مذ بدأت تتبلور أولي ملامح الفن التشكيلي الحديث في العراق كانت المرأة العراقية حاضرة، وإن اختلف حجم هذا الحضور وقوته. ففي باب الريادة الزمنية يمكننا الإشارة إلي الفنانة مديحة عمر، التي تُعد أول من أدخل الحرف العربي في الرسم، وناهدة العمري، التي كانت أول سكرتيرة تجمّع فني عراقي انبثق إلي الوجود، ونادرة عزوز، التي تُعتبر أول فنانة تجريدية عراقية، وخلود فرحان سيف، أول نحاتة عراقية، إضافة إلي المنجز الفني الذي قدمته كل من نزيهة سليم، ووداد الأورفلي، وغيرهن من التشكيليات العراقيات. وإذا كانت مرحلة الخمسينات وما قبلها تمثل إرهاصاً حقيقياً لولادات فنية جديدة، فإن جيل الستينات كان حافلاً بأسماء إبداعية مهمة تركت منجزاً فنياً واضحاً في الرسم، والنحت، والسيراميك أمثال نهي الراضي أول من تخصص في الفخار ، سميرة عبد الوهاب، سعاد العطار، ليلي العطار، ساجدة المشايخي، سالمة صالح، بتول الفكيكي، مهين الصرّاف، عبلة العزاوي، فاتن كمال عبد الجبار الكيالي، أديبة القاضي، نعمت محمود حكمت، سوسن سلمان سيف، ناثرة آل كتاب، أمل أميلي بورتر، سهام السعودي، نجاة حداد، سلمي الخوري، هيلدا أبو لحيان، ثريا النواب، سميرة الصرّاف، زينب عبد الكريم وأخريات لا يسع المجال لذكرهن جميعاً. أما جيل السبعينات فقد احتفي بظهور وجوه فنية جديدة بين حشد كبير من الفنانين العراقيين، ومن بين هذه الوجوه النسوية يمكننا الإشارة إلي، رؤيا رؤوف، سهي شريف يوسف، أناهيد سركيس، رملة الجاسم، أنسام الجرّاح وعفيفة لعيبي، مناط بحثنا ودراستنا في هذا المقال. وللتعرف علي أبعاد التجربة الفنية لعفيفة لعيبي، ولاستجلاء تمظهراتها الجمالية لابد من التوقف عند بدايات تفتق موهبتها الفنية، والأشخاص الذين رعوا هذه الموهبة، ومهدوا لها طريق الخلق والإبداع، ثم الشهرة والذيوع لاحقاً.
بذرة الموهبة، وشروط الإنبات
في التربة الخصبة
تنحدر الفنانة عفيفة لعيبي من أسرة فنية لها باعُ طويل في الثقافة والفن التشكيلي والصحافة، فضلاً عن الهاجس السياسي اليساري الذي تلّبس هذه الأسرة منذ زمن بعيد. فلا غرابة أن تكون بدايتها الفنية مختلفة ومغايرة وخارجة عن السائد والمألوف، فأغلب الفنانات العراقيات من جيلي الخمسينات والستينات لم يكن يخرجن عن دائرة البيت والمعاناة المنزلية، بل أن البعض منهن لم تخرج عن إطار الحياة الزوجية آنذاك كسعاد العطار وليلي العطار، وإذا قُدر لإحداهن أن تتمرد علي هذه القيود فإنها تكتفي بالخروج إلي الطبيعة لتصوير الحياة القروية كما فعلت الفنانة نزيهة سليم. أما الفنانة عفيفة لعيبي فقد كانت متكئة علي إرث ثقافي مغاير ومتحرر كان يسمح لها بحرق العديد من المراحل دفعة واحدة، فلهذا قفزت إلي قلب المجتمع بجرأة وشجاعة ودونما منغصات، وحاولت أن تكون عنصراً فاعلاً فيه من خلال معالجتها للقضايا الاجتماعية الكبيرة، ففضلاً عن كونها فنانة أصيلة وموهوبة، فهي امرأة سياسية، قوية، متحدية، جادة، مسؤولة تتمتع بنًفسٍ تقدمي لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه، وربما لهذا السبب كانت بدايتها جريئة وصاخبة بعض الشيء، وهذا ما يفسر لنا عنف لوحاتها الأُول علي الصعيدين التقني والمضموني.
