قد لا يكون العلاج بالفن جديداً في العالم، غير أنه يشهد توسعاً ملحوظاً، فيلتقي بتقنيات العلاج الطبيعي، ويتوسع ليطاول كل الفنون، ونلاحظ بين مرحلة وأخرى تطوراً وتجديداً في أساليب العلاج وتقنياته، بل ربما نعثر على اكتشافات جديدة.
شريفة الحسيني اللبنانية المقيمة في لوزان (سويسرا)، لديها محترف تمارس فيه العلاج بالرسم والألوان، مستخدمة اختصاصات مختلفة حصلتها خلال حياة علمية مكثفة، فهي حائزة دبلوماً في تاريخ الفن والجماليات السينمائية من جامعة لوزان، ومتخرجة من محترف رسم مختص بالعلاج، أستاذة في علم الاجتماع وعلم النفس العيادي في جامعات أثينا وروين وباريس 7، وعضو في المركز العالمي للعلوم النفسجسدية في باريس حيث تقيم أبحاثاً علمية في عملها على الإكتئاب والحساسية ومرض الألزهايمر.
حاولنا معها الاقتراب من موضوع العلاج بالفن، ومعرفة ما يدور في محترفها من إنجازات، ومقاربة رؤيتها الخاصة وإنجازاتها على هذا المستوى، فكان هذا الحوار.
* كيف تحددين طريقتك في العلاج بالرسم والتلوين؟
للألوان قدرة على تحريك المشاعر والانفعالات المكبوتة، ومجرد إسقاطها على الورق يمنح العلاقة العلاجية حيّزاً ومساحة واقعيين يشكلان الإطار المطلوب. من هنا فطريقة العلاج هذه ليست هدفاً بذاته بل هي تقنية لتأسيس علاقة تهدف الى مساعدة المريض على الخروج من أزمته ذات البعد النفسجسدي، لكن العلاج الذي اتبعه لا يقتصر على الرسم والتلوين فقط، بل يولي اهتماماً خاصاً للحلم كنواة أساسية للكائن البشري إذ انه مصدر مهم للخلق والإبداع.
* نعرف ان لديك محترفا تستقبلين فيه المرضى، بأي مرضى تختصين؟
يشكل المحترف فسحة لكل مريض يواجه صعوبات ذات أصول نفسية جسدية كالقلق والاكتئاب ومشاكل الاضطراب الغذائي والإدمان والحساسية على مختلف أنواعها، إضافة الى أشخاص لا يطالهم العلاج النفسي التقليدي نظراً الى استحالة التواصل معهم عن طريق اللغة، كما في حالة الخرس والتوحد ومرضى الألزاهايمر. وهدفي، كما ذكرت، تحريك طاقات المريض الإبداعية والحيوية لمساعدته على الوصول الى إقامة علاقة توازن بين جسده ونفسه.
جسر تواصل
* بم تختلفين في طريقة علاجك عن الآخرين؟
ليس لديّ طريقة واحدة للعلاج، فأنا أتصرف بحرية وأقدم مكانا يساعد الآخر على التعبير بحرية عن مكنوناته، بكلماته الخاصة، وتعبيره الشخصي. وأتعامل مع كل حالة وفقا لخصوصيتها ومتطلباتها. والمحترف منفتح على كافة اشكال التعبير كالرسم والكتابة والمسرح الارتجالي الخ...
* كيف تستطيعين التواصل مع مرضى الألزهايمر، مع العلم ان هذا المرض يدمر الذاكرة في ما يدمر من خلايا الدماغ؟
أتيح لي مجال التعامل مع مرض الألزهايمر منذ حوالي ثلاث سنوات، وذلك في مركز خاص بهذا النوع من المرضى، فكانت مواجهتي الأولى مع هذا المرض.
ركزت اهتمامي على محاولة مد جسر للتواصل مع أفراد في حالة تدمير مستمر للذاكرة، وبالتالي انهيار للهوية الشخصية، وما يرافقه من نتائج وخيمة على كافة وظائف الجسد الحيوية، بالإضافة الى انهيار المستوى العلائقي مع الآخر. حفزتني هذه التجربة على ابتكار واستنباط أساليب للتواصل، بنيتها يوما بعد يوم، ونظراً الى تأثري وانفعالي أمام هذه الحالات الإنسانية القصوى في مأسويتها، حاولت توظيف كافة خبراتي الدراسية والحياتية لإيجاد جسر التواصل هذا، وبالمحصلة تجمعت لديّ مئات الرسومات والشهادات والعشرات من التسجيلات الحية، التي مكنتني من اكتشاف ما اسميه (ذاكرة الجسد).
فالاكتشافات الأخيرة المتعلقة بهذا المرض تشير الى انه لا يدمر الذاكرة كليا، كما انه لا يدمر كل إمكانيات الفرد الحيوية دفعة واحدة، وأن التواصل ممكن معه عبر سبل غير لغوية تتوجه الى الجسد كالرسم مثلا. لكن من الضروري الإشارة الى ان هذا المرض الخطير مستعص على العلاج حتى الآن، كما ان أسبابه لم تعرف بعد، وبالتالي فالموت محتوم بعد بضع سنوات من الإصابة.
