برهان حسون شاعر وفنان تشكيلي عراقي، عاشق للجمال والأسفار، التي يعتبرها استكشافا وبوابة أنصفت تجربته التشكيلية. يعتبر وجوهه المشوهة صور مرآوية للواقع المحيط به، كما يعتبر أن ألوانه المفضلة هي من صنع التأثيرات النفسية. أما القصيدة فهي التي غزته وأربكت توازناته، علاوة على أن الكتابة وسيلة للتنفيس ودفاع سلمي، ليصدر ديوانا شعريا عنونه بـ» لا ثلج يحترق»، حول عالمه الشعري والتشكيلي كان لنا معه هذا الحوار :
■ من يكون برهان حسون في خضم هذا التعدد الهوياتي وثقافة الموت؟
□ إنه مخلوق منقرض متطرف في عشقه للجمال.. يحاول جاهداً الإمساك بهويته كإنسان وطائفتة كمبدع دون سواهما.. إنه رحالة سعيد لأنه لم يرتحل عن أحلام الطفولة.. لايزال مبحراً ضد تيار لم يعد له ضد.. لا تعنيه الهويات والثقافات مهما تغولت إلا بمقدار ما تمثله من جماليات نقيضة للموت .
■ أنت فنان تشكيلي ومهووس بالقصيدة فأين نلقي عليك القبض؟
□ لا فرق .. فأنا كعربي مقبوض عليّ بتهمة البراءة.. وإذا كان لابد من جواب أقول: اللوحة والقصيدة وجهان لموهبة واحدة.. وتوأمان يقتسمان الجمال.. إقبض عليّ متلبساً باللوحة أو متقمصاً القصيدة إلا أنك ستنتهي معي إلى متهم متورط في تعاطي الجمال… تحتلني القصيدة متى شاءت وتتلبسني اللوحة متى شاءت.. وشيطانة الإبداع واحدة ولا موعد لها تقدح متى أرادت وكيف أرادت.
■ ما حكاية هذا التشابك واندغام الألوان والتخطيط في لوحاتك؟
□ الخطوط والألوان المجردة مفردات التعبير الأولى لدى الإنسان… ولعلنا نلجأ إليها للتعبير حين نتحرر من قيودنا وعوالمنا الرتيبة، وهنا تقع المثابة التشكيلية التي اشتغل عليها سعيا إلى إطلاق المخيلة من مصداتها الرقابية لتبوح بدواخلها بحرية من خلال اللوحة، أو النافذة الممتدة من الواقع إلى المتخيل دونما تقنين، وما يفرزه ذلك من تجليات توُلُد بحرية وعفوية وبفوضوية جميلة… وهنا تجدني باحثا عن جماليات الفوضى في آثار ومخلفات الحرية.
■ تتخلل بعض لوحاتك وجوه مشوهة، ما القصة؟
□ إن وجود وتكاثر وجوه مشوهة أو مقنعة في مجتمعاتنا هو حقيقة سوداء لا مناص منها.. وجوه ربما تطارد مخيلاتنا وتتسلل إلى نصوصنا التجريدية دونما قصدية ممنهجة من الفنان الذي لابد لأعماله أن تتأثر بأفكاره وبيئته وأدواته ومفرداته الأسلوبية وعقيدته الإبداعية، فضلا إلى ما تضيفه إحساسات المتلقي والقراءة النقدية المتخصصة للناقد ..
■ هل من عادات وطقوس وأنت تلج مرسمك للدخول إلى عوالم اللوحة؟
□ هي عادات وطقوس تشبه وإلى حد كبير ذهابك إلى موعد مع من تحب، إذ أشعر في البداية بنوع من الراحة والإحساس بالسعادة، وما أن أبدأ باختيار ومزج ألواني، الذي غالبا ما يكون عفويا تلقائيا، أنتقل إلى أدواتي القليلة لأوظفها في ممارسة قسوتي المفيدة على الكتل والمساحات اللونية دونما تخطيط مسبق، لأستغرق وقتا يقصر أو يطول إلى أن أصل إلى بؤرة أو مثابة أشعر عندها بالقناعة بالعمل، فأطلق سراحه، وإن حصل وتجاوزت تلك المثابة وتغيرت ملامح العمل.. تركته!
هي حالة أشبه ما تكون بحالة الفاحص بالمجهر حين يصل درجة الوضوح الأعلى، فالعمل قبل هذه الدرجة غير مكتمل وبعدها غير صالح.. وكثيرا ما أقضي وقتا طويلا في إنجاز العمل أحتسي خلاله الشاي والقهوة وأستمع إلى موسيقى مختلفة.
■ ما الذي منح الترحال والسفر لتجربتك التشكيلية والشعرية؟
□ الترحال هو البوابة التي انصفت تجربتي الفنية ونشرتها وقدمتها للعالم.. كما رفعت الإقصاء والتجاهل المحلي الذي رافقها من قبل البعض لأسباب قاصرة غير مبررة، والترحال هو هوايتي المحببة وعشقي الأثير ومتعتي الكبيرة، وهو بالنسبة لي اكتشاف ميداني لشعوب وأقوام وحضارات وثقافات وآثار وفنون وتقاليد، والمؤكد أن في ذلك فرصا ثرة للتفاعل والتبادل والاستلهام التشكيلي والشعري.