إن انغماس الفنانة عفيفة لعيبي في الهموم الاجتماعية الكبيرة هو الذي دفع النقاد والباحثين لأن يقارنوها بالفنانات المناضلات اللواتي نذرن أنفسهن لمجتمعاتهن، وسخّرن أدواتهن الفنية لخدمة الشعوب أمثال الفنانة المكسيكية فريدا كاحلو، والمصرية أنجي أفلاطون، واللبنانية روضة سليم شقير. إن عمل لعيبي في صحيفة (طريق الشعب) في أوائل السبعينات قد أمّدها بطاقة سحرية لا تُحد عندما كان العمل السياسي الذي ينتصر لإنسانية الإنسان هو زينة الرجال والنساء علي حد سواء، الأمر الذي مهد لها الطريق الصحيح صوب معهد سوريكوف للفنون الجميلة في موسكو عام 1974 ، إذ تخصصتْ في الفن الجداري، موزاييك، فريسكو، تزجيج، وفنون الرسم القديم. ومن هنا بدأت الإنعطافة الدراماتيكية في حياتها الفنية، فالفن السوفييتي معروف بجديته ودقته والتزامه، وهذا ما يفسر لنا اعتزازها بموضوع المرأة / الإنسان. واللافت للانتباه أنها لم تتخلَ عن ماضيها الفني، مثلما لم تنتمِ كلياً إلي المدرسة السوفيتية والمدرسة الإيطالية لاحقاً، وهذا جزء من سر فرادتها وتألقها الدائم في تقديم لوحة مهّجنة تكاد تكون غائبة أو محذوفة من المشهد الفني المعاصر. فمرجعية لوحة عفيفة لعيبي هي مرجعية كونية فيها من العراق الثيمات الصادمة، والخطوط القوية، والألوان الحارة، وفيها من المدرسة الإيطالية ـ عصر النهضة تحديداً ـ الشفافية والنعومة والرقة والبضاضة والهيمان والجمال الغامض الذي لا يغادر بصيرة المتلقي المتذوق. وفيها من المدرسة الروسية الدقة والصرامة والفكر والجمال الداخلي والتعالي والسمو لأن المرأة ليست موضوعاً شهوانياً أو أنتيكة جميلة تسر الناظرين، بل أنها إنسان فاعل في حركة المجتمع، وهي لا تختلف عن الرجل المكابر في أي حال من الأحوال. إن أداءها المُتقن والمحكم والمكتمل يذكرنا بالمدرسة الإسبانية والفرنسية، بل وأغلب المدارس الأوربية التي ازدهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر. تري ما الذي تبغيه الفنانة عفيفة لعيبي؟ وما هي الرسالة التي تريد إيصالها إلي المتلقي في كل مكان؟ هل تدعونا لمراجعة مواقفنا السابقة، وتحرضنا علي إعادة النظر بالمدارس والمذاهب الفنية التي ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية؟ إن الفنان معّرض للتبدل لأسباب عدة لأنه محكوم بالتقدم الزمني، وهذا التقدم بحد ذاته يدعو المبدع لأن يراجع منجزه الفني والأدبي، فلا عجب أن ينقلب هذا الكائن المنفعل، الموتور، الذي لا تسعه هذه الدنيا الكبيرة إلي مخلوق هادئ، غارق في التفكير والعزلة واللذة القصوى. فالطبيعة آسرة الجمال، لكننا منشغلون عنها بسفاسف الحياة اليومية، وثمة أشياء كثيرة تستحق التأمل، لكننا سادرون في عزلتنا الذاتية المجردة من الحنين والعاطفة وحب الآخر أو الانتباه له في أقل تقدير.
