"التصوف ليس نبذا للحياة بل سموا بالحياة الى اعلاها وأبقاها " . **
الشاعر محمد إقبال
عند الولوج الى مناطق وعرة شديدة الخصوصية ذات نصوص تشكيلية عميقة تعتمد على الحدف والاضافة والمحو قبل الرسم لازالة فكرة واثبات صحة فكرة مضادة لابد ان نتوقف عند تجربة مهمة جدا في التشكيل المغربي المعاصر للفنان التشكيلي احمد جاريد , لأننا ربما لا نستطع الدخول الي هذه المناطق ذات الدروب الطويلة والضروب المختلفة والتي تقع في داخل حدودها من جديد فهي كقصر التيه في الاسطورة اليونانية نتائج العودة اليها غير مضمونة ان حدث وخرجنا منها في المرة الاولى....عالم الفنان جاريد بمثابة متاهة مكتبة كبيرة للكتب يتسلل اليك شعور بالرغبة في الاقتناء وفك الالغاز والطلاسم واقتناص الفرصة في البقاء اطول وقت ممكن وتصيبك حالة "اركاديا" غريبة وانسجام تام مع الخامات المستعملة في صنع اعماله الفنية حيث تصبح مفرداته المرسومة والتي تظهر غالبا على استحياء بمثابة نصوص " كتب " تبوح عن مكنوناتها بكل صعوبة وتشاطر كل محبيها الفة اللقاء في جو حميمي لا يخلو من معرفة بصرية وفكرية عميقة وتبقى المحسنات التشكيلية الاخرى الناتجة عن فعل تفاعل مواد وتنافر مواد اخرى كالهوامش التي يستعين بها المتلقي في التواصل معها للوصول الى فهم تشكيلي مقنع يرضي فضوله وتعطشه .
اعماله كعصارة عطر الورد ورائحة الجدران وعبق الامكنة الجميلة لدرب السلطان والاحباس وباب مراكش وأصوات تأتي من بعيد لعالم طفولة اللعب مصاحبة لموسيقى الجاز لحياة تخلو من الضغينة ممتلئة بالحب والخير .دعوة مفتوحة للتصالح الداخلي مع النفس قبل الآخر. شفافية لونية تتخللها ملامس خشنة كالإيقاعات المتصاعدة في موسيقى روحية متناغمة مع النفس , مسحة صوفية " تصوف إشراقي " وتشفير النص البصري لحمايته من التطفل وعبث العيون العابرة وتقديمه الى اصحاب الذائقة البصرية المتمرسة والفكر الرفيع في محاولة لتقريب المسافات بين احاسيس البشر التي اجتمعت في اعماله الفنية في نص تشكيلي مخصص يسمو بالتجارب الانسانية الرفيعة في الحياة.
عوالم كالأطياف تلامس عوالم الحلاج وابن عربي والنفري ورباعيات عمر الخيام وتابيس و روتكو وتحافظ على خصوصيتها وتفردها في استعمال المواد الباهتة والألوان الخافتة بين القديم والحديث معا ... مواد نباتية ومعدنية وتراب وكربون ومسحوق الرخام وغيرها على الخشب والقماش بياض سديمي مرهف يتخلله البصر الى الماورائي للولوج في داخل العمل الفني والذي في حقيقته دخول الى النفس البشرية .
الأشكال عنده هي تراكم الالوان فوق بعضها وظهورها في اوقات واختفاء اجراء منها في اوقات اخري حسب الضرورة الفنية للعمل الفني ونادرا ما تتشكل بخطوط عفوية او كتابة او احرف . كلمات غير مكتملة بقع واثر الايادي العابرة, المحو على اسطح لوحاته بمثابة محو الاخطاء التي ارتكبتها النفس البشرية والتركيز على المشاعر النبيلة فيها واثبات جمالها وجدارتها بالوجود على هذه الاسطح ويبقى المحو اكثر حضورا من الاثبات .
السطح التصويري عنده لا يحيلنا الى قصص ودلالات جلية بل يغمرنا بشعور غامض في ردهة الامكنة المنسية الرطبة وظلالها البنفسجية على حيطان الجير البيضاء العالية في ايام الهجير القاسية بنسمات المحيط وزرقة سماء صافية في يوم ما من حياة شخص ما .
تجربة عميقة تتلخص في حياة متيقظة بين أنامل مبدعة وعقل منتبه وروح شفافة , متعة العين والعقل والروح في فضاءات فردوسية يلجا اليها الانسان المتعطش الى المعرفة والمتلهف الى الجمال بكل ضروبه في عالم ملئ بقبح افعال الكائن.
ولد الفنان احمد جاريد بالدار البيضاء بالمغرب سنة 1954 وعمل كمدرس لمادة فلسفة الفن واستاذ لمادة علم النفس وساهم في مشاريع ثقافية كبيرة على صعيد الوطن ومنها قرية الفنانين والمعرض الوطني للفن التشكيلي بالمغرب وشارك في عدة معارض داخل المغرب وخارجه، وأدار العديد من ورش الرسم، وشارك في مؤتمرات ثقافية وفنية كما شارك في مجموعة من الكتب والمطبوعات التي تهتم بالفنون البصرية.
2015.10.12