تحمل لوحاتها خصوصية الروح إليمنية وفرادة طبيعتها وتضاريسها وأجوائها، خصوصية الإنسان والمكان والزمان، حيث يتجلى المشهد إليمني بكل مفردات عالمه في أعمال الفنانة التشكيلية إليمنية آمنة النصيري التي استطاعت تعميق رؤاها الإبداعية والانطلاق إلى آفاق التشكيل العربي، وقد شاركت مؤخرا في بينإلى القاهرة الدولي، ومن قبل في العديد من المعارض والبينالات العالمية والعربية، كما أقامت الكثير من المعارض، وتمارس الكتابة النقدية وهي أستاذة جامعية، أصدرت عددا من المؤلفات منها «مقامات اللون ـ مقالات في الفن البصري»، و«متوإلية القيم والجديد» عمل مشترك مع عمر عبد العزيز، و«مواقيت لأحزان سبأ» عمل مشترك مع الشاعر أحمد العواضي.
- منذ بدأت الرسم ما طبيعة التطورات التي لحقت بك ماذا تركت وماذا عمقت ولماذا؟
سنواتي الأولى تمثلت بداية تقليدية ربما مررت بها على غرار العديد من التشكيليات العربيات، فمن المشاهد الأكاديمية والمدرسية، من الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية والواقعية، إلى التعبيرية والدوران حول قضايا المرأة وهمومها ومعاناتها، بمعنى أن النص في تلك المرحلة كان تعبيرا عن الفنانة المرأة المثقلة بالأعباء والمحاطة بالمحاذير في المجتمع العربي، لكن شكل الوعي بدأ يتغير لدي، وشيئا فشيئا شعرت بمحدودية العالم الذي سجنت نفسي فيه من ناحية، ومن ناحية أخرى اتجهت نحو الموضوعات الفلسفية والمشاريع الرؤيوية الكلية التي لا تخضع مباشرة للمعطيات الواقعية والاجتماعية والتاريخية، وبدأت أتحول عن الطابع التعبيري إلى المساحات التجريدية، وفي هذا التحول بالتحديد آمنت بأهمية إدراك وجودي كفنانة وإنسانة تتمثل رؤية إبداعية بغض النظر عن النوع، مع ثقة بأن نقل الرؤية دونما شعارات أو افتعال هو في الأخير يعبر عني كفنانة أنثى، وفي الوقت نفسه لا يكرس تجربتي في اتجاه الفكر النسوي فحسب، فأنا غير مؤمنة بعزل التجارب الفنية للفنانات اعتمادا على النوع أو التحيز للاتجاهات النسوية.
جوهر الأشياء
الطبيعة إليمنية تشكل بنيانا فنيا شديد الفرادة والتميز جباله، هضابه، سهوله، بنيته المعمارية، بنيته الاجتماعية، طرائق أهله في الملبس والمشرب والمسكن، إلى أي مدى استطاعت تجربتك احتضان هذا العالم؟
لم تكن اهتماماتي سواء على مستوى الشكل أو المحتوى بعيدة عن المعطيات الخارجية وعن البيئة بمعناها الحسي (المشهد الطبيعي والعمارة) وقد ظهرت هذه الأخيرة كمؤثر فني ـ جمالي من المراحل الأولى من نتاجي، ومع أنني أتحول أكثر فأكثر نحو الصورة المجردة الخالصة إلا أنها تظل تستلهم القيم الفنية للبيئة التي تحيط بنا، والتراث المحلي، إلا أن المقاربة في التجارب الأحدث لا تقوم على العلاقات المباشرة بالخارج وإنما على جوهر الأشياء.
هل نستطيع القول إن خصوصيتك الفنية نابعة من هذا الاحتضان للطبيعة اليمنية وصدق الإحساس بها وبمفرداتها؟
مع أن أعمالي في السنوات العشر الأخيرة تتناوب القيم التعبيرية والتجريدية إلا أن فيها رائحة إليمن، أحاول تمثل الجمالية السحرية التي تشع من الأحياء القديمة بمعمارها الفريد ومن الإرث البصري الهائل، لا أدري إلى أي مدى نجحت في ذلك، إلا أنني لن أكف عن المحاولة، ومن جهة أخرى أؤمن بأن النص البصري المعاصر عبارة عن فضاء مفتوح وتجريب مستمر، لهذا لا أقصر بحثي على الإرث المحلي، فكل تراث الإنسانية اليوم في متناول الفنان ليصبح صورة معاصرة، وإذا كانت علاقة الفنان بالعالم وبالفكر الإنساني عميقة فإنه قادر على خلق نموذج إبداعي يعبر عن ثقافته المحلية وينتمي إلى ثقافة الآخر في الوقت ذاته.