إن الموضوع الأثير للفنانة عفيفة لعيبي هو موضوع المرأة التي تتخذ منه أشكالاً متعددة كالأم والأخت والصديقة والحبيبة، ولكنها في أغلب الأحوال تتشح بوشاح أسطوري بوصفها رمزاً للخصب والعطاء والحياة المتجددة، ولكن ثمة تركيز واضح لا تخطئه العين الباصرة علي الجمال الغامض، الآسر، الذي يتفجر شباباً وحيوية ونضارة حتي وإن كان في عز وحدته، وعزلته، وانكماشه علي ذاته، وانطوائه علي كينونته الداخلية المحتفية بنفسها. صحيح أن الفنانة تقّدم لنا نماذج متوحدة مع ذاتها، إلا أنها تفتح أمامها أبواب التأمل والرؤى والأحلام، وربما تخز في أعماقنا كمتلقين رغبة البحث والتمثل وإطالة النظر في البقع المختفية والمجهولة من حياتنا الإشكالية المتعثرة عند العتبات المادية والهواجس اليومية العابرة. إن بنية اللوحة عند الفنانة عفيفة لعيبي هي بنية أنيقة، متْقنة، منسّقة، غارقة في ثرائها البدني الباذخ المقرون دائماً بالسمو الروحي المجنح الذي يمنح الناظر متعة بصرية خالصة يستطيع أن يستشفها من البناء الهارموني، ومن التضاد اللوني العميق، ومن الخلفية المؤثثة بفيكرات وتكوينات وأشكال لها مساس بجوهر العمل الفني، فكل شيء في لوحتها قائم علي حسابات دقيقة، ورؤية ممنهجة مدروسة لها صلة واضحة بعلم الجمال. إن متلقي لوحة الفنانة عفيفة لعيبي سيكتشف دونما لأي أو إجهاد أنها تُسقط ذاتها علي عملها الفني، وهذا ما يمنح العمل الفني روحية خاصة، وصدقاً قل نظيره. فالفنانون والمبدعون الحقيقيون هم الذين يعّرون أنفسهم أولاً قبل أن يعروا الآخرين من ورقة التوت.
إن ما يلفت الانتباه في تقنية عفيفة لعيبي هو ميلها للرسم برؤية نحتية، أي أنها تنحت فيكراتها بشكل بارز علي السطح التصويري للوحة، الأمر الذي يفقد اللوحة حساسية الرسم، وحركته الحيوية الناجمة أحياناً عن خطوطٍ وموتيفات سريعة. وكنا قد أشرنا ذات مرة إلي أن عفيفة لعيبي كانت تتلقي دروساً في النحت الأغريقي والروماني علي يد أخيها الأكبر الذي كان نحاتاً، ويبدو أنها لم تستطع التخلص من سطوة النحت، فصارت الكثير من خطوطها الخارجية أقرب إلي الريليف البارز منه إلي الخطوط والمعالم الخارجية للوجوه والفيكرات المرسومة علي ملمس القماشة. في هذا المعرض الذي أفتتح في 03 ـ 04 وسيستمر لغاية 09 ـ 05 ـ 2004 نلاحظ ذات الصرامة الفنية التي تتميز بها الأعمال الفنية لعفيفة لعيبي. فهي كما أشرنا سابقاً، متشبثة بقواعد وأصول الرسم الكلاسيكي، أو الكلاسيكي الجديد علي وجه الدقة. فلوحات هذا المعرض كلها تلتزم بوجود مركز للعمل الفني، وتعتمد علي التوازن، والانسجام، والتناغم اللوني، والدقة الإخراجية، والشفافية، والنقاء، والصفاء، ولكنها، مع الأسف الشديد، لم تغادر المناخات أو اللقطات الساكنة التي تبدو فيها اللوحة جامدة، متقطعة الأنفاس، وأحياناً ميتة، وكأنها، أي الفنانة عفيفة، تناصب الحركة والسرعة عداءً مستحكماً. ولا أدري ما سر هذا التشبث باللقطة الساكنة، أو الجامدة في الكثير من لوحاتها، ولماذا هذا التفادي المتعمد للوضعيات المتحركة، النابضة بالدفق، والحيوية، والارتعاش. ويمكننا الإشارة هنا إلي اللوحات التي تتجسد فيها التقنية النحتية العالية التي لا تنتمي إلي حساسية الرسم في الأقل مثل لوحة امرأة و ساحل الأمنية و عبر النافذة حيث رسمت الثياب التي ترتديها النسوة الثلاث بطريقة الريليف البارز، وهي سمة بارزة ليس في هذه اللوحات الثلاث، وإنما في أغلب أعمالها الفنية. فغالباً ما تكون تكويناتها، والوضعيات التي تتخذها الفيكرات هي وضعيات أو لقطات نحتية بامتياز. ويمكن تتبع هذه اللمسة النحتية في الثوب الذي ترتديه صاحبة لوحة عصفور الجنة 2 أو الملاك الذي يتطلع نحو الضوء البعيد في لوحة نحو الضوء وهي من اللوحات المتميزة بحيوتها، وحركتها النابضة التي تختلف عن إيقاع اللوحات الأخرى. تبحث عفيفة عن زاوية نظر محددة لكي تقتنص الوضعية المناسبة لموضوع لوحتها، وغالباً ما يكون الموضوع امرأة أو طفلاً، المرأة هي نفسها، والطفل هو أبنها، غير أن فيكر الطفل قد غاب تماماً في هذا المعرض، وتسيدت المرأة التي تحمل ملامح عفيفة ذاتها كما هو دأبها في المعارض السابقة، وحتى اللوحات الفنية الأخرى التي تحمل فيكراتها ملامح أوروبية لم تتخلص نهائياً من الخطوط العريضة أو الهياكل العامة التي تحمل المواصفات الجسدية لعفيفة نفسها، كما هو الحال في لوحات الأنشودة الأخيرة و همس العود و في حمّام النساء هذه اللوحة الأخيرة تحمل ملامح وجه أوروبي، ولكن قَصَّة الشعر وتسريحتها تعود إلي عفيفة بكل تأكيد، هذا ناهيك عن المعالم الخارجية للجسد الذي ركّزته في أذهان المتلقين، وفي مخيلاتهم علي حد سواء.
