التقاه: شاكر نوري
ضياء العزاوي، فنان موجود داخل اللوحة وخارجها، داخل التراث وخارجه، داخل السياسة وخارجها، وربما يوجد بين دفتي كتاب فريد من نوعه، لا توجد منه سوي نسخة واحدة قابعة في إحدي السراديب الرطبة والمنعشة في آن. يذكرك بالنساخين المتصوفة الأوائل الذين ينسجون الكلمات بعذابات أرواحهم. هو فنان يتوحد مع لوحته وألوانه إلي حد التماهي معها والدفاع عنها بشراسة إذا اقتضي الأمر، ويؤمن بأن الفنان لا يمكن أن يكون أداة بيد السلطة أية سلطة كانت وبجميع أشكالها، ولعل نزوعه إلي آفاق التجارب الكونية الشمولية هو الذي دفعه إلي الهجرة من بلده، لينشر ألوان وأضواء وادي الرافدين، التي أصبحت للأسف الشديد كئيبة بفعل الحروب والحصار، علي أصقاع العالم، كأنما يريد أن يتقمص جلجامش في رحلته، ليدرك في النهاية أن الخلود لا يتجسد إلا عن طريق اللوحة والعمل الفني واللون.
بعد معارض عديدة في باريس، يقام للفنان العراقي المقيم في لندن، المرة الأولي معرض استعادي ضخم يفتتح اليوم في معهد العالم العربي في باريس، إذ تمتد اللوحات والقطع الفنية التي أبدعها هذا الفنان من عام 1968 حتى عام 2000 تتضمن اللوحات الفنية واختيارات من مجموعات متنوعة، بين التخطيط والأكليرك والطباعة وأعمال أصلية نفذها مع عدد من أمثال الشعراء: أدونيس والسياب والبياتي وبلند الحيدري ومحمود درويش وسركون بولص ومحمد بنيس وقاسم حداد وأمجد ناصر. ولا تعرف غالبية الجمهور ما هو مطبوع منها وما هو غير مطبوع، بعضها يعود إلي عشر سنوات مضت، وهي أعمال أصلية ولا توجد منها سوي نسخة واحدة.
في غاليري كلود ، الذي يعرض بعض أعماله بصورة دائمة، أجرينا هذا الحوار لمناسبة معرضه الكبير هذا:
لا حظنا عندك توجها جديدا نحو صياغة الكتاب الفني الذي لا يتوفر إلا علي نسخة واحدة، وهو عمل فني يخرج عن إطار الكتاب التقليدي، هل أنت رائد في هذا المجال؟
هناك تنوع في طريقة تقديمها، قسم منها علي شكل دفاتر أو معلقة أو شكل مطوي ويتم تقديمها كمادة خارج منطق الكتاب كأي عمل فني مستقل بذاته. ولتقدير هذا العمل وتقدير جمالياته لا بد من توفر معرفة معينة بين الصورة والنص. ثمة اهتمام بالنسخة الواحدة في الغرب ونحن لنا اهتمام بالمخطوطة، لكثير من المخطوطات العربية توجد أكثر من نسخة، عندما كان يعجب بهذه المخطوطة أو تلك، يتم نقل نسخة منه، كما هو الحال مع الواسطي، في مقامات الحريري الذي توجد منها حوالي ثماني مخطوطات معمولة من قبل فنانين آخرين لكن الواسطي لم يعمل سوي نسخة واحدة وهي أشهرها، وهذه المخطوطات موزعة في لنينغراد وثلاث منها في سورية والمتحف البريطاني. تكون لي مبدأ عمل نسخة واحدة، تماما مثل نسخة من مخطوطة أدبية أو من مخطوطة القرآن، وأبيعها كنسخة واحدة، ولأول مرة تجد نسخة واحدة من الكتاب، هو تقليد لم نعتد عليه، لأنني أعتقد أن جزءا من جمالها أن تبقي كمجموعة في مكان واحد. ولو أخذنا مؤسسات كبيرة مثل العويس التي تقوم بتقديم جوائز للشعراء، نراها لا تقوم بتقديم نموذج فني للكتاب. التقيت بابن المرحوم العويس، فسألته، فيما لو كان أحد الفائزين مثل الجواهري أو نزار القباني أو البياتي، له وثيقة جميلة بعد أخذ الجائزة، فأجابني بالنفي. وأقترح طبع كتاب فني للفائز بمائتي نسخة. لأننا لا نمتلك سوي الشكل التقليدي للكتاب لكن الطموح أن يتوفر الكتاب غير العادي، ويتم تروجيه في السوق. ومن المؤسف أن لا نجد مسؤول مؤسسة منذ أكثر من مئة أومئتي سنة، يطلب من فنان أن يعمل تصميم قرآن جديدا. كما لا يوجد أحد من الخطاطين قام بتنفيذ عمل من هذا الطراز، لأنه عمل مكلف ويتطلب وقتا لإنجازه، ولا توجد مؤسسات تتبني هذا المشروع أي تقديم الكتاب بشكل جميل، ولديهم فقط الصيغة التقليدية العادية.