■ ما الذي يعنيه حضور الأبيض والأحمر والأزرق؟
□ حضورها قد يعزى إلى القيمة الرمزية العالية، وربما الصادمة لها. أحيانا يأتي استخدام لون معين بمساحة كبيرة لتعبير معين أو لتجربة لونية تحمل نوعا من التحدي وكسر حاجز الخوف من اللون، ولا ينكر أن هناك تأثيرات نفسية ومزاجية ومعنوية وذائقية وبيئية تكمن وراء الاختيار القصدي أو العفوي للألوان .
■ بما يتهم برهان حسون التشكيلي برهان حسون الشاعر؟
□ هناك اتهامات متبادلة، التشكيلي (يرسم) للشاعر دور المتطفل على وقته والمقتبس منه، ويتهمه بالنزوع إلى المناورة على اللغة واللعب بالحروف، والشاعر (يهجو) التشكيلي ويرد باتهامه بـ(التجريدية) الخالصة في مجتمع يعاني من الأمية الفنية.. وفي الحالين كثيرا ما اتهمت بسلوك الطرق الصعبة والسباحة عكس التيار، لكنني أرى أن الحداثة التشكيلية والأدبية غدت لغة عالمية وهي من ستنشر المحلية وليس العكس.
■ ومن أي مراع شعرية أتت القصيدة وسقوف المجاز؟
□ القصيدة هي التي غزتني وأربكت اتزاني منذ البواكير.. حاولت خنقها والتهرب منها لعقود خلت خوفا من غواية التحول الطوعي أو القسري إلى بائع شعر أو مداح للديكتاتور، الإبداع موقف قبل أن يكون حرفية، تلك فطرة نشأت عليها حد الاعتناق وكانت بحق بوابة السقف والمجاز الذي حذت حذوه قصيدتي، التي أطلق سراحها بعد كبت وطول انتظار إطلاقا يبدو أنه كان مصحوبا بوقف التنفيذ في وطن بين النهرين عراقته عراق وشمسه أجمل من سواها، لكنه محكوم بسقف مجاز.
■ تيري ماكميلان، يكتب كي يتخلص من جلده الميت؛ وليكتشف لماذا يفعل الناس الأشياء التي نفعلها لبعضنا بعضا؛ وبرهان حسون لماذا يكتب؟
□ فضلا على أن الكتابة هوية وكينونة واعتبار وعطاء متقدم، فإنها أضحت لدي ولدى آخرين وسيلة للتنفس وجهادا للدفاع السلمي عن كل الجماليات المتبقية في حياتنا، والسعي لعدم انقراضها ولتعرية كل العناوين والتدليسات التي تهدف إلى خلط الأوراق وإشاعة ثقافة القطيع وغسيل الأدمغة وكل التوجهات التي تبدو وكأنها تحمل (رسالة ) لإقصاء الفضيلة وشرعنة الفساد.
■ الكتابة والطب؛ الكتابة والتشكيل؛ أي علاقة؟
□ الطب مهنتي والثقافة رئتي، الطب مهنة مسؤولة شديدة الالتصاق بالإنسان منذ جنينيته ومرورا بميلاده وحياته وانتهاء بموته. وقد رادف الطب الحكمة مثلما عرف الطبيب بالحكيم في تراثنا العربي، وربما كان ذلك لتعدد اهتماماته ومسؤولياته تجاه المجتمع. وهنا قد تكون الكتابة مثلما اللوحة استعارة ووسيلة وصفية وتشخيصية وعلاجية. كما أن حميمية العلاقة بين الطبيب والإنسان تجعل من الطب مدخلا مهما لاستلهام هموم ومعاناة وحالات وتجليات وأحلام الإنسان باعتباره مركز الحياة وصانعها ولولبها، ولابد لهذا الاستلهام من التجلي بلغة أدبية أو تشكيلية.
■ أين العراق تاريخ، حضارة، دمار، حروب، في نصوصك الساخرة عوالمك الشعرية والتشكيلية؟
□ بتواضع شديد أقول إن العراق وحبه كوطن حاضر بقوة فيما قدمت، إلا أن حضوره ليس تقريريا ولا صوتيا ولا مستنسخا ولا ينبغي له أن يكون كذلك قدر ما يجب أن يكون حضورا متقدما ومميزا يليق بتأريخ وهموم عراق الرافدين وعراقة حضارته وليس باستنساخ مفرداتها. ولم تكن النصوص الساخرة إلا يوميات وطن مستباح وهموم شعب ممتحن.
■ ألا يفكر برهان حسون في تدوين سفرياته في كتاب للرحلة؟
□ ليست الفكرة بالمستبعدة إلا أنها بانتظار الكثير لتنضج وتكتمل.. نعم زرت العديد من البلدان، وحرصت على أن تمثل هويات سكانية وثقافية ومجاميع إثنية وعرقية مختلفة، إلا أنني لا أزال بحاجة إلى تغطية مجتمعات بشرية وجغرافية أخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا، لكي يكون المشروع مكتمل الأهداف وعميم الفائدة وقابلا للتحقق بإذن الله.
القدس العرب- Jul 16, 2016