رحل عارف الريّس، وكأنه أراد أن يفاجئ نفسه ويفاجئنا برحيله. هكذا كالومض. كاللحظة القاطعة. كالسرّ الذي انفتح بلا مقدمات. رحل عندما كانت كل أبوابه ونوافذه مفتوحة.
لم نكن نعرف أن "المشاغب" و"المشاكس" والشغوف بالحياة، وبالأسئلة الكبيرة، وبالناس، وبالشارع، وبالقضايا، الضاج بقهقهته المدوية، المنفرد بشفافيته، المتميّز بلهفته الطازجة، لم نكن نعرف أنه سيغادر وحيداً، وقد اكتظت مخيّلته وذاكرته، وأصابعه، وأوراقه، وأقلامه، وعيناه، وجسده، بالأشكال واللوحات والرسوم، والصراخ، والفرح والألم والعزلة.
كائن متعدد عارف الريّس. متعدد حتى التناقض. كأنما الفن بالنسبة إليه توكيد للذات لكن أيضاً نفي لها: فهو الباحث أبداً عن ذاته الإنسانية والفنية في مجهوله، وفي مجهول العالم، وفي مجهول الأشكال والابتكارات والجنون الجميل، واجتراح المختلف. لهذا ليس هناك عارف الريّس واحد. وإنما عارف الريّس بوجوه كثيرة. وبمرايا كثيرة. وبعوالم كثيرة. لا يكشف سراً أو وجهاً أو حتى قناعاً، حتى ينتقل إلى مناطق أخرى ووجوه أخرى وأسرار أخرى... ولهذا لم يكن الفن عنده "هروباً" من الواقع، أو احتيالاً، أو مجازاً، إلاّ بمقدار ما يغنيه، ويفتقه، ويفتحه ويشرعه على أعماقه، وأغواره، ومكتشفاته، في لعبة تمزج بين المأساة والمهارة، بين العبث وبين الألم، بين التراجيديا والسخرية، بين الالتزام والشغف بالنافل والعابر والهامشي... والمجاني.
رائد كبير من رواد الفن. مؤسس بين المؤسسين في الخمسينات. فارس من فرسان الطليعية المتقدمة والمغامرة، والمجازفة، والصدم، والسؤال، مع رعيل مهم كرفيق شرف، وشفيق عبود، وإيلي خليفة، وأمين الباشا، وصليبا الدويهي، وحسين ماضي، وحليم جرداق، شارك في صنع الحداثة الثقافية والفنية والاجتماعية، وأسس لثورة بلاستيكية كبيرة.
رحل ذو القهقهة المدوية. وذو الشفافية، لكن بقي معنا كل ما صنعه رائعاً، متوهجاً، ورائداً، وإنساناً كبيراً.
هناك شهادات من رفاق أحبوه ومن كتّاب وفنانين.
***
نورا جنبلاط: رمز
عارف الريّس كان رمزاً كبيراً من كبار رموز الفن التشكيلي في لبنان والشرق الأوسط.
رحيله يشكل خسارة كبيرة للفن وهو كان ما يزال في ذروة العطاء والإنتاج والانفتاح على الاتجاهات والتيارات الفنية التشكيلية الحديثة كافة.
غيابه سيترك فراغات في الساحة التشكيلية لا سيما وأنه كان أحد مؤسسيها.
***
جورج جرداق:علامة كبيرة
يكفي أن نقول إن عارف الريّس كان أحد النابغين الأوائل الذين يدعون إلى تذوق الجمال، الراغبين في أن يعلو صوت الفن على صوت السياسة والتجارة لثقته بأن الفن وحده يعيد الدفء إلى الحياة ويمتد بالإنسان بالحنين إلى عالم فاضل له لغة واحدة هي المحبة.
إن أعمال عارف الريّس وأخلاقه وسيرته هي كلها شيء من العودة إلى الأصول في هذا العصر الذي أبعد الإنسان عن قيمه وصحّره كما صحر الأرض فبات كلاهما في حاجة إلى الترميم. الذي يطلع على أعمال عارف الريّس الفنية يشعر بأن عمله إقليمي صادق وعميق، وكل عمل محلي صادق وعميق وأصيل وجميل وجديد وجدير بأن يوصف بأنه عمل فني هو عمل عالمي بأدق المعاني.
وعلى هذا يكون الريّس فناناً عالمياً من لبنان.
عارف الريّس علامة كبيرة من علامات البقاء والاستمرار في لبنان. رحمه الله وأكثر من تلاميذه ومريديه وعارفي قدره.
***
حليم جرداق: لم يساوم
شيء مؤسف رحيل عارف الريّس.
رجل جميل والأصح رجل ملتزم عنده موقف لم يساوم مطلقاً في فنه.
كان فناناً عصامياً، التزم بقضايا الناس وبقضايا شعبه وبالقضايا الفنية وكانت مواضيعه مستمدة من الحالة الاجتماعية وشارع الحياة إن عاش.
لم يساوم في فنه وكان صاحب شخصية مميّزة ويتمتع بموهبة الصداقة.
عارف الريّس، من الرعيل الذي أسس الحركة الفنية التشكيلية منذ أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات.
كانت تربطنا معه صداقة وكنت من المحبذين لمواقفه وهو الذي وقف موقف المدافع عن حقوق الفنان والمواطن عامة.
كان يعتبر الفنان جزءاً من الشارع المديني وقضاياه من قضايا الإجماع المدني وغير مفصول مطلقاً في حرياته وتعبيراته عن قضايا العامل والفلاح والمهندس والطبيب وكل أوجه المسار الاجتماعي.
كان إنسانياً جداً.
***
حسن جوني: احتجاجي
لم يكن عارف الريّس فناناً تقليدياً، أو بالأصح فناناً نمطياً، بل كان يرسم قناعاته الفكرية لذا كانت لوحته كمن يقول جملة أو فكرة أو رأياً أو موقفاً. كأنه يؤسس لتيار تعبيري احتجاجي، يرسم عارف الريّس وينحت ويبحث عن شيء لا يريد الوصول إلى نهاياته كي يظل على تماس مع الرسم والنحت والتكوين.
ذاك الحزين الضاحك، ماسك الفن وصراحة الإبداع، يمسكه حزن مقيم في بئر ذاته، حسبه، انه تخلى عن كل المطامع والخدع ليدخل جدياً في محراب الفن.
انه من القلة القليلة التي اعتصمت بالفن ورأت فيه صلاحاً، فطهرها وظل عارف الرئيس متشبثاً بأقلامه وألوانه وأزميله حتى وصل إلى نهاية مطافه، فأوصد على نفسه باب الحياة كي ينعم في الراحة الشاملة.
***
مارون الحكيم: فطري وعصامي
فنان فطري عصامي متعدد البوح الفني، غزير بعطاءاته، مفرط بمحبته مغالٍ بعداوته. لم يعرف ولم يقم يوماً حدوداً بين المحبة والمجافاة أو بين الجدية واللامبالاة.
انه بحق طفل الحركة الفنية التشكيلية اللبنانية المدلل. ومع مغالاته ولامبالاته وجنونه وجموحه ظل واقفاً طوال عمره يتحدى الزمن بالمتابعة اليومية لأشقى مهنة مارسها بإدمان المؤمن المتعبّد الخاشع، وكأن الفن خلاصه من روتين الزمان وبؤس العيش.
عارف الريّس عرفته أستاذا في معهد الفنون الجميلة في بداية السبعينات حين كان في عزّ شبابه وقمة ثورته وفورانه الإيديولوجي والفني. لم يكن ذلك الأستاذ التقليدي الذي يعلم أصول التقنيات وسبل الجماليات الفنية فقط، إنما كان الصديق الحميم لأكثرية طلابه يدربهم على مجابهة الصعاب في الحياة وسائر دروبها المتشعبة الشاقة.
وعرفته فناناً تشكيلياً متعدداً ومتشعباً، مجرِّباً ومخرِّباً، تقليدياً وثائراً. عرفته فطرياً كما عرفته طليعياً.
وعرفته زميلاً في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت: في الانتخابات وفي الهيئة الإدارية وفي الاجتماعات التأسيسية لنقابة الفنانين التشكيليين وهو أحد المساهمين في تأسيسها ودعمها. عرفته حينها مؤيداً داعماً بقوة وصدق كما عرفته متخاذلاً وأحياناً متآمراً مجرداً.
رافقته إلى مدينة عاليه لإنشاء أول سمبوزيوم للنحت في لبنان عرف هذا الحجم وهذا الانتشار. ورفعنا سوياً مع زملاء لنا في جمعية الفنانين في تلك الفترة 1988 2000 لواء الفن وخاصة النحت اللبناني والعربي والعالمي كما رفعنا لواء مدينة عاليه بمعية صديقنا الكبير وجدي مراد رئيس بلديتها، ونجحنا طبعاً حتى صار هذا السبموزيوم نموذجاً يحتذى به في كل الوطن.
عرفته أنسانا محباً وصديقاً مخلصاً وعرفته عدواً ناقماً. عرفته خروفاً كما عرفته ذئباً. لكني لم أعرفه سوى ذلك الطفل الذي لم يكبر يوماً محافظاً على براءة الطفولة وشقاوتها ومحافظاً على جنون إبداعه المختلف بكل الحالات. لذلك أعتبره نموذجاً فريداً في الحركة التشكيلية اللبنانية لا يشبه إلا ذاته وهو مدماك أساسي في عمارة هذه الحركة.
عارف الريّس كيف ما كنت أحببناك وسنحبك فاسترح في رقادك الأبدي.
لعل الوطن ينصف المبدعين.
***
محمد شمس الدين: باب جديد وألوان أخرى
أستاذي عارف الريّس.. أي انه علمني فن الرسم، كذلك الأمر لا يقتصر على هذا، هو علمني أكثر حب الرسم، أو إذا أردت حب المهنة.
كان حضوره يتجاوز حضور الأستاذ، كان الصديق والأخ، وكان الكلام معه ليس كلاماً عن الفن بل عن الحياة اليومية مما يفتح الذاكرة ويفتح باباً واسعاً لكيفية التفكير بالفن ليس كمادة أكاديمية وإنما باعتبار الفن أكبر وأوسع، باعتباره ابن الحياة، أي الحياة المعيوشة إلى أقصاها.
هذا في ذاكرتي.
في مكان آخر، تعرفت أول نزولي سنة 1977 أو 1978 على جداريات الحرب لعارف الريّس بالأبيض والأسود، هذه الجداريات عملت لي ليس تحولاً بل ربطت بين شغلي في بداية الحرب والذاكرة في اللوحات.
التقيت به أخيراً منذ شهرين في عاليه وعزمني على سندويش دجاج، قال لي "لازم تاكل حتى ولو ما كنت جوعان".
إنسان يقضي هوايته بفن فيه شبق جمالي، اخبرني كيف استعاد علاقته بشارع عاليه وشارع المدينة، انه فتح باباً جديداً عن ألوان أخرى من الحياة.
***
غريتا نوفل: بكيتك أيها المعلم
بالأمس عبود واليوم عارف..
فجأة رأيت صخوره المتراصة في لوحاته تنهار الواحدة تلو الأخرى. عارف الريس عاشق الطبيعة ومدرس الطبيعة الحية.
عملنا سوياً على رسم شجرة سنديان عملاقة ضحكنا كثيراً وما زالت قهقهته تملأ الفضاء منذ ذلك اليوم.
هزأنا بهذه الدنيا التي تعصف بنا من دون استئذان.. بكيتك كثيراً أيها المعلم.
***
سمر مغربل: سخرية أخرى من الحياة
اليوم رجل كبير رحل.
اليوم أجل أصبح خفيفاً جداً.
واحد تلو الآخر يرحل. توقف الوقت بالنسبة إليك يا عارف سوف نتذكرك دائماً لإحساسك المرهف وسخريتك بالحياة، وفي ضحكاتك المدوّية وسع اللون بكل تشعباته وتجلياته ووسع غموض الحياة التي تأخذنا فجأة.
صرتُ اليوم أكثر لطفاً سافر في متن اللون اللانهائي تحرره من أوجاعه وأحزانه وترحل في جوانية الأشياء هكذا فجأة ومن دون صخب.
مفاجأة أخرى عارف الرئيس.. سخرية أخرى من الحياة.
***
جميل ملاعب: "زوربا" اللبناني
عارف الريّس آخر شيء يخطر في بالي أن أحكي عنه بعد موته. كان يعني لي الأستاذ والفنان والأب والمربي والصديق الدائم.
رافقني في خطواتي الأولى الفنية كصديق لي وللوالد من قبلي، كنا مشروع عائلة وأخوة حقيقية منذ ثلاثين سنة مع الوالد.
عارف الريّس اسم لا يمكن أن يحكي عن الفن التشكيلي إلا ويكون هو الأول أو في المقدمة كإنسان وفنان مغامر، وكرسام يكسر الأعراف والتقاليد الفنية ويبنيها.
