مساء يوم الأربعاء 18 يناير 1995 من القرن الماضي على صالة غدير جاليري في مجمع الصالحية التجاري لصاحبته الصديقة الفنانة الكويتية القديرة ثريا البقصمي، كان معرضنا الأول المشترك، منه انطلقت شرارة مسيرة تجربتنا الثنائية، مدفوعة باهتمامها بفنون الجرافيك ممارسة وثقافة استضافت الفنانة ثريا البقصمي معرضنا آنذاك، استقبل المعرض الجمهور الكويتي من فنانين ومتابعين ومتذوقي فن بترحاب جميل ورائق، وقتها كنا حريصين على تقديم تجربتنا الثنائية، كنا نحمل مهمة رسولية تبشيرية، تقضي بنشر هذا الفن الذي يعد بصورة أو أخرى حتى هذه اللحظة مهمشا في أغلب أقطار الوطن العربي، سيما في دول الخليج العربي.
نعود إلى نقطة الكويت بعد عشرين عاما حاملين تجربة فنية أخرى، لا تختلف عن تجاربنا الفنية السابقة، بقدر ما هي امتداد لها، وإن اختلفت التقنيات وأساليب المعالجات، تجربة تبدأ من تلك اللحظة وتنتهي إليها، وكأنها الوليد الذي ينمو رويدا رويدا في كنف حضن أمه.
نأتي الكويت بعد عشرين عاما نعرض تجربتنا الثنائية على صالة قاعة الفنون بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب محملين بهاجس الماضي وثقله وبمراجعة مشهد كيف أستقبلنا من قبل وسائل الإعلام والفنانين والمهتمين وقتذاك.
فتنة المرأة:
جئنا بنساء عبد الجبار الغضبان التي ما فتئت تعرض دهشتها وتأملاتها علينا، لا تبعد عن المواسم الاحتفالية بعشق يولف خفايا الوجوه الهادئة عبر سمفونية من العلاقات الإنسانية تبهرنا بعمق تأملاتها عبر الأفق، أو عبر منظور آخر يتعالى فوق مستوى النظر. إنها ألوان صريحة تعبر مسطحات لونية تقوم بدورها الناجز في إبراز ملامح المرأة معبرة بشكل مختزل عن الرؤية الداخلية لتلك الوجوه.
تنحو نحو التلاقي متأملة السر المدفون في جسد امرأة أخرى وتارة في حركة عفوية تحمل في داخلها تساؤلات، ربما هي من قصص وحكايات قديمة، أو جزء مما تحمله الذاكرة منذ زمن بعيد، إنها حوارية قائمة على بنية الشكل والمضمون معبرة عن أوضاع وحالات اجتماعية وإنسانية تتبلور في أحيان كثيرة في حركة جسم الإنسان في احتضان الحبيبة لتبدأ في تعاطي الأفكار حول ماهية وسر تلك العلاقة التي تبني تفاصليها عبر مساحات لونية بسيطة، إنها تجربة كانت مؤسسة على بحث من التجرية التعبيرية التي تأسس عليها محترف عبد الجبار الغضبان التشكيلي، ترجع سيرتها منذ الاشتغال بفن الجرافيك الذي كان يتطلب العمل فيه صيغ مختزلة يحكمها التضاد بين الأسود والأبيض وبين رمادي يتماهي في أفق متدرج تقطعه بين فينة وأخرى نقلة بصرية في تتبع حركة ما أو ملامح وجه تختفي جزئياته لتبرز على شكل خطوط خارجية تحدد بنية التكوين وتفاصيل توحي بذلك الامتداد المترابط بين بنية الشكل والمساحة اللونية.
دخل اللون بتقنياته المختلفة ليضفي بعدا جماليا مكملا للتجارب السابقة مضيفا أبعادا جديدة ترتبط بالجانب المبهر للتضاد اللوني بين الفاتح والغامق، وبين الخطوط المتقاطعة التي تسيّج مساحات اللون تدعمها موتيفات زخرفية أحيانا ومساحة سوداء تعمق حدود الشكل وتبرز ملامحه كجزء من التواصل القائم في توظيف الروح الجرافيكية في زحمة اللون.
