعلى منارة من حيث الارتفاع في العراق، الآن غمر نهر الفرات مدينة “عنات” . في المدينة طريقان أحدهما يحاذي الجبل كنت أصعده طفلا وأتأمل الطبيعة فأحس بالجمال حيث الفرات ذلك النهر العظيم يخترق المدينة من بين أشجار النخيل فتظهر الطيور التي تحط على منطقة زراعية فيها الكثير من الفاكهة، هذه الطبيعة متنوعة التضاريس شكلت وعيي المبكر بالرسم .
في الصف الخامس الابتدائي قمت برسم كل ما يحتاجه التلاميذ لتطبيق الدروس في العلوم من حيوانات ونبات، وفي الفترة من 1933 إلى 1934 كنت خطيب المدرسة المفوه . وما زلت احتفظ بدفتر يحتوي مجموعة من الخطب السياسية عن القاتل جمال باشا السفاح، ومقالات عن المصري الوطني مكرم عبيد الذي تكلم عن الحرية . ويوثق الراوي لبداية تعرفه إلى الصحافة من خلال مجلتي (الرافدين) و(المناهل) اللتين نشر فيهما مقالاته، وأيضاً جريدة (بغداد) التي نشر فيها مرة مقالة بعنوان (سجين الجسد) بأسلوب شعري وتصويري واع، وفي التشكيل يتذكر (مدرسة الكرخية المتوسطة) والمعلم رشاد حاتم الذي علمه رسم مناظر الطبيعة باستخدام “الباستيل” وكان يمتلك عدة صور من مرحلة ما قبل الانطباعية، وهنا يقول الراوي “تعرفت إلى رامبرانت وليو دافنشي وعدد من فناني تلك الفترة إلى نهاية القرن الثامن عشر”، زمن المجلات المصرية “المقتطف” و”الهلال” في ثلاثينيات القرن الماضي حيث دفعه شغفه بالفن إلى الاحتفاظ بنحو 30 صورة مما نشر في هاتين المجلتين إلى الان .
* كيف أثرت الحرب العالمية الثانية في وجدان نوري الراوي؟
- إذا كان من إيجابيات لهذه المرحلة، فإن المتغيرات الكثيرة على أرض الواقع السياسي والاجتماعي قد أصابتني بالشغف، فتعرفت إلى الموسيقا السيمفونية للمرة الأولى، وتعلمت بعض الرقصات التي كانت شائعة حينذاك مثل “الرمبا” و”الفوكس روت”، وكنا نستمع إلى اسطوانات قديمة مثل “رقص الهوانم” فأكتشف الفارق بين الإيقاعين الشرقي والغربي، حملتني الموسيقا الجديدة للتحليق في الكون والتناغم مع عناصر الطبيعة، مما حرك وجداني وعقلي نحو مساحات أخرى من الإدراك الفطري . في عام 1941 تعرفت إلى الرصافي مع صديقي فؤاد عباس، وفي سنوات متأخرة ارتبطت بصداقات مع شعراء كثر، وفي الفترة ذاتها توجهت نحو مجموعة من الكتاب اللبنانيين منهم “أبو شبكة” فسحرتني الأجواء الرومانطيقية في هذا الأدب، ونشرت في مجلة الأديب والأهالي في بيروت و”العرفان” في صيدا، وأذكر حينها أول قصيدة تنشر لي بعنوان (تحت أجنحة الليل الأزرق) ومن بعدها نشرة قصيدة (نجوى تمثالها) في “الأديب” .
مأساة
* في ظل عدم وجود متاحف عربية تحفظ أعمال الفنانين، أسوة بما يحصل في المتاحف العالمية، أليست هناك خشية من ضياع كثير من الإنجازات الفنية للرواد العرب؟
- كان المفروض أن تقوم الجامعة العربية بتأسيس متاحف لهذه الغاية، وأنا أدين الجامعة لعدم قيامها بهذه المهمة، فقد ضاع الكثير من المخطوطات العربية والإسلامية، وقس عليها كثيراً من الأعمال المهمة للرواد التشكيليين، وهناك بعض الجهد الذي التفتت إليه الأمارات، ولكن هذا العمل يحتاج إلى خطة استراتيجية ترعاها الجامعة، وهي من المسائل الكبرى التي تخص روح الأمة وتراثها الفكري والحضاري، لقد كان هناك رهان كبير على العراق، الذي بدأت فيه مدرسة فنية كبرى للفنون العربية والعالمية، لكن ما جرى من ضياع ونهب أفقدنا هذا الأمل الذي راهنا عليه، وهنا أشير إلى ضياع أعمال الرائد جواد سليم، وما بقي منها يقتصر فقط على المقتنيات الشخصية للأفراد، وهذا جانب واحد من المأساة .