هو شخص نادر كجسد وكلمة وكمحترف لبق: "زوربا" اللبناني وفيه الإنسان الذي يحاول أن يكشف الغوامض التافهة في الإنسان ويعريها ويفضح الباطنية المتعفنة في الإنسان والموجود في بيئتنا، التي تخفي جمالياتها أحياناً والقشور.
كان عارف في كل هذا يرسم الغموض بعنف.
وكان إنساناً فناناً سياسياً مناضلاً وشاعراً.
عارف الريّس عانى ما عانى من الحرب ومن موت أقرب الناس إليه، حاصرته المآسي وكان يفتح دائماً نوافذ على عتمة البيئة وعتمة المصير وعتمة الأوضاع القاسية.
كان دائماً عنده إيمان، إنه يستطيع أن يذوب بسهولة وراء الحجاب. كان عنده حس قوي. كأن الموت غفوة. كأنه بات في لمسات الطباشير، في عروق الحجر، في مادة مستمدة عبر يده وجسمه وعينه إلى زمن لا ينتهي.
***
نادين بكداش: فنان خارق
خسر الفن عموداً كبيراً من أعمدته العملاقة.
عارف الريّس ليس أياً كان وهو أحد مؤسسي الحركة الفنية في الخمسينات وله دوره الكبير في "دار الفن" مع والدتي جانين ربيز.
ليس هذا وحسب كان له مطرح حميمي في العائلة كصديق كان صديق العائلة بامتياز.
وعيت عليه كفرد من أفراد البيت منذ أيام والدي ووالدتي كبرنا معاً، كبرت بوجوده، وكبرت مع صداقته.
كان فناناً خارقاً بكل معنى الكلمة وشق وفجر مراحل تشكيلية مهمة.
وفي كل مرحلة كان يتبع روح التجربة التي يعيشها وبالإمكان الحديث عن مرحلة إفريقيا ومرحلة الواحة أو الصحراء السعودية، ومرحلة الحرب التي عبر عنها بعنف تعبيري رافض بالعمق.
كان يعيش كل مرحلة جوانياً ويطلع بها فناً عميقاً، أصيلاً متجذراً، متحرراً ومتجدداً وخلاقاً وجريئاً.
بعد شفيق عبود، عارف الريّس، أمر صعب على التصديق.
غريب أمر هذا الموت السريع وتلك المواعيد التي تغلق باباً تلو الآخر.
عارف مات.. قد لا أصدق الخبر الآن.
ليس وقتاً للكلام الكثير عن فنان كبير. الموت لا يدع أحياناً فكرنا بسهولة يلحق به. لكن الأكيد أن عارف الريّس من الذين أسسوا وأدخلوا الجديد على الكلاسيكية في الفن.
فنان مرهف الإحساس وأتكلم هنا فنياً.
باب آخر يغلق، وعارف مثله مثل الكبار كما شفيق عبود ولبنان البلد والناس والشارع المدني بشكل عام سيفتقده كثيراً، وأتمنى أن الأجيال المقبلة تتعرف على فن عارف الريّس وتعطيه حقه وهو الذي عمل الكثير والكثير للفن التشكيلي منذ الخمسينات وكانت له بصماته الخالدة.
دائماً جديد
في كل مرة ألتقي عارف الريّس أكتشف فيه شيئاً جديداً، شيئاً لم أتكهنه في اللقاء السابق. طبيعته وهم بصري تتكاثر فيها الصور، حيث إننا لا ننجح إطلاقاً في إيجاد بداية أو نهاية. إنها متحركة، تثير باستمرار رؤى جديدة وانفعالات جديدة (...).
الرسم بالنسبة إليه ليس في "صنع لوحات" وإنما عملية توضيح حالة نفسية لنفسه، عذاب داخلي لا يعرف سببه.
علينا أن نعتبر إنتاج هذا الفنان تعبيراً فطرياً، غريباً عن كل ذهنية مناقضة لطبيعته الخاصة، لعواطفه، وانفعالاته.
لكن إذا كانت أعمال عارف الريّس، في الرسم والنحت، هي فطرية، فعلينا أن نحدد بأنها ليست مجردة من الأسلوب الذي اختزنه من معارفه المكتسبة بدأب ومن احتكاك إنساني دائم بكل ما تمثله الثقافة اليوم.
في أعمال عارف الريّس، المضمون ليس في الموضوع وإنما في القيم الشكلية، سواء رسمية أو نحتية، تصويرية أو تجريدية، لتدرك دائماً شرعية انفعاليته، نوعية جمالية تجعلها أكثر من مرة ممثلة للفنون البصرية المعاصرة.
***
سيرة وأعمال
عارف نجيب الريس، من مواليد عاليه 1928.
تلقى دروسه في الجامعة الوطنية، عاليه. وفي مدرسة عينطورة حتى سنة 1948، مارس الرسم بمساعدة والدته مستعملاً الأدوات التي كانت تستعملها من الألوان الزيتية.. أقام أول معرض في صالة الوست هول، في الجامعة الأميركية بمساعدة الفنان الفرنسي جورج سير والناقد فكتور حكيم.
بمناسبة انعقاد الأونيسكو في بيروت، وزيارة رئيس المؤسسة حكسلي، ومدير قسم الفنون الجميلة الدكتور بيتر بيليو، انتقل المعرض إلى صالة العرض في الأونيسكو، ولاقى نجاحاً كرّسه فناناً مهنياً.
عام 1948، سافر إلى أفريقيا السنغال الفرنسي لمساعدة والده في تجارته. ومن هناك انتقل إلى باريس لدراسة الفن.
دخل أكاديمية الفنون الجميلة، وتركها بعد شهر، لينتسب إلى المحترف الحر للفنان فرنان بيجيه. ومن ثم انتقل إلى محترف اندريه لوت وهنري غنز للحفر وزادكين للنحت. بعد ذلك التحق بأكاديمية الغرند شوميير للرسم. بعد هذه الرحلة عاد إلى أفريقيا متفرغاً لفن المرحلة الأفريقية المميزة بصفائها.
وخلال تواجده في باريس كان يزور المتاحف والمعارض الخاصة والعامة.
من أجل التعرّف إلى الحركة الفنية الباريسية المعاصرة، التي كانت مقراً لهذه الحركة العالمية.
عاد إلى لبنان وأقام معرضاً في المركز الثقافي الايطالي، وحصل على منحة دراسية في ايطاليا. انتقل إلى فلورنس ومنها إلى روما. وبقي هناك خمس سنوات متنقلاً بين فلورنس وروما مشاركاً في المعارض الجماعية الرسمية والغاليريات الفنية.
شارك في مسابقة تمثيل لبنان في معرض نيويورك الدولي بمنحوتة (الفينيقي) وحاز جائزة المعروضات. واحتفظت المنحوتة في نيويورك.
وانتقل إلى الولايات المتحدة بهدف الاطلاع على المتاحف ومواكبة الحركة الفنية هناك. استمرت الزيارة إلى أميركا خمس سنوات أقام خلالها العديد من المعارض، ثم انتقل إلى المكسيك بدعوة رسمية وأقام معرضاً لإنتاجه في نيويورك.
بعد خمس سنوات إنتاج ومشاركة في معارض جماعية في أميركا الشمالية، عاد إلى لبنان ليستقر في محترفه في عاليه. حيث ساهم في المعارض الرسمية داخل لبنان وخارجه.
عام 1988 دُعي إلى المملكة العربية السعودية. وأنجز عدداً من المنحوتات لتجميل ساحات مدينة جدة وشواطئها. وفي مدينة تبوك أنجز عدداً من الأنصاب الجمالية لساحاتها، بالإضافة إلى تآليف من الرخام لجامعة الملك عبد العزيز في الرياض. خلال هذه المرحلة كان يتنقل بين ايطاليا والسعودية بهدف إنجاز أعماله الفنية الكبيرة الأحجام.
كما أنجز في السعودية أعمالاً زيتية عن النور والمدى الصحراوي، عرضها في بيروت. وضع تأليفاً لجدارية من الأوبيسون إلى منظمة الأونيسكو في باريس. أقام عدة معارض لأعمال في السعودية ولبنان. وما زال يعمل في محترفه في عاليه، يحضّر معارضه لأعماله الجديدة من مادة الاكليريك مواصلاً عطاءه نحتاً ورسماً.
عارف الريس من مؤسسي جمعية الفنانين التشكيليين في لبنان، وأكاديمية الفنون الجميلة التابعة للجامعة اللبنانية. ومارس التعليم فيها لمدة 25 سنة، وشارك في جميع النشاطات والمعارض الفنية في لبنان والخارج ومن مؤسسي الحركة الفنية اللبنانية المعاصرة. وحاز وسام الأرز من رتبة فارس من الدولة اللبنانية.
رئيس جمعية الفنانين التشكيليين للرسم والنحت سابقاً.
من مؤسسي سمبوزيوم عاليه الدولي للنحت.
المستقبل - الجمعة 28 كانون الثاني 2005
*******
خسر لبنان منتصف ليل أول من أمس، احد ألمع رواده التشكيليين، حيث رحل عارف الريس في غفلة من أصدقائه وزملائه، ليشكّل خبر غيابه صدمة للذين عرفوه، وعايشوا حيويته وحبه للحياة. فعن عمر يناهز 77 عاماً، قضاها بالترحال في الجغرافيا وبين الأساليب التشكيلية، ومتنقلاً بين الرسم والنحت، غاب الرجل تاركاً وراءه تراثاً غنياً يحتاج من يحفظه ويرعاه. وهو أمر يبدو شاقاً وعصياً في لبنان الذي ما يزال بدون متحف للفن التشكيلي الحديث. إذ أن وجود هكذا متحف كان مطلباً عزيزاً على قلب عارف الريس. فحين سئل عن لوحاته، لماذا هي مغلقة على الجمهور. أجاب: "الانغلاق في فهم اللوحة يعود في الأساس إلى انعدام وجود الثقافة النظرية، والى انعدام وجود المتاحف التي تتيح للناس وجود المعرفة".
"متفائل رغم كل شيء" كان يردد، صاحب النكتة والقفشة، والروح التواقة أبدا للتغيير والمغامرة. تلقى دروسه في الجامعة الوطنية في بلدته عاليه، وفي مدرسة عينطورة، وبدأ يرسم بمساعدة والدته ليقيم أول معارضه في الجامعة الأميركية ببيروت عام 1948. ومن حينها لفتت أعماله الأنظار، لكن عارف الريس الذي كانت تدفعه ظروف الحياة حيث تشاء، سافر مطلع حياته إلى السنغال ليساعد والده في تجارته. ومن ثم، وبعد أن سنحت الفرصة انتقل إلى باريس لدراسة الفن في "أكاديمية الفنون الجميلة" لكنه لم يصمد هناك، وانتقل بعد شهر واحد إلى محترف الفنان فرنان ليجيه ثم إلى محترفات حرة أخرى، كان يبحث فيها عن غايات لربما كان هو نفسه لا يعرفها. فمن محترف اندريه لوت إلى النحات هنري غنز ومن ثم إلى محترف النحات زادكين، لينهي رحلته الحرة هذه بأكاديمية الغراند شوميير للرسم. لقد كانت المرحلة الفرنسية حاسمة في مسار عارف الريس الذي عرف كيف يجعل من كل مرحلة مدرسة وأسلوبا ووحياً ولوحات ومنحوتات لا تشبه في ملامحها المرحلة التي تليها. فالسنوات السبع التي قضاها في باريس تعرّف خلالها على أساتذة وتيارات ومذاهب في الفن، لم يكن ليكتشفها في رحلته الثانية إلى أفريقيا التي جسدها في لوحاته عالماً مختلفاً.
حين عاد عارف الريس إلى لبنان استطاع أن يحصل على منحة ليكمل مشواره في ايطاليا. وهناك قضى خمسة أعوام متنقلاً بين فلورنسا وروما مشاركاً في المعارض الجماعية وزائراً الغاليريات والمتاحف. وفي تلك الفترة شارك في مسابقة مثّل خلالها لبنان في معرض نيويورك الدولي بمنحوتة "الفينيقي"، وحاز جائزة، وحفظت منحوتته في نيويورك.
وكأنما ليتم جولته في القارات ذهب عارف الريس بعد ذلك إلى أميركا الشمالية والمكسيك ليقضي خمسة أعوام مقيماً المعارض، ناهلاً المعارف قبل أن يعود إلى لبنان، والى محترفه في عاليه.
لكن الدعوة التي أتت من المملكة العربية السعودية جاءت ربما في وقتها، وحين كان يتكلم عارف الريس عن مرحلته السعودية، تشعر وكأنه يحتفي بها مزهواً بإنجازاته هناك، وله في ذلك كل الحق. فما زالت منحوتاته تزيّن ساحات مدينة جدة وشواطئها، وله في مدينة تبوك أنصاب جمالية، إضافة إلى أعمال من الرخام نفذها لجامعة الملك عبد العزيز في الرياض. كان الريس يتحدث عن انتقاله بين السعودية وايطاليا لانجاز تلك الأعمال وكأنه ما يزال يعيشها حية في ذهنه.
