إعداد: يقظان التقي
لم تقم التعبيرية في ألمانيا والوحشية في فرنسا على منهج واحد واضح، حيث كانت أشبه بالتقاء عدد من الفنانين جمعت بينهم ميول واتجاهات وأفكار متقاربة، لذلك وجدت صعوبة في المقاربة بينهما. لكن ما يجمع ما بين الإثنين يذهب الى التعبير المباشر، وتجسيد أفكار بأشكال تعبيرية مبسطة، رسمت خطوطها بسرعة وأخذ اللون فيها أهميته الأساسية مكان الخط وصار اللون هو الشكل والمضمون في الرسم والتصوير. مع ذلك ثمة ما يفرّق بين التعبيرية والوحشية في الرؤية والتعبير والمرجعية.
المدرسة التعبيرية الألمانية ومقاربتها بالوحشية الفرنسية عنوان معرض ضخم في متحف غرونوبل يشمل مختلف أنواع الرسوم الإبداعية لفناني تلك المرحلة.
وما بين الوحشية الفرنسية المعاصرة والتعبيرية الألمانية جسور تواصل حيث صار الفن أكثر من وسيلة لتنظيم العالم، صار عفوية إحساس وأشعلت التعبيرية نار الألوان. أكثر من مئة عمل فني من تأليفات متوهجة بالألوان وتمثيلية لهذه الحركة تعرض حالياً في "غرونوبل" الفرنسية.
معرض يقدم أعمالاً نادراً ما يمكن الاطلاع عليها وتعبّر عن الانطباعية الألمانية بداية القرن العشرين، وتشمل المجموعات الفنية التي تكتل ضمنها الفنانون وأسسوا من خلالها محترفات فنية وأدبية تطورت لاحقاً الى مدارس فنية على شاكلة السوريالية والدادائية والرمزية وغيرها.
الجانب المهم في المعرض جمالية تلك اللوحات ككتلة فنية متراصة وتنتمي الى المدرسة ذاتها وتشير الى بصمة فنانيها والهموم الفنية المشتركة بينها وبين الوحشية الفرنسية. ونادراً هي المرات التي تعرض فيها المتاحف أعمالاً لمجموعات تمثيلية كاملة على هذا النحو.
التعبيرية والوحشية
المعرض ما بين التعبيرية الألمانية والوحشية الفرنسية، وهي ليست مدرسة ذات مذهب محدد والأعمال هي أقرب الى أن تكون التقاء بين المذهبين بميول وألوان متشابهة ولكن صارخة أكثر. غير أن اعتماد اللون للتعبير العفوي والمباشر جعل هؤلاء يهملون الرسم والتأليف الى الرسم المبسط والسريع والعنيف حيناً.
وكما اعتبر ماتيس مؤسس الوحشية فإن فان غوغ الهولندي (1853 1890) اعتبر مؤسس الانطباعية باكتشافه للتصوير المناخي وبضرباته اللونية المنفصلة وبخطوطه المتموّجة المتكسّرة والمعبرة عن حس عميق وحزين. سنة 1889 كتب فان غوغ الى شقيقه ثيو: "يوجد حقل قمح على طرف المكان، إنه حقل ذهبي وأحياناً على خضار وأحياناً باللون الأزرق والبرونزي يسبح على أرض صفراء وردية، ليلكية وبرتقالية حتى الأحمر الغامق..".
فان غوغ
فان غوغ الذي بقي لفترة مجهولاً بالنسبة للجمهور في زمن ترك أثراً كبيراً على الفنانين الآخرين نتيجة حيويته ودينامية تأليفاته وألوانه واستمراريتها في آن وحيث أخذ معه اللون دوره الأول، بتلك الحرية الخلاّقة التي اعتمدها تجسيداً لقيم رمزية وتعبيرية. كما اتبع أسلوباً يقوم على دمج مناهج عدة في تطبيق علم المنظور وإدراك القيم التي تجسدها الألوان الصافية في عملية الإحساس المباشر وبثورته على الماضي وبحماسه الشديد لقوى جديدة في السياق الفني.
تلك المرحلة كانت شديدة الثراء والغنى، شهدت العديد من الثورات الفنية المتلاحقة: البنيوية أو تيار الفنانين غير الأكاديميين والوحشية والتكعيبية والتعبيرية والمستقبلية... وجوه كثيرة تركت تأثيرها بإبداعية فنية: ماتيس وبيكاسو وليجير وبراك وشاغال وكلي وكاندنسكي، ومبادرات كثيرة ومغامرات موهوبة أسست لمدارس مستقبلية: الدادائية والسوريالية والأسلوبية والبوهاوس والتجريدية... مرحلة بالغة الثراء وتطرح سؤالاً كبيراً: ماذا لو لم تحكم النازية ألمانيا الى أين كان يمكن أن تؤدي تلك الثورات الفنية، والتي جعلت من ألمانيا المرجعية الفنية الكبرى في القرن العشرين، وحيث عرفت ألمانيا في أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر حركات فنية هائلة سجلت السبق الريادي على مستوى العالم؟
المعرض الحالي في "غرونوبل" هو لرواد حقيقيين أمثال لودفيك كيرشفر وفرتيز بلايل وكارل شميث وروتلوف وإميل نولد وإريك هوكل. يقام المعرض لأول مرة في فرنسا منذ تسعين عاماً بعد مضي قرابة المئة عام على ذلك الحراك الفني الاستثنائي في ألمانيا ما قبل النازية.
