الفنّان السوري يحصي خسائره ويعيد الاعتبار للهامش
معرضه الدمشقي له أكثر من دلالة. «سكاكين» حادة النصل، و«جماجم» مربوطة بإحكام، و«أسماك» غير محايدة. الفنان السوري المعارض الذي يعيش في المنفى منذ عمر، تعود أعماله الغرافيكية، للمرّة الثانية، إلى المدينة التي لم تفارقه على درب الجلجلة...
هل ما يرسمه يوسف عبدلكي طبيعة صامتة حقاً؟ هناك إشارات لا تحصى تنسف هذه الفكرة على الفور، ذلك أنّ هذه الكائنات المنسية والمهملة التي تأخذ حيز اللوحة بكامله، تحيل إلى عالم يضج بالحيوية، والانتباه إلى أدق التفاصيل. يعمل قلم الفحم برهافة على الإمساك بأهداب اللوحة مهما كان حجمها، وهو ما يمنح هذا العالم السرّي للأشياء شحنةً مباغتةً، وروحاً متوثّبة تعيد إليها الحياة. هذه هي حال غصن مقصوف للتو، أو زهرة في كأس، أو طبق أبيض فارغ على خلفية سوداء. كأنّ عبدلكي يصوغ مقترحاً مسرحياً في خشبة خالية، ولعل المطلوب من عين المتلقي أن تملأ فراغات النص بالشخوص التي غادرت الخشبة للتو.
لكن مَن غرس نصل السكين في الخشب العاري؟ ومن ثبّت المسمار في ذيل السمكة أو حاصرها بين مسمارين، ومن ترك بقايا الشاي في الكأس؟ ثمة أرواح تتجوّل في فضاء هذه اللوحات، وهمهمة أصوات مبهمة في الجوار. هناك من ارتكب مجزرة، للتوّ، بحق هذه المخلوقات.
معرض يوسف عبدلكي في «غاليري أيام» (حتى 23 ك1/ ديسمبر الجاري)، دعوة صريحة إلى اكتشاف المتّهم، حتى لا تقيّد القضية ضد مجهول.
«السكين والعصفور» (فحم على ورق ــ 50.5 x 190.5 سنتم) والمعرض الذي يضمّ 24 لوحة، هو استئناف لما بدأه هذا التشكيلي السوري البارز منذ سنوات، في إعادة الاعتبار إلى الهامش عبر العناية بالمفردة العزلاء في معجم الجحيم، وأنسنة عناصرها بإضاءة الكتلة المركزية وإيقاعاتها الداخلية إلى مرتبة التطريب الغرافيكي. كأنّه يستأنف تجربته التي بدأها قبل ثلاثين عاماً، معتمداً تقنية الحفر على الورق، مستخدماً مادة الفحم بأسلوب تعبيري عابق بالإيحاءات والمفاتيح الرمزيّة... يوزّع الظلال بدقة شديدة في فضاء جدارياته، وهو ما يعزّز حضور الغياب، في ثنائية الأضداد، وفق التعبير الصوفي، في احتدام الإشارات والمعاني المضمرة. لكنّه من جهة أخرى ناقوسٌ يدقّه هذا الحفّار الصارم، للتذكير بجماليات بصرية تكمن في أكثر الزوايا إهمالاً في مستودع الذاكرة، وإلا فماذا تعني بالنسبة للآخرين علبة سردين فارغة أو حبة كرز في طبق مثلاً؟
ليست مقاصد عبدلكي سردية في المقام الأول، بل تمارين في الدقة التقنية على أهمية الحركة البسيطة في مسار العجلة واستكمال المشهد. لكل كائن -ـ مهما كان شأنه صغيراً وعابراً -ـ حضوره الخلّاق بوجهيه الأبيض والأسود، سواء في الطبيعة أو في الحياة اليومية. وهذه العناصر قليلة الشأن من وجهة نظر ما، تجد عناية قصوى في محترف عبدلكي حتى لو كانت ذرائع لاقتناص فكرة أخرى غير موجودة على السطح ربما. ذلك أنّ رهانه يذهب إلى ما وراء اللوحة، نحو ما تخزّنه العين من رعب أو طمأنينة، وسحر وغموض، وموت وحياة.
ليست مناظر خلوية إذاً، تلك الكائنات والأشياء النافلة، إنما تحيل إلى دلالات الفراغ الذي كانت تسبح فيه بأقصى حالات الاحتجاج. وهو ما يذكّر بأرشيف يوسف عبدلكي القديم، وإن اختلفت المفردات. ألم يرسم ذات يوم خيولاً وجنرالات في معركة طاحنة بين خندقين متناحرين؟
اليوم يحصي هذا التشكيلي السوري خسائره القديمة، ويلتفت إلى ما كاد أن ينساه في غمرة انهماكاته (الثورية؟)، ها هو يخوض المعركة ذاتها لكن بأسلحة أكثر مضاءً وشفافية، لمواجهة هباء حياة تضيق بفسحة الجمال والأطياف اللا مرئية: تلك التي تتكثف بإيماءة صغيرة، هي في نهاية المطاف، المتن الذي تؤسس له اللوحة بإزاحة ما هو فائض. وإذا بها تصير مركزاً وبؤرة وسط الفراغ. مهلاً، فالفراغ نفسه ليس مجرد خلفية بالأسود والأبيض. إن نظرة متمعنة تكشف عن عالم رحب من المنمنمات المتجاورة والمشغولة بحذق واضح، كأنّها ترجيع لمشاغل المركز.