وإذا كان عارف الريس قد برع، فلربما لأنه لم يكتف من المعرفة باكتناه سر اللون، واستنطاق الحجر، فقد كان عاشقاً للكلمة. وقال له ميخائيل نعيمة ذات يوم: "اكتب لأنك ترسم في الكتابة أيضا... لا تهمل الكلمة". ويقول الريس: "لقد ظللت شغوفاً بالمطالعة إلى جانب الرسم... فالكلمة تحمل سحر المعرفة".
غاب طويلاً عارف الريس عن لبنان بقدر ما انغمس في آلامه، وقضى ردحاً من عمره خارج العالم العربي بقدر ما كان عروبياً ومحباً لانتمائه. ومما يسجل لهذا المغامر انه كان يعتبر الفن سلاحاً في معركة تدور رحاها بقسوة على أرضه. وأعماله كانت ردوداً على ما يعيشه الناس حوله. فقد قال بعد حرب 1967: "كنت قبل النكسة أغازل السماء والقمر والفضاء، وحين وقعت النكسة فقدت لفترة طويلة الشعور بكل شيء. فخلال الأيام الأولى لحرب يونيو (حزيران) حاولت التطوع للعمل العسكري". وتفهم أكثر مواقف الريس ومشاعره حين يقول: "عمل الفنان أن يحضّر لمعركة الوحدة ولمعركة التحرير".
توفي عارف الريس بعد أن جرّب كل ما خطر له، وفي معارضه الاستعادية، كانت تجاريبه تثير أحيانا الاستغراب. ولعل أكثر ما جعل الأسئلة تثار حول مساره تلك اللوحات الكبيرة التي خص بها الليدي ديانا عند وفاتها، إذ جمع ما نشر لها من صور، وبواسطة الكولاج أعاد بناء عالمها على طريقته. أما جوابه على هذه المغامرة الولاّدية في نظر البعض، فكان: "حياة كل إنسان كولاج... وديانا هي رمز لصديقاتي".
يسجل لعارف الريس نفوره من الطائفية، ورغبته في رؤية العالم أفضل وأجمل معترفاً بفضل غنى الطبيعة اللبنانية عليه وتنوع الثقافات الموجودة فيه، وإطلالته على حوض المتوسط وحضاراته. ذهب عارف الريس تاركاً لوحات ومنحوتات في متاحف كل من سورية والعراق والجزائر والكويت والأردن، وفي متحف أولد هندود في نيويورك ومتحف روزفلت في فيلادلفيا. وفي قصر اليونسكو في باريس، مكللاً بجوائز عالمية، ومحبة لبنانية كبيرة.
****
صاخباً كان الفنان عارف الريس وساخراً حتى لحظاته الأخيرة، لذا رحل من دون تمهيد أو إعلان لمرض ومعاناة. ولم تحل العصا التي كان يتوكأ عليها دون جنون، مارسه وحافظ عليه بامتياز، ليندفع عبره إلى صوفية نسجها من تناقض الثقافات والزهد والاستمتاع بالحياة في آن معاً. خمسة وخمسون عاماً من الرسم والنحت والكتابة. وقبلها اثنان وعشرون من البنيان الإنساني لشخصية الفنان فيه، اجتازها الراحل عارف الريس بالطول والعرض وبتوتر المبدع الضنين بأعماله، والكريم في منحها حتى ابعد الحدود.
ربما يعود السبب إلى أن الرجل كان محكوماً بالتناقض من خلال حياته المتأرجحة بين طفولة مهجرية وعلاقة اختيارية وثيقة بمدينة عاليه في جبل لبنان، حيث كان منزله متحفاً ومحترفاً ممتداً في حضن الطبيعة. وربما ينعكس التأرجح مع بداياته ورغبته الموقتة باعتناق الرقص الإيقاعي ودراسته إياه في احد معاهد باريس، ثم انحرافه عن المشروع إلى عالم آخر يعتمد الحركة، ولكن وفق مفهوم الصدمة، التي لم تفارق أعماله، مهما تنوعت مشاربها ومدارسها.
ولعل مفهوم الصدمة برز في أعمال "الكولاج" النابضة بالسخرية المرة، بعد تشبّع واثبات وجود في الرسم. فلا عجب إن كان يلصق صورة الأميرة الراحلة ديانا إلى جانب هلوسات يستوحيها من كوابيس العالم الثالث. وقد تضيق به الألوان، فينزح إلى الأسود والأبيض ويكدس جماجم تحكي الحرب اللبنانية أو المجهول الذي ينجرف إليه وطنه. وقد يصوم عن الريشة ليروح إلى الكتابة. ثم يفطر فيعمّر فوق نصوصه لوحات جامحة بأداء جمالي يفي بترجمة روح النص وإغنائها. والعمارة هنا فن من فنون الراحل الذي استهوته الهندسة المعمارية، كما قال لي، مؤكداً أنها لا تتناقض مع الجموح والانفلات، رغم الخديعة البصرية التي تملأ بها العين، كما تدل جداريات ضخمة اعتمد فيها المساحات الشاسعة والأشكال الهندسية بصفاء يشغل البصر، ويفصل جوانية الأمكنة عن فضائها الخارجي بحدود تخضع إلى حداثة تشكيلية، تميّز الريس بسبر تفاصيلها.
ولعل تجوال الراحل بين عوالم عدة منحه هذه القدرة على التناقض والتنويع والرقص بين اللوحة والمنحوتة والكلمة، فمن باريس وصراعاتها الفكرية إلى القارة السوداء وعربها إلى أميركا اللاتينية حيث أمضى فترة طويلة إلى لبنان وهمومه الصغيرة قياساً على هموم العالم، لكن الكبيرة في وجدانه، نسج الريس أسلوبه وطوره ومارس عليه انقلاباته كلما طاب له ذلك.
فالحياة لديه تترابط بين المشاغل الشخصية الخاصة والعامة والسياسية والاقتصادية، لذا اخبرني "انه لم يكن يؤمن بنظرية الفن للفن، وإنما الفن للناس، وكما كان يحب أن يقول للسياسيين الذين يدللونه، ويجلدهم بانتقاداته وجهاً لوجه. فقد كان يعرف ويرى ابعد من سطحية المشهد. لذا كان لا يرحم".
رحل عارف الريس تاركاً لي لوحتين ومجلداً وقعها وأرخها، وتاركاً محترفه الأشبه بالفردوس وابنة وحيدة ربما لا تنوي الاستقرار في البلاد، وكثيراً من الصخب والسخرية الحادة، وأعمالا دخلت تاريخ الفن حتى قبل رحيله، وهذه نعمة قلما حظي بها فنان حقيقي من بلاد العرب.
الشرق الأوسط- 28 يناير 2005
*****
خام وفج عارف الريس واستفزازي في روح صدامية وشرس وأكول. كأنه في إجازة من طفولة تسكنه باستمرار وتطل هنا وهناك مثل قنديل في عاصفة، وهي فيه مثل ظله حتى عندما يتمثل العنف بأقوى ملامحه.
وبسيط ووديع، وبريء أولا، وأحيانا كأنه هنا للآخرين. وكرم على درب وان بدا كأنه يريد أمرا. وكمن يمنع عن نفسه الراحة. محترف تأزم عارف الريس.
ملامح له يصعب تحديدها لأنها محملة في معظم الأحيان بالشيء وعكسه. بالقهقهة والانشداد، باللباقة والحدة، بالطراوة والعنف.
وجريء حتى التهور، محرض لا يخشى التخريب، ومتطرف بامتياز، أي من طينة الذين لا يهادنون. ودائما في الأماكن التي كأن لا أماكن بعدها، رحالة في جغرافيا مفخخة عارف الريس، ويرى كأن لعينه ألف عين.
والغريب أنه كل ذلك وأشياء أخرى. وفيه أكثر من صورة لرجل مصنوع من رجال. متعدد، لكنه معقود على جذع صلب، كأنه يعيش زلزالا لعنف في إيقاع مزاجي فلا تجده مرة في مكان تركته فيه. كأني عرفت أكثر من عارف في عارف الريس، ولم اشعر يوما بأني اجهل الرجل.
وان فاجأني الفنان باستمرار كمن تسكنه رغبة حمراء في تفجير رتابة لرجة ترافق المجريات مثل ظلالها. وغرائزي إلى انزلاقه إلى شبه فوضى تفرقه في أجواء قصور حرية متفجرة. وتهجمي حتى مزاولة شبه إرهاب ايجابي على من في حلقته. ويطل دوما على أصدقائه والآخرين كأنه فوق منصة.
ولم ينس عارف الريس يوما انه حلم ذات مرة بمزاولة فنون كثيرة حتى كاد يصبح ممثلا إيمائيا، قبل أن يندمج في زخم شبه هذياني في المغامرة التشكيلية اللبنانية ثم العربية. وعلى امتداد نصف قرن رأيته يتحرك مثل زيح معقود على الغضب، ومشدود على الاتهام ومضغوط كوتر، إذ اعرف له رسوما تترك جرحا في العين، وألوانا تذوب كالرغبات في الذاكرة، ليبدو منحازا بامتياز إلى أشياء وصفتنا جميعا من الخمسينات إلى اليوم، نحن الرحالة في وطن عربي وعدنا بكل شيء وأعطيناه كل شيء، ونحاول اليوم أن نلملم صورتنا.
صورة رعيل من رموزه عارف الريس.
صورة رعيل آمن وواجه وكان له أن ينتصر.
نزيه خاطر
***
البارحة كان أحد رفقاء العمر شفيق عبّود، واليوم رفيق عمر آخر، عارف الريس، وفريد عواد وميشال بصبوص قبلهما، هؤلاء الرفقاء الأحباء من عناصر جيلنا، جيل المجددين الأوائل للحركة الفنية اللبنانية، اختطفتهم يد القدر واحداً تلو الآخر، كأن عواصف الخريف تهبّ قبل أوانها وتعرّي الطبيعة من جمال خضارها.
عرفت عارف الريس في مطلع الخمسينات في باريس، وكان قادماً لتوّه من أفريقيا ليقيم معرضاً، فغيّرت باريس كل توجهاته ولم يُقم معرضاً ولم يرجع إلى أفريقيا ونشأت بيننا علاقة محبة وأخوة واستمر برفقتي مدة طويلة نتردد معاً إلى الطبقة السفلية من متحف اللوفر نرسم دراسات عن منحوتات تعود إلى حضارة بلادنا الغابرة، وكان غالباً ما يتردد إلى محترفي ونعمل معاً، وقلّما لم نجتمع، إلى أن أتعبته باريس ورجع إلى أفريقيا حيث رافقته إلى سلم الباخرة في مرسيليا، إنما لم يغب طويلاً وفوجئت بعودته مجدداً إلى باريس متعباً من أجواء أفريقيا. ثم كانت العودة إلى الوطن فتلازمنا باللقاء الدائم وكان المشوار الطويل. كان دائماً إلى جانبي، وكان إلى جانبي لدى تأسيس جمعية الفنانين، وكانت أواصر الصداقة تغطّي أواصر الزمالة، وأذكر للمناسبة انه يوم كانت مرشحاً لرئاسة الجمعية قدم ترشيحه ضدي، ولدى فرز الأصوات تبين أنني حصلت على أصوات كل الحاضرين، ولم يكن عددنا كبيراً، فنظرت إلى عارف متسائلاً فضحك وقال لم أصوّت لنفسي واتفقت مع الزملاء لجعل انتخابك بالإجماع. هذا هو عارف الريس النقي المخلص المحب الذي تركنا فجأة، ربما إلى عالم أفضل تاركاً أعمالاً فنية مهمة تحتل موقعاً مرموقاً في تراث الوطن.
***
عارف الريس وجه مشرق من رعيل الستينات ورائد في الفن عامة. كان لعارف "إجر" في المسرح و"إجر" في الفن التشكيلي، ويمكن تسميته الفنان الكامل (الكمال لله) بالطبع. سميت عارف كاملا لان الكمال في فن "الزعبرة" اليوم ينقص كثرا في الإبداع الفني.
عدا صداقته لنا في الفنون المسرحية، كان زميلنا في "الهورس شو" ماضيا. وكلما ذكرت فنانا رائدا أتذكر "الهورس شو"، فهذا المقهى الصغير المتواضع كان بفضل صاحبه منح دبغي وزارة ثقافة في حي.
رحم الله عارف.
هو ورقة خريف جديدة تسقط مع أصدقائنا الفنانين الذين رحلوا عن هذه الفانية.
نيّاله...
*****
لا يمكن الفصل بين سلوك عارف الريس الشخصي وأعماله التي تعددت مراحلها، فتكثفت حينا وأمست شفافة أحيانا، تبعا للشحنة التعبيرية وقدرة الفنان على الإمساك بالمساحة والعناصر وأسباب التأليف في فضاء اللوحة ولا سيما أن عارف الريس أحس غريزياً وثقافيا، ولاحقا سياسيا، بالفن حين قصد باريس، وهناك بدأت محاولاته التجريدية الأولى، ليس أكاديميا في المعنى التقني للكلمة، مما أتاح له فرصا في حرية التعامل مع كل ما أنجزه.