مئة عمل
مئة عمل لفنانين يعودون الى العام 1905، ويذكرون بتلك التظاهرة الباريسية في العام 1925، وما بين الزمنين عبور لزمن يشبه الشعر والحلم. الأعمال المعروضة عبرت أوروبا خلال الحربين العالميتين ونجت من التلف والتدمير والضياع وعايشت دكتاتوريات وأعمال العنف والقتل والحرب التي أودت بنحو خمسين مليون قتيل وهي ألمانيا الأخرى بالألوان، غير ألمانيا القتل باللون الأسود والحرائق. ولفان غوغ حضوره القوي في كل الأعمال التعبيرية من خلال تأثيره على أعمال الفنانين التي شكّلت مجموعات فنية ومحترفات فنية وتكتلات ثقافية وفكرية وسياسية، ولعل لوحة "الجسر" لداي بروك واحدة من تلك التحف الفنية.
وإذا كان لكل فنان بصمته اللونية فمن الصعب إجراء تلك المقاربات العميقة والفوارق الدقيقة. أما مع الحركة التعبيرية الألمانية، فالمسألة تخطّت القيود الأكاديمية ومظاهر البرجوازية والثورة عليها، مطالبة باستقلال الإبداع الفني وما يتطلبه من تشكيل وتعبير وقد تمثلت التكعبية في مدارس عدة في أوروبا وأميركا اللاتينية. كما ظهرت في بعض أعمال فناني الوحشية والمستقبلية والتكعيبية. وتمثلت هذه الاتجاهات في حركتين أساسيتين: الجسر في درسدن عام 1905 والفارس الأزرق في ميونيخ. قام ممثلو جماعة "الجسر" أمثال كيرشنر وهوكل وروتلوف بنشاطات فنية عدة شارك فيها فنانون آخرون كنولد ودونفن. وللتعبيرية الألمانية التي تقابل الوحشية الفرنسية ميزات خاصة، كاهتمامهم بما يتعلق بالأمور الإنسانية والاجتماعية وبالرجوع الى الذاكرة اللونية والمخيلة والإحساس الطازج والخام، وإسقاط الحالة الفردية الإنعزالية أو الانفصالية على الطبيعة والإنسان. وهي تقوم على تشويه الأشكال وعنف اللون اللاواقعي.
في تأليفات كيرشنر وروتلوف وهوكل والتماهي ليس كبيراً بين أركان التعبيرية الألمانية مع أن هوكل تقترب أعماله من السوريالية منها الى التعبيرية فيما إميل نولد يتمايز لناحية ألوانه المركّبة وتبدو اعماله أقرب الى الاكواريل علماً أنها أعمال زيتية وهذا يعود الى الإبداعية الفنية في الرسم والانسيابات اللونية الانطباعية كجسر بين الماضي والمستقبلز نادرة هي المناسبات التي يعرض فيها هذا الكم من الأعمال في متحف تأسس بدوره في العام 1923 وهو مستمر في الإضاءة على تجارب فنية عالمية. الى ذلك يؤشر المعرض الى تلك العلاقات بين الحركتين الانطباعية الألمانية والوحشية الفرنسية. إلا أن هناك تبايناً في الرؤية، فالتعبيريون جعلوا من أعمالهم تجسيداً للشعور والدلالة والرمز، فيما عُرف الفرنسيون بالطلاوة والظرافة.
الفن كما حلم به ماتيس هو: "فن توازن وصفاء وسكون من دون مواضيع مقلقة، فن مسكّن فكرياً ويعكس جو فرح الحياة أكثر من التعبيرية كانعكاس تراجيدي في العالم، ثم هناك مدلول آخر على العلاقات التي جمعت الفنانين وهي علاقات دولية ولا سيما على الساحة الباريسية التي جمعت مختلف المدارس والتيارات والمذاهب الفنية في مختارات اهتمت كثيراً بعلم الاثنيات من الأقنعة الافريقية الى المنحوتات في المحيط الهادي مع كل ما تحمله من طاقات إنسانية وما كوّنته من مسار وأسلوب في الحياة نفسها. فنانو داي بروك اهتموا كثيراً بالهامشيين والضعفاء وفضلوا الالتقاء وتعليق أعمالهم في النواحي والضواحي العمالية قبل أن يشتغلوا على الانتشار العالمي. إميل نولد الأكبر بين المجموعة ولد في قرية شبه معزولة مهددة من اجتياح البحر والعواصف دائماً ومثله تقريباً فلامينك، ولم يدرك كلٌ منهما أن رغباته ستحقق فيها الألوان التي ستجتاح العالم.
ولعل ما كانت تسعى إليه تعبيرية ميونيخ الرومانسية الطابع والمتعارضة نسبياً مع جماعة "الجسر" في شمال ألمانيا، هي كما وصفها هربرت ايد: "إعادة بناء العالم في حالته الباطنية والعميقة". وأهم ما عبّر عن تلك الجماعة هو اعتمادها الرمز والتوصل من خلاله الى الجمال السري لميثولوجيا قوامها كما يقول هوفستاتر: "تحويل محكم للتعبير الى قواه الرمزية والغرائزية الكامنة".
إذاً هي التعبيرية الالمانية "داي بروك" في أنعش إشراقاتها اللونية وعودة الى قرن من الزمن وأكثر الى إبداعات الزمن الجميل
المستقبل
4 مايو 2021