اقتناص الهموم الذاتية
في المعارض السابقة كانت عفيفة مَعْنيةً بشكل كبير برصد المؤثرات الخارجية، وتوصيف وقعها علي الذات المتشظية التي تنوء بانكسارات مختلفة بعضها ذاتي، وبعضها الآخر موضوعي، بدءاً بانكسارات الوطن، وانتهاء بخسائر الروح الجسيمة، وما تقتضيه من انفعال في المشاعر، وعنف في التوصيف والتناول، وقوة تعبيرية فائقة في الرصد والتجسيد، هذا ناهيك عن هيمنة الأجواء الحزينة، الكابية، التي ينحسر فيها الفرح والمرح والنور، وتغيب فيها المفارقات والطُرف الفنية، بينما احتفي هذا المعرض بالذات الفردية، والأنا المتعالية التي انتصرت علي كبواتها السابقة، ونهضت من تحت الرماد لتودّع تلك الأجواء الضاغطة، وتلتفت بشكل سريع إلي عوالمها الشخصية وما طرأ عليها من تبدّل نفسي نقلها إلي الضفة المقابلة للهموم والأحزان.
عبر هذا المنعطف الخطير صارت عفيفة تنظر إلي الحياة نظرة حانية، مسترخية، فيها من التأمل، والطمأنينة، والهدوء الشيء الكثير. وحتى الموضوعات العاطفية، والروحية، والاجتماعية أصبحت أكثر رقة، ونعومة، وإشراقاً، بل أنها في بعض اللوحات باتت تخشي من هاجس الزمن، وما تنطوي عليه الشيخوخة من رعب مذهل لا يمكن لأحد أن يتفاداه. وهذا ما جسدته في لوحة الزمن القادم الذي تخشاه من دون شك حتي وإن لم تعبّر عن هذه الخشية بطريقة درامية، ويمكننا أن نمسك بخيوط الارتباك الذي انتاب عفيفة من خلال تغييرها لعنوان اللوحة الذي أسمته في مكان آخر بـ لعبة الزمن تلك اللعبة التي فلْسَفتْها من خلال امرأة تجلس بكامل أناقتها الباذخة وهي تضغط بأصابع يدها اليمني علي سيجارة طويلة، بينما تُمسك مرآة يدوية بيدها اليسرى متمعنة في الخطوط والتجاعيد التي خلّفتها السنوات المنصرمة التي تلاشت مثل حلم خاطف.
وجرّاء هذا الخوف المبرَر من هاجس الموت أو النهاية المفجعة التي تنتظر الجميع تقف عفيفة في الطرف الآخر متحدية هذا الموت المرتقب برسم فيكراتها النسائية بكامل فتنتهن، وأناقتهن، وإغرائهن المفرط.
مُهيمنات النزعة الإيروسية
لا تذهب عفيفة لعيبي إلي الأشكال والمضامين الإيروسية مباشرة ولا تتقصد إثارة الغرائز الحسية لدي المتلقي، ولم تسقط طوال حياتها الفنية في فخ الأعمال الجنسية الفجة، ولا تحبّذ الخوض في الثيمات الرخيصة، لذلك فهي تلجأ إلي مبدأ سد الذرائع لتتفادى المصائد التي قد ينصبها بعض النقاد أو المتلقين من أصحاب الرؤى المحدودة.