ما طبيعة المناخ الذي نشأت فيه، مكوناته الاجتماعية والبيئية والثقافية وما الدور الذي لعبته هذه المكونات على تجلي موهبة الرسم لديك؟
البيئة المحافظة ذات الثقافة التقليدية، وفي الوقت ذاته الخصبة الثرية بفنونها البصرية والسمعية وبعمارتها الأخاذة المتنوعة المتمثلة قيما تشكيلية لا محدودة، ثم الانتقالات العديدة بين القاهرة والإسكندرية وصنعاء ومدينتي الأصلية الصغيرة (رداع) وموسكو، هذه الأمور كلها بما تحمله من أبعاد ثقافية ومن متغيرات اجتماعية وفروقات حضارية شكلت مناخا ساهم إلى حد كبير في ظهور اهتماماتي تجاه الكتابة والرسم، وكانت محرضا جوهرياً لرغبتي في التعبير عن رؤيتي للأشياء، وساعدت على فتح عيني على الفنون وتوسيع اهتماماتي بل إن الحياة في مناطق جغرافية متنوعة وفي مجتمعات ذات ثقافات كثيرة كان يحدث لدي دوما نوعا من الصدمة، ويدفعني ولا يزال للبحث والدراسة ومحاولة الاكتشاف.
تمزج رؤيتك الفنية بين الواقع والأسطورة والصوفية في إطار فلسفة تبدو أحيانا عاشقة مبهجة ومرحة وأحيانا مكتئبة صلدة وأحيانا فزعة، هل ثمة تفسير لذلك؟
الفن أولا وأخيرا إلى جانب كونه تجسيدا لرؤى جمالية وفكرية هو تعبير عن حالة، لحظة نفسية بعينها، ولهذا لا أستغرب أن تتباين أجواء لوحاتي وحالاتها، بل لا يدهشني أن أجدني قد نقلت طيوري أو كائناتي مثلا من أجواء البهجة إلى فضاءات كئيبة وغرائبية، فهذا التباين تأكيد على أن الصورة تلتقط لحظة يمتزج فيها الوجدان بالنشاط الذهني.
أنسنة البيوت
في بعض لوحاتك ثمة تشابه بين المرأة والبيت ليس على مستوى التركيب الفني ولكن على مستوى الرؤية والإحساس، كيف ترين العلاقة بين البيت إليمني والمرأة ومدى انعكاسها على رؤيتك الفنية؟
نعم أولا في تصوير المدينة أحاول أنسنة البيوت وتشبيهها بالنساء لسبب محدد، فأنا أرى أن شكل الزي الخارجي للمرأة إليمنية شبيه إلى حد كبير من حيث زخرفته وتقسيماته بشكل العمارة المحلية، فالمنزل مزخرف ومقسم بعدة أحزمة أفقية، وكذلك زي المرأة، ثم إن البيت بامتداده الرأسي يبدو عالما مغلقا وكذلك بالنسبة إلى المرأة بالزي الذي يلفها ويغلق عالمها عليها.
شاهدت أكثر من معرض فن تشكيلي لفنانين يمنيين وللأسف خرجت بانطباع سلبي، حيث لاحظت أن هناك نسخا وتقليدا لأعمال ورؤى فنية بعضها عربي وبعضها غربي، برأيك ألم يحن الأوان كي تنضج التجربة الفنية لتشكيل يمني؟
مشكلة التشكيل اليمني تتمثل في عزلته عن العالم، وعن حركات التشكيل في الأقطار العربية والغربية، وغياب المقتني المحلي، مما يدفع البعض من الفنانين لإنتاج لوحات ترضي المشتري الأجنبي الذي يبحث عن لوحة تروج لعناصر السياحة في اليمن وتوثق بشكل فج مظاهر الفولكلور. كما أن لتدهور الأوضاع الاقتصادية تأثيراً في تراجع النشاط التشكيلي بالرغم من محاولة وزارة الثقافة دعم الحركة باقتناء أعمال الفنانين إلا أن ذلك ليس حلا للإشكالية، إذ يتطلب الأمر انتعاشا في الحياة الاقتصادية مما يترتب عليه انفتاح ثقافي اقتصادي واستقرار... إلخ.