شخصية "متوثبة". ينفعل ، يحلم، يبحث عن رموز وأدوات وأمثلة. بريء وبارع في آن واحد، تتراكم داخل ذاته معتقدات وأفكار وتقاليد وتمنيات صعبة بتغيير المواقف والأشياء والقيم وفق منظاره الخاص. وانعكس ذلك على مسيرته كفنان يرسم، يلوّن، يقدم المنحوتة، وفي حالاته الثلاث هو أقرب إلى نظام "الكتلة" في اللوحة مع ما يفصل الكتلة عن فضائها من خطوط جارحة. المرئيات لديه تتوالد في بداهة مظهرها فيحولها إلى لغة تؤدي بالمتلقي إلى مواجهة ما أراده الفنان صراحة، وان ما يراه ليس تشخيصا عفويا بل فكرة أراد إيصالها، ولطالما ظن تكرار محاولة إيصالها في طرق ووسائل أخرى، لذا لجأ إلى أكثر من وسيلة تعبيرية.
ومثلما هو في المحترف، هو نفسه بين طلابه في معهد الفنون الجميلة، كأنه أحس بأن التعاليم الفنية وتقنياتها الخطية واللونية هي في التعامل الحر بعيدا عن التزمت الأكاديمي وبالتالي أقرب إلى التعبير المطلوب.
عارف الريس ذو مزاج تبشيري بالفطرة، تشكيلي سلوكي. يتقدم من الآخرين دونما حرج، صريح في القول كما هو في اللوحة والمنحوتة، شديد الإيمان بذاته.
كان رئيسا لجمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت وكانت تفاجئه الأحداث بكبرها أكثر من كبر أحلامه ومطالبه وتمنياته. عايش الخيبة مكرها، وحاول الوصول بالجمعية إلى مستوى يليق ببيروت عاصمة دائمة الحضور الثقافي والتفاعل الإبداعي فكان ما كان، وتوارى عارف الريس في محترفه يطل بين فترة وأخرى بمعرض يؤكد قول ما يريده برموز نجد فيها روحه المتوترة والباحثة دائما عن ذاته وذوات الآخرين في غابات الزمن الأسود.
وحين يهدّه اليأس يعود إلى ترابه ليتحول إلى ظاهرة اسمها عارف الريس.
***
(من رؤيا العالم الثالث، اكريليك على قماش 40x40) |
لم أكن أعرفه قبل لقائي معه قبل شهرين في منزله في عاليه. فاجأني بتلك الحيوية التي تركتني على دهشة، لما فيه من تدفق شاب جعلني أبدو متعقلة جداً حيال ما يشع منه من حرارة تكوي أينما أصابت. وعلى مدار ساعات من الكلام أصابني تواضعه في رواية دوره الريادي، وفي الوقت عينه شدني إلى فنه شغف لا زغل فيه عند كل إشارة منه إلى حوادث صنعت لوحته وركّزت تجربته وغذّت مسيرته حتى بلغ زمن الاختمار الخاص "بالعقّال" المتوحدين الموحدين.
وأحببت روحه الثورية التي لم تكتف من العشرين عمراً بالانتفاض التام ضد المتداول والسائد. وبدا لي في مرات عديدة خلال حديثنا الخاص ب"النهار" على جمر ونار، كأنه يتهيأ للانطلاق من نقطة الصفر إلى رحاب الفنون جميعاً. وفاجأني بثقافته المشرّعة على الحياة،والتي تغرف منها في نهم وجودي غريب والتي لا تقبل على ما بدا لي مساومة أو تنازلا أو تواطؤاً، كأن الحياة لحظة إبداع تتجدد دوماً ولا تهدأ.
وأنا اكتب عنه هنا، بدا لي كأنه جانبي يحدثني ممازحاً، معاكساً جدياً، مع تلك القهقهة الفرحة والساخرة في آن واحد والتي عرف بها حتى اقترنت به.
وجريء إن قال رأياً، وصدامي إن اتخذ موقفاً ومغامر إن واجه بياضاً، وأمام كل بياض كان كمن يولد من جديد. ومن هنا ربما نضارته، تلك النضارة التي جعلتني أرى فيه ابن الثلاثين.
والفنان ينتمي إلى زمنه.
***
عارف الريّس، قبل كل شيء، حضور حبيب نشأتُ على صداقته. شارك والدي في مشاريع كانت تساهم في صناعة المجتمع اللبناني، في روح خلاقة، واندفع إلى جانب والدتي جانين ربيز في تأسيس "دار الفن والأدب" وتدعيمها بروح الجرأة والإبداع.
متجرد حر، يطارد الأفكار الجديدة ويغوص في الإحساس البشري حتى الرهافة. رقيق القلب، ظريف الكلمة، يجمع إلى هذه قوة الجبلي العنيد المثابر. كريم النفس، معطاء ومحب، رأيناه ينعطف على الإنسان في كل مواطن جماله، يحادث الصغير، يقدر جمال الأنوثة، يخدم الكبير فيكرس جمال أبيه الشيخ، يلاطفه ويعجب بقدسيته ثم يعود إلى طراوة الشباب وقلقه فيرافق ابنته ويزهو بحضورها.
يترك عارف الريس بصماته تحكي حضوره مهما غاب. تنقل في دول كثيرة ولم يغب عن لبنان الذي حمله في ألوانه وخطوطه. تعاطى القلم بلغات ثلاث، كما تعاطى الريشة بأشكال مختلفة ونجح في ترك بصماته المبدعة الأصيلة على الفن الذي يحتفي بالحياة.
سنفتقده كثيرا في جلساتنا، في عصف أفكارنا، في تحريك ضحكاتنا وتحدي إبداعاتنا.
ينضم في رحيله إلى شفيق عبود وسعيد أ. عقل، وآخرين، متحررا من تناقضات عالمنا، تاركا لنا مجموعة شاهدة لغنى تجاربنا الفنية اللبنانية، فهل نرفع التحدي وننحني للفن ونعرف كيف نحتضنه اليوم لنسلمه في أمانة إلى الأجيال القادمة؟
علّنا لو أقمنا لهؤلاء المبدعين الراحلين صرحاً يليق بإبداعاتهم نقدم إلى الفن مجالا ليساهم في صنع الحياة، ونكون أوفياء للأمانة التي تركوها لنا.
*****
في أوائل السبعينات، وفي معهد الفنون الجميلة، الجامعة اللبنانية، حيث كنت طالبا للفن، عرفته أستاذا غيورا، مقدما النصح وداعما إلى أقصى الحدود، غير منحاز.
ثم التقيته، زميلا في التدريس في المعهد نفسه، فوجدته في حياته كما في فنه، ساخرا، مشككا، فرحا، صريحا ولاذعا، حتى مع نفسه، ناسفا القوانين والمسلمات إن تعارضت مع الحق أو قيدت حرية الفن.
****
هذا الصباح، للمرة الأولى ادخل بيته ولا تلاقيني طلته وضحكته وطلعته الأبوية في هذا المكان. تلاقينا منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولطالما كان عارف منكبا على عمله على طاولة الصباح كأن العمل خبز الأيام.
يجرّب المادة، يرسم، يحفر، ينحت، يسير مع الحبر واللون والخطوط والمادة كأن الفن غذاء الجسد والروح. يغير المعادلات في الفن وطريقة العيش، يحوّل اللوحة إلى طرق تشكيلية جديدة، إلى إبعاد لم تبلغها الرؤية.
عارف الريس لعن وحشة الحياة وقسوة الانتظار وغموض المصير بالألوان القاتمة. كان يرسم عالمه الباطني من دون أن ينسى الواقع. يسجل في عفوية كل ما يربط يده بفكره ساعة بعد ساعة منذ أكثر من أربعين سنة، مغامرا في خلق المعادلات بمواد جديدة.
أفادت من تجربته الحركة الفنية اللبنانية وأفاد من فكره المنظر الثقافي في "دار الفن" وجمعية الفنانين وسمبوزيوم عاليه. كانت ورشته كبيرة ومساعدوه كثر أسسوا جوقة اسمها الفن الجماعي حقق فيها أمنيته جرأة وتجددا.
عارف الريس المتفائل أبدا كان يحب الحياة وقدر الفن. صوت جميل للحياة في خدمتها. عرف أن الإنسان مغلوب على أمره أمام المصير الغامض. لذا كان العمل الدؤوب رده الوحيد.
كان صمته لملء الحياة بمعنى ما، لخلقه صورة جميلة كي يحوّل العمر من تسجيلات عابرة على جسده إلى تسجيلات ثابتة في المادة الحية، في مادة الحجر والخشب والقماش.
فنان عصامي ناضل حتى آخر يوم من حياته ولم يساوم أبدا في لوحته وإيمانه وعقيدته، كي تكون للعمر نكهة تشبه الجمال، كي يكون للحياة معنى يشبه معاناة الحياة.
***
ما عرفه عارف الريس حق المعرفة هو أن الحقيقة الإنسانية لا تتكشف للإنسان إلا بتجاوزه المعرفة.
ميزة عارف الريس انه رفض التقيد بالمعايير المتبعة وبالأساليب الرائجة. المعيار الذي كان يتبناه هو حدسه، شعوره الباطني بماهية الحرية. لوحاته مثل منحوتاته شواهد على الحالات التي عاناها في مسيرة حياته، إشارات تدل على الطريق التي خطتها له حريته.
التعبيرية، السوريالية، والتجريدية، لم تكن سبلا سالكة سَهُلَ عليه إتباعها، بل عبارات عن قلقه المستمر للوقوف على حقيقته والاندماج فيها.
من هنا صعوبة تحديد مفهومه الفني.
من هنا انه مارس الفن ليحقق ذاته.
من هنا انه سيد ريشته وأزميله، لذا فان أي عمل فني من أعماله وان بدا تافها له أهميته ومكانته وقيمته بمجرد أنه جزء من تاريخ اشتغال موهبته.
عارف الريس ليس فنانا فحسب بل هو درس، قدوة، مثلا لكل موهبة صميمة. ويعوضنا عن فقده وجوده الذي سيلد ويتجدد في صميم كل موهبة وفي أعماق إحساس كل متأمل أصيل.
(الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة)
النهار- الجمعة 28 كانون الثاني 2005
*******
غيّب الموت أمس الرسام اللبناني عارف الريس عن 77 سنة، وهو من جيل الرواد ويتميز بخصائص فنية قائمة على الدمج بين معطيات الفن الحديث والأبعاد التراثية. وهو من مواليد 1928. أقام أول معرض في صالة ال"وست هول" في الجامعة الأميركية. سافر في العام 1948 إلى أفريقيا (السنغال الفرنسي) لمساعدة والده في تجارته، ومن هناك انتقل إلى باريس لدراسة الفن.
دخل أكاديمية الفنون الجميلة، وتركها بعد شهر، لينتسب إلى المحترف الحر للفنان فرنان ليجيه ومن ثم انتقل إلى محترف اندريه لوت وهنري غنز للحفر وزادكين للنحت. بعد ذلك التحق بأكاديمية "الغراند شوميير" للرسم. بعد هذه الرحلة عاد إلى أفريقيا متفرغاً لفن المرحلة الأفريقية المميزة بصفائها.
عاد إلى لبنان وأقام معرضاً في المركز الثقافي الإيطالي، وحصل على منحة دراسية في ايطاليا، انتقل إلى فلورنسا ومنها إلى روما، وبقي هناك خمس سنوات متنقلاً بين فلورنسا وروما، مشاركاً في المعارض الجماعية.
شارك في مسابقة تمثيل لبنان في معرض نيويورك الدولي بمنحوتة "الفينيقي" وحاز جائزة المعروضات، واحتُفظ بالمنحوتة في نيويورك، وانتقل إلى الولايات المتحدة بهدف الاطلاع على المتاحف ومواكبة الحركة الفنية هناك، استمرت الزيارة إلى أميركا خمس سنوات أقام خلالها معارض عدة، ثم انتقل إلى المكسيك بدعوة رسمية ثم أقام معرضاً لإنتاجه في نيويورك.
بعد خمس سنوات إنتاجاً ومشاركة في معارض جماعية في أميركا الشمالية، عاد إلى لبنان ليستقر في محترفه في بلدة عاليه، وساهم في المعارض الرسمية داخل لبنان وخارجه.
في العام 1988 دُعي إلى المملكة العربية السعودية، وأنجز عدداً من المنحوتات لتجميل ساحات مدينة جدة وشواطئها. وفي مدينة تبوك أنجز عدداً من الأنصاب الجمالية في ساحاتها، إضافة إلى تأليف من الرخام لجامعة الملك عبدالعزيز في الرياض. خلال هذه المرحلة كان يتنقل بين ايطاليا والسعودية بغية إنجاز أعماله الفنية الكبيرة الأحجام.