أنت تعيش في الغرب منذ قرابة ثلاثين عاما لكنك مازلت ترتكز في لوحاتك علي العناصر البصرية المحلية وتستلهم مفردات الفلكلور.. كيف توازن بين الجغرافية والإبداع؟
قبل كل شيء غادرت العراق في عمر كنت فيه علي وعي بعملي الفني، وعندما غادرت العراق قررت عدم العودة منذ البداية، وبالتالي احتفظت بعلاقة ما بالمنطقة العربية كمرجعيات أساسية بالنسبة لي، وفي الوقت نفسه عملت علي تعميق علاقتي بالغرب. وبمرور الزمن صار عندي اعتقاد كامل أنه لا يمكن تقديم أنفسنا كقطع متحفية، لأن ذاكرة المتحف هي ذاكرة ميتة، بينما نحن أحياء كأي شعب موجود في العالم، له الحق في الإبداع، أسوة بالآخرين، وأن ربط علاقتنا بالتراث والتاريخ سيقودنا إلي مناخات مغلقة وإلي علاقات لا تقيم حوارا مع الحضارات الأخرى. ولم أكن أتوصل إلي هذه القناعة دون العيش في الخارج. لدي اهتمام أكثر من قبل أن أنتج أعمالا يمكن أن تكون مقبولة لمجتمعات أخري، حتى لو تكون ذات ثقافات مغايرة، هذا يعني رفع مستوي العمل وتحويل العنصر المحلي إلي عناصر أكثر إنسانية يعتبر جزءا من الذاكرة الكونية والشمولية ولكن هذا لا يعني تخلي الفنان عن الذاكرة الأساسية التي يمتلكها. استخدام الجوانب المحلية في الموروث العراقي أو العربي هو بشكل ما فتح باب الثقافة أو الحضارة الموجودة في العالم من خلال نافذة صغيرة جدا. ويمكن بشكل ما حتى أن نقدم قيماً ثقافية لكن محليتها شيء ومعاصرتها شيء آخر. نحن نعرف بأنه كان للفن الأوروبي في فترة الثلاثينات حضور كامل لعناصر العمارة المصرية الفرعونية التي استخدمت في كثير من البنايات. لكننا ما زلنا لا نمتلك هذه المرجعية لأن الانفتاح الأوروبي الغربي جاء نتيجة لحوار بين الغرب والحضارة المصرية، وبنفس الطريقة لا أريد أن أقدم ما أمتلكه عن مصر والعراق والمنطقة العربية بنفس عقلية الأوروبي أو الغربي الذي يقدم تجربة معينة لمجتمعه الذي هو مجتمع منفتح للحوار. وعندما أقدم معرفة محلية يجب أن تكون معرفة ذات علاقة بتعزيز الحوار الإنساني والجانب المعاصر في المجتمعات العربية وليس للنظر إليها كمجتمعات فلكلورية أو تنتج أعمالا تصلح لمنطق السياحة والذكريات، وتعلق علي جدران البيوت.