وعلى الرغم من الفارق الكبير بين تقنيات الحفر وتقنيات الرسم والتلوين إلا أنه ثمة رابط يؤكد على أن هناك وحدة متماسكة بينهما متمثلة في التجاور اللوني والخطوط الحادة التي تشكل العمل الفني، منغمسة في بحر التلوين فالمساحات الرمادية الشفافة تتجاور وبقع لونية غامقة سوداء تخترق تلك السطوح بحركات عفوية تبعث على استنهاض كتل الأشكال المرسومة في فضاء من التلاعب بنهايات الأشكال مع حيز مساحة اللون. تقابلها في الرسم ألوان صريحة تبرز تلك الأشكال. فهي لا تستقر على حال تخترق الأفق وتنزل فجأة من الأعلى متخذة تموضع ومنحنى يحاصر بنية العمل الفني وروحية التكوين الجمالي لعموم اللوحة.
مس الحرف:
جئنا بحروف عباس يوسف حيث الرسم يحتويها ويحتضنها لا ليبرزها، بل ليعلو من صراحتها وجمالياتها حيث الحرف شكل ناطق بما يحمل في داخله من جماليات تعبيرية حيث هو جسد متحرك بخفته وإنسيابيته، لا يقف إلا ليبوح ولا يبوح إلا ليعبر ولا يعبر إلا لينطلق ولا ينطلق إلا حيث فضاءات الجمال التي خلق منها وعليها ولأجلها.
كتل تتحرك في فضاء اللون تارة تتوارى وتتماهى في السطوح وفي الخلفيات الحاضنة لها، تبرز مرة أخرى لتحدث علاقة تجاور وتحاور وتخلق تناغما شفيفا بين هذه المتراصات من الحروف والكلمات وكأنها سلم موسيقي، يعلو ويهبط بخفة لونية صراحتها تبوح بمعان شاعرية وجمل شعرية وإن لم تكن مفهومة ومقروءة للعيان، تبوح بمعانيها المكتنزة بداخلها في أحيان تقتفي أثر القصيدة حيث القصيدة تراكم معرفي يذهب للبعيد ليفتح أفاقه وأسئلته الوجودية عن أسرار المعنى.
الحرف شكل وشكله معنى كلما تماهى برز وكلما برز نطق، ولا ينطق إلا بجماله لا لكونه عنصرا جامدا بل لكونه ماء دفاقا، أليس الماء إلا حياة.
لم يستطع عباس يوسف الإفلات من أثر فنون الجرافيك على عمله الفني، فهي لازمة تلاحقه وكأن اللاوعي هو من يحركه ويأخذه إليه، إنه الحنين المغوي الذي لا مجال لتفاديه أبدا، فإن هو ابتعد عن فعل الطباعة على المعدن ساقته الطباعة بواسطة الشاشة الحريرية ليوظفها في عمله باعتبارها تقنية رسم مباشر حيث التمرد على مبدأ الطباعة المكررة ( تعدد النسخ وهو المبدأ التي تستند عليه فنون الطباعة ).
المدخل هو الحرف الذي يشتغل عليه لبعث الروح في حركاته وجمالياته كعنصر أساس في بناء العمل الفني مجردا، أي الحرف ليكون جزءا من وحدة زخرفية منشؤها الحرف او ليكونها، لا تعتمد المكرور والمجرد الثابت بل تقوم على الحركة والإنسيابية والمغايرة، بروح متمردة لا ترضي الركون إلى الثابت بل تذهب دوما إلى المتمرد المتحرك وتبحث عنه بتؤدة وصبر ودراية. تتداخل الحروف والوحدات الزخرفية مع البعد الأول والثاني والثالث في عمق العمل الفني مضافا إليه خصوصية الفنان في صياغة حروفياته وتحويلها الى عمل فني بجماليات مختلفة وليخلق منه عملا فنيا معاصرا.
عبد الجبار الغضبان
عباس يوسف
22-11-2015
البحرين