أنجز في السعودية أعمالا زيتية عن النور والمدى الصحراوي، عرضها في بيروت، ووضع تأليفاً لجدارية من "الأوبيسون" لمنظمة الأونيسكو في باريس. أقام معارض عدة في السعودية ولبنان.
عارف الريس من مؤسسي جمعية الفنانين التشكيليين في لبنان، وأكاديمية الفنون الجميلة التابعة للجامعة اللبنانية، ومارس التعليم فيها 25 سنة، وحاز وسام الأرز من رتبة فارس من الدولة اللبنانية.
الحياة 2005/01/28
****
عارف الريس واحد من أعمدة الفن اللبناني الحديث. إنه قطب آخر يسقط بعد بول غيراغوسيان ورفيق شرف وشفيق عبود، يصح القول أن جيل المؤسسين على وشك أن يتوارى وأن حملة نار الحداثة الأولى ينطفئون واحداً بعد آخر. بيد أن لعارف الريس مقعده بين هؤلاء، فهو في جيله حركة دائمة ودينامية خالصة، ولربما لا نستطيع أن نصف فن عارف الريس بأفضل من ديناميته، بأفضل من تخطيه المستمر لنفسه وتحطيمه المستمر لأشكاله. فعارف الريس لاعب أشكال بقدر ما هو محطم أشكال. انه من زمرة الفنانين التي لا ترسم لوحة واحدة ولا تعيد اللوحة نفسها، هكذا قفز عارف الريس وهو من أكثر جيله ثقافة وحساسية بالعصر ومتابعة للجديد. قفز من أسلوب إلى أسلوب على نحو كان أحيانا يخطف الأنفاس. بين الرسم والنحت كسر الحدود. لكنه كسر الحدود أيضا بين التعبيرية والتكعيبية والفريسك المكسيكي والتجريد الأميركي والكولاج. في كل آونة من فن الريس كان يعاود الابتداء، يرجع إلى الصفر ويبدو لكثيرين هاوياً يعمل، ذلك كان يجعل فنه في حال من عدم اكتمال لكن في حال من طراوة ونقاوة متواصلتين، ظل عارف الريس لذلك شاباً في حيله وفتى لا يكبر في الفن، ظل لديه في الجعبة دائماً لعبة جديدة. والأرجح أن أوائل لذلك اتصلت بأواخره اتصالا وثيقاً، وان سيرته في الفن لم تكن فقط توليداً وتجديداً لا يهدآن بل كانت أيضا ورشة فنية متكاملة، لا حصر للاقتراحات التي حملها فن عارف الريس ولم يكن لشخص واحد أن يقوم بكل ذلك، كان في فنه مشغل لحقبة فنية كاملة، لذا يبدو فن الريس بروقاً خاطفة وبدايات دائمة ومبادرات لم تستنفد.
ليس فن عارف الريس وحده هو ما يفتقده أصدقاؤه، سيفتقد الجميع فضلاً عن ذلك ثقافة عريضة وقيافة رائعة وخلقاً رفيعاً وقدرة على الصداقة لا نظير لها، سيفتقد أصدقاؤه مثلا نادراً على تطابق الفن والحياة وقدرة اللعب والارتجال والابتكار على أن تجد لها إنساناً ونموذجاً.
تحية لعارف الريس الذي رحيله بقدر حضوره إثبات وإيجاب ومباركة للحياة، فنانون وأصدقاء شاركوا في هذه التحية.
نقولا النمار: رفيق المشوار الطويل
ليس أصعب من حالة خسارة احد المحبين والرفقاء، يتلعثم اللسان ويصيب القلم النشاف.
لقد فوجئت برحيل الصديق الرفيق الزميل عارف الريس، وقد يكون رحل إلى عالم أفضل وأجمل من عالمنا، هذا المحب الذي عرفته عندما كنت مقيما في باريس لإكمال دراستي الفنية في (البوزار)، وكان ذلك في أوائل الخمسينيات، وكان آتيا من أفريقيا ليقيم معرضا هيأ له إعلاميا بواسطة الجريدة الأسبوعية الباريسية ART ET SPECTACLE بصورة لأحد أعماله في الصفحة الأولى ولم أكن سمعت باسم عارف الريس قبل ذلك، فقصدني، تعارفنا وطلب مني مرافقته إلى الفندق حيث يقيم للاطلاع على اللوحات التي ينوي عرضها، وبعد رؤية عدد كبير من المجموعة بكل تأن وتأمل أُعجبت بوسيع تخيلات محتواها، وقلت لعارف تعال نذهب إلى احد مقاهي الحي اللاتيني ونتحدث مطولا عن مشروعك. وهكذا كان. وفي المقهى سألته (هل تتقبل صراحتي بإبداء الرأي، قال (بكل سرور)، فحدثته مطولا عن الحركات الحديثة والعديدة الاتجاهات حينذاك في باريس، وان أعماله قد تلاقي إعجابا كبيرا في بيروت إنما من الصعب جدا أن تجد قاعة عرض تستقبل مجموعة، لأنها لا تتلائم مع التيارات المسيطرة على الأجواء الباريسية، وبعدئذ تواعدنا أن نلتقي قريبا. ولم أعد اسمع أي خبر من مدة شهرين أو أكثر، إلى أن عاد وأتاني مجددا وقال لي انه كان مستاء من كلامي له، واخبرني بان طرق باب عدد من قاعات العرض وكانت النصيحة بتغيير نمط أسلوبه...
ومن هذا الواقع نشأت علاقة ثقة ومحبة استمرت كل الأوقات، وكان المشوار الطويل بالعمل سوية في محترفي في باريس، والدراسة في المتاحف الباريسية، والمشاركة في السراء والضراء في كل النشاطات التي قمنا بها معا خدمة للفن والفنانين وداعا أي الصديق المحب الأمين).
الياس زيات: التشكيلي المفكر
عرفت عارف الريس في ستينيات القرن الماضي هنا في دمشق عن طريق المرحوم الفنان الأستاذ محمود حماد وزوجته السيدة درية فاخوري حماد وكانا تزاملا معه أثناء الدراسة في إيطاليا.
كان يتردد علينا في تلك الفترة ويجتمع بأصدقائه وهم كثر أذكر من التشكيليين المرحوم فاتح المدرس والمرحوم لؤي كيالي ومن الأدباء السيدة كوليت خوري.
كان عارف يطلب مني ومن درية فاخوري حماد أن نرافقه إلى دير السيدة في صيدنايا، فقد نذرته والدته طفلا إلى السيدة اثر مرض شارف فيه على الموت فشفي منه، وهناك كان يركع في مقام السيدة وتنهمر الدموع من عينيه، وفي طريق العودة من سيدنايا كان يتوقف ليتأمل أبدان شجر الجوز ويتلمسها بيديه.
كنا نستطيب عشرته وقد أحب أصدقاءه بسريرة طيبة. عارف الريس تشكيلي ومفكر، مارس فنون التصوير الزيتي والنحت والرسم التوضيحي، وكان له فيها كلها لمسة متميزة، انتقل بين الواقعية التعبيرية والرمزية وحتى التجريد بمعنى أنه كان يستخدم كلاً من هذه الاتجاهات كما يشاء حسب اللحظة الفكرية التي يبغي التعبير عنها، فقد كان يعرف كيف يسخّر فنه لأفكاره وهو روحاني الطوية تقدمي بفكره السياسي. ودليلي على ذلك لوحتان رئيسيتان كانتا في معرضه الذي أقامه في متحف دمشق في سبعينيات القرن الماضي، الأولى مهداة إلى الوزراء والثانية إلى ذكرى (تشي غيفارا).
كان عارف الريس معتزا بفنه، ويدافع عن أفكاره وانتمائه القومي بمحبة لا تعرف الحدود، ويُعتبر علما من أعلام الفن في الوطن العربي في العصر الذي عاشه، يستقبلنا في محترفه في عاليه بكرم الضيافة وطيب الحديث ودعاباته المعهودة.
رحمك الله أيها الإنسان العارف وأسكنك ما تستحقه من مكان نيّر وراحة سرمدية. (دمشق)
حسن جوني: خصوبة اللون
قلقاً في حياته كما في المراحل الفنية التي خاض فيها رسماً وتلويناً ونحتاً، رسومه ذات الخطوط المتوترة المتكسرة المشدودة على أشخاص لوحاته، كأنها إطار كثيف وعنيف. تجريدياً في لوحة، ثم تشخيصياً في ثانية، ثم مقاربا مزايا الكريكاتور في الثالثة، وفي كل أعماله واختلافاتها خصب لوني بدائي.
لعلها ابرز الخصائص التقنية، في فنه تلك التي ذكرتها وربما أرادها هو هكذا، ألواناً تخرج من الأنبوب إلى اللوحة، وأحيانا تتداخل في ما بينها لتخدم عنصراً في لوحته، مع مساحات سوداء غالبا ما كانت بارزة أكثر من سواها، ولا سيما تلك التي رسم بها عارف الريس موضوعات الصورة المستحيلة، أو ما ظن انه قاربها في رسومه التحريضية السوداء.
تعبيرية عارف الريس ظلت هاجسه الأساسي طوال حياته الفنية الطويلة، تعبيرية هي بين تشخيص الإنسان كما هو في الواقع أو كما هو في (مرئيات) الفنان الخاصة، بين (نولدة) و(سيكيروس)
و(ريفيرا) وما يدور أمام عينيه وفي وجدانه من رغبة في هدم (الأحجام) وإعادة بناء الكتلة، شأن كل رسام يرسم ويلون وينحت.
ذاخر... ومعطاء... وجد في الفن سبباً لاستمرارية حياته وتأكد الآن من أن أحلام الفنان، ككل بركان بعد تأججه، يتحول إلى شظايا رمادية.
جميل ملاعب: لوحته امتداد لجسده
لأول مرة ادخل إلى بيت عارف الريس من دون أن يفاجئني بطلعته، هذا الأخ الذي رافقنا منذ أربعين سنة، طلاباً وأصدقاء وزملاء.
لن استطيع أن أتخيل انه يمكن أن يرحل بهذه السرعة عنا. عارف الريس فنان تشكيلي له بصماته القوية على الفن اللبناني والعربي. بدأ مغامرته فناناً انقلابياً متمرداً منذ وجوده في المدرسة الابتدائية، وبعدها في أسفاره إلى أفريقيا وفرنسا والمكسيك، كان دائما في حالة صراع مع المرئي.
أعماله كانت غير عادية. كان شخصية تريد أن تخاطب بالفن المشاكل الصعبة في الحياة والسياسة، وفي اللغة التشكيلية.
عارف الريس مناضل في كل مراحل حياته، خصوصا في بداية الستينيات، ثم مع بداية تأسيس دار الأدب والفن، وفي جمعية الفنانيين اللبنانيين، وفي السنوات الأخيرة من خلال تنظيمه لسيمبوزيوم عاليه... دائما كان عنده تطلعات غير عادية. كان يحاول من هذا الواقع المرئي الموجود في الوطن أن يضيف إليه أفكارا عالمية، بتجدد ومن دون تقوقع.
أهم ما في شخصيته كإنسان انه صريح، يتمرد على باطنيته دوماً، يصنع الضحكة حتى في أحرج الظروف. ما كان يقيم للموت أي معنى سوى المعنى الطبيعي. لم يتهيب له، وظل يرسم حتى آخر ساعة من حياته. البارحة خاطبني بالتلفون، كلمني عن مشاريع يحتاج تطبيقها إلى سنوات. كان يؤمن أن الموت شأن طبيعي. كان يحاول أن يدخله في عمله وخطوطه وألوانه. كانت اللوحة امتداداً لجسده، امتداداً جميلاً ومعبّراً وفريداً وعفوياً. كانت له مغامرات أيضا في المادة، في الألوان المائية والزيتية والحجر والخشب والحديد.
جسّد في أعماله أفكارا طليعية، وما ساوم أبداً على تألق رؤيته التجديدية المستمرة.
عارف الريس يبقى محطة وركيزة للفن اللبناني والعربي.
محمود شاهين: عصيان الألوان
رحيل الفنان خسارة لا تعوّض، فكيف إذا كان هذا الفنان مسكونا بالفن من رأسه حتى أخمص قدميه... يعيشه وينتجه ويرصد شغبه وتحولاته، ويشتغل على كافة ثقافاته وأجناسه وضروبه. يجرب ويبحث، يذهب طولا وعرضا في نسيج الحياة الدائم التحول والنمو، ليستل منه تكوينا فراغيا مشخصا أو مجردا أو حروفيا، بهذه المادة، أو تلك الخامة.. أو يقوم برشق ألوانه فوق سطح اللوحة، تمتمات تختزل الحياة، أو لمسات تتوضع في جسد حرف أو كلمة، أو مفردة زخرفية هندسية ونباتية، أو يبني بالصور الضوئية، حشدا هائلا من التداعيات المتفجر من نهر الحزن الساكن داخله...