* ماذا تعنين ب(ذاكرة الجسد)؟ وهل انفعالات الجسد هي ذاكرة؟
هناك ظاهرتان أود الإشارة إليهما، الأولى تتناول النكوص، والثانية هي استمرار الذاكرة الانفعالية في الجلد. في الظاهرة الأولى يبدو المصاب بالألزهايمر في حالة نكوص مستمر يواكبها تدمير عصبي لخلايا الدماغ من النضج نحو الطفولة، لكنه للأسف رحلة باتجاه واحد لا عودة منه، أما ما قصدت به ب<<ذاكرة الجسد>> فهو تمركز للأحاسيس والانفعالات في الجلد الذي هو إحدى الحواس التي لا يمكن للمرض ان يدمرها الى جانب السمع والنظر. هناك أبحاث في علم الأجنة تفيد ان للجلد صلة عضوية بالدماغ منذ اللحظة الأولى للحياة (الأسبوع الثالث)، وكأنهما ينشآن من المادة نفسها وفي الوقت نفسه، كما ان للجهاز العصبي صلة وثيقة بجهاز المناعة الذي يحتوي بدوره على هوية الفرد الشخصية. فالجلد كما يتبين ذو صلة وثيقة بالذاكرة، وهو يختزن كل خبراتنا الانفعالية. هناك اكتشافات حديثة تمت على أشخاص سبق ان أصيبوا بصدمات جبهية أفقدتهم القدرة على التعرف الى الوجوه، فيما استمرت ذاكرتهم في المجالات الأخرى، وكانوا ينفون تعرفهم الى أشخاص سبق لهم ان عرفوهم من أقاربهم وأصحابهم كانوا قد عرضوا عليهم الى جانب صور مشاهير وأناس غير معروفين، لكن عندما اخضعوا لأجهزة تسجل الانفعال وضعت على جلدهم، تبين ان الجلد يسجل انفعالا جديدا يدل على تذكرة تلك الوجوه. يقودنا ذلك الى الاستنتاج ان للجلد ذاكرته الخاصة التي تختزن كافة أمراضنا وتجاربنا الحياتية. وهذا تحديدا هو جسر التواصل الذي سبق وقلت إنني أسعى الى بنائه مع الذين يأتون الى محترفي من هؤلاء المرض.
العلاج بالفن
* أنت تعالجين ايضا مصابين بأمراض أخرى كيف تتعاملين معها؟
لديّ خبرة خاصة في حالات الاكتئاب التي غالبا ما تؤدي الى أمراض جسدية وقد استطعت مؤخراً القيام بعمل مهم حيث استقبلت سيدة مصابة <<بالشقيقة>> وهو صداع مزمن، وما لبثت ان شفيت منه بعد جلسات أسبوعية استمرت حوالي سنتين، وقد ركزت بشكل خاص على تمكينها من رسم أحلامها فكانت مبعثا لتحريك طاقاتها الإبداعية والجوهرية، وهي الآن تمارس الرسم كمحترفة فعلية.
لديّ ايضا حالات لمراهقين مدمنين على المخدرات كالحشيش وغيره ويواجهون فشلا دراسيا ظاهرا وأستطيع القول ان تقنية الرسم والتلوين تساعد هذه الفئة بشكل خاص إذ أنهم سرعان ما يجدون لغتهم الحقيقية سواء بالرسم او الكولاج أو المسرح المرتجل.
وقد عالجت العديد منهم ولاحظت ان انفعالاتهم المشحونة بالرفض والثورة على المجتمع لا تلبث ان تتحول الى طاقات إبداعية بدلا من الاتجاه نحو التدمير الذاتي. فحين يرسم المراهق ويضع كلماته الخاصة على رسومه يسترد ثقته بإمكانياته ويعبر عنها بإيجابية.
* يقال إن العلاج بالفن أكثر فعالية لدى الأطفال، خصوصا ان لديهم قدرة على التعبير بالرسم تفوق أحيانا قدرتهم على التعبير بالكلام ما رأيك؟
العمل مع الأطفال يجعلنا نعرف بسرعة ما هي مشاكلهم، ونستطيع ان نساهم في تغييرهم بسرعة ايضا، فعلاجهم بالرسم سريع وممتع وعفوي، وهو شبه مضمون، بحدود المطلوب من العلاج.
* كيف يمكن ان نخلص الى تعريف مختصر للعلاج بالفن؟
ذكرت سابقاً ان بإمكان المعالجة بالفن تجاوز العلاج النفسي التقليدي والسماح للشخص ان يقيم صلة متوازنة بين جسده ونفسه، وهذا التوازن هو المصدر الأساسي لكل صحة وكل إبداع.
السفير
03/09/2005