مع ظهوره على سطح الحياة وتلمسه الأشياء في بساطتها الأولى، ومن ثم استقراره في باريس منذ العام ،1984 ظل الفنان السوري زياد دلول مخلصاً لمحاولاته في الولوج بالفن التشكيلي الى آفاق أخرى، محاذراً السكون الى ما هو سائد، استطاع دلول خلال محاولاته المستمرة أن يطوّع علاقته بالأرض التي ولد عليها وبالأرض التي انتقل إلى العيش فيها، إلى حال توازن بين الذاكرة وبين الخبرة في لحظات إبداعية تلبست حيناً بالضوء وأحياناً بالظل، والتمست لها من الأماكن والأشخاص أبعاداً لا تقف عند حدود المتاح وإنما تبحث عما وراء الواقع والمشاهد إلى فضاء يتيح زوايا أخرى للبحث فيما وراء المرئي.
في هذا اللقاء مع "الوسط" يتحدث دلول على هامش افتتاح معرضه مساء أمس (الأربعاء) بصالة الرواق للفنون التشكيلية من قبل الوكيل المساعد للثقافة والتراث الوطني الشيخة مي بنت محمد آل خليفة عن مفهومه للمرئي واللامرئي وعن الأشكال التي لاتزال محافظة على رصانتها في أعماله، وعن المناظر الطبيعية الي يرسمها والتي لاتزال تشده بذاكرتها، فإلى هذا اللقاء...
أعرف أنك فنان ولدت العام 1953 في مدينة السويداء جنوب سورية وأنك انتقلت إلى الجزائر، ومن ثم إلى باريس منذ العام .,,1984 فهل أنت فنان يبحث عن دفء الحياة؟ وكيف ساعدك ذلك على عدم الوقوف عند حدود المرئي والمتخيل بل على اكتساب لغة خلاقة خاصة بك؟
إن التغيّر في الجغرافيا أو الانتقال من بلد إلى آخر، هو بحث عن أماكن وعن إيحاءات أخرى للثقافة الشخصية بالدرجة الأولى. ومن خلال ذلك يمكن أن يكون هناك انعكاس لهذا الغناء البصري من العمل الفني، والبحث عن المرئي هو أمر سهل، ولكن الصعوبة تكمن في اللامرئي، إذ أتصور أن الفن هو تسجيل للامرئي بطريقة أخرى، والحقيقة أنه ليست هناك وصفة للغة الفنية فهي بحث دائم، وأنا لا أعرف إن كانت هناك لغة خلاقة في أعمالي وإن كنت أرجو ذلك ولكن الأهم هو استمرار العمل لمحاولة الإجابة على بعض الأسئلة لأن الفن بطبيعته لا يعطي أجوبة على الإطلاق وإنما هو يطرح الأسئلة. فإذا كان دور الفن الأساسي هو طرح الأسئلة. إذاً، فاللامرئي هو العالم الحقيقي للفن، ولكني لا أعتقد أن هدف الفن الأساسي هو خلق لغة خلاقة وإنما خلق عالم مواز في اللوحة، ويجب أن تكون لهذا العالم أبجدية ومفردات خاصة، فبقدر ما تتكامل هذه الأبجدية بقدر ما تكون هذه اللغة الفنية متكاملة وبالتالي تكون خاصة، هذه المفردات هي مجال لبحث مستمر وإغناء مستمر من أبسط الأشياء إلى أعقدها، فأبسط الأشياء هي المحيطة بنا وأعقد الأشياء هي الأشياء المتخيلة، تدخل في ذلك الذاكرة وأشياء أخرى. إذاً، المحصلة العامة لحوار الذاكرة والأشياء المرئية قد تخلق بعض المفردات أو لغة كاملة، وبقدر ما تكون هذه اللغة متكاملة بقدر ما تكون اللغة خلاقة.
مرجعية للذاكرة
* وما حكاية الأشكال التي ترسمها والتي لاتزال محافظة على رصانتها، هل لاتزال ذاكرتك تحمل آثارها؟
قطعاً، ولكني لست بصدد البحث عن مرجعيات للذاكرة. الذاكرة تأتي من تلقاء نفسها أثناء العمل الفني، إذ ليس هناك فعل إرادي للبحث عن الذاكرة، ولكن أظن إذا كان هناك تفاعل حقيقي أو صدق أمام العمل الفني بين الرسام وعمله الفني، فالذاكرة تنبجس بين مفردات العمل من دون قصد أو أحياناً بقصد ولكن غالباً من دون قصد، إذ لا يمكن أن نلغي الذاكرة، فهي حاضرة باستمرار، ذاكرة الطفولة مثلاً مهمة جداً، فهي اللحظات الأولى التي نكتشف فيها العالم، فهي لحظات دائمة، ولكن اللحظات الحالية قد تكون أهم أحياناً، ولكنها بالتفاعل الكيماوي للمكتسبات البصرية قد ترجع لتصبح ذاكرة ما ولو في الذاكرة اللحظية، بمعنى أنك عندما تنظر إلى العالم. تستوعبه ثم تخزنه بطريقة ما وتفرزه، وأنا لم أرسم على الإطلاق في أعمالي الأخيرة منذ عشرين عاماً نقلاً مباشراً عن الطبيعة، ولكنها حاضرة في ذاكرتي ولو كانت منذ أيام فقط، ولا أعرف في أية لحظة يمكن أن تخرج هذه الأفكار والصور إلى العمل الفني.