كيف إذا كانت الخسارة، فنانا رائدا، لم يتوقف يوما عن العطاء والبحث والتجريب، في بنية الخط واللون والكتلة. في الفن المسطح، والفن المجسم. في الحفر والملصق والرسم التوضيحي. كيف إذا كانت الخسارة هي عارف الريس الذي مات وهو يرى (الموت في كل الأمكنة، والجريمة موجودة في الهواء والمحيط) ويرى (العالم المتحضر يحارب الإرهاب وهو صانعه)؟!
في آخر حواراته، قال عارف الريس: (كثيرا ما أعلنت الألوان العصيان. أنا الآن أعيش مرحلة جفاف وهروب اللون مني. أحيانا ألجأ إلى الكتابة والكولاج، وأكتب الأيام الرمادية، والليل الطويل، وهذا تعبير عن مأزق أعانيه... أحن إلى والدي الذي رحل وأعيش في وحشة قاتلة).
في أيامه الأخيرة، أعلنت الألوان عصيانها عليه... هربت منه... وها هي الحياة تهرب منه الآن... إيذانا بنهاية مشوار ريشة وقلم وإزميل، طالما حاولت تجميلها وتقديم أسباب دائمة من أجل أن تعاش... كيف لا والفنان هو الباحث الأبدي عن لحظة الحياة المتألقة، وتجميدها في سحبة خط، أو تمتمات لون، أو كتلة تغازل الفراغ... لحظة تأتي في سياق الحياة، ومن أجل الحياة، لتذكرنا دوما بهؤلاء الرواد المهرة، الباحثين أبدا ودائما، عن الشواطئ الجديدة.
عارف الريس.. غادر (قبوه) أخيرا... ما عادت تهرب الألوان منه.. ولا تأتي إليه... لكنه ترك ما سيبقى يشير إليه، ويدل على الفعل الخلاق، الجميل، والمبدع، الذي أضافه للحياة، مكرسا وجهها المشرق، وسحرها المفهم، وسعاداتها الحقيقية التي لا تتكشف سوى على المبدعين الحقيقيين... وعارف الريس.. كان واحدا منهم، بكل تأكيد...
(دمشق)
شوقي شمعون: شلال فن
كنت على موعد مع عارف الريس لإقامة معرض استعادي له في الجامعة اللبنانية الأميركية هذه السنة، وكان قد أرسل لي جميع منشوراته منذ أسبوعين ولا تزال مكدسة على طاولتي، وقد اخترت منها أحد أعماله ونبذة صغيرة عن حياته، لتعلق في بهو مبنى الفنون الجميلة بصورة دائمة أسوة ببقية الفنانين اللبنانيين المؤسسين والمحدثين. ولا نزال مصرين على إقامة المعرض عندما تسنح الظروف.
شدني إلى عارف الريس منذ كنت طالبا في معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية إنسانيته وصدق تجربته الفنية. تعبيريّ بامتياز، أعماله تعكس تجاربه في الزمان والمكان، مثقف وتجريبي، من زهور الربيع إلى زهور شارع المتنبي، مرورا بكل التأثيرات الغربية والأفريقية والشرقية.
قلما التقيته لا يخربش شيئا، أحببتَ أم لا ما همّ. ضحكته ستبقى ساخرة من كل شيء. سيمفونية صاخبة تذكرنا دائما بهذا الشلال الهادر بالوطنية والحب والفن الكبير.
فاطمة الحاج: الوجه الدائم الحضور
(شارع المتنبي) (زهور) باستيل في السبعينيات... مراحل فنية هادئة كانت بمثابة هدوئه قبل اندلاع ضحكاته. فكما تزين ضحكته قصره، كذلك خطه الأسود يجمع بين داخل المساحة اللونية وخارجها. وكما همه السياسي الإنساني كان دائم الحضور كذلك الوجه.
ولا هم أن كان هذا الوجه يحتل حيزا كبيرا في طرف اللوحة، أم وجوها صغيرة منتشرة. وسواء لوجه عارف الريس أن كان مستترا وراء شكل هندسي أو قناع أفريقي أو ما شابه، فانه يأتي ليعبر إلى الضفة الأبعد، حيث لا حاجة لخط يفصل الوجه عن حاله.
عادل قديح: فريد في مقاربة الثقافة التشكيلية
فلنعترف... عندما يرحل العمالقة إنهم لا يستكينون. بل يبقى إرثهم شامخا. هكذا سيفعل عارف الريس بعد رحيله. سيبقى، كما كان في حياته، واقفا حائلا في وجه تحييد الثقافة العربية عن أصالتها وعمقها التراثي.
رحل بجسده، لكنه ترك طريقته الفريدة في مقاربة الثقافة التشكيلية. فهو أبو جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت وابنها في الوقت نفسه، حيث كان رئيسا لها في أواخر السبعينيات وعضوا فاعلا في هيئتها الإدارية والعامة. وهو الأستاذ المتمرد في معهد الفنون الجميلة، والأب الروحي لسيمبوزيوم عاليه. والفنان المناضل بمعالجته التشكيلية كما في حركته الإنسانية في سبيل الثقافة والإنسان والعمل السياسي. بل انه اكبر من ذلك كله، انه الفنان المشاكس الذي قارب الرمزية عندما ازدادت أشكالا، وحاكى التجريدية الحروفية عندما نهض النضال القومي العربي فساهم برفع شعار التمايز الحضاري والثقافي المستند إلى استلهام التراث العربي المتمثل بالخط العربي. وهو الذي وثّق برمزية جسورة اثر الحرب اللبنانية على تعبيره التشكيلي. والذي تبدت جرأته النادرة في تجليات معالجاته اللونية بترميزها الصارخ من دون أن يلتفت إلى الصراخ الذي يثنيه أو الجلبة التي تحاول أن تجعله يتراجع. كأنه من سلالة الوحشيين ولكن بخصوصية أكدت على تماهيات التعبير مع الحركة والرمز، كأنما النوستالجيا الدفينة إلى فعل انتصار وتوق إلى انعتاق هي التي دفعته نحو تشكيل مساحاته وألوانه وخطوطه وعناصره. ولكننا لن يمكننا أبدا أن ننكر عليه حلمه الرومانسي ولا استكانته إلى الطبيعة وهو ابنها بامتياز. لذلك كان يعود دائما إلى حضن عاليه وحضن لبنان ليبشر بنيو انطباعية كادت تغيب عن البال، تستنكر بتجلياتها التصويرية ما يلوكه بعض الطارئين على تشكيل اللبناني المعاصر.
عارف الريس عملاق هوى جسده وشمخ فعله، فهنيئا له وللبنان ما فعل وما ترك.
أحمد معلاّ: قوس الألوان
انتباه يتجدد، ونوم جديد. بعضنا يغفو، وبعضنا ينتبه. انتباهنا وإغفاؤنا سر ديمومة الذات في الكل.
يالغفلتنا، يسرق أبناؤنا من أحضاننا، وفي ظننا أننا ما نزال نغمرهم بحناننا. عرفناهم، حاورناهم، وتصادينا معهم، بل ورعيناهم وكرمناهم. أبناؤنا، إخوتنا. صورتنا ومجد حضورنا العابر. وسنحتفل بهم كما نحتفل بعيد الأم. زيف يتبهرج لا يلبث أن يذوي أمام القضاء عندما تطالب أم بأبنائها من طليقها.
عارف غياب جديد: أصبحنا مصممي أسرّة الراحة الأبدية.
هل نفتقدك ونفتقدهم أولئك الذين نسير معهم ونحن نرفع رؤوسنا لأننا خبرناهم؟ كلا. كل ظني أن المرارة تجيء من الإحساس بإضاعتهم، وليس من فقدهم، فالغياب قدرنا جميعاً. ولأننا أتينا فسنرحل. لكن اللحظة تكشف خيبة غفلتنا عن نمو أصابعهم في دواخلنا وذاكراتنا.
ممدوح عدوان منذ أيام، وأنطون مقدسي منذ ساعات، وها عارف...
يغادر جيلان سوية، ونحن في ذهول بحارة المركب الضائع بين أمواج التردد بين التراث والحداثة. بين ثورة الإبداع وتملق السياسة. بين السلفية المتوحشة والانفلات من أية قيمة. بين النمو والعيش والحياة.
من يعرف عارف الريس؟
ليس من بين العربان فقط، بل ومن بين فنانيهم وكليات فنونهم العربية أيضاً! من يعرف قيمة لبصره وبصيرته؟ ليس من بين الذواقة فقط، بل ومن بين النقاد أيضاً! من هي الجهة التي تسعى لتوثيق ذاكرة ضميرنا من خلال تخطيطاته ورسومه؟ أجامعة الدول العربية أم جامعات الدول العربية أم جوامعها أم جامعو ثرواتها أم جموع بائسيها؟
دعك إنها نعوتنا جميعاً، نحن جحافل يقودنا الهوس المخادع كما يقود الموج انعكاس صورة.
مغادرة عارف بصمت، إعلان قديم يتجدد باسمه، فما ينطبق عليه ينطبق على مبدعينا جميعاً، وما من جدوى! قتلى نحن، نتلهى بطوائفنا وقبائلنا وأحزابنا، غافلون عن معنى وجودنا وقيمة مرورنا في كف الحياة.
أما آن لنا نحن الذين نشيع من بين ظهرانينا الأكفأ والعلم، أن نعيد النظر
فيما نحن فيه من قلة الوفاء لأنفسنا ولطيننا؟
ما بنا؟!
متنا بموتك يا عارف، وانتبهنا، ماذا بعد...
مغلوبون على أمورنا، تفصلنا صلوات تتباين بتلمظ مفرداتها، وتبعدنا التجاءات مكابرة إلى عناصر الجغرافيا المتنوعة، وتفسدنا لهجات تتنافس صواب الرؤية.
نحن نغادر معك، مع مماثليك من المبدعين، نمرر عيوننا بحزن على أشباهنا الفلسطينيين والعراقيين، يقودنا كالسيل فيض من الدولارات يحملنا على بساط من الوهم وينقلنا من يوم إلى آخر.
لماذا رسمت، ولونت؟
لماذا ترحلت وشاركت؟
لماذا أضعت وقتك في مراقبة الأفق الآتي، الأفق المبارح؟
لماذا توددت غموض التصوير؟
كنت منا، ورحلت عنا.
لم تغادر سوانا، لأننا تشوقنا إلى صياغاتك المبتكرة على الدوام.
مهزوم مثلنا.
نم قرير القلب، فالجمع سيغادر بعد قليل هذه البقعة الصغيرة من الأرض.
ربما يعود قلة منهم إليها على ورق الجرائد، وآخرون في بعض تصاويرهم. وسننساك كما نسينا الكثير من أحبتنا.
ليس كما في مقبرة مونبارناس، حيث تتجدد كل يوم جورية حمراء على ضريح بودلير. وليس كما في النشاط الثقافي الحضاري الذي لطالما تمنيته حديقة لوجداننا.
أعرف أنك عارف. عارف.
والجمع مشغول ب(الإنتخابات)، والجمع مشغول بالسلام والحرب، والجمع مشغول بجوع اليوم وسهرة الأمس، وطول فستان الغناء.
ثمة غيوم تغادر البحر كل يوم، تمتطي حصان لبنان، تربت على روحك وهي تدير ظهورها لانشغالاتنا البائسة.
وداعاً عارف، ستشع أقواس الألوان من ذكراك في آنية العارفين مثلك. آمل ذلك. (دمشق)
مارون الحكيم: أستاذ مشاكس
عاش عارف الريس مناضلاً مغامراً مفتشاً في الحياة وفي الفن. لم يأسر نفسه يوماً في فكر متحجر أو في أيديولوجيات مسمّرة. ولم يحدّ طريقه الفنية في أسلوب ثابت يعرف به، بل كانت كل حياته مزيج من الضياع في متاهات الدنيا والثورة على أشيائها البائدة ونواقصها الفاقعة.
انه فنان عصامي متعدد في إنتاجه التشكيلي وغزير العطاءات في اتجاهات متنوعة. عالج أفكارا ومواضيع متنوعة تخص تفاصيل البؤس والتخلف والركود والثورة في عالمنا العربي. لقد عكس فنه حال القلق والتوتر وضجيج الذات المجنونة. مارسه بإدمان المؤمن العاشق فصار الفن لديه العلة والدواء في آن.
لقد عرف جيلنا عارف الريس أستاذا مشاكساً ثائراً على الأسس الأكاديمية الصارمة، وصديقاً خبيراً عجنه الدهر من النواحي الإيديولوجية والفنية والخبرة الحياتية.
ساهم في تأسيس معهد الفنون الجميلة، وناضل في جمعية الفنانين مع زملاء له من جيله ومن أجيال الشباب اللاحقة، وكان له دور تشجيعي في تأسيس نقابة الفنانين التشكيليين. كما ساهم في إنشاء سمبوزيوم عاليه للنحت مع زملاء له في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت حتى صارت عاليه مدينة للنحت العالمي.
بموته نكون قد خسرنا احد المداميك الأساسية للحركة التشكيلية اللبنانية. عل الوطن ينصفه مع مبدعين آخرين حتى لا يضيع الجهد والإبداع وكي لا يتلاشى الفن في أقبية النسيان. نأمل إقامة متحف للفنون التشكيلية في لبنان حتى ولو كان النداء صوتاً بلا صدى.