لنوري الراوي إسهامات في تأسيس عدة متاحف عراقية يقول عنها: قمت بتأسيس 4 متاحف في العراق، أما المتحف الوطني للفن الحديث الذي افتتحه الرئيس عبد الكريم قاسم في 1962 فقصته تعود إلى بدء اكتشاف النفط في العراق، حيث كان هناك رجل اسمه “غول بانكيان” وهو أرمني توسط بين الدولة التركية وبريطانيا والجانب العراقي لمنحه حق امتياز التنقيب عن النفط في بغداد، وقد حصل بانكيان على حق استثمار 5 في المائة من واردات النفط، فأنشأ مؤسسة كبرى في البرتغال، اشتغلت على البنية التحتية لعدة مشاريع اجتماعية وثقافية وفنية، وقامت المؤسسة ببناء الملعب الشهير في بغداد ومدرسة للصم والبكم، وفي الستينيات أنشأت مبنى بغداد الذي أهديته إلى أمانتها، كنت حينها ملاحظا للثقافة في وزارة الإرشاد التي تقوم بمهام الإشراف على الثقافة والإعلام بموافقة مجلس الوزراء، اغتنمت الفرصة فوضعت يدي على هذا المبنى، وبدأت أخطط لإنشاء المتحف، كان الدكتور طه باقر مديراً لدائرة الآثار العامة، وكنت أبعث بمذكرات للوزير الدكتور فيصل السامر لاقتناء اللوحات الفنية، فأوعز لباقر بشراء بعضها التي زينت جدران المبنى، وما زلت إلى الآن أحتفظ بقوائم الشراء في تلك الفترة، وأنا أول من بادر لفكرة تأسيس مقتنى فني، وقد أوعز لي د . باقر باقتناء مجموعة الفن العراقي التي كانت مخزنة في دائرة الآثار، وكانت تتكون من أعمال لجواد سليم وفائق حسن وأعمال أخرى من العهد الملكي، وشكلت نواة متحف الفن الحديث، وفي عام 1965 قام رئيس الجمهورية آنذاك عبد السلام عارف بافتتاح المتحف مرة أخرى، وما زلت أحتفظ بالكلمة التي ألقاها عارف، وغيرها من وثائق ومقتنيات الفن العراقي .
في ما بعد حرصت على تطوير مقتنيات المتحف الوطني، وبدأت ب “800” لوحة في خطين متوازيين الأول، جمع الفن العراقي، والثاني اللوحات العربية، ولم أفوت فرصة إلا واغتنمتها لأضيف للمتحف وأجدد فيه، ومن سوء الطالع أن جاءت الحرب وضاعت 7000 لوحة، أو قل استبيحت أمام مرأى الجنود الأمريكيين، كأن هناك خطة مبيتة لتدمير هذا التراث وسلبه، وقد رصدت قصة المتحف في كتاب، وأقول “ما أصاب المتحف أصاب المكتبة الوطنية والمتحف الوطني للفن الحديث القصد منه محو الذاكرة والتاريخ” .
* هل قمت بمخاطبة جهات دولية، تدعوها للحفاظ على الفن العراقي؟
- كتبت رسائل عديدة إلى اليونسكو من خلال مكاتبها في بيروت ودمشق وبغداد وعمان بصفتها راعية للتراث العالمي، وناشدتها اتخاذ إجراءات فعالة إزاء التخريب المتعمد الذي أدى إلى تلف وضياع أرشيف الوثائق التاريخية والتراثية في بغداد، وقد طلبت من اليونسكو الإشراف على تسجيل هذا التراث وحفظه وصيانته، كما أرفقت نسخة من رسالتي إلى رئيس الجمهورية العراقية، ولكنني إلى الآن لم أحظ بإجابة شافية حول هذا الموضوع .
توثيق
صدر لنوري الراوي أول كتاب بعنوان “تأملات في الفن العراقي الحديث” عام 1962 وأتبعه بعدة كتب، يقول عنها: قمت بطباعة أول كتاب عن الفن العراقي، عبارة عن تأملات شخصية، كوني رافقت نشوء هذا الفن منذ بداياته، وكنت ممارساً للفن وقريباً من الوسط الفني، ومشاركاً في الأحداث والهواجس التي رافقت تلك الفترة، والكتاب يوثق فنون تلك المرحلة حتى عام ،1962 وهناك كتاب قيد الإعداد أركز فيه على فلسفة اللون وهو موجه للأطفال، ومن المتوقع أن تصدره وزارة الثقافة العراقية . أما كتاب الفن الألماني الحديث الذي صدر عام 1965 فقد جمعته من مصادر طريفة وفيه رصد لمدارس الفن الألماني من التعبيرية التي نشأت في منتصف 1900 في درسدن وميونخ ومدرسة ال “باهاوس” وهي تدمج بين الحرفة والفنون الجميلة وكان لها تأثير في تطور فن الهندسة المعمارية والتصميم والديكور، والطباعة، والجرافيك، وتنبع أهمية ال “باهاوس” من قدرتها على التجريب والمغامرة والطرح الجريء، ولدي الآن ستة كتب جاهزة للطبع ومن المتوقع أن تصدر من العاصمة الأردنية عمان .
