جمع الفنان ناصر سومي لوحاته في غاليري أجيال تحت اسم 'السديم'. لكن كل لوحة بحد ذاتها لا تقدم إلا تحت عنوان معين. تشتمل الأعمال المعروضة على شيء من التفكيك/ التجريد/ الحروفية اللونية، كما تشتمل على طاقة تطويعية عالية لدى الفنان. في تلك التنظيمات اللونية التي يبسطها سومي على الخشب، توازنات دقيقة حتى أنها تشي بفوضى نهائية في آخر المطاف. وهي قد تبدو مجرد تنظيمات لونية منمنمة ومدرجة ضمن طبقات، إلا أنها في المقابل تشتمل على كينونات صغيرة وبسيطة، وقد لا يكون لأي منها، منفردة، قدر كاف من الأهمية. تبقى المسألة في كيفية إدراجها في تلك الصيغة التجريدية اللعوب. كما أن ذلك يشي أيضا بنية مضمرة لدى الفنان في إحاطة هذه 'الفوضى' اللونية، البولوكية (نسبة إلى جاكسون بولوك) بكادر أنيق، هادئ، معافى من الصخب المبثوث في الألوان. إنها صيغ لونية لا تتدرج، بل تتألف وفقا لجمالية قاعدتها الكثافة والتكثيف كتقنية يُشدَّد عليها. هنا، يحق لنا كمشاهدين للأعمال، أن نطلق مخيلتنا بعيدا عن العنوان الموضوع لكل لوحة، وهذا إن استطعنا بالطبع. فإذ يضع الفنان عنوانا لكل عمل، فإن في ذلك حتمية بأنه يوجه حواسنا وشغفنا باللون لتشكيل مخيلة جماعية متماسكة. ذلك ان الصلة المقامة بين العنوان وكل لوحة على السواء، هي صلة، تتضمن نية الفنان بضبط مخيلة المتلقي والسيطرة عليها، وتسيير هذا المتلقي ضمن مسوغ تخييلي محدد. بالتالي، فإن انفتاح المساحة التشكيلية اللونية أمامنا، لاحتمال مقومي التجريد والتعبير فيها، يعود لينكمش ويتباطأ في مقابله ما يبثه الفنان من رغبة، لتوجيه مسار المخيلة الفردية والتفكر بالعمل، إلى فضاء محدد، معلوم لديه، قصدي، ما يؤتي على بعض الحرية المعطاة للعين أمام الكم اللوني المتناسق أمامها، كما يحد من تشتت طاقة التفاعل بين هذه العين واللوحة.
اللوحة النهائية لدى سومي هي تتابع 'منطقي' لحركة زمنية تتطور وتمضي في ضبط كيانها واستقلاليتها. هي حركة زمنية مقرونة بتعديلات، وإضافات، من خلالها تتم زيادة اللون في اللون الآخر، وبها، يتم شد المناخ المتوتر على السطح. من هذا التوتر، نخلص إلى هدوء منساب بدقة، وألق، وفي أحيان أخرى، يكون هذا الهدوء منزلقا بخفة من تحت ذلك التوتر المنفلش. وهو ما يعزز من كيان كل مساحة على حدة، لأنها تتألق هنا في تناقضاتها. انفلاش اللون، يقابله امتداد عمودي لدينامية متواصلة. وهنا يجتمع عصبان، واحد فكري، وآخر تقني بصري. ما ينسحب على مراوغة للعين، وجذبها إلى داخل العمل، روحه المستترة، وهو تأثير يكون عموديا. خصائص اللوحة التشكيلية الجيومترية، تتمثل في بعدي سطحها: الأفقي البصري، والعمودي التخييلي. وهذان العاملان، يكتملان بوجود بعد ثالث متمم، يقع خارج التقويم النقدي البصري للوحة، وهو ذلك التأثير الذي يوهمنا به الفنان من خلال فرضه عنوانا لكل عمل.