وهل تري بعض الجوانب المنغلقة في تراثنا؟
ثمة أشياء في ثقافتنا القديمة فيها جوانب مغلقة، هكذا أراها شخصيا، وأجد أن دعوة العراق إلي تجربة الفن العراقي في فترة الخمسينات كانت دعوة سيئة جدا آنذاك، هكذا أراها الآن، وفي السابق كنت أصفق لها. أجد أن هذه الدعوة قللت من تجربة الفن العراقي، وقللت من قيمة الإبداع بشكل أكبر، علي سبيل عمل لجواد سليم " سجين سياسي " كان من بين سبعة نحاتين عالميين شاركوا في هذا المعرض، عندما تضعه في داخل إطار محليته يفقد الكثير من أهميته. كنت أتكلم مع صديق وشاهد لي عملا عن جلجامش فقال لي : أما زلت تعمل شيئا عن جلجامش؟ بالنسبة لي هذه هي صورة الكثير من المثقفين، هم بشكل ما يعتقدون أنها موضوعات منتهية ومستهلكة، في الوقت الذي يوجد فيه أكثر من ثلاثين قطعة موسيقية عن جلجامش في أوروبا. وأنني أتساءل: هل ثمة عمل موسيقي عربي واحد عن جلجامش؟ المسألة هي الوعي بقيمة هذا العمل قبل كل شيء. ومسألة تغير التراث كل سنة لأن معرفتنا به تتغير وأدوات العمل أيضا وبالتالي ينتج الفنان أعمالا مغايرة كليا. الفن عبارة عن تراكم خبرات، والخطأ الشائع هو التعامل معه علي أساس أنه اختراع له أسلوبه. قلما يشار إلي تأثيرات الفنانين الأوروبيين علي الفن العربي في تاريخ الفن في العالم العربي. نحن نقول العكس وكأننا مخترعون. بينما الفن ليس نبتة في الصحراء بل له محيطه وتأثيراته. ولا أجد أي ضير في التأثيرات ما دام الفن هو تراكم خبرات.
مثل الفولكلور ألا يشكل، في نظرك، نوعا من السجن للتشكيلي لأن ذلك يحجب عنه رؤية آفاق أبعد؟
بالتأكيد، كنت قد عملت كثيرا مع الحرف العربي وقمت بتطويره في اللوحة. وأتذكر عندما قام المتحف البريطاني بجمع لوحات لفنانين عرب حديثين، حاولوا أن يجمعوا أعمال فنانين لهم كتابة، خط حرف عربي. لكني حاولت أن أشرح لهم بأنه لا يمكن التعامل مع الإبداع بهذه النظرة المحدودة، أي أنهم يعتبروننا ننتمي إلي حضارة ميتة بصورة غير مباشرة. علي سبيل المثال، في معرض لندن الذي عرض فيه فنانون من شمال أفريقيا، يتعاملون مع الحرف العربي، أطلق عليهم النقد تسمية الخطاطون الجدد، معني ذلك أن هؤلاء الفنانين لم يتمكنوا أن يوصلوا للآخر، أدوات اللوحة بل أدوات الخط، ونتيجة لهذا القصور يضعنا في سجن معين، وهذا ينطبق علي المعرض الحالي الذي تقيمه المكتبة الوطنية الفرنسية عن الكتاب العربي التي اختارت الكتب المرتبطة بالخط، واعتبرت الكتاب الذي لا يتوفر علي الخط العربي هو كتاب غير إبداعي.
بينما أنت طرحت الحرف بشكل مغاير لأنك فجرت الطاقة الإبداعية اللانهائية فيه، ما هو رأيك؟
كتب عن إحدي معارضي ناقد في " واشنطن بوست " علي إثر قراءته للمقدمة التي تتضمن إشارات للحرف العربي، هو بالنسبة لي كأوروبي لا يعرف القراءة العربية وبالتالي لا يراها كحرف، فالنقطة مثلا بالنسبة لنا يعتبرها هو شكلا مربعا . قال لي بعد الانتهاء من مشاهدة اللوحات أنه لم يكن يعرف أن هذا هو حرف عربي، يعني أن قيمة اللوحة لم تأت من وجود هذا الحرف، سماها الإشارة، لأن المهم هو بناء اللوحة واستخدام اللون، والمؤثر الأخير هو أنها تنتمي إلي ثقافة مغايرة عندهم، ومن هنا يأتي نجاحها لأننا قد نعطي قيمة لتفصيل معين، ولكنه ليس الكل. أنني منذ بداياتي الأولي كنت أعتبر الحرف احد مكونات اللوحة ليس إلا، لم يضعوني في خانة الخطاطين. و في محاولة كسر رتابة شيء معين أعتقد وهو شيء غير مبرر، قاموا بجمع أعمال القرن العشرين وعرضوها في المتحف البريطاني. وكتابي الذي عملته مع أدونيس في التسعينات بمناسبة بلوغه الستين، حاولت أن أجعل النص قريبا من طبيعة منطق اللوحة.