محمد شرف: التنقل الحر بين التيارات
ذهب عارف الريس مستعجلا، ملحا، قبل أن تداهمه صروف الدهر وتعقد يده عن الحركة أو عينيه عن الرؤية الواضحة، وذهب أيضا متمهلا، إذ كان عليه أن يكمل الإجابة على أسئلة كثيرة، متناقضة، فرضتها مراحل وجودية وظروف سياسية وإنسانية عاشها الوطن ومحيطه خلال عقود تقاطع فيها السياسي والأيديولوجي والثقافي، على نحو مركب ومعقد.
وإذا كان على المهتمين باليومي السياسي أن يعيدوا تصفح كتب الايدولوجيا، وان يعيدوا صوغ الفكر بناء على أسس ومعطيات متغيرة ومتبدلة سعيا وراء موضوعية (مشغولة)، مخافة الوقوع في براثن ذاتية خاضعة لقوانين الرقابة والمحاسبة، فان مهمة الفنان التشكيلي كانت تسير على أسس مختلفة. فالهم التشكيلي الذي شاء عارف الريس أن يكون سبيله إلى رؤية ما يحيط به، لا بد أن يكون قبل كل شيء ذاتيا، وان يكون، في بعض الأحيان، على نقيض من المنطق العقلي الواضح، وان يتقارب معه ويلازمه في أحيان أخرى. هذا النهج، أو الأسلوب، في التعامل مع مسألة التشكيل لا بد له أن يقودنا إلى طرح مسألة الحرية، التي شكلت في ذاتها موضوعا قابلا لمختلف ضروب النقاش والتأويلات، وأدت إلى انقسامات حادة في صفوف الحركة التشكيلية منذ ما يقرب من قرن زمني أو أكثر.
يقول ادوار لحود في كتابه عن الفن اللبناني المعاصر وفي الصفحات المخصصة بعارف الريس: (لا نعرف ما يمكن قوله عن هذا الفنان، انه عبارة عن كتلة متفجرة في كل الاتجاهات. إن فنه ذو علاقة بالمزاج، باللحظة، وبغريزته. وهو عبارة عن تمزق داخلي لا يمكنه أن يتجسد إلا بسلسلة من التناقضات التي لا تنتهي). إن ما يلحظه ادوار لحود هو، بلا شك، على قدر كبير من الصحة، ويمكن على أساسه فهم، أو تفهم، التنقل المستمر لعارف الريس بين مختلف التيارات الفنية التي حفل بها القرن العشرون، والتي جاءت كنتيجة طبيعية لتطور ذهني وثقافي غير مسبوق فرضته ظروف الحياة الحديثة. وإذا كان ظهور تلك التيارات وتبلورها قد تطلب مراحل تحضيرية وسياقا زمنيا محددا، أو غير محدد، فإننا نشعر وكأن عارف الريس قد شاء تكثيف تلك المنطلقات التشكيلية، المتباعدة أو المتقاربة، وحصرها في زمن واحد، وهو الزمن الذي عاشه وبدأه في معرضه الفردي الأول في الجامعة الأميركية عام 1948 لينهيه بكتاب سماه (الأيام الرمادية) صدر عام 2003.
لا يصلح كتاب الأيام الرمادية لتلخيص مسيرة عارف الريس، ولم يرمِ الفنان إلى هذا الهدف، كما أن الرمادي لا يعتبره الكثيرون لونا، في حين أن مسيرة الفنان التشكيلية لم توفر الألوان، فقد رآها منبسطة، حالمة، في طفولته وراقبها وهي مكثفة، صاخبة وراقصة، خلال تواجده في أفريقيا. وربما كانت أفريقيا هي الموقع الذي حاول فيه الفنان التوليف بين حركة الجسد وحركة اللون، من دون أن تكون النتيجة مجرد عملية استنساخ للرسم الأفريقي الفطري، الذي يحمل في ذاته مقومات عفوية قد يؤدي التعاطي المباشر معها إلى فخ التقليد. لقد أراد الفنان التعامل أكثر مع البعد الروحي لتلك الانطباعات التي تركتها في نفسه بلاد لم تمتد يد المدينة بعد إلى الكثير من أرجائها، فبدت في عينيه بلادا (نظيفة)، وربما كانت هذه (النظافة) سببا دفع الكثيرين إلى تكثيف اللون وتسطيحه كي يكون بسيطا ومعبرا في آن. لم ينج عارف الريس من عفوية أفريقيا وبعض مظاهرها البدائية، إذ ستشكل هذه المرحلة رافدا سيصب دون شك في نهر مسيرته الفنية.
كما أن الإقامة في أوروبا ورحلته إلى أميركا لم يكن من شأنهما إلا إضافات جديدة إلى البعد الإنساني الذي سيكون له مكانة خاصة في أعماله، والذي سيتعزز باهتمامات فلسفية، وبطفرة من المأساوية التي ولدتها الحرب الأهلية اللبنانية لاحقا وتجسدت في أعمال غرافيكية لم يقلل اللون الواحد المونوكرومي من شحنتها الشعورية، لا بل أضفى عليها زخما خاصا.
هذا الهم الإنساني الذي يقع في صلب الهم التشكيلي لدى عارف الريس، وهو هم مدموغ بخاتم الحرية، سنراه في مجمل نتاجه واضحا للعيان في أعماله التشخيصية أو مستترا وراء غلاف التجريد أو السوريالية، وما كتابه الأخير سوى رحلة بين اللون والحرف والصور، ومن هذه العناصر الثلاثة تفوح رائحة الإنسان، وهي رائحة يصعب منع انتشارها.
****
بطاقة
الفنان التشكيلي عارف نجيب الريس، أحد مؤسسي الحركة الفنية اللبنانية المعاصرة، وافته المنية في مدينته عاليه صباح أمس.
مواليد عاليه 1928، تلقى دروسه في الجامعة الوطنية عاليه وفي مدرسة عينطورة حتى سنة 1948، مارس الرسم بمساعدة والدته مستعملاً الأدوات التي كانت تستعملها من الألوان الزيتية، أقام أول معرض في صالة ال (وست هول) في الجامعة الأميركية في بيروت بمساعدة الفنان الفرنسي جورج سير والناقد فيكتور حكيم.
بمناسبة انعقاد الأونيسكو في بيروت، وزيارة رئيس مؤسسة هكسلي ومدير قسم الفنون الجميلة الدكتور بيتر بيليو، انتقل المعرض إلى صالة العرض في الأونيسكو، ولاقى نجاحاً كرّسه فناناً مهنياً. وعام 1948 سافر إلى أفريقيا السنغال الفرنسي لمساعدة والده في تجارتة، ومن هناك انتقل إلى باريس لدراسة الفن. دخل أكاديمية الفنون الجميلة، وتركها بعد شهر لينتسب إلى المحترف الحر للفنان فرنان بيجيه، ومن ثم انتقل إلى محترف اندريه لوت وهنري غنز للحفر وزادكين للنحت. بعد ذلك التحق بأكاديمية الغراند شوميير للرسم، بعد هذه الرحلة عاد إلى أفريقيا متفرغاً لفن المرحلة الأفريقية المميزة بصفائها.
خلال تواجده في باريس كان يزور المتاحف والمعارض الخاصة والعامة، من أجل التعرف على الحركة الفنية الباريسية المعاصرة، التي كانت مقراً لهذه الحركة العالمية. عاد إلى لبنان وأقام معرضاً في المركز الثقافي الإيطالي وحصل على منحة دراسية في إيطاليا، انتقل إلى فلورنسا ومنها إلى روما، وبقي هناك خمس سنوات متنقلاً بين فلورنسا وروما مشاركا في المعارض الجماعية الرسمية والغاليريات الفنية. شارك في مسابقة تمثيل لبنان في معرض نيويورك الدولي بمنحوتة (الفينيقي) وحاز على جائزة المعروضات واحتفظ بالمنحوتة في نيويورك. وانتقل إلى الولايات المتحدة بهدف الإطلاع على المتاحف ومواكبة الحركة الفنية هناك، استمرت الزيارة إلى أميركا خمس سنوات أقام خلالها العديد من المعارض، ثم انتقل إلى المكسيك بدعوة رسمية وأقام معرضاً لإنتاجه في نيويورك.
بعد خمس سنوات إنتاج ومشاركة في بعض معارض جماعية في أميركا الشمالية، عاد إلى لبنان ليستقر في محترفه في عاليه، حيث ساهم في المعارض الرسمية داخل لبنان وخارجه. عام 1988 دعي إلى المملكة العربية السعودية وأنجز عدداً من المنحوتات لتجميل ساحات مدينة جدة وشواطئها، وفي مدينة تبوك أنجز عدداً من الأنصاب الجمالية لساحاتها، بالإضافة إلى تآليف من الرخام لجامعة الملك عبد العزيز في الرياض، وخلال هذه المرحلة كان يتنقل بين إيطاليا والسعودية، بهدف إنجاز أعماله الفنية الكبيرة الأحجام، كما أنجز في السعودية أعمالاً زيتية عن (النور والمدى الصحراوي) عرضها في بيروت، وضع تأليفاً لجدارية من (الأوبيسون) لمنظمة الأونيسكو في باريس، أقام معارض عدة لأعمال فنية مختلفة في السعودية ولبنان، وظل حتى وفاته يعمل في محترفه في مدينة عاليه.
عارف الريس من (مؤسسي جمعية الفنانين التشكيليين في لبنان) وأكاديمية الفنون الجميلة التابعة للجامعة اللبنانية، ومارس التعليم فيها لمدة خمس وعشرين سنة، وشارك في كافة النشاطات والمعارض الفنية في لبنان والخارج، ومن مؤسسي الحركة الفنية اللبنانية المعاصرة، وحاز على وسام الأرز من رتبة فارس من الدولة اللبنانية، رئيس جمعية الفنانين التشكيليين في لبنان سابقاً، ومن مؤسسي سيمبوزيوم عاليه الدولي للنحت.
نعاه المجلس البلدي في مدينة عاليه، وعموم أهالي المدينة، ونقابة الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، وجمعية الفنانين اللبنانيين، والجمعية اللبنانية للتربية الفنية، ومحترف الفن التشكيلي في راشيا.
يقام للراحل (حفل تأبيني في قاعة (جمعية الرسالة الاجتماعية في عاليه)، حيث يصلى علي جثمانه، الثانية عشرة من ظهر اليوم الجمعة 28 كانون الثاني الجاري. تقبل التعازي يوم السبت 29 منه في دار الطائفة الدرزية، بيروت، من الساعة العاشرة صباحاً حتى الرابعة عصراً، ويومي الأحد والاثنين 30 و31 منه، في منزله بعاليه).
السفير- 2005/01/28
****
يعتبر الفنان عارف الريس من ابرز الرسامين العرب، وله شهرة عالمية بسبب إلحاحه في أعماله الفنية على الاستحياء من الجو الشرقي والتراث العربي، وتضمينه المفاهيم الفنية الحديثة.
ومنذ خمسين عاما وعارف الريس يرسم وينحت ما تصادفه عيناه، فهو كتلميذ لاستجاباته السريعة لايزال يتعامل مع اللون والحجم انطلاقا من الخواص الديناميكية المتحركة للخارج. انه يشعر المراقب دائما بحضور عارف العائش ضمن عالم متوتر العلاقة، ويستمد ارتجافاته من إيقاع رقصة افريقية ما برحت تتلبس ذهن هذا الفنان منذ أن كان مغتربا مع والده، حتى حين قرر، فترة ما من حياته، أن يكون راقصا إيقاعيا في إحدى مدارس باريس، إن فن عارف الريس ليس الحركة بل روح الحركة. وحالة ارتطامها الدائم بما يحيط بها من سواكن. فهو فنان يقدم كل مرة صدمة جديدة للعين لا تطرح مجددا إلا جانبا آخر من جوانب هذا الباحث المستمر عن علاقة الأشياء.
بين الولادة في عالية بلبنان (1928) واليوم، مشوار سبعين عاما ونيف من رحلة الفن لم يبدأ زمانها واضحا. حياة معجوقة بالمعارض والمشاريع والرحلات والطموحات والأحلام.
في 1947 أقام، وهو فتى يافعا معرضه الأول، وفي العام نفسه انعقد في بيروت مؤتمر الاونسكو فزار المعرض رئيس بعثة الأمم المتحدة ولشدة إعجاب الرئيس بالأعمال، أعطى الفنان الشاب بطاقة تخوله حضور جميع احتفالات المؤتمر، وطلب نقل اللوحات إلى قصر الاونسكو فكان ذلك، وعرضت أعمال الشاب إلى جانب (الكبار) يومها: فروخ، الإنسي، الجميل.. ولكن الظروف شاءت أن يسافر إلى السنغال ملتحقا بأشغال والده وأقام هناك، إلى أن اقنع والده بضرورة السفر إلى باريس مدينة الفن، فكان له ما أراد في باريس، ضاع الفتى الجامح بين تيارات الفنانين الكبار الذين كانوا يبحثون عن هوية الإنسان الجديد بعد الحرب.