في لوحته 'رقص أسود'، لا يمكن للعين أن تغفل الكتلة السوداء المشتتة الماثلة أمامها. تبدو الكتلة للوهلة الأولى محاولة لتشكيل بدن متآلف في أجزائه، ورغم أنها تبدو مبعثرة، ومتناثرة في كتل صغيرة قريبة من بعضها البعض، غير أنها تقترن في الوقت عينه بمجموعة من الإشارات حواليها. الأسود يتخذ في هذا العمل، مقدارا من الأهمية التشكيلية والجمالية، بحيث ارتباطه بمحيط مطوَّع كذلك، خدمة للكيان الداكن المهيب. هذه العلاقة بين الكتلة - الأساس والكتلة المحيط، نستعرضها هنا كعينة لاستكشاف طريقة عمل الفنان. فالأسود لا يكون متنافرا مع محيطه اولا، ولا يظهر بكيان فاقع، يطوي تحته المحيط ويسخِّره خدمة لوجوده. في ذلك تقليص لاحتمال المتنافرات القاسية في اللوحة، كما وللمسافات بين تدرجات الالوان وأثرها على بعضها البعض. الأساس والخلفية، يطوَّعان إذن، لشد المناخ وجذب جزيئاته اللونية المكونة له. وبدلا من أن يكون هناك تضارب حاد أو تنافر مزعج ومصطنع، يعتمد الفنان المرونة في ضبط الدرجة اللونية لصالح لون آخر ذي طبيعة مختلفة. كذلك، نحصل على تماسك للحدود الفاصلة والمعلنة بين المساحات، والطبقات اللونية على الخشب، وهو ما يعوض بالتالي تناثر اللون ذي الصبغة التجريدية.
قد تكون الدينامية، في مقابل هذا الشد المتعمد في اللوحة، قاسما مشتركا كذلك لا يمكن إشاحة العين عنه. فالألوان، تتخذ شكلا ماديا، دراميا في بعض الأحيان، مستقلا، بالاعتماد على حركة الريشة أو سكين الرسم واتجاهه. والحركة هنا، تفضي إلى ضرورة إيجاد متتالية زمنية لا تتوقف. أي إيجاد صيرورة وسبب وحياة. فإخراج اللوحة من الجمود اللوني/ الركود التشكيلي، إلى فضاء مرن، لا يتم باستبعاد هذا الجمود بشكل نهائي، وإنما استثماره تلوا. فهو جمود كأرضية، يؤسس لحركة، وهو إذ لا ينفصل عن لعبة اللون ومرونته في مرحلة لاحقة، يصبح جمودا ضروريا كخلفية بعيدة جدا، ما يعزز فكرة الزمن والتتابع والتأثر والتأثير، وبالتالي دينامية وحياة بين أجزاء العمل. لا يعود ممكنا الاتكال فقط على مرونة اللون وخفته ومقدار توتره أو سلامه، لقراءة اللوحة. فالدينامية لا تتحقق إلا بوجود محيط مناقض يؤجج من كيانها، والعكس بالعكس. نلتفت كذلك إلى التناسق اللوني الدقيق، المُرتَّب كمحصلة لكل لوحة، كما ودراسة المسحات المفترض إملاؤها باللون. وهو مقوم جمالي أيضا، يرابط للمشاهد ويدفعه للدخول في مناخ السطح. لكنه كذلك، يتضمن احتمالات بإيجاد أبعاد خارج سياق عنوان كل لوحة بنفسها. ما يوجد نوعا من التضارب بين تأويل المشاهد الخاص، وأحادية الصورة أو المعنى الذي أراده الفنان. هذا جزء من طريقة سومي في التلاعب المتضادات. فهناك سيطرة للضوة والظل والبياض والاحمرار والسواد. ويمكن القول أن الفراغات المبيَّنة في اللوحة، الفراغات التي تشتمل على بياض، تضمن للفنان فرصة إفراغ إيقاعاته اللونية ومركباته المخبرية السحرية على الخشب. ما يضيف أحيانا بهجة مقلقة إلى غموض واضح وهي بهجة تظل موضع تساؤل رغم يقيننا بوجودها. في 'عمق أبيض' و'عروس غامضة'، تتجلى أكثر لعبة الكتلة والمحيط، بحيث تجزأ اللوحة إلى قسمين كلاسيكيين، ويبدو البعد التعبيري أكثر وضوحا، لا كمجرد إضافة، بل ككيان خالص. لا يعود بالإمكان هنا نسب اللوحة حصرا إلى التجريد، بل نستشعر انحراف المقوم التجريدي باتجاه التعبير.
القدس العربي
2011-07-25