«أسماك» عبدلكي ليست محايدة على الإطلاق، سواء لجهة وجودها الملموس وسط الفراغ، أو لجهة إحالاتها الرمزية. هي تكاد تتنفس أو تقفز لافتراس من يقترب منها. هذا في نظرة أولى، لكنّ السطح الثاني للوحة يضيء مقاصد غرافيكية صارمة، عند الاهتمام بمقطع منها وحسب... فالعين تنظر بدهشة وتوجس، والحراشف تشكّل طبقة لونية تومض بفضاء تجريدي صريح.
هذا الفضاء الكتيم والكابوسي الذي تستكمله مجموعة «السكاكين» بأنصالها الحادة، و«الجماجم» المربوطة بإحكام والمصير التراجيدي الذي ينتظرها، يقابله في أعمال أخرى فضاء حميمي آسر، يعمل على المشاعر والأحاسيس الغامضة وكيف تنمو العواطف في الظلال ويشتبك النور بالعتمة في حوار الأضداد. اللوحة تعتني بإبريق شاي وكأس وفردة حذاء على سبيل المثال، تؤكد على حضور أشخاص كانوا هنا قبل قليل، وها هي مخلفاتهم تعيد سرد الصورة مرة أخرى.
أسماك وزهور وسكاكين: حياة وموت، رائحة عطر ورائحة دم وعفونة، هذا هو عالم عبدلكي أو قصائده المرئية، كأنّه لا يغادر اللوحة قبل أن يطمئن تماماً إلى حياة كائناته في عزلتها وجحيمها وتوقها للتنفس خارج هذا الفضاء الكتيم. الفضاء الذي وصفه الشاعر الفرنسي آلان جوفروا بقوله «كل شيء يجري كما لو أن يوسف عبدلكي يريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة، من اللامبالاة، من النسيان».
الحذف والاختزال والتكثيف ملامح أساسية في أعمال عبدلكي في مرحلته الأخيرة، إذ حين نقلّب أرشيفه القديم، نجد حشداً من العناصر فوق مائدة وامرأة ورجل. لكنه اليوم، عبر الحذف يصل إلى بؤرة واحدة، سوف تكون مركز اللوحة، في رهان على قلم الفحم وحده. ليس تحدّياً بقدر ما هو ابتكار حياة في الجوار للمنسيات والملموسات. لن نستغرب إذاً أن يعمل عبدلكي بكل طاقته على «ثلاث فجلات»، أو نبات براصيا أو أبريق شاي على قطعة شطرنج، أو زنبقة تسقط شاقولياً فوق جدارية ضخمة لتتحول من مجرد تمرين بصري إلى أيقونة فريدة.
معرض يوسف عبدلكي، حتى 23 ك1/ ديسمبر الجاري، «غاليري أيام» - دمشق: + 963116131088
www.ayyamgallery.com
يوسف عبدلكييهدي يوسف عبدلكي معرضه الجديد إلى «كوليزار» ويشير في الهامش إلى أنّ صاحبة هذا الاسم هي «قوّادة المحل العمومي في مدينة القامشلي في منتصف خمسينيات القرن المنصرم». كما يضع في مقدمة الكتاب المرافق للمعرض صورةً للقامشلي بالأبيض والأسود. كأنه بذلك يوجه تحية إلى مدينته الأولى في الشمال السوري التي لم يعد إليها بعد غربته الطويلة في باريس، «كي لا تتهشم الصورة القديمة في الذاكرة» يعلّق يوسف بلامبالاة.
يحوي الكتاب دراسةً طويلةً كتبها الزميل إميل منعم بعنوان «الأشياء تحت سحر الدلالة»، يضيء خلالها العالم السرّي لدى عبدلكي الذي يقوم على قلب في القيم وخلخلة في نسق المتعارف عليه. ويضيف موضحاً: «لا تتماسك اللوحة وتفلح في إنتاج معناها، رغم صياغاتها الباهرة، إلا لأنها تحتفظ بمكتسبات التجربة التجريدية، ولأنها تطوي هذه المكتسبات في نظام خاص، يسمح لمنظور جديد بأن ينشئ شبكة علاقات هندسية تجرّد الأشكال من تفاصيلها». وفي تحليله للوحات عبدلكي الأخيرة، يلحظ قصدية الفنان في الإخلال بمقاييس اللوحة وتحطيم أبعادها، رغبةً في «إخضاع لوحته إلى تصوره الخاص بناءً ونظام إشارات».
لكن إلى أين تمضي تجربة هذا الفنان وخياراته التقنية؟ يجيب منعم: «رسوم عبدلكي تتقدم على مسرح تراجيدي محموم ومفخّخ بالأسئلة». إن لوحة عبدلكي في كل أطوارها تنهض على «الجدل القائم بين شبكة مجرّدة من العناصر المتناقضة ونظيرها من العناصر التصويرية، فتتظافر المكونات جميعها لإنتاج إحساس بالقسوة والحدة والعنف، إحساس يهيئ فضاء المعنى».
الاخبار
4-1-2007
إقرأ أيضاً:-