في هذا المعرض تحديداً ثمة أعمال كثيرة تكشف عن مفاتن المرأة، ومواطن الجمال والإثارة المُستحبة، كالنهدين، والكتفين، والظهر، والبطن، والخصر، وجوانب مبتسرة من الردفين، أو تجردها حتي من ورقة التوت، ولكن بعذر فني معقول، ومسوغ مضموني مقبول، كالمرأة المستلقية علي ظهرها تحت الشمس، والتي أخذتها غفوة خفيفة بينما كانت تستمتع بحمامها الشمسي، فالغاية الأساسية هنا ليس العري من أجل العري ذاته، وإنما ثيمة الحمّام الشمسي، وما توفره وضعية هذه المرأة الغارقة في غفوتها، وفتنتها معاً. المرأة التي تُرضع طفلها تكشف عن نهد بض، كاعب لا تفضي إلي الإغراء، ولا تتقصد الإثارة الحسية، لأن الفكرة الرئيسة لهذه اللوحة هي الرضاعة، وليس الاستفزاز الغريزي. وحتى لوحة عشتار تستحم التي أسمتها الإزار لاحقاً والتي كشفت عن كل مفاتنها دفعة واحدة لأن الفنانة كانت تستجير بفكرة الاستحمام أو التطهير وما إلي ذلك. في لوحة حمّام النساء لابد للمرأة التي تنهي استحمامها من أن تتزر بهذه الطريقة التي تكشف الكتفين، وجذر النهدين في الأقل. هذه اللوحات الجريئة وغيرها من الأعمال الفنية السابقة لعفيفة لعيبي لا تقع في خانة الرسم الإباحية الذي يتاجر بجسد المرأة، ولا تعوّل علي الميول والغرائز الهابطة، ولكنها تقتحم المناطق الحرجة بجرأة نادرة، وتعرض أعمالاً مكشوفة ما كان لها أن تري النور في العراق أو العالم العربي أو الإسلامي، بحجة المساس بالثوابت والأخلاقيات الاجتماعية التي إجترحناها علي مرّ العصور، والتي تفرض حظراً قاسياً علي العُري البشري، أو تصوير المناطق المحرّمة، أو مجرد التفكير في اللا مُفكَر فيه.
لابد من الإقرار بأن الفيكرات النسوية لعفيفة لعيبي مثيرات، ومغريات، ومحفزات علي الانزلاق إلي الفتنة الجمالية الخالصة، ولكنها لا تذهب بمتلقيها إلي السقوط في خانق الحس الشهواني، وكل اللوحات العارية التي قُدِّمت في هذا المعرض لها ما يبررها، وينقذها من تهمة النزوع الجنسي الذي يميل إلي الابتذال، ويبتغي ابتزاز نقاط الضعف لدي الكائن البشري الذي تتلاشي إرادته فينقطع إلي التفكير بحسه الغريزي، وينسي المتعة الجمالية أو الإستيطيقية بالمعني الأوسع التي يمكن أن توفرها الدلائل والرموز والشيفرات الكامنة في المواصفات الجسمانية الأنثوية بأوضاعها العارية. المرأة في هذا المعرض أكثر فرحاً ومرحاً وانطلاقا من النماذج النسوية السابقة، وهي قادرة علي جذب بصر المتلقي، وتحريك بصيرته، واستنفار مشاعره الداخلية من خلال إتقانها الدقيق في الرسم التشخيصي لمجمل أعضاء المرأة بطريقة تعبيرية أخاذة لافتة للانتباه بحيث تبدو بضة، ناعمة، ممتلئة من غير ترهل، ونحيلة من غير هزال، ذات ساقين مدملجتين، وفخذين مكتنزين، وصدر منتفض، ونهدين نافرين، الأمر الوحيد الذي يثير الاعتراض هو أن بعض الوجوه بليدة، صمّاء كوجه عصفور الجنة 1 الذي يُفترض أن يكون متحركاً، وحيوياً، وطافحاً بالأنوثة والإثارة. المرأة في أغلب لوحات هذا المعرض جميلة، رومانسية، جذلة، مفرطة الأناقة مُغريتها، مُحتفية بنفسها، تتأهب للخروج إلي موعد مثير مع رجل ما قد يكون حبيبها أو عشيقها أو صديقها، وفي هذا اللقاء كما في لوحة موعد يُفترض أن ترتدي المرأة أجمل ما عندها من لباس السهرات والمواعيد العاطفية