الحلم وعوالم الرغبة
* في لوحاتك طبيعة صامتة أو منظر صامت، ولكني ألمح وراء هذا الصمت ذاكرة تتحدث عن الحلم وعن عوالم الرغبة... فإلى أين سيقودك البحث عن جوهر هذه الطبيعة؟
إذا كانت الطبيعة الصامتة أو المنظر هي مثيرات بصرية لهذا العالم البديل أو الموازي فلا بأس، لأنني لا أعتقد أنه بوسعنا أن نخلق فناً من دون الاعتماد على الواقع أو على الأشياء الملموسة أو الصور. إذاً، ليس هناك فن، وحتى ما يسمى بالفن الذهني الصرف تظل له علاقته من قريب أو من بعيد بالواقع. أما فيما يتعلق بعلاقة المنظر والطبيعة الصامتة، فهو موضوع أعمل عليه منذ أكثر 15 عاماً، في محاولة لنقل الخارج العالم الكبير إلى عالمنا الداخلي داخل الجدران أو داخل الشخص، إذ إن الحوار بين الداخل والخارج هو ثنائية لا نهائية، لها إسقاطاتها على كل الأشكال كما على الأفكار، فهذا هو منطلق البحث الحقيقي تأليفاً لمنظر طبيعي على أساس أنه يمكن أن يكون هناك لغز في أجزاء منه، فهل هو جزء من الطبيعة أم هو جزء من أشياء داخلية سواء كانت موجودة على الطاولة أو على الحائط أو في غرفة النوم أو غرف المعيشة أو خاصة بالمرسم.
الضوء والمادة
* الضوء والمادة، كثيراً ما أشار إليهما النقاد عند قراءة لوحاتك، فهل لاتزال لوحاتك تدين بالفضل لهما؟
إن اللوحة لها عناصر أساسية غير مختلف عليها، كما نقول مثلاً اللون والخط والمادة، لكن هناك عنصر رابع مهم جداً وهو الضوء. الضوء ليس بمعنى أن نرسم الأشياء في ثلاثة أبعاد للإيحاء بالكتلة، الضوء كعنصر فيزيائي وكيف يمكن أن ننقله إلى اللوحة، إذ إن هناك عناصر من الصعب نقلها إلا بالإيحاء، فالموسيقى مثلاً يمكن أن نعمل لها ترجمات، ولكن الضوء في بحث ما بتركيب الألوان والأشياء وفي تركيب الجزء العام للوحة، يمكن أن تشع أو تمتص الضوء وهو ليس في الحقيقة بشيء جديد، إذ إن كل الفنانين لهم اهتمامات بالضوء، ولكن الضوء يمكن أن يحمل بعض الجوانب التعبيرية والنفسية، فإذا كانت هناك لغة في أعمالي تهتم بإبراز الضوء أو الإيحاء في الضوء، فذلك أمر مهم لأنه واحد من هموم اللوحة الأساسية.
لغة في الجغرافيا
* كتب الشاعر أدونيس عنك من قبل يقول: "إن الأمكنة التي تعكسها أعمال زياد دَلّول ليست لغة في الجغرافية، وإنما هي لغة في التخيّل والحنين والتذكر، لغة أحلام وأعماق ومشاعر، والتجربة هنا هي الأساس، لا المنهج. المنهج خارجي، والتجربة داخلية. بالمنهج نفكر، وبالتجربة نعيش، ونلمس، ونرى، ونتذّوق"... فهل لك أن توضح لنا مفهومك بالنسبة إلى المنظر الداخلي، وأن تبين لنا إحساسك بالعناصر، بالشجرة، بالأرض، بالهواء وبالظل كما أشار هو؟
إن المنظر الداخلي هو اختصار لمجموعة من المناظر، وتركيب اختزالي لهذه المناظر، واختزال إذا صح التعبير لمفهوم المنظر بمعناه الفلسفي الواسع. أي ماذا تعني الطبيعة بالنسبة إلى الفنان. إن الأسئلة التي أطرحها أو يطرحها غيري من المهتمين بكينونة الإنسان على هذه الأرض" ما الحياة وما البشرية ضمن المنظر الطبيعي. فالمنظر الطبيعي العام الذي نظر إليه الفلاسفة قروناً طويلة هو في الطبيعة كعدو للإنسان أو بالأحرى نقيض للإنسان، بمعنى أنه يجب أن يتغلب الإنسان على الطبيعة ويسخرها لغاياته ومعيشته بأن تكون مطواعة بين يديه، فإذا كانت الفلسفة خلال فترة طويلة تعتبر الطبيعة مجالاً للعمل لتطويعها لصالح الإنسان العادي. فالفلسفة أيضاً كما أظن لم تعن طويلاً أن يكون المنظر الطبيعي مجالاً حيوياً ليس بالمعنى الآيكلوجي بل بالمعنى الفيزيائي حالياً. فنحن الآن في القرن الواحد والعشرين نشعر بأن من الهموم الأساسية المحافظة على الطبيعة. وبالنسبة إليّ، الطبيعة هي مجال للتأمل. ومن خلال هذا التأمل أطرح الأسئلة الأساسية عن الوجود الإنساني، وباعتبارها مجالاً للتأمل فمن الشيء الطبيعي أن تكون مادة داخلية.
الوسط
الخميس 26 - 1 - 2006