* ماذا عن رأيك في ما تطلق عليه المذهب الشعري في الفن؟
- نشأتي معرفية، يمتزج فيها الرسم بحالة وجدانية وعاطفية، وهكذا فإن لغة التشكيل لدي قادرة على احتضان الموسيقا والأدب ولوحاتي تتزين بأبيات شعرية من التراث العربي، سواء للحلاج أو ابن عربي وعمر الخيام، وابن عربي والخيام جمعا بين الدنيا والآخرة، بين الروح والجسد، وترجمان الأشواق لابن عربي من الكتب الأثيرة إلى نفسي .
* وماذا عن تأسيس جمعية الفنانين العراقيين؟
- في شبابي قرأت دواوين كثيرة، كنت أعشق المكتبة العامة في بغداد، وفي الأربعينيات ربطتني صداقة مع عدد من الشعراء، منهم بدر شاكر السياب، الذي عشت وإياه في دائرة حكومية واحدة، هذه الدائرة من أعجب ما مر في تاريخ العراق، وقصتها تعود إلى أيام الحرب الثانية، كانت وزارة التموين تقوم باستيراد الحبوب والمؤن الغذائية، وحين انتهت الحرب أصبح هناك لغط عن رشى وتجاوزات ومخالفات، فتأسست (مديرية الأموال المستوردة) في 1953 وانتخبت عددا من الموظفين، معظمهم من اليساريين كالسياب ورشيد ياسين وكاظم السماوي وعامر عبد الله وأنا، صرنا فجأة أصدقاء للتجار الذين أحبونا، نسيّر الأعمال كما ينبغي، في ذلك العام صدرت 8 كتب أثارت انتباه الصحافة، أما مؤلفوها فمعظمهم من هؤلاء الذين كانوا يعملون في مديرية الأموال، بعدها توطدت علاقتي بالسياب وبعض الرسامين الانطباعيين، كنا نسهر عند معماري اسمه قحطان المدفعي وكان من عشاق الفن، وقام المدفعي بتصميم مخطط جمعية الفنانين، وفي عام 1957 جاء الملك فيصل وافتتح معرض الفن العراقي الذي أقامته الجمعية، في نادي المنصور، كنت حينها متحمسا وصاحب رؤية في الفن، تقدمت للملك فيصل الثاني وصافحته، وكان في معيته الشاعر بلند الحيدري فقلت للملك “يا صاحب الجلالة أنت تقوم بافتتاح أكبر معرض لجمعية الفنانين العراقيين، وهو موضوع يفتخر به كل العراقيين، ومطلبي أن يكون لنا مقر خاص بنا، فالتفت الملك إلى تحسين قدري رئيس الديوان الملكي وأسرّ له بكلمة، فمنحنا الملك أرضا في منطقة المنصور التي كانت تكثر فيها بيوت الأغنياء، حيث جاورنا معهد الفنون الجميلة .
* كيف تقيم الحركة التشكيلية الجديدة في العراق؟
- أنا معجب بتجارب الشباب، وتدهشني بعض اللوحات التي أستفيد منها وأتأثر بها، وأؤمن بالتطور والتجديد، ذلك أني في شبابي بدأت أجرب واستخدمت التجريد في لوحات كثيرة رسمتها في الستينيات، هؤلاء الشباب هم صلة الوصل بين الماضي والحاضر وهم يمثلون دفق الفن العراقي الأصيل، هذا الفن الذي يمتاز بكل صفات العالمية .
* ما رأيك بمفاهيم الفن المعاصر؟
- لا تناسب مجتمعاتنا العربية، وهي مجرد ظاهرة، استفادت من تطور التكنولوجيا، أو ما يعرف ب (الميديا الحديثة)، يبحث من خلالها البعض عن آفاق، وأرى أنها لا تنسجم مع الإحساس العربي، وهي تتناسب أكثر مع المجتمعات الغربية.
الخليج
,11/12/2010