ما دمنا نتحدث عن الحروفية هل تعتقد بأنها استهلكت في الفن العربي؟
من المعروف أن اللوحة هي منتوج أوروبي، بمعناها التقني والفكري أما تراثنا الحقيقي فهو تراث المخطوطة والكتب في الإسلام وإذا ما ذهبنا أبعد فهناك النحت وتراث الرسم علي الجدران أي الموزاييك، ليس لدينا لا مفهوم اللوحة ولا مفهوم المتحف. لذلك يجب التعامل مع الحروفية كعنصر من عناصر اللوحة. كل الفنون الموجودة لدينا في الفترة الإسلامية كانت منتجات تستخدم يوميا وليس بمعزل عن الحياة اليومية. وهذا ما هو موجود في الثقافات الأخرى حيث أصبحت اللوحة عبارة معرفة. وهناك محاولات لفنانين متنوعين في المنطقة العربية يستخدمون النصية وقسم آخر يؤمن بإنسانية الفن وانعدام علاقته بالهوية. أصبح الجانب الإنساني لا الهوية متداولا في الغرب ولا يعني شيئا. أما الذين لا يرون تراثهم بعين حرة، سيتولد نفس المردود ونفس العائق. والفنان الذي يري اللوحة كما هي منتجة في الغرب لن يراها. وإذا نظر إليها بطريقة تراثية تتحول إلي عائق ومعناها لا نصل إلي أي شيء. أصبح هؤلاء الرسامون المعروفون بشكل أو بآخر خطاطين أو هكذا يطلق عليهم.. معني ذلك أن لديهم قصورا بعدم إيصال مستوي إنتاجهم بشكل يقنع المشاهد. العمل الخطي في كل تكويناته وعلاقاته مغاير كليا عن تكوين اللوحة لأن اللون فيها يشكل عنصرا أساسيا وليس بمعناه المتعدد. الرسام الجيد يمكن أن يستخدم حتى اللون الأسود بشكل مبدع، واستخدامه يختلف كليا عن العمل الخطي، الغرافيك، لأن السطح لا قيمة له بينما نحن نمتلك هذه الأدوات للوصول إلي عمق ثقافي متقدم.
والنزعة الزخرفية؟
من المؤكد أن الزخرفة جزء من تراثنا وهي تعتبر بطريقة استخدامها إساءة. يعتبر الفنان اللبناني أهم من قام بالتجارب الفنية العربية في هذا الجانب، لو تنظر إلي مثل هذه اللوحات عن قرب تراه مثل الزخرفة، لكن أدواته تمكن أن تخلق لوحة معاصرة ولغة حديثة تنتسب إلي هذا العصر بنفس الوقت لها مرجعيات وإشارات ما إلي هذه النزعة. لا يمكن أن نهمل الجانب الزخرفي إذ أنه موجود في الملابس والأزياء العربية، وفي الجدران والكتب، وهو جزء من مجتمع وعقيدة موجودة، لكن الأهم من ذلك هو قدرتنا علي فتح مغاليق هذه الأشياء وتحويلها إلي عناصر إنسانية معاصرة مقبولة من قبل الثقافة الأخرى.
كانت مرحلة وادي الرافدين، كما يطلق عليها النقد، حاسمة في تشكيلاتك الفنية، ما هي مقومات طرح هذا الموضوع القديم بشكل معاصر؟
هناك شيئان هامان أود قولهما لك، أن أي محاولة لتقديم جلجامش كجزء في أسطورة في تراث محلي أو تقديم ملحمة الحسين كموروث ديني محدود، كلاهما لا يؤدي إلي الانفتاح الثقافي الذي تحدثنا عنه. عندما تقدم جلجامش ومحاولة البحث عن الخلود والخوف من الموت، والحسين كشهيد بمعناه الإنساني العام يتحول كلاهما إلي رمز إنساني موجود في كل الثقافات. وعندما تقدم هذه المحاولة أو هذه الصورة علي صعيد مهني صادق تصبح جزءا من الثقافة الإنسانية وليس من الثقافة المحلية. هناك كثير من الفنانين الذين تأثروا بالفترة السومرية في أوروبا، قدموا ذلك بطريقة أقرب إلي الحياة اليومية المعاصرة الموجودة في أوروبا، وعائقنا الأساسي، نحن أولاد هذه الثقافة، هو محاولة التحرر منها، وهذا يتطلب وقتا كثيرا وثقة بالنفس وأدوات فنية متطورة، إذا من أجل تقديمه كجزء من التراث الإنساني.
إذا أنت تطرح مسألة جوهرية وهي كيفية التعامل مع التراث بطريقة عصرية، هل وجدت الفنانين يخفقون في هذا الجانب؟
نعم لكن بالنسبة لي يجب التقاط جزء من روحية هذا التراث. ومثلما أعمل علي رسم دفاتر الرسم، هو في جزء منه يأتي من اهتمامي بالمخطوطة، من خلال الإطلاع عليها وإيجاد تحقيق عياني جديد لها كما في تجربتي مع محمد بنيس. كانت لي رغبة في إنتاج " طوق الحمامة "، وهو حقق هذه المخطوطة، بشكلها الحديث وبطراز معاصر، وبالنسبة لي عملت الشيء ذاته. وعندي التجربة ذاتها في المخطوطات، عندما ترجع إلي هذه الأشياء قد لا تجد أمامك مرادفات معاصرة. علي سبيل المثال، ألف ليلة وليلة وجدت تأثيراتها عند بورخيس بينما لم يفكر فيها الكتاب العرب. هذا النوع من الأدوات أي المفردات العيانية وحتى نص موجودة في التراث القديم، يتم اختياره أو يعاد تنظيمه بشكل آخر يمكن أن يقدم حياتنا اليومية المعاصرة في الوقت الحاضر، كما فعلت مع المعلقات، فبدلا من وجودها في المكتبات وفي بطون الكتب، تصبح جزءا من حياتنا اليومية. لا يعرف الناس سوي مقاطع من المعلقات وهي لا توجد بشكل عياني، هذا معناه إننا نتغاضى عن شيء أهم ما كان يمثل الفنون القديمة وهو الاستخدام اليومي. السيراميك كان جزءا من الفن الإسلامي في الحياة اليومية وكذلك الكتاب، نحن لا نمتلك ذلك، لا نطبق هذا الموروث، علي سبيل المثال، موروث الكتاب، النسخة الواحدة موجودة في فرنسا ولا توجد في المنطقة العربية.
كانت السبعينات مرحلة حاسمة في عملك الفني في مرحلة، تنوعت فيها خياراتك في الانتقال من التشخيصية إلي مرحلة التجريب قبل الوصول إلي تركيز أسلوبك، هل يمكن أن تفسر لنا هذه الانتقالات في حياتك كفنان؟
كانت السبعينات بالنسبة لي فترة خصبة وعلي الخصوص في العراق بشكل أساسي لتوفر الانفتاح الثقافي والسياسي بحيث أعطيت مديات متنوعة وكثيرة، وتولدت علاقات بين الرسامين والشعراء وبين المسرحيين والرسامين أي فيه مناخ كان من الممكن أن يؤدي إلي نمو ثقافي ضخم وكبير. أنني أميل إلي التشخيصية بشكل كبير دائما وأجد اللوحة التي لا تمتلك بعدا إنسانيا وتنعدم فيها الحياة تصبح لوحة مثل جدار ولا تقيم حوارا مع الشخص التي يقتنيها أو يشاهدها، ولهذا أعمل في التجريب والتشخيصية في نفس المستوي من العمل، وأحاول أن أجمع المفردات بين التقنيتين، وهذا لا يشكل جانبا سلبيا، لأنني أعتقد أن ما يهمني هو أن أكون صادقا مع نفسي في هذا العمل قبل أن تكون علاقته بالآخر. وعندما تتم محاسبتي يكون ذلك علي أساس مستوي آلية الأداء. علي سبيل المثال، تجد في المعرض عملا نفذ قبل أشهر طويلة، اسمه زهرة الصحراء ، وهو عمل نحتي ملون، كبير، 4 X 5 أمتار إلي جانبه يوجد عمل أسمه بلاد السواد وهو عمل تشخيصي، وقد شاهده بعض الأشخاص ولم يجدوا الفرق بين اللوحتين. وهناك ظروف تجعلني أعود إلي التشخيصية، ولم أجد في ذاكرتي ما يمكن أن يلائم فاجعة حرب الخليج سوي العودة إلي التشخيصية كما نفذت أعمالا تشخيصية كثيرة، بنفس الموقف فيها جانب غنائي، وثقة بالمستقبل في قصيدة إرادة الحياة للشابي، علي الرغم من أن هذا النص بالنسبة لي ليس نصا أساسيا وحديثا لكنه يشكل جزءا من ذاكرة المنطقة بأكملها، حتى أن كثيرا من التونسيين قالوا لي بشكل ما لو أن الشابي يشاهد هذا العمل، لا يرضي به. هذا صحيح لأنني استخدمته كإشارة لشيء كنت أعاني منه، وستري الكتاب. وعملت في الوقت نفسه دفاتر يومية وبدلا من الكتابة كنت أنكب علي رسم ما أعانيه وأشاهده علي شاشة التلفزيون وأقرؤه في الصحف. كل شيء يمكن أن يثير الفنان، نداء تلفوني، علي سبيل المثال، قد يسبب انفعالا يوميا، ولا طريق أمامي سوي اللجوء إلي التشخيصية التي أشعر معها بالصدق مع نفسي.
قبل قليل قلت بأن اللوحة ليست منتوجا عربيا بل منتوج غربي، هل تأثرت بفنانين أجانب؟
وما زلت أتأثر، أعتقد أن الفن التشكيلي هو تراكم خبرات ومعارف تتأسس بمرور السنوات، وتكون هناك بصمة وإشارة. الفنانون الأجانب هم الذين يشيرون إلي مواطن التأثيرات بينما نحن نعتبره نوعا من النقل والاستنساخ، نتيجة عدم توفر ثقافة غزيرة، بينما قال لي أحد الفنانين الإنكليز: انتهيت الآن من بيكاسو لأنه كان جالسا فوق رأسي. لدي احترام كبير لفرانسيز بيكون، وفنانين في التصميم، ولدي عمل علي التصميم سواء كان سيارة أو أثاثاً أو أي شيء،لأنني أجد فيه طاقة لها علاقة بذاكرة الإنسان، وأعتقد بأننا يجب أن لا ننظر إلي اللوحة كعمل نهائي، وهذا خطأ، لأن الفنان المبدع هو الذي يتمكن تحويل حياته اليومية إلي نتاجا فنية، سواء كانت نتيجة اللوحة أو الكتاب، لأنها جزء من حياته اليومية، ولكن في عالمنا العربي لا يجدون الفن سوي عبر اللوحة المرسومة بالزيت علي القماش، ولا يتوجهون إلي الكولاج أو مواد أخري. ولو نعود إلي الفنان العراقي لا نجد شخصا يتوازي مع جواد سليم بما قدمه من رسومات علي الورق، لأنه كان مهووسا بالأشياء مثل تصميم الحلي، معناها أن عمله الفني لا يقتصر علي اللوحة فقط. مهمة الفنان إغناء الجانب البصري من الحياة، أي الحاجة إلي إنتاج أشياء أخري. علي سبيل المثال، تجد عندي تصميمات مثل الميني بار، أو الكرسي، أو قطعة من الأثاث، تكشف عن صلتي بالحياة. المسألة تخص التعود البصري وهدفي من عمل الأشياء خارج اللوحة هو تحريض المشاهد علي أشياء مغايرة من أجل تفعيل مخيلته بالرؤية البصرية المتجددة .
نستطيع أن نقول أن مفهومك عن اللوحة يتعدى حدود اللوحة إذاً؟
هذا مفهوم شائع في الغرب كله، بمعني أن الفنان المبدع هو الذي يتمكن من إنتاج أعمال متنوعة ولكن في مستوي مهني واحد، وأي شيء ينتجه يظل يحمل بصماته وروحيته عبر تنويع مصادر معرفته ومصادر ما يقدمه من إنتاج، علي سبيل المثال، موضوع النسخة الواحدة من الكتاب مفهوم شائع في أوروبا لكن القليل ينتج خارج فرنسا. أعتقد أن من المفترض أن تدرس المخطوطات في معاهد الفنون والأكاديمية، حتى يتعلم التلميذ كيف يشاهد الأشياء الموجودة. ليست لدينا معرفة سوي أن الفن الأوروبي بصفة محدودة وصغيرة يرتبط بإنتاج اللوحة. الكل يتحدث عن الواسطي، من جواد سليم إلي الآن، والواسطي لم ينتج بشكل صحيح حتى يمكن التعرف عليه، ولا توجد عنه سوي عدة صور، والكتاب الذي أصدره عنه مدبولي كان سيئا للغاية. لا أحد يعرف شيئا عن كتاب الكواكب الثابتة ، الذي هو من أجمل الكتب والمخطوطات . وما أركز عليه هو الجانب البصري، علاقة الرسم بالكلمات، هذا غير موجود، وكتاب الحيوان للجاحظ، وهو من أجمل النصوص، لا يوجد منه سوي نسخة واحدة في إيطاليا. هذا كله لا يوجد في المكتبة اليومية إن صح التعبير. معناها أننا نتحدث عن التراث ولكن ليست لدينا معرفة حقيقية به، ويمكن أن تكون لدينا معرفة بالنص، أكثر مما عندنا معرفة بالجانب البصري. إذا رأيت توت عنخ آمون، وما قدموه عنه في المتحف المصري، وهو من أجمل النتاجات الموجودة من النعال إلي الكرسي إلي الصندوق، ولكن هذه التحف الفنية لا تدرس في الأكاديميات الفنية حتى يتعلم الفنان كيف يري تراثه وكيف يستخدمه.
لو قدر لك أن تبقي في العراق، هل كان تطورك الفني يكون علي ما هو عليه الآن؟
يمكنني أن أقول لك ألف بالمئة لا، لأنه ضمن حدود العراق، وهو ليس بعدا جغرافيا فقط بل تشابك الحياة الموجودة. علي سبيل المثال نتحدث الآن عن كثير من الحركات الفنية في المنطقة العربية لكن أغلبها ظهرت في الخارج. أتساءل: هل تتعاقد المتاحف العربية مع المتاحف الأوروبية لعرض أعمالها الفنية؟ فرنسا هي التي أقامت معرضا يخصنا مثل ماتيس في المغرب ولم تفكر بإقامته أية دولة عربية. نحن لا نفكر بذلك، فكيف يمكن للفنان الشاب أن يطور أدواته الفنية؟ . علي سبيل المثال، أن الفنان الشاب يريد أن يتطور ويحسن أدواته الفنية، لا بد له أن يري المتاحف ونحن ليس لدينا متحف بطريقة صيحة ولا توثيق صحيح، وليس لدينا كتاب صحيح، لذلك لا بد من إطلاعه علي الفنون في اللغات الأخرى وعندما يراها لا يفهمها . في تجربة سموها Bad Art الفن السيئ ، هناك مجموعات مالية كبيرة أرادت أن تقيم شيئا من الأبهة بأن جعلت الفنانين التجاريين يرسمون لوحات كبيرة. الفنان الذي يعيش في العالم العربي لا يعرف ما هو جوهر هذه اللوحات وربما يعتبرها حركة فنية لها قيمة. وعدم التطور الحاصل لدينا ليس انتقاصا لمنطقة جغرافية بل انتقاص من المحلية الموجودة في المنطقة والتي وضعتنا في حدود ضيقة. إننا نتحدث عن الانترنيت ولكن جوهره ليس جهاز كومبيوتر فقط، إذا لم تكن تفهم اللغة الثانية لا تفهم شيئا من هذا الانترنيت. يجري الحديث عن تقديم المتنبي من خلال الانترنيت معناه أنت تنقل كتاب المتنبي إلي جهاز الكومبيوتر ليس إلا . وتجربة كتاب في جريدة، ساهمت في العدد الأول فيه، أعتقد بأن تشجيع القراءة من خلاله، ما هو إلا كذبة، لأن الذي لا يقرأ لا يهمه نوع الكتاب وطباعته. هناك قراء لا يطلعون إلا علي أخبار الرياضة، والعاملون في هذا المشروع بالأساس علاقتهم بالفن محدودة جدا، لذلك حولوا الرسامين إلي مجرد مزوقين، والفنان إلي شخص يزين ويزخرف، أنه تشويه، شخصيا عملت كتاب المتنبي، كل الناس يقدمونه لكني قدمته عبر خمسين عملا بأحجام مختلفة علي جريدة، ومعني أن يظهر المتنبي بشكل تصميمي سيئ أن هذه المشاريع غير مدروسة، ولم يستفد القائمون علي هذا المشروع مما هو موجود في أوروبا، و كتاب في جريدة، هو تقليد لمشروع أسباني أو أمريكي لاتيني. وطريقة تقديم هذا المشروع أوضح بأن فعل القراءة شيء وفعل الثقافة شيء. أنا لا افهم لماذا يقدم شاعر مثل المتنبي ولا يقدم الواسطي.
المصدر: القدس العربي
28/10/2001