الذي يكشف عن العنق والكتفين وأعلي الصدر والذراعين. في هذه اللوحة بالذات ثمة انسياب مثير يبدأ من الخدين الأسيلين، فالرقبة المستديرة المضمخة بعطر ثمين يكاد يشمه المتلقي فالزندين، ثم الذراعين اللذين ينتهيان بأصابع رهيفة مُستدقة. أما الضوء المسلّط علي القميص المقصّب فيكشف أو يوحي من طرف غير خفي الثراء الجسدي الذي تخبئه المرأة خلف حُلتها المثيرة. ثمة لوحة معلقة خلف هذه المرأة المتلهفة للموعد تحفز مخيلة المشاهد علي التأويل، وتدفعه إلي الاستنتاج. فمناخ اللوحة برمته أزرق، ولا تكسر إيقاعه سوي تفاحة واحدة مع بضع وريقات تأخذنا إلي المدلولات المحرمة، فهل ستغري هذه المرأة، سليلة حوّاء، عشيقها المدنّف، سليل آدم، وتحرضه علي تناول الفاكهة المحرّمة حتي لو خسر كلاهما الجنة، وبددا ثرائها بسبب هذا الموعد المشحون بالملذات الجسدية، والتجليات الروحية في آن معاً؟
القدس العربي-2004/05/17
|
(2) عشتار كريم من لاهاي: تقيم الفنانة التشكيلية العراقية عفيفة لعيبي معرضها الجديد على صالة كالري (De Twee Pauw) في مدينة لاهاي الهولندية للفترة من 3/4/2004 وحتى 9/5/2004. وتقدم الفنانة عفيفة لعيبي في هذا المعرض مجموعة من أعمالها الحديثة التي نفذتها مؤخرا بروح ونفس مختلف بعض الشئ عن أعمالها السابقة، فرسوماتها الآن أكثر جرأة وصراحة عن مكنون نفسها، وفي بعضها صلة مباشرة بحياتها الغنية التفاصيل بالأحداث والتنقل وأثر الزمن، كما يتضح ذلك على أشكال شخوصها المفتوحة أعينهم على المستقبل بكل ثقة. يبرز ولع عفيفة لعيبي بشكل أساسي بشكل وجسد وحركات المرأة على وجه الخصوص، فهي ترسمها بحالاتها الحالمة والمتأملة، وهي الملاك الذي يفرش جناحي الحب والسلام، والمتطلعة لأفق جديد مغاير، كما تبرز مفاتنها باعتبارها مخلوق على غاية الروعة من الجمال والحكمة. تخرجت الفنانة عفيفة لعيبي أواسط سبعينات القرن الماضي من معهد الفنون الجميلة في بغداد، وكان لها حضورا متميزا برسوماتها وتخطيطاتها الجريئة في الصحافة اليسارية آنذاك (طرق الشعب والثقافة الجديدة والفكر الجديد). بعدها سافرت إلى موسكو وأكملت دراستها الأكاديمية الفنية هناك ومن ثم انتقلت إلى ايطاليا حيث درست وعملت فيها لمدة 12 عاما أغنت تجربتها وأعطتها بعدا تأمليا وإبداعيا آخر. وبعد مرحلة ايطاليا انتقلت للإقامة في هولندا منذ ما يقارب العشر سنين حيث استطاعت بتأنيها ومثابرتها وبفنها الجميل وإبداعها أن تدخل عالم الفن والمنافسة في هولندا، حيث عرضت أعمالها في أشهر الغاليرهات والمتاحف الهولندية. ويحتفي بها غاليري ( DE TWEE PAUWENالطواويس الاثنين) أحد أهم الغاليرهات في مدينة لاهاي الهولندية منذ عدة أعوام، ويفرد لرسوماتها الواقعية الحديثة صالته ذات الطابقين كل عام. وقدمت الفنانة لعيبي الكثير من المعارض الشخصية والمشتركة منذ ثلاثة عقود في العراق وروسيا وايطاليا وسوريا واليمن وبلجيكا وانكلترا وهولندا. وتستعد هذه الأيام للسفر والعودة إلى العراق الذي غادرته منذ ما يقارب الثلاثين عاماً ولم تستطيع زيارته طوال حكم الدكتاتور صدام لمعارضتها الصريحة له ولسياسته التي أهلكت البلد ودمرت قدراته المادية والبشرية، ومن ثم سلمته للاحتلال الأمريكي. إيلاف - السبت 03 أبريل 2004 13:56 |