وحين شعر بأنه خرج من البلبلة والتشويش، عاد عام 1957 إلى لبنان، منتشيا بما اشتاق إليه فيه من نور وهواء، وما كاد يؤسس لاستقراره حتى اندلعت أحداث 1958، فانسحب إلى المختارة مفيدا من مركز للمحترف وضعه في تصرفه الزعيم كمال جنبلاط. وبدأ يعرض في بيروت أعماله، فاتسعت شهرته، وذات يوم من عام 1959 نظم له المركز الثقافي الايطالي معرضا أحرز له منحة إلى ايطاليا فلبى وعاش في فلورنسا سنتين، ومن ثم إلى روما فإلى لبنان محطة استراحة وانطلاق إلى الولايات المتحدة، ومن هناك إلى المكسيك.
وحين عاد بعد سنتين ساهم في إنشاء معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، بعدها، أرهقته ظروف الحرب وندهته الفرصة إلى المملكة العربية السعودية، فشد رحاله إليها مخرجا روائع في النحت.
وبعد غياب اثنتي عشرة سنة، يعود إلى البقعة الأم، إلى (عاليه) واختار له فسحة جميلة ل (المحترف) عاش في أمكنة متعدد ومتفارقة الصحراء والغرب وأفريقيا وأوروبا. عن الترحال وما قدمه له يقول عارف الريس: (الترحال وضح لي أهمية الارتباط بالذات، ومن ثم ربط التراث بالظاهرة العالمية للفنون التشكيلية وخاصة الاعتماد على الإلهام الذاتي مهما تنوعت، وخاصة المواضيع من مرحلة إلى مرحلة ضد ما يسمى بالأسلوب التقني المرتبط بالتعليم الأكاديمي.
وبناء عليه طورت تقنياتي حتى أتمكن من الأداء الجمالي الذي يفي بالموضوع الذي أتطرق إليه.
التجوال يوسع لك عدسة مخيلتك، خاصة بتعدد المذاهب والأساليب التعبيرية المعاصرة فيشعر الفنان بأن رده الوحيد في مخيلته وموضوعيته بالنسبة لمشاغله الفكرية والوطنية وارتباطه الحضاري في أفريقيا والسعودية عشت الاطمئنان، وكانت حياتي مستقرة وهادئة وصافية، وهي حياة مختلفة كليا عن لبنان. في أفريقيا تعيش وسط بشر عراة تماما، يرقصون حتى الفجر ويعشقون الألوان الزاهية، ويعتبرون أجسادهم جزءا من الجمال. المرأة لا تخفي جمالها، هذه القوانين البدائية عشتها بانسجام. أما في باريس فعشت الفحش الطويل (1948 1957).
وأيضا عشت في مناخات الأدب والفكر والفن وقضيت فترة غنية جان بول سارتر ومع معظم الفنانين الذين برزوا في تلك المرحلة.
استمعت إلى أحاديثهم والى مفاهيمهم النقدية. كانوا أيضا يثيرون أسئلتهم حول المرحلة وقلقها. عاشوا القلق وقاموا بثورة على تراثهم الطويل).
وعن العلاقة بين النحت والرسم يضيف الريس:
(الرسم يصل بالفنان إلى التصوير والنحت إذا توفرت الموهبة. ويبقى التصوير أصعب وأدق من النحت لأنه يعتمد على الغش البصري بالتعامل مع المسطح كمساحة المربع والمستطيل فاللون يحمل مهارة الخداع التشكيلي أما النحت فيدخل في صفاء الهندسة المعمارية التشكيلية، وهذه الهندسة الجمالية تحمل مساحات وأحجام وتقاسيم تشغل بصر الناظر إليها بطريقة أنها تبقى لغزا لا يمكن الدخول إلى صميم بنائيته فيبقى موضع التساؤل حول حركته وثباته ومعانيه وهذا عكس جمالية العمارة التي تخضع إلى القواعد الهندسية المعمارية ولكنها تقدم المسكن في داخليتها لحياة عائلية وفردية. لذلك النحت المعاصر يدخل سر من أسرار الهندسة الجمالية المجسمة فهذه الكلمات بحد ذاتها تبدو تجريدية طالما لم نضع شاهدا تجسيديا لتدور حوله التعريفات اللفظية، وهذه هي قدسية الكلمة).
(اللوحة البيضاء تخضع إلى تصوري وحالتي النفسية والحديثة التي تفرض مسيرة من الألوان والتفاصيل متناقضة تشكيليا).
وحول الفنان وعلاقته بقضايا وطنية يضيف الريس.
(الأجواء التي تعيشها تتجسد في مخيلتك وتوحي إليك بكيفية معالجة الموضوع الذي يشغل كل حواسك. قضايا وطنية ومصيرية لا يمكن أن تمر بدون التنبه لأهمية التعبير عنها، مثل مرحلة معارضي (دماء وحرية) و(فصول من واقع العالم الثالث)، و(طريق السلم) هذه كلها قضايا مصيرية تشغل كل واحد منا فلا يمكن للفنان أن يهرب مما يتمسك بمخيلته ومعاناتنا كبيرة في هذه المنطقة من العالم). ويضيف (شخصيا الفن عندي يخضع إلى مشاغلي الشخصية والعامة اجتماعيا وسياسيا. قلما جربت الفن للتجريد الفني الصرف، لأن الحياة عندي مترابطة ومتكاملة نظريا وتطبيقيا. وفي هذا الالتزام معاناة تحرمني من التمتع المنفلت جماليا من الموضوع).
كل الفنانين يعانون من كيفية تدبير حياتهم المادية. حظي كان كبيرا لأن والدي يرسمان، وساعدني والدي مساعدة كبيرة لأستمر في إنتاجي، فحل محل الدولة، إنما في كل حياة الفنانين معاناة مزدوجة. فالإبداع عملية صعبة، وتأمين الحياة أصعب وجميع العواصم التي عشت فيها بأوروبا وأمريكا والبلاد العربية وجدت نفس المعاناة ونفس الهموم والمشاكل.
البيان الثقافي
الامارات- لأحد 21 رمضان 1421ه 17 ديسمبر 2000
****
زهرات شارع المتنبي لعارف الريّس
في مطلع السبعينات من القرن الفائت رسم عارف الريس "زهرات شارع المتنبي". الرؤى التي جسدتها لوحاته جعلته يعبّر بقوة عن علاقة القيم والأفكار بالعهر. رسم الأزهار كرموز لأشياء جميلة وعابرة تجدد الحياة. ثم تحول نحو بيوت البغاء في شارع المتنبي، والتي يقال أنها شيدت في الأصل من اجل ترفيه العسكر العثماني في عهد عزمي بك، والي بيروت، وأنها عرفت حقبتها الجميلة في سنوات الانتداب الفرنسي.
شبّه العديد من الباحثين تحوّل التنظيم المديني لبيروت في مطلع القرن العشرين، بأنه يحمل نفحة باريسية. ذلك أن باريس كرست في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شارع البيغال كسوق للمومسات. ثم انتقل هذا السوق في العام 1900 إلى حي مونبارناس، بعد نشوء أكثر من حكاية غرامية بين الفنانين والمومسات اللواتي تحولن من بائعات لذة إلى موديلات وملهمات وعشيقات و... زوجات للفنانين.
يروي اوجين ديلاكروا في مذكراته عن علاقته الغرامية بالمومس هيلانة: "ما أعذبها عارية في السرير. لقد ألهمتني لوحة ساردانابال"... كوربيه فعل أكثر إذ تزوج المومس الشقراء فرجينا ورزق منها ولدا.
وكاد مانيه يثير اكبر فضيحة في عالم العري من خلال اشتراكه بلوحة الفطور على العشب التي رسمها عام ،1873 لاسيما أن العارية فيكتورين مورانت التي استوحى جمالها، كانت معروفة بين مومسات سوق البيغال. لذا لُقِّب مانيه بأنه رسام العاهرات لأنه، على قول بول فاليري، "كان ضعيفا أمام إغراءات المومسات الفاتنات". فالغانيات، على قول تولوز لوتريك، هن اللواتي أعطين باريس جاذبية حقبتها الجميلة، العابقة بعطور المرح والرقص واللهو والمجون والحرية. فالنشوة العابرة كانت تخفي هاوية من الأحزان والانكسارات المريرة والمفجعة، هاوية البؤس والحرمان والمرض وهاوية التناقضات الاجتماعية الحادة.
حاول عارف الريس في "زهرات شارع المتنبي" فضح الواقع. كانت اللافتات التي تنير ليالي الشارع المنزوي في الجزء الشرقي الشمالي من ساحة الشهداء، تحمل ألقاب العاهرات وأحيانا صورهن التي تزيَّن بلمبات، تضيء وتنطفئ، ملوَّنة براقة كجمر اللذات والتأوهات العابرة.
يتذكر انه عندما نفّذ تلك الرسوم كانت بيروت تعيش أزمة عميقة، فحاول إيجاز التناقضات المعيشة في رسومه. يروي: "رسمت زهرات شارع المتنبي، وجعلت المرأة المحكومة بالذكورية على مقربة من تمثال الشهداء. كنت أشاهد دوما أن العهر يُلصق بالمرأة وان الرجل هو المستغل الأكبر. العاهرات ضحايا البغاء الاجتماعي التقليدي في ظل مفاهيم ضيقة وأوضاع اقتصادية مذلة.
"تنقلت بين البيوت التي يحرسها رجال الأمن والعيادات الصحية الرسمية. ومع دفتر الرسم والأقلام الملونة الشمعية، كنت امضي الأوقات الطويلة في صالونات الانتظار والغرف الداخلية للنوم والجماع.
"أطرف شيء لمسته في تلك الزيارات المتكررة أن العاهرات كن يشعرن أني فنان، مثلهن. كن يتجاوبن مع روح النكتة التي أتمتع بها. هذا الرابط الإنساني ذكّرني بالوجه الحضاري الأوروبي الذي نفتقر إليه في مجتمعاتنا اللبنانية. "لفتني أنهن كن يمثلن الحرية. كان عدد كبير من نساء المدينة حائرات بأجسادهن ويتمنين لو كان في إمكانهن الحفاظ على مواقعهن الاجتماعية والاستمتاع بالحرية الجنسية التي تتمتع بها نساء شارع المتنبي. كان البلد يسير نحو ما وصلنا إليه: الإفلات التام، المتجاوب مع روح العصر الممكنن والحامل روح العولمة.
"لم أكن اشعر أن زهرات شارع المتنبي قد تخطين الخوف المزروع في نفس المرأة الشرقية، التي أخضعت للحجاب والصمت ولعدم التعبير عن حواسها وعن آرائها فصارت كأنها كيس من الفحم للحريق. ذلك أن الرجل يمنح نفسه الحق في لصق التهمة بالمرأة. لكنه قد يرتكب جريمة إذا خرجت ابنته أو زوجته أو شقيقته عن خط الشرف التقليدي المحصور في الجسد.
"كانت جميع تلك التناقضات تعبر رأسي وأنا ارسم زهرات الشارع. عشت في أفريقيا مع البدائيين والعراة وتعرفت على نزوات مجتمع لديه الحرية المطلقة للتصرف بملكيته الخاصة وحواسه وجسده. وبعد أفريقيا كانت باريس في عوالمها المتناقضة أخلاقيا وفنيا وعلميا. وقد أوضحت لي أهمية الإنسان كما يريد أن يكون وليس كما يراد له أن يكون داخل سجن القواعد والقوانين المفتعلة من تفكير ناتج من الخوف والمرض.
"كان الجمهور متحمسا جدا. اذكر حادثة طريفة في حفل افتتاح المعرض حين حجزت سيدتان من المجتمع المخملي لوحتين من مجموعة زهرات شارع المتنبي. في اليوم الأخير من المعرض اعتذرتا عن عدم الشراء لأن زوج أحداهما لم يقبل أن يعلّق في صالون بيته لوحة تمثل عاهرة.
"ابتسمت وقلت للزوجة انه على حق. احضري له عاهرة حية لا صورتها، فسيفرح بها ويستقبلها في الصالون وفي أمكنة أخرى. انتهى المعرض ولم أبع أي لوحة. بعد سنوات ازداد الطلب على هذه المجموعة، بحيث لم يبق لديّ سوى لوحات قليلة ذات أجواء باردة.
"اذكر أن بعض النساء صرحن لي بأن زهرات شارع المتنبي أمنية تخالج الكثيرات من المقموعات بالاهانة والحرمان على جميع المستويات.
"تلك الكلمات كانت تشغل بالي وتطلق العنان لعفويتي في الرسم والتلوين. لذا تكررت موضوعات زهرات شارع المتنبي في أكثر من مرحلة. ربما لأن هذا الموضوع دخل في عمق السياسة والاقتصاد وفكرة التحرر والاستقلال
النهار الثقافي- السبت 26 كانون الثاني 2002