إذاً بماذا تقيمين حجم العلاقة التي تربط الحركة التشكيلية اليمنية بالحركة التشكيلية العربية؟
كما ذكرت الحركة التشكيلية في اليمن شبه معزولة عن مثيلاتها في العالم العربي، فقليلا ما يخرج التشكيليون اليمنيون إلى الأقطار الأخرى للمشاركة في الفعاليات الدولية، وقليلة المعارض العربية التي تستقبلها اليمن. وكي يتغير الوضع يجب أن تنفتح التجربة المحلية على العالم ككل وتتاح فرص الخروج والسفر والعرض للتشكيليين اليمنيين حتى يقدموا للآخرين فنهم ويطوروا خبراتهم، كما يتطلب الأمر أيضا توفر نشاطات تشكيلية عربية ودولية في اليمن وألا تقتصر الفعاليات على المناسبات الرسمية والأسابيع الثقافية.
أخيرا كيف ترين المعوقات التي تواجه المبدعة العربية عامة واليمنية خاصة سواء كانت فنانة تشكيلية أو شاعرة أو قاصة أو روائية؟
بشكل عام هناك معوقات وإشكاليات مشتركة تؤثر في إبداع المرأة كما تؤثر في الرجل، لكن في ما يتعلق بالمبدعة هناك الشروط الاجتماعية الكثيرة التي تقف عائقاً بين أن تبدع المرأة بالشكل المطلوب. أنا على ثقة لو توافرت ظروف اجتماعية أفضل فإن هذا المنتوج الإبداعي سيختلف كماً وكيفاً، ويكفي أن نعترف بأن فائض الوقت لدينا هو الوقت المتاح للإبداع، على اعتبار أن المجتمع يفرض على المرأة الكثير من المتطلبات ويعتبرها ضرورة أهم كثيراً من عملها الإبداعي، ومن جهة أخرى ربما تلعب هذه الظروف الصعبة دوراً في حث المرأة المبدعة على التعبير، لكن مع ذلك أعتقد أنها تثقل عليها إلى حد كبير، ومن هذه الظروف: المسؤولية الأسرية، في مجتمعات مثل المجتمعات الخليجية والتي أعتبر المجتمع اليمني جزءاً منها تزداد هذه الظروف سوءاً فيصعب مثلاً أن تتواجد المرأة المبدعة خارج المنزل وقتاً طويلاً، كما ينظر للممارسات الإبداعية على اختلافها على أنها شكل من أشكال الترف الاجتماعي الذي لا يجب ألا يهدر فيه الكثير من الوقت، وهذه الإشكالية أقل حدة في مجتمعات مثل مصر وسوريا، المحاذير ذات الطابع الاجتماعي على إبداع المرأة كثيرة ، فهناك تابوهات في ما يتعلق بموضوعات المرأة مثل علاقة المرأة والرجل، المرأة والدين، صورة الجسد، أنا أعتقد أن هذه الإشكالية تؤثر في النص الإبداعي وتخلق حلولاً إبداعية مختلفة، تغلف النص إما بالرمزية أو الغموض، كون المبدعة توجد بداخله حيث ما نسميه بالمتلقي الضمني الذي تفترضه لمراقبة النص قبل أن يخرج إلى الجمهور خوفاً من الوقوع في مأزق مع إحدى هذه القضايا، ومن ثم مع المجتمع ومنظومته الثقافية التقليدية، وبالطبع إذا تحددت حرية العمل الإبداعي قلت إبداعية النص، وهذه مشكلة لن تتلاشى إلا بالتغيير في فكر المجتمع نفسه، فنحن في كثير من الأحيان قبل أن نفكر في التجربة الإبداعية نفسها وقبل أن نستغرق في سياقها نضع المجتمع أمام أعيننا كي نتفادى المواجهات التي قد تدمرنا، والمجتمعات العربية قاسية جداً في أحكامها على نص إبداعي تستشعر منه خطراً على منظومتها، بينما من مبادئ العمل الإبداعي المهمة أن يخرج العمق إلى السطح وأن يفضح المسكوت عنه، وهذا المسكوت عنه في الوقت الحاضر يرتبط بالأوضاع الاجتماعية للمرأة العربية وبالكثير من القضايا الحساسة التي أشرنا إليها ، فهل تتحول المرأة عن التفكير في تأصيل التجربة الإبداعية للتفكير في حماية نفسها في هذا المجتمع؟ وهل يظل النص على قدر كبير من الإبداع إذا أحيط باستمرارية كثير من هذه القيود؟
السفير